هاتوا هالحنا هاتوا…صور طقوس العرس الفلسطيني

مقالنا هذا يستعرض أهم الصور الموجودة لدينا حول طقوس العرس الفلسطيني؛ منذ الفترة العثمانية حتى يومنا هذا لعدد من الطوائف والبلدات في البلاد.

التوجه إلى بيت العروس في حفل الحناء، عرابة، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون

التوجه إلى بيت العروس في حفل الحناء، عرابة، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون

يعتبر حفل الزفاف أكثر طقوس المناسبات الاجتماعية العربية التي يبذل أصحابها فيها جهدًا ومالًا؛ حيث تعتبر إعلانًا لبدء مرحلة جديدة وهامة في حياة العريس والعروس. في العادة، يظهر الناس في حفلات زفافهم جانبًا من هويتهم وانتماءاتهم التي عادة ما تكون متوارثة من البيئة المحيطة، بغض النظر عن الاختلاف الحالي في أشكال حفلات الزفاف التي قد تأخذ طابعًا غربيًّا مثل الرقصة الأولى، أو اختلاف لباس العروسين وأهلهم، إلا أنّه ما زالت بعض القرى والبلدات والمدن تحافظ على الفولكلور في الأعراس. وقد تميّز العرس الفلسطيني بأنّه كما المهرجانات الشعبية؛ إذ تُسمَع فيه كل أشكال الأغاني وتُقدّم كل الرقصات الشعبية المشهورة من دبكة وغيرها. بالإضافة إلى ذلك، احتوت الأغنية الفلسطينية في الأعراس على جزء من الهوية الفلسطينية التي تشكّلت سياسيًّا واجتماعيًّا في الثورات ضد الانتداب البريطاني باختلاف الطائفة الدينية.

تشكّل الأغنية الفلسطينية في الأعراس حلقة وصل بين ماضي الأجداد وحاضر الأحفاد؛ إذ تنتقل الأغنية بمكوّناتها الموسيقية الشعبوية وفي سياقاتها التاريخية، الاجتماعية والسياسية من جيل إلى الآخر دون أن تتشوّه المعاني أو تُنتَج تفسيرات جديدة، فتبقى الميجانا والعتابا محافظة على رونقها في رقصات الدبكة، وينتقل بيننا ظريف الطول والدلعونا كإرث لا يندثر. ولقد تحدّث العديد من المؤرخين وعلماء الاجتماع عن تقاليد العرس الفلسطيني في بعض القرى، فعلى سبيل المثال: كتب المؤرّخ الألمانيّ جوستاف روشتاين مقالًا بعنوان “عادات العرس الإسلامي في قرية لفتا قرب القدس” ووضّح أن الحفلات كانت تستمر لياليها لأكثر من أسبوع يكون حافلًا بالرقص، الغناء والطعام المميّز وقد بيّن كذلك العادات الخاصّة بالأعراس كرسم الحنّاء للعريس والعروس والأزياء التقليدية. ومن أكثر الطقوس انتظارًا هي حفل الحناء للعريس والعروس والذي يكون في آخر ليالي التعاليل وقبل حفل الزفاف بيوم، وطقس الفاردة الذي يتمثل بانطلاق العريس وأهله إلى بيت العروس.

في هذا المقال، سنعرض لكم صورًا من أراشيف المكتبة الوطنية لطقوس الأعراس الفلسطينية في مناطق متفرقة من البلاد في فترة تاريخية مختلفة، تاركين للصورة مهمة الكلام والتوضيح.

زفة عريس (فلسطين العثمانية)، الصورة من أرشيف الأميركان كولوني، مجموعة بيتمونا، ضمن مجموعات صور المكتبة
زفة عريس (فلسطين العثمانية)، الصورة من أرشيف الأميركان كولوني، مجموعة بيتمونا، ضمن مجموعات صور المكتبة

 

حفل زفاف في قرية المجيدل المدمرة، 1945، مجموعة بيتمونا، المكتبة الوطنية.
حفل زفاف في قرية المجيدل المدمرة، 1945، مجموعة بيتمونا، المكتبة الوطنية.

ويظهر في الصورة شاب يعزف على اليرغول في حفل التعاليل للرجال برفقة مناحم تسنتنر، مؤسس كيبوتس “سريد” بالقرب من مدينة الناصرة.

حفل زفاف في قرية سولم، 1962، أرشيف بوريس كرمي، المكتبة الوطنية.
حفل زفاف في قرية سولم، 1962، أرشيف بوريس كرمي، المكتبة الوطنية.

وعلى ما يبدو أنّ عروسه في الصورة التالية…

حفل زفاف في قرية سولم، 1962، أرشيف بوريس كرمي، المكتبة الوطنية
حفل زفاف في قرية سولم، 1962، أرشيف بوريس كرمي، المكتبة الوطنية.

ويظهر لنا في الملصق التالي، دعوة حفل الزفاف لأحد أبناء الطائفة الدرزية في عسفيا، ويظهر مصطلح “تأهيل” الذي يشير إلى الزواج.

دعوة حفل زفاف لشاب من عسفيا، 1979، مجموعة الأفميرا، المكتبة الوطنية.
دعوة حفل زفاف لشاب من عسفيا، 1979، مجموعة الأفميرا، المكتبة الوطنية.

تحتوي الصور التالية على تسلسل طقوس الأعراس من التعاليل حتى حفل الزفاف…

 

 

حفل العويدة للرجال "السحجة والدحية"، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون
حفل العويدة للرجال “السحجة والدحية”، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون

 

حفل الرجال ورقص الدبكة، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون
حفل الرجال ورقص الدبكة، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون.

 

حفل حناء العريس (آخر ليالي التعاليل)، قرية زرزير، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون.
حفل حناء العريس (آخر ليالي التعاليل)، قرية زرزير، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون.

 

حناء العريس في قلنسوة، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون
حناء العريس في قلنسوة، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون

 

تحضيرات وليمة الغداء، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون
تحضيرات وليمة الغداء، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون

 

تحضير الكبة النيّة كأحد أطباق وليمة الأعراس، عرابة، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون
تحضير الكبة النيّة كأحد أطباق وليمة الأعراس، عرابة، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون

 

 تحضير "لبن إمه" كأحد أطباق وليمة الأعراس الرئيسية، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون
تحضير “لبن إمه” كأحد أطباق وليمة الأعراس الرئيسية، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون

 

حلاقة العريس في قلنسوة، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون
حلاقة العريس في قلنسوة، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون

 

حفل الزفاف والدبكة، قرية زرزير، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون.
حفل الزفاف والدبكة، قرية زرزير، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون.

 

الاستعداد للانطلاق إلى بيت العروس، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون
الاستعداد للانطلاق إلى بيت العروس، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون

 

الفاردة وزفة العريس على الخيل، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون
الفاردة وزفة العريس على الخيل، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون

 

الفاردة وزفة العريس، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون
الفاردة وزفة العريس، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون

ويعد طقس “لصق العجين” من أكثر الطقوس التي ينتظرها المدعوييّن وذلك للتأكيد على “التصاق” العروس ببيتها والإشارة إلى أبدية الحياة الزوجية السعيدة، كما الصور أدناه.

لصق العجين، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون.
لصق العجين، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون.

 

لصق العجين، قرية زرزير، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون.
لصق العجين، قرية زرزير، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون.


في الصور التالية، تجدون صورًا لحفلات زفاف لدى الطائفة السامرية في جبل جرزيم في
مدينة نابلس، الشركس في قرية كفر كما، الأقلية الأرمنية في القدس…

 

حفل زفاف للطائفة السامرية في جبل جرزيم (الرقص بملابس العريس)، 2018، أرشيف دانتشو أرنون
حفل زفاف للطائفة السامرية في جبل جرزيم (الرقص بملابس العريس)، 2018، أرشيف دانتشو أرنون

 

حفل زفاف للطائفة السامرية في جبل جرزيم، 2018، أرشيف دانتشو أرنون
حفل زفاف للطائفة السامرية في جبل جرزيم، 2018، أرشيف دانتشو أرنون

 

حفل زفاف شركسي في قرية كفر كما، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون
حفل زفاف شركسي في قرية كفر كما، سنوات الثمانينيّات، أرشيف دانتشو أرنون

 

طقس الإكليل لحفل زفاف أرمني في الكنيسة، 2010، أرشيف دانتشو أرنون
طقس الإكليل لحفل زفاف أرمني في الكنيسة، 2010، أرشيف دانتشو أرنون

 للاطلاع على كامل الصور في أرشيف دانتشو أرنون

ربما قد تختلف حضارات وثقافات البلاد بطقوس حفلات الزفاف من تحضيرات، زفة، حفل حناء وليلة العرس، إلا أنّ الصورة تخبرنا وتؤكد لنا أن الفرحة واحدة. للمزيد من صور حفلات الزفاف في أراشيف المكتبة الوطنية

حكايات البطيخ في الأمثال الشعبية

كيف ارتبطت الأمثال الشعبية "البطيخيّة" بالأحوال السياسية في البلاد؟ لمعرفة كل ذلك، اقرأوا المقال في مدونة أمناء المكتبة.

شاب يافاوي يحمل البطيخ، عشرينيّات القرن الماضي

ينتظر الكثير من الناس فصل الصيف بفارغ الصبر لقضاء عطلة طويلة من الدراسة والأجواء الأكاديمية، ومنهم من ينتظره للاستمتاع على الشواطئ، فيما ينتظر آخرون الوقت الطويل لنهار الصيف، مع ذلك هناك جمعٌ آخر ينتظر الصيف فقط لأنه موسم البطيخ. وفي مدونتنا، لن نتحدّث عن مذاق البطيخ، أو عن الفائدة الغذائية والفيتامينات الموجودة في هذه الفاكهة المميزة، وكذلك لن نستطرد في مشاعر البهجة التي يضفيها على محبيه في أول الموسم حتى مشاعر الحزن التي تملأ وجوهم في منتصف آب لانتهاء الموسم، بل سنتطرّق إلى كيف استطاع الناس جعل فاكهة البطيخ مادة لُغوية غنية ومتنوّعة في الأمثال العربية الشعبية.

اختلفت الأمثال الشعبية في ذكر البطيخ، وبطبيعة الحال تحمل الأمثال معانٍ متعددة من التورية في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، وقد تستخدم أيضًا لكي تعكس وضعًا سياسيًّا ما. ومن الأمثال التي تعكس الحالات الاجتماعية قول الناس: “ما بشبع بطنه بطيخة صيفي“، معبّرين عن الشره وكثرة تناول الطعام حتى لو بطيخة من بطيخ الصيف كبير الحجم.

ولقد وصف آخرون الأفعال الغير محسوبة الجالبة للحسرة بقولهم: “السّلام بجر كلام والكلام بجر بطيخ“: ويقال لتجنب أي فعل سيجر على صاحبه الخسارة؛ ولهذا المثل حكاية شعبية توضح معناه وهي أن أحدهم كان يطرح السلام على تاجر بطيخ، ثم يبدأ بالحديث معه لينتهي بأكل البطيخ مجانًا، فامتنع التاجر عن رد السلام حتى لا يخسر بطيخًا، فأصبح قولًا مأثورًا ينبّه من التفاعل الاجتماعي الغير مرغوب فيه. فيما أسرف العرب قديمًا بالحديث عن الزواج بقولهم: “المرة مثل البطيخة” أو “الزلمة متل البطيخة” والقصد بأنهم مجهولو الطباع لأنهم كانوا يتزوجون من غير سابق معرفة، كما لا يمكن معرفة طعم ولون البطيخ قبل التوّرط في اختيارها.

أمّا للتعبير عن الأحوال الاقتصادية، قال الناس: “أيام البطيخ، ارفع الطبيخ”، أو “طلّ البطيخ، بطَّلوا الطبيخ“؛ إذ حينما يتوفر البطيخ بسعر الكيلو الزهيد في فصل الصيف، يُكثر الناس من الاعتماد عليه كوجبة أساسية خلال يومهم. بالإضافة إلى هذه الأمثال، المثل القائل: “مال جنين يا بطيخ” وذلك للتعبير عن جودة البطيخ المُباع؛ حيث تعتمد جنين في اقتصادها الصيفي على تصدير البطيخ للمدن المجاورة، ويعتبر بطيخ جنين من أفضل أنواع البطيخ بعد أن كانت مدينة يافا، قبل عام الـ 1948، تتسابق مع مصر في تصديره، كما ورد في صحيفة الصراط.

بطيخ مصر يسبق، الصراط: 30 أيار 1935
بطيخ مصر يسبق، الصراط: 30 أيار 1935

اقرأ/ي أيضًا: جنين: معرض رقمي لصور وخرائط وجرايد

وسياسيًّا، استخدم العديد من الصحافيين الأمثال الشعبية عن البطيخ لوصف وقياس الأوضاع السياسية في أحداث خاصة، مثلًا، كتب الصحافي محمود أبو شنب في صحيفة الاتحاد حول المفاوضات العربية الإسرائيلية في العام 1993؛ إذ استخدم المثل “الكلام بيجر بطيخ” الذي سبق ذكره ولكن بطريقة معكوسة؛ إذ عنوَن المقال بـ الكلام “لن يجر بطيخ”؛ مبيّنًا بأنّ جولات المفاوضات والنقاشات بين الإسرائيليين والفلسطينيين والسوريين ستفضي فقط إلى المماطلة دون التوّصل إلى اتفاقيات سلام، ولن يجلب هذا الكلام أي خسارة للإسرائليين على عكس الفلسطينيين والسوريين. وعلى ما يبدو أنّ أبو شنب من محبي فاكهة البطيخ؛ إذ عنون مقالًا آخر، سابق للمقال الأول، في العام 1973 بالمثل “على السكّين .. يا بطيخ”، وهو قول مأثور يشير إلى باعة البطيخ الذين يسمحون للزبائن بشقّ البطيخة للتأكد من لونها قبل شرائها حتّى لا يندموا على قرارهم، ويستخدم هذا القول مجازًا لدعوة الناس لفحص أمورهم ومشترياتهم وقراراتهم قبل البدء بأي خطوة. إلا أنّ أبو شنب قد استخدمه ساخرًا من تفاؤل البعض بقرار الحكومة الإسرائيليّة الصادر في العام 1973 بتحرير الأوقاف والممتلكات الإسلامية وتسليمها إلى لجان أمناء معيّنة من قبل وزارة الأديان، مبيّنًا في مقاله أنّ هذه الخطوة ما هي إلا حبرًا على ورق، والهدف منها هو دعوة للحركات الإسلامية وأتباعها للمشاركة في انتخابات الكنيست في ذات العام مع بقاء الممتلكات الإسلامية بقبضة الحكومة الإسرائيلية.

الكلام لن يجر بطيخ، الاتحاد: 2 أيّار 1993
الكلام لن يجر بطيخ، الاتحاد: 2 أيّار 1993

 

على السكين يا بطيخ، الاتحاد: 1 حزيران 1973
على السكين يا بطيخ، الاتحاد: 1 حزيران 1973

اقرأ/ي أيضًا: تاريخ الصحافة المقدسية في فلسطين العثمانية والانتدابية في أرشيف جرايد

إلى جانب أبو شنب، نقل لنا الكاتب والصحافي هشام نفّاع في مقال كتبه في العام 1994 انتقاد أحد رؤساء المجالس المحلية الدرزية لعضو الكنيست الدرزي أسعد أسعد – ممثل المعسكر القومي عن الليكود – بعدم المطالبة بحقوق الطائفة الدرزية في الكنيست؛ إذ قال رئيس المجلس خلال مظاهرة “بلا حلف دم بلا بطيخ“؛ ويكأنّه يلمح لعدم كفاءة اتفاقية الحلف. ولقد استخدم العديد من الصحافيين الأمثال الشعبية عن البطيخ لوصف أحوال وأمور لا تُقارن بضخامة الأوضاع في يومنا هذا؛ إذ يبدوا أنهم كما المثل المصريّ القائل: “علشان حتة بطيخ عمل مشكلة وصريخ“.

"حفير هكنيست"، الاتحاد: 12 كانون الأول 1994
“حفير هكنيست”، الاتحاد: 12 كانون الأول 1994

اقرأ/ي أيضًا: دالية الكرمل – من تمرّد جبل لبنان حتّى حلف الدّم مع إسرائيل

عن البطيخ، لن ينتهي الكلام ولا الأمثال وربما يكون قول الكاتب مارك توين في روايته ويلسون المغفّل: “البطيخ طعام الملائكة” هو أرّق وألّذ ما قيل في البطيخ حتى يومنا هذا، ولن يسعفنا الإطالة والاستطراد في هذا المقال بالحديث عن البطيخ في غير الأمثال الشعبية لأنه كما المثل: بطيختين بالإيد ما بينحملوا”.

“وحسب فرائضهم لا تسلكوا”؛ ما بين التصوّف اليهودي والإسلامي

هكذا ترك التّصوّف الإسلامي بصمته على العبادة والفكر اليهوديّ من العصور الوسطى إلى اليوم

بقلم: راحيل جولدبيرغ

منذ نعومة أظفاره، تأهّب إبراهيم وتربّى لأن يملأ مكان أبيه يومًا ما حين يكبر، وكان أبوه رجل الدّين والطّبيب والفيلسوف اليهوديّ الشّهير موسى بن ميمون، المولود في مدينة قرطبة في القرن الثّاني عشر للميلاد.

نشأ إبراهيم ليرث بالفعل دور أبيه كرئيسٍ للطائفة اليهوديّة في مصر. إلّا أنّه من خلال سعيه لحثّ أبناء المجتمع اليهوديّ على التّمسك باليهوديّة كشف بدوره عن تأثّره الكبير بالمسلك الرّوحانيّ في الإسلام إلا وهو التّصوّف. ويظهر هذا الأثر في كتاباته وفي أحكامه الشّرعيّة. فمثلًا، ابتدع وجوب غسل القدمين واليدين قبل الصّلاة، ودعم هذا الادّعاء بمصدر تلموديّ واحد وهو ما لم يتمّ تقبّله، وذلك بالطّبع لأن المصدر الحقيقي لهذا التّجديد كان نابعًا من التّقاليد الإسلاميّة (الوضوء).

واجه إبراهيم بن موسى من اتّهموه بتقليد غير اليهود بطريقتين. أمّا الأولى فمن خلال إيجاد مصادر يهوديّة الأصل لتدعم مختلف أحكامه، وإن كانت هذه المصادر فريدة وغير واسعة الانتشار. أمّا الثّانية، فقد جادل بأنّ الوصيّة التوراتيّة “ولا تتّبعوا قوانينهم” لا تشمل بالضّرورة تقليد المسلمين.

بالطّبع لم يكن إبراهيم بن موسى بن ميمون أوّل من أظهر تأثرًا يهوديًّا بالتّصوّف الإسلامي، فقبله بكثير عُرفت حركة “الحاسيدوت” اليهوديّة، وقد كانت معروفة بتأثّرها بحركة التّصوف الإسلامي.

أوّل كتاب نعرفه من هذه الحركة هو كتاب “فرائض القلوب” لابن فقوده المولود في سرقسطة عام 1080 للميلاد. قسّم ابن فقوده كتابه إلى أبواب تدلّ القارئ على الطّريقة الرّوحانيّة ليصل بالنّهاية إلى الباب العاشر ويرى كما ورد في عنوانه “المحبّة الحقيقيّة لله تعالى”. تتشابه بنية كتاب “فرائض القلوب” مع الطّريقة الصّوفيّة إلى حدٍ كبير، والّتي تعد السّالك بالتّرقي من مرحلة إلى مرحلة ليصل إلى الهدف نفسه. يستخدم الكتاب، الّذي كُتب بالعربيّة اليهوديّة، تعابير إسلاميّة عديدة مثل “الله تعالى” و”الله عزّ وجلّ”. وبالإضافة إلى ذلك، فإن ابن فقوده يستشهد بمصادر إسلاميّة للتأكيد على صحّة كلامه، فنراه يقتبس مثلًا الصّوفي ذو النّون المصري (ت 859م) في مقالته عن إثبات وجود الله: “من يعرف الله حقًا هو من يستحي منه”، ثمّ لاحقًا في ذات المقالة، يتحدّث عن التّفسير العقلي لوجود الله ويقول “من المنطقيّ أن نقول عن خالق كلّ شيء، أنّه ليس كمثله شيء”. وهنا يقتبس ابن فقوده من الآية الحادية عشر من سورة الشّورى في القرآن.

من مخطوطة ل"فرائض القلوب"، القرن الرّابع عشر
من مخطوطة ل”فرائض القلوب”، القرن الرّابع عشر

تشير هيئة الكتاب إلى أنّها ليست النّسخة الأولى من نوعها، إلّا أنّها الأقدم من بين النّسخ الّتي حُفظت ووصلت إلينا. يحظى كتاب “فرائض القلوب” بشعبيّة كبيرة إلى اليوم، ويُعتبر من الكتب الأساسيّة في مجالات الإيمان والأخلاق. تمّ نشر نُسخ حديثة للكتاب في السّنوات الأخيرة ، كنُسخ دراسيّة بالإضافة إلى نُسخ مقسّمة لفصول صغيرة مُعدّة للقراءة اليوميّة وبالخصوص لفترة “سليحوت” أي أيّام الاستغفار الّتي تمهّد ليوم الغفران.

لقد كان إبراهيم بن موسى يكتُب لتثقيف المجتمع اليهوديّ الّذي تواجد في مكانه وزمانه، بينما كتب ابن فقوده للجميع ولكلّ يهودي في أي مكان، بغضّ النّظر عن الدّرجة الرّوحانيّة أو المعرفيّة له، ومن هنا ينبع التّباين بين شعبيّة الكاتِبيَن.

ترك التّصوّف الإسلامي وقيمُه بصمته على اليهوديّة وتاريخها بعدّة طرق، بدءًا من ظهور مصطلح “حساب النّفس” الّذي لم يُذكر قبل كتاب “فرائض القلوب”، إلى تطوّر أدبيّات الأخلاق ووجوب تأكيد نيّة القلب قبل أداء الفرائض.

 

قرافة المماليك: بوابة سماء القاهرة الشرقية

تشهد صحراء المماليك على عراقة تاريخ المماليك بكثرة المباني المعمارية ذات الطابع الفني. في هذا المقال، سنتعرّف عليها وكيف تحوّلت إلى قرافة.

مشهد عام على جبل المقطّم في مدينة القاهرة، 1898-1907، أرشيف بن تسفي.

انغمست الدول على مر الزمن وحتى يومنا هذا ببناء العديد من المساجد، الكنائس، القلاع، القصور، والأبراج وغيرها من المنشآت المعمارية وذلك لإظهار مدى قوة ونفوذ الدولة من جهة، ولكسب شرعية البقاء من جهة أخرى. ولقد انشغلت السلطات الحاكمة في مصر على مر التاريخ بتقاليد البناء المعماري للمدافن من أيام الفراعنة حتى أواخر الأمبراطوريّة العثمانية، وكان لكل عصر التقليد المعماري الخاص به والذي يعكس وجه الدولة الحاكمة. وعلى الرغم من رفض الإسلام لتقديس الموتى، كانت العديد من الدول الإسلامية تجعل لمتصوفيها الأضرحة في مدافن للزيارة والتبرك بها. (حمزة، 2021) وقد بنى المماليك في صحراء شرق مدينة القاهرة وشمال باب النصر في منطقة الحسينيّة المساجد، المدارس، الخانقات، الأضرحة والمدافن فيما عُرف باسم “صحراء المماليك” أو “القرافة” أو “المقبرة الشمالية”. وكلمة “قرافة”، وفقًا لمعجم المعاني، هو اسم قبيلة يمنية سكنت بجوار المقابر في مصر، فلاحقًا، أصبح لفظ “قرافة” يُطلق على كل مقبرة. ولكن ما العلاقة بين القرافة والمماليك ولماذا وُصِفَت ببوابة السماء الشرقيّة؟

من ميدان صحرواي لاستعراض الجنود والممارسات الحربية إلى قرافة

بدأت الحكاية مع الظاهر بيبرس (1223 – 1277)، المؤسس الفعلي للدولة المملوكية، الذي قرّر تعزيز الجيش بالمعدّات والوسائل والتدريبات وذلك للتصدّي لهجمات المغول والصليبيين الدائمة. وكانت قدرات الجيش تُستعرض في ميدان صحراوي عُرف باسم ميدان الأسود أو الميدان الأخضر، بالإضافة إلى بناء مدّرج للمشاهدين. في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون (1285 – 1341)، ظهرت بعض المباني مثل المساجد والأضرحة والبيمارستانات (المشافي) والمدارس كذلك. مع ذلك، برز بتفرّد تطوّر العمران المملوكي في الفترة الثانية للدولة المملوكية وهي فترة المماليك البُرجية (سكان برج قلعة صلاح الدين) والذين يُعرفون أيضًا باسم المماليك الجراكسة (الشركسيين)؛ إذ بدأت هذه الفترة بحكم سيف الدين بن بُرقوق (1340 – 1399) وتلاه ابنه الناصر فرج بن بُرقوق (1386 – 1411) الذي حكم لفترتين؛ مرة في صباه حتى عُزِل ومرة ثانية بعدما انتزع حكمه من معتزليه. وقد كانت المنشأة المملوكية البُرجية الأولى في صحراء المماليك هي خانقاه يونس الداودار التي بناها للمتصوفين هناك، وقد كان الداودار أحد الأمراء المخلصين والمواليين لبُرقوق، ثم توالت الأبنية من خانقات ومساجد ومدارس لجميع الأئمة والمدارس الفقهية. وعلى الرغم من الصراعات الداخلية المطوّلة والاقتصاد المدمَّر الذي عاشته فترتي توليّ الظاهر فرج بن بُرقوق، إلا أنّه تمكّن من تشييد مجمع ضخم يتكوّن من خانقاه لأربعين صوفيًّا، جامع، ضريحيْن، وسبيليْن ومئذنتيْن ومدخلين وقاعات كبيرة لطلبة العلم. (حمزة، 2021)

مسجد السلطان فرج بن برقوق، 1857، مجموعة عائلة لينكن
مسجد السلطان فرج بن برقوق، 1857، مجموعة عائلة لينكن

 

المدخل الغربي لجامع وضريح فرج بن برقوق، 1894، مجموعة عائلة لينكن
المدخل الغربي لجامع وضريح فرج بن برقوق، 1894، مجموعة عائلة لينكن

للمزيد من صور المساجد والمنشآت المملوكية في القاهرة ضمن مجموعات صور المكتبة الوطنية الرقمية

وكما أسلفنا في أول المقال، كانت الصحراء عبارة عن ميدان للجنود والاستعراض الحربي، إلّا أنّ بناء الخانقات (زوايا عبادات المتصوّفيين) والأضرحة والمساجد قد ساهم في تطوّر نشاط حركات التصوّف في مصر ولا سيما في عهد المماليك البرجية حتى لقبت ببوابة السماء الشرقية؛ إذ كانت بقعة الصوفيين للتوجه لله في التضرّع، طلب العلم، حفظ القرآن وكذلك الإحسان لكل الفقراء والمشرّدين آنذاك. وأصبحت تُعرف باسم “القرافة” لكثرة مدافن الصوفيين والسلاطين المماليك فيها. ومن الأمثلة على هذه المنشآت: قبة ومدرسة الأشرف قايتباي ذات القبة المشابهة تمامًا لقبة سبيل قايتباي في المسجد الأقصى، قبة الأشرف برسباي وقبة والدته خديجة أم الأشرف، مجمع الأشرف إينال، مجمع قرقماس، معبد الرفاعي والكثير من القباب والأسبلة الشاهدة على التطوّر العمراني المملوكي القائم حتى يومنا هذا.

منشأة وقبر السلطان الأشرف قايتباي في القاهرة، مجموعة عائلة لينكن، المكتبة الوطنية
منشأة وقبر السلطان الأشرف قايتباي في القاهرة، مجموعة عائلة لينكن، المكتبة الوطنية

 

بطاقة بريدية مرسومة لسبيل قايتباي في المسجد الأقصى، أرشيف يتسحاك بن تسفي، المكتبة الوطنية.
بطاقة بريدية مرسومة لسبيل قايتباي في المسجد الأقصى، أرشيف يتسحاك بن تسفي، المكتبة الوطنية.


أكثر الأنماط المعمارية انتشارًا

في الفترة المملوكية الجركسية الوسطى والمتأخرة، أمست صحراء المماليك موضع الدفن المفضّل لأعيان الدولة وذلك لكثرة الرعاية السلطانية بها وبالمنشآت ولكثرة مزارات العامة. لذلك، كانت الأضرحة هي أكثر الأنماط المعمارية انتشارًا في الصحراء إمّا منفردة في البنيان أو جزءًا من مسجد أو مجمّع؛ إذ يوجد 88 ضريحًا من أصل 107 منشأة مملوكية، وجميعها مربّعة الشكل ويعلوها قبة مزخرفة تعكس النمط المعماري المملوكي المتمثّل في رسومات الزخارف الإسلامية الهندسية والنباتية.

ضريح السبع بنات: تعدّدت الأساطير والبركة واحدة

يعتبر ضريح السبع بنات من الأضرحة الهامة والمميزة في تاريخ المنطقة حتى اللحظة، ومن الملفت أنّ هذا الضريح يعود للدولة الفاطمية أي ما قبل الدول المملوكية، مع ذلك هو من الأضرحة الهامة والقيّمة في صحراء المماليك. على الرغم من أنّ المكان معروف باسم السبع بنات، إلّا أنّه في الحقيقة لا يوجد رفات لأي امرأة أو حتى فتيات صغيرات. فيما تقول إحدى الأساطير أن السبع بنات كانوا فعلًا سبعًا يعملن على خدمة أهالي المنطقة، يطبّبنَ المرضى ويوهبنَ الفقراء من مالهنّ الخاص، فأصبح لهنّ مكانة عالية في قلوب الناس، وبات ضريحهنّ مزارًا لكل سيدة تريد الإنجاب وذلك، وفقًا للأسطورة، برميها من تلة مرتفعة بعض الشيء كي تحدث لها الصدمة فينشط الرحم.

تشهد صحراء المماليك أو قرافة المماليك على عز الدولة المملوكية بكثرة القباب والأضرحة والمنشآت المعمارية والتي تحاكي حكايات النُصُب التذكارية التخليدية لشخصيات مروا في تاريخ الدول وساهموا في بنائها. ربما لم تعد صحراء المماليك بوابة للسماء كما كانت، إلا أنّها ما زالت رمزًا هامًّا لعراقة الحضارة الإسلامية التي لمعت وازدهرت آنذاك في مدينة القاهرة.