في 12 آذار 1938، غزت ألمانيا النازية النمسا، وقد سميت هذه العملية بالألمانية “أنشلوس”- أي الضم.
لم يكن احتلال النمسا احتلالًا عاديًا، وعندما حقق هتلر النصر في فيينا بعد ثلاثة أيام، نزل مئات آلاف النمساويين إلى شوارع فيينا للاحتفاء به. وفقًا للشهادات المختلفة، لم تبقّ في النمسا وردة واحدة لم تُقطف في هذه المناسبة.
أعيد افتتاح مقر الجالية بعد شهرين، وأقيم فيها قسم جديد: “قسم الرفاه للجالية اليهودية في فيينا- قسم الهجرة”. أي يهودي أراد الهجرة من فيينا- وجميعهم تقريبًا أرادوا ذلك، المتدينون والمنصهرون على حد سواء- كان ملزمًا بتعبئة استمارات، بنسختين، وتقديمها للقسم.
يشكّل أرشيف الجالية اليهودية في فيينا أحد أكبر وأهم الأرشيفات في الأرشيف المركزي لتاريخ الشعب اليهودي. أُرْسِلت مجموعة الوثائق، التي تعود إلى مطلع القرن الـ 17، من الفترة التي سبقت طرد اليهود من فيينا، إلى مدينة القدس من قبل الجالية في فيينا بعد المحرقة النازية. استمارات مكتب الهجرة مشمولة في هذا الأرشيف المهم.
تشمل الاستمارات الاسم الشخصي واسم العائلة لمقدم الطلب، العنوان الكامل، تاريخ الميلاد، مكان الولادة، الحالة الاجتماعية (متزوج، أعزب وما إلى ذلك)، الجنسية، منذ متى يسكن مقدم الطلب في فيينا وهل سكن قبل ذلك في مكان آخر، مهنته، تاريخه التشغيلي، اللغات التي يجيدها، الوضع الاقتصادي والدخل الشهري ومعلومات بخصوص وجهة الهجرة المطلوبة.
المعلومات بخصوص الهجرة تطرقت إلى احتمال الحصول على المستندات المطلوبة للهجرة، وجهة الهجرة، أقرباء وأصدقاء خارج البلاد، خاصة في وجهة الهجرة المطلوبة (الاسم، العنوان ودرجة القرابة) ومعلومات بخصوص جواز السفر وتأشيرات الهجرة.
لا تشمل الاستمارات معلومات حول مقدم الطلب فحسب، إنّما أيضًا حول أفراد عائلته، خاصة الزوجة والأبناء- وفي كثير من الأحيان الوالدين أو والديْ الزوج/ة.
قدّمت الاستمارات بنسختين، وأضيفت إليها لاحقًا مستندات أخرى وثّقت سيرورة محاولات الهجرة. أعطي لكل استمارة رقم تسلسلي (عددي). تم لاحقًا الفصل بين النسختين في قسم الهجرة. حافظت إحدى النسختين على مبناها العددي، وفي النسخة الثانية (غير الكاملة)، أدرجت الاستمارات بترتيب أبجدي حسب اسم العائلة (بالألمانية). أدار قسم الهجرة أيضًا ثلاث بطاقات مفهرسة لتوثيق الاستمارات، بطاقة أبجدية، الثانية عددية والثالثة تُعنى بمهنة مقدم الطلب، وهو عنصر مهم جدًا في طلب الهجرة. ففي تلك الفترة، أي بين 1938-1940، قام قسم الأبحاث الخاص بالجالية ومنظمات الدعم اليهودية العالمية، مثل جمعية مساعدة المهاجرين العبرانيين، بإعداد تقارير تستند إلى الإحصائيات المهمة المسجلة في الاستمارات، وذلك لتنجيع عملية الهجرة من فيينا.
ولكنّ الجالية لم تكن تنشط في الخواء خلال تلك السنين، وأشرف الغيستابو، برئاسة أدولف آيخمان، على نشاطها بشكل كامل. في المرحلة الأولى، كانت لدى اليهود والنازيين مصلحة مشتركة، لأنّ آيخمان كُلّف بمهمّة إفراغ مدينة فيينا من اليهود بواسطة الهجرة. في مراحل لاحقة، مُنعت الهجرة، ونجح الغيستابو في استغلال المعلومات المتوفرة لتنجيع عملية إفراغ فيينا من اليهود بواسطة الاصطلاح المُجَمّل “الهجرة إلى الشرق”، أيّ إلى معسكرات التركيز والإبادة.
وصل أرشيف قسم الهجرة إلى القدس مع سائر محتويات أرشيف الجالية، وقد بقيت الاستمارات مرتّبة في مجموعتين: أبجدية وعددية. حُفظت المجموعتان على مدار عقود بمبنيهما الأصليين، على شكل سلسلة استمارات مجلّدة معًا، حيث كان الاستمارات العددية مرقمة (من 1-400، 401-800 وهكذا دواليك) والأبجدية مرتّبة إسميًا (بلوم-بلومفيلد، بلومفيلد- بلومشطاين وهكذا دواليك). ولذلك، لم يكن بالإمكان التحقق مما إذا شملت المجموعة الأبجدية استمارة شخص معين بدون الحضور شخصيًا إلى الأرشيف وفحص مجلّد الاستمارات. المجموعة العددية كانت مغلقة تمامًا، لأنّه تعذّر تخمين الرقم التسلسلي لكل طلب.
للحصول على أكبر قدر من المعلومات من هذه الوثائق المهمة، نشأ تعاون بين الأرشيف المركزي لتاريخ الشعب اليهودي، المكتبة الوطنية وشركة MyHeritage. باعتبارها شركة تجارية رائدة في مجال علم الأنساب، أدركت Myheritage أهمية وقيمة هذه الاستمارات. فبالإضافة إلى التوثيق الكامل والمفصل ليهود فيينا، وهي إحدى أكبر الجاليات اليهودية في العالم عشية المحرقة النازية، تشمل المجموعة معلومات حول أقرباء يعيشون في قارة أخرى، وهذه معلومات نادرة يصعب إيجادها في قواعد البيانات المستخدمة في الأبحاث في علم الأنساب.
في إطار المشروع، قام طاقم الأرشيف المركزي بتفكيك المجلّد لاستمارات منفصلة، وتم إرسالها إلى مركز التحويل الرقمي المتقدم في المكتبة الوطنية بهدف رقمنتها. تم ربط الوثائق الممسوحة ضوئيًا بوثائق خفية في كتالوج الأرشيف، والتي لم تكن تشمل أية معلومات في تلك المرحلة، وتم إرسال نسخة رقمية تشمل مئات آلاف الأوراق الممسوحة ضوئيًا إلى شركة MyHeritage التي كلّفت طاقمًا دوليًا كبيرًا ببناء دليل مفصّل لأهم المعلومات الواردة في الاستمارات. نتج عن ذك ملف إكسل ضخم، مكوّن من أكثر من ثلاثمئة ألف سطر، ويمتد عبر 129 عمودًا، وقد تم إرساله للأرشيف وفي الوقت نفسه، تمت معالجته وتحميله على نظم MyHeritage.
قام طاقم الأرشيف بمعالجة ملايين البيانات ضمن سجّلات مفهرسة ملاءمة لمبنى المعلومات المتبع في الأرشيف. استثمرت جهود حثيثة في توحيد المصطلحات المختلفة ومئات الصِيغ المختلفة لتوثيق الحالة الاجتماعية أو نوع القرابة بين أفراد العائلة وأقربائهم خارج البلاد. كان علينا أيضًا تصحيح عدد كبير من الأخطاء، جزء كبير منها أخطاء كتبت في الوثائق الأصلية. جميعنا يخطئ عند تعبئة استمارات طويلة كهذه، فقد نسجل تاريخ ميلادنا في خانة العنوان الحالي، نستبدل تاريخ ميلادنا بتاريخ تعبئة الاستمارة، أو نخطئ في تسجيل القرن الذي ولدنا فيه، فعلى سبيل المثال، سجّل بعض الأشخاص في عام 1938 أنّهم ولدوا في عام 1988، بينما كانوا يقصدون 1888. من الطبيعي أن نجد مثل هذه الأخطاء لدى أشخاص مروا بمثل هذه الظروف العصيبة، كم بالحري إن كانوا مهاجرين من مناطق إمبراطورية هابسبورغ سابقًا- غليتسيا، بوهيميا، مورافيا، بوكوفينا وهنغاريا، ولم يكن العديد منهم يجيد اللغة الألمانية بالقدر الكافي. استثمرت، وما زالت تستثمر جهود حثيثة في توحيد ومعايرة أسماء الأماكن حيث ولد مقدمو الطلبات، وأسماء الأماكن التي سكنها أقرباؤهم. كشفت الوثائق عن أمور مثيرة للاهتمام، مثل شكل جغرافيا الولايات المتحدة في مخيلة يهودي غليتسيّ في فيينا، وكيفية كتابة اسم مدينة نيويورك وأحيائها في طلبات الهجرة.
بعد تنقيح المعلومات، نتجت عن هذه التفاصيل المجزّأة معلومات متجانسة، وفقًا لصيغ محوسبة بالمبنى والترتيب التاليين: مقدم الطلب: اسم العائلة، الاسم الشخصي، تاريخ الميلاد (اليوم/الشهر/السنة) في – (الموقع الجغرافي)، والحالة الاجتماعية. بُنيت صيغ أخرى لأفراد العائلة المرافقين لمقدم الطلب، وللأقرباء خارج البلاد.
في بعض الحالات، كانت الاستمارة الأصلية منقوصة، ووضعت بدلا منها بطاقة كُتب عليها أنّ الاستمارة استخرجت في حينه لأغراض مكتبية، ولم تُعَد. حيثما شملت هذه البطاقات معلومات مهمة، مثل اسم مقدم الطلب والرقم التسلسلي للاستمارة، احتفظنا بالمعلومات كدلالة على وجود استمارة في السابق، ولكنها غير متاحة لنا في الوقت الحالي.
تم تحميل المعلومات المفهرسة على الوثائق الخفية واردة الذكر، وأتيحت للجمهور، بالإضافة إلى الوثائق الممسوحة ضوئيًا.
المجموعة متاحة على موقع المكتبة والأرشيف، وهي أيضًا متاحة لمستخدمي MyHeritage، حيث قورنت المعلومات مع قواعد بيانات أخرى موجودة على موقعهم، مما يتيح المجال للحصول على معلومات مكملة حول الأشخاص من مصادر أخرى.
في الأسابيع التي تلت إتاحة المجموعة للجمهور، انكشف العديدون على قصتهم العائلية وعرفوا تفاصيل كانوا يجهلونها. إذا كانت عائلاتكم متواجدة في فيينا عشية الحرب العالمية الثانية، هناك احتمال بأن يكنَّ قد ملأنَ مثل هذه الاستمارات، والتي يمكن إيجادها على موقع المكتبة الوطنية أو عبر هذا الرابط .
اقرأ/ي أيضًا:حينما غُفِر لبريطانيا استعمارها: وجهاء عرب يدعون للتطوّع في الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية
إذا واجهتكم أية صعوبات، يمكنكم التوجه إلينا على عنوان البريد الإلكتروني – [email protected]
إنّه مرجع فريد من نوعه، ولا تقتصر أهميته على القصة الشخصية والعائلية. فهو لا يكشف عن تلك الفترة المروعة فحسب، إنما أيضًا عن الحياة اليهودية المليئة بالنشاط في فيينا بين الحربين العالميتين، عشية الأنشلوس. نجد فيه عناوين دقيقة لمساكن عدد كبير من اليهود، من بينهم أدباء، مؤلفين مسرحيين، موسيقيين، قادة روحانيين في الحركة الحسيدية ووجهاء. فضّل آخرون الاستعانة بالمجموعة لإيجاد الشوارع والأحياء التي سكنها اليهود في فيينا، أو لإيجاد الأماكن التي هاجر منها اليهود إلى فيينا. في نهاية المجموعة، يمكن أيضًا إيجاد المهن التي زاولها يهود فيينا وعن المزيج اللغوي الذي تحدثوا به.
ولكن الأهم من كل ذلك هو أنّ هذه المجموعة تسرد قصة يهود فيينا، الذين وجدوا أنفسهم ذات صباح تحت وطأة الحكم النازي. المحاولات اليائسة لتأمين الفدية التي طلب من اليهود دفعها للمغادرة، إلى جانب الجحيم البيروقراطي الذي مروا به للتصديق على جوازات السفر، الحصول على تأشيرة لوجهة الهجرة ومن ثم المصادقة على “النقل” إلى دولة مؤقتة.
في كتاب “ترانزيت” لآنا زغرس، وهي لاجئة يهودية حاولت الخروج من أوروبا، اقتبست طرفة سردها اللاجئون الذين حاولوا الهجرة عبر ميناء مرسيليا، في فرنسا الفيشية:
صعد شخص إلى السماء ووصل إلى غرفة انتظار فيها بابان، أحدهما مؤد إلى الجنة والثاني إلى الجحيم. أخذ يتنقل على مدار نصف ساعة من موظف لآخر للحصول على عدد لا متناه من الاستمارات والتواقيع. في مرحلة ما، توجه إلى الموظف المسؤول، وقال له إنّه سئم الانتظار. إنّه مستغنٍ عن فرصة الذهاب إلى الجنة، وإنّه يفضل أن يرسلوه إلى الجحيم. يؤسفني أن أصحح معلوماتك، قال له الموظف، فأنت الآن في الجحيم.