إلى كنيسة المهد المقدّسة في مدينة بيت لحم تحجّ الطّوائف المسيحيّة لتحتفل بعيد ميلاد السّيد المسيح كلّ عام. وهو تقليد دينيّ نشأ منذ القرن الثّالث بعد الميلاد واستمرّ إلى يومنا هذا، وبرغم عدم وجود فريضة للحجّ إلى المواقع المقدّسة في الدّيانة المسيحيّة إلّا أن المسيحيون شعروا بالرّغبة بزيارة هذه المواقع الّتي تم استكشافها رويدًا رويدًا وربطها بمحطّات رئيسيّة من حياة السّيد المسيح كما وردت في الانجيل
فالانجيل اذًا هو المصدر الأول الّذي اعتمدت عليه تكهّنات الحجّاج الأوائل للعثور على الأماكن التي شكّلت أهميّة في مسيرة المسيح، وحين أصبحت الدّيانة المسيحيّة ديانة الامبراطوريّة البيزنطية بشكلٍ رسميّ، أخذت الامبراطوريّة ببناء كنائس فاخرة في كلّ من تلك المواقع، تلك الكنائس الّتي تطوّرت من حيث البنيان والأيقونات والتّصاميم الّتي استلهمت حكاية المكان في الانجيل لتشكّل تجربة حسّية فريدة لزوّارها الحجّاج.
نتناول في هذه المقالة قصّة ميلاد السّيد المسيح كما وردت في إنجيليّ لوقا ومتّا، ثمّ قصّة بناء كنيسة المهد الّتي استندت على هذه النّصوص.
وردت قصّة ولادة السّيد المسيح في إنجيل لوقا وإنجيل متّى، ويمكننا اعتبار القصّتين مكمّلتين لبعضهما البعض، ففي حين يذكر إنجيل متّى ولادة السّيد المسيح بقليلٍ من التّفاصيل لينتقل للحديث عن معجزة ظهور النّجم الّذي دلّ المجوس على ولادة “ملك اليهود”، يوفّر إنجيل لوقا مزيدًا من التّفاصيل حول سياق الحكاية وتفاصيلها. كلتا القصّتين تؤكّدا على أن الولادة وقعت في بيت لحم “مدينة داوود”، فما الّذي دلّ الامبراطور قسطنطين عام 335 على موقع مغارة المهد الّتي أمر ببناء الكنيسة فوقها؟ إليكم القصّتين كما وردتا في العهد الجديد.
من إنجيل متّى
“أمّا ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا: لمّا كانت مريم أمّه مخطوبة ليوسف، قبل أن يجتمعا، وُجدت حبلى من الرّوح القدس. فيوسف رجلها إذ كان بارًا، ولم يشأ أن يُشهرها، أراد تخليتها سرًا. ولكن فيما هو متفكرٌ في هذه الأمور، إذا ملاك الرّب قد ظهر له في حلم قائلًا: “يا يوسف ابن داوود، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك. لأن الّذي حُبل به فيها هو من الرّوح القُدُس. فستلد إبنا وتدعو اسمه ياسوع. لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم” وهذا كلّه كان لكيّ يتمّ ما قيل من الرّب بالنّبي القائل : “هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا، ويدعون اسمه عمّانوئيل” الّذي تفسيره :الله معنا. فلمّا استيقظ يوسف من النّوم فعل كما أمره ملاك الرّب، وأخذ امرأته. ولم يعرفها حتّى ولدت ابنها البكر. ودعا اسمه يسوع. ولمّا ولد يسوع في بيت لحم اليهوديّة، في أيّام هيرودس الملك، اذا مجوس من المشرق قد جاؤوا إلى اورشاليم قائلين :”أين هو المولود ملك اليهود”.
من إنجيل لوقا
“وفي تلك الأيام صدرَ أمرٌ من أغسطس قيصر بأن يُكتتب كلّ المسكونة. وهذا الاكتتاب الأوّل جرى إذ كان كيرينيوس والي سوريّة. فذهب الجميع ليُكتتبوا كلّ واحدٍ إلى مدينته. فصعد يوسف أيضًا من الجليل من مدينة النّاصرة إلى اليهوديّة، إلى مدينة داوود الّتي تُدعى بيت لحم، لكونه من بيت داوود وعشيرته ليُكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حُبلى. وبينما هما هناك تمّت أيّامها لتلد. فولدت ابنها البكر وقمّطته وأضجعته في المذود، إذ لم يكُن لهما موضعٌ في المنزل”
نَعرف إذًا من القصّة كما وردة في انجيل لوقا أنّ ولادة المسيح في بيت لحم كانت لسفرٍ اضطرّ يوسف ومريم للخروج فيه كيّ يلبّوا طلب القيصر بالاحصاء، فكان السّفر من النّاصرة إلى بيت لحم الّتي تعيش بها عشيرة يوسف، كما نعرف أيضًا أن ولادة المسيح لم تكن في بيتًا أو فندقًا مغلقًا، بل وُضع في مذود، وهو المكان الّذي يوضَع فيه علف الدّواب، وقد صنعت منه السّيدة مريم مهد المسيح حين كان رضيعًا، ممّا يفسّر اختيار اسم “كنيسة المهد”. ولكن مع ذلك، ما الّذي دلّ بناة الكنيسة على هذه المغارة تحديدًا، والنّص لا يذكر أيّة مغارة أو موقعًا؟
ورد الحديث عن مغارة للمرّة الأولى على لسان القدّيس جاستين بعد مائة وخمسين عامًا من ولادة السّيد المسح، وقد ذكّر القديس أن الولادة تمّت في مغارة صغيرة بالقرب من قرية “بيت لحم”، وكانت المغارة الّتي وُجدت في موقع كنيسة المهد اليوم اوّل ما اعتبره مسيحيّو القرن الثّالث مزارًا مقدّسًا بالإضافة إلى جبل الطّور، فزاروا المغارة وأدوّا بها الصلاة وتمّ بناء الكنيسة فوقها للمرّة الأولى وسمّيت بكنيسة “القدّيسة مريم” إلا أن أعيد بناءها مرّة أخرى في القرن السّادس ودُعيت “المهد” تيمّنًا بوصف إنجيل لوقا لحادثة الولادة.
تُعتبر كنيسة المهد أحد أهم المزارات المسيحيّة حول العالم، وتتناقل الأجيال هذه القصّة الّتي تطوّرت بناء عليها ترانيم الميلاد الّتي تتغنّى بمعجزة ميلاده الّذي اتّسم بالتّواضع. للمزيد حول كنيسة المهد ومدينة بيت لحم زوروا بوّابتنا المعرفيّة.