ألبوم نادر: حين وثق مقاتل في الوحدة المدفعية البريطانية انتزاع فلسطين من العثمانيين

يُنشر لأول مرة: نسخة أصلية من ملفات الوحدة المدفعية البريطانية التي احتلت البلاد في نهايات الحرب العالمية الأولى

خلال مرحلة تأسيس الوحدة المدفعية رقم 20 (Machine Gun Squadron)  في الرابع من تموز 1917، أضطرت القيادة البريطانية للتعامل مع معيقات غير متوقعة: من بين 121 مقاتلاً في الوحدة، فقط 30 كانوا مُدربين على استخدام الأسلحة المتطورة أما الباقين فلم يشاركوا من قبل في وحدة مشابهة. لكن، لم تترك المعركة القريبة من أجل احتلال البلاد مجالاً للتأخر كثيراً، إذ بعد عدة أيام صدر أمر  أعطى لمقاتلي الوحدة الجديدة نظرة عن كبر حجم التحدي الذي ينتظرهم. في 12 آب، وبعد شهر واحد من تأسيسها، انطلقت الوحدة للجبهة العسكرية الجديدة: فلسطين.

في كتاب “عبر فلسطين مع الوحدة المدفعية 20”، تم توثيق قصة الوحدة العسكرية والذي تم توزيعه بعد الحرب. أما طبيعة الكتاب فهواتخاذ أحد الجنود المشاركين قرار إلصاق بعض الصور داخل الكتاب؛ صور أعدها بنفسه خلال مسيرة الوحدة العسكرية نحو فلسطين.

يبدو أنه صاحب الكتاب، المقاتل الذي صور المجموعة، هويته غير معروفة.

للمصادفة التاريخية قد تم حفظه في المكتبة الوطنية بالقدس، فهذا الكتاب عبارة عن توثيق مدهش عن مآثر الوحدة كما انعكست في عيون أحد المقاتلين.

شاهدوا الكتاب كاملاً مع الصور النادرة

قصة الوحدة تم توثيقها في كتاب عبر فلسطين مع الوحدة المدفعية 20

الكتاب الذي وثق احتلال الوحدة 20 البريطانية لفلسطين

تحت شمس حارقة، وبكتفين متعبين، ومع الخوف من توقف تزويد المياه اليومية، عبر مقاتلو الوحدة إلى فلسطين العثمانية من سيناء خلال 18 يوم، استغلوا اقامتهم في المعسكر البريطاني لكي يكملوا التدريب، تدربو في منتصف اليوم على تشغيل الأسلحة الجديدة، والتي كانت جديدة لمعظمهم، وفي النصف الثاني من اليوم تدربوا على امتطاء الجياد.

صور التقطها أفراد الوحدة خلال بدء عملياتهم العسكرية في فلسطين

على بعد 11 كيلومترًا جنوبي مدينة  بئر السبع، اشترك المقاتلون في المعركة الأولى كوحدة عسكرية، حين كانت قوات الاسناد على يسارهم والقوات الأسترالية على يمينهم، هاجم مقاتلو الوحدة المدفعية التحصينات التي نصبها العثمانيون في الطريق للمدينة؛ طيلة الصباح وما بعد الظهر ظل القتال دائراً بين القوات المهاجمة والقوات التي تحمي التحصينات. الغبار الذي ملأ الجهات كلها، حجب الرؤية ولم يستطع أحد من كلا الطرفين أن يرى عدة أمتار أمامه، بعد بضعة ساعات من القتال، اكتشف الجنود ولدهشتهم أن الاتراك قد انسحبوا من المدينة. في الرابعة ظهراً جاء الأمر: مهاجمة بئر السبع، والتي تبين أنها هي ايضاً خالية من الجنود العثمانيين.

كتب المقاتلون في كتاب الوحدة “بئر السبع كانت محبطة جداً، من الصعب القول أنها مدينة، كما يفهم الأوروبيون هذا المصطلح، كمكانٍ يمكن أن تشتري منه السجائر وشيئاً لتأكله، لم نستطع ايجاد شيء، والمباني الوحيدة فيها، تلك التي لم تكن ألواحاً من الخشب، كانت خالية من أي انسان” عندما تجول المقاتلون في المنطقة، استصعبوا استحسان الصحراء القاحلة التي تحيطهم، واستصعبوا عدم وجود طرق صالحة.

لغزة وصل المقاتلون أيضاً بعد انسحاب الأتراك من المدينة، لم يُسجل الأمر في أي مكان من الكتاب، ولكن على ما يبدو، فقد ساهم المقاتلون في جزء من المعارك الشرسة لاحتلال غزة. على الرغم من المسافة القصيرة من بئر السبع، فقد صادفوا يابسة مختلفة، قرى على جوانب الطرق، فيها فلاحين يزرعون أراضيهم. وكلما اقتربوا اكتشفوا أن المشهد يخدع أحياناً: أوساخ وتلوث، رجال مستلقين للراحة في حين تقوم النساء بالأعمال الصعبة، على المدينة هذه أيضاً كان للمقاتلين أشياء سيئة ليقولوها.

الطريق لأريحا
رسم لأحد أعضاء الوحدة

الطريق إلى القدس

من غزة أكمل الجنود إلى رام الله، ومن رام الله إلى طريق يافا- القدس ومن هناك (وعلى أثر سكة الحديد) توجهوا إلى مدينة القدس. الجنود العثمانيين توقعوا هذا المسار وتحصنوا على طول الطريق، فأدى ذلك إلى معارك قاسية أوقعت ضحايا كثر.  ضباط الوحدة قرروا الانسحاب واعادة تنظيم صفوفهم في منطقة يافا، في طريقهم إلى يافا رأى الجنود ولأول مرة “رحوفوت”.

وصول الجنود إلى “رحوفوت” ذكرهم بشيء من الحياة التي تركوها في بريطانيا، التقى الجنود بالسكان الصهاينة، اشتروا منهم أكياس مليئة  بالبرتقال، ومن لم يكن بحوزته مالاً كافياً، قايض بما يحمله من شرائح اللحم المعلبة والتي حصل عليها من الوحدة. اللقاء مع السكان اليهود كان مريحًا بالنسبة للجنود الذين رأوا بهم بداية بناء المشروع الصهيوني.

خارطة مرفق معها مسار تقدم الوحدة

بعد الاستراحة القصيرة، أكمل الجنود مسيرتهم نحو القدس، أهمية المدينة المقدسة كانت شاخصة في عيون حماته العثمانيون: معظم القوة التي كانت في البلاد تم ارسالها لحماية الطريق المؤدي للقدس. مع كل خطوة جديدة كان قد استطاع جنود الوحدة المدفعية انتزاعه من العثمانيين، كان الجهد ينصب أكثر بنصب سيارات المدفعية في الأماكن الأكثر علواً في مواقع القتال. استغلوا كل ما تحصلوا عليه من أجل ذلك سواء الإسناد من وحدات أخرى، استخدام القناصة، التقدم المسائي الهاديء أو – في حالة لم يتبق خيار آخر – إطلاق نار كثيف على الأتراك لكي يتم ازاحتهم عن المكان الذي تحصنوا به.

احتلال القدس

يظهر في الصورة باب الخليل – بوابة يافا ويعلوه برج الساعة

هكذا، في الثامن من كانون الأول 1917، بالرغم من الطرق التالفة، النقص في الماء، والمقاومة التركية والألمانية على طول الطريق، نجح مقاتلو الوحدة المدفعية مع باقي قوات ألنبي باقتحام طريق القدس ومن ثم الوصول إليها. في اليوم التالي، 9 كانون الأول 1917، انتهت  أربعة مائة عام من الحكم العثماني على البلاد المقدسة مع سقوط مدينة القدس، كان ذلك نصرًا رمزيًا، لأن معظم مناطق شمال البلاد كانت لا تزال تحت الحكم العثماني، سيطرة ستتلاشى خلال الأشهر المقبلة.

بوابة دمشق

كان هذا النصر الرمزي أمرًا مدهشًا، قال الجنود المتأثرين والذين حظيوا أخيراً بالقدس، احتلال الأرض المقدسة. كما إنه خلال مسيرة الوحدة العسكرية من سيناء حتى احتلال القدس فقدت ثلاث ضباط و67 مقاتلاً من عناصرها وهذا ما كان يُعتبر الثمن الأكبر الذي دفعته المجموعة.

 

كرة القدم برعاية جلالته

حصلت مباريات كرة القدم الفلسطينية على دفعة كبيرة في ظلّ الانتداب وشاركت فيها العرب واليهود.

كتيبة الملك أ ضد هفوعيل تل أبيب، 21.11.31

أضيف إلى سكان فلسطين الانتدابية (1917- 1948) العرب واليهود آلاف السكان الجدد من البريطانيّين: موظّفو النظام الانتدابي، الشرطة والجيش، وخلال الحرب العالمية الثانية أضيف إليهم كذلك جنودًا من بلدان أخرى. بالرغم من أن لعبة كرة القدم كانت رائجة في البلاد قبل أن يصل إليها البريطانيون، إلا أنها حصلت على دفعة كبيرة في ظلّ سلطة أمة تعتبر موطن كرة القدم، وشاركت فيها جميع الفئات السكانية في البلاد. وقد ظهرت في هذه الفئات السكانية الثلاث (العرب، اليهود والبريطانيون) فرق رياضية لممارسة لعبة كرة القدم، ونذكر على سبيل المثال فريق Paymasters، وشباب العرب، ومكابي تل أبيب، وهي فرق تنافست فيما بينها على الكأس. تأسّس الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم (بتوصية مصرية) في سنة 1928، وقد اشترط الاتحاد الدولي لكرة القدم للانضمام إلى الاتحاد الدولي (1929) مشاركة جميع الفئات السكانية في البلاد في هذا الاتحاد الجديد. لذلك فقد أجريت مباريات بين فرق عربية ويهودية وبريطانية، وقد تمّ الاعتراف بمشاركة لاعبين من هذه الفئات السكانية الثلاث بالمبدأ في المنتخب الوطني في مبارياتها مع فرق من خارج البلاد ولكن لم يكن يتم ذلك فعليًا على الدوام.

 

ملعب مشترك

غالبًا ما نعتقد أن علاقة تصادمية كانت سائدة بين الفئات السكانية في البلاد العربية واليهودية في البلاد. وهذا التصوّر ذاته يهيمن على العلاقة بين اليهود والبريطانيّين في البلاد كذلك، وخاصة حين نعاين ذلك من منظور صراع “المنظمة العسكرية القومية” (آتسل) وتنظيم “المقاتلون من أجل حرية إسرائيل” (ليحي) ضد البريطانيّين ونظرتهم للهجرة اليهودية غير الشرعية. إلاّ أن العلاقات الرياضية بين اليهود والعرب والبريطانيّين، كما تجلّت في ألعاب كرة القدم، من شأنها أن تشهد على أنه خلافًا لهذا التصوّر، بما يتعلّق بمنظمات المجتمع المدني، فإن المجتمع لم يكن منفصلاً إلى ثلاث فئات سكانية وإنما كان الواقع أكثر تركيبًا إذ تعاونت هذه الفئات فيما بينها. وعليه، فإنه بالرغم من هيمنة الانتماء القومي على الرياضة في البلاد، فإن النشاطات الرياضية – وكرة القدم تحديدًا في حالتنا – كانت حلبة للقاء هذه الفئات السكانية بعضها ببعض.

لا يعني ذلك بأن التوتّر لم يؤثّر على العلاقات الرياضية. فعلى سبيل المثال، في ظل موجه احتجاج السكان اليهود على الكتاب الأبيض لسنة 1930، توقّفت الألعاب الرياضية بين الفرق البريطانية والفرق اليهودية؛ وفي ظل الاحتجاج على نوع التعامل مع الفرق العربية فقد استقالت في سنة 1934 من الاتحاد الفلسطيني وأنشأت اتحادًا بديلاً إلاّ أنه لم يستمر لفترة طويلة. ومن جانب آخر، فقد استقبل الجمهور بصورة جميلة فرق تنتمي إلى فئات سكانية أخرى. على سبيل المثال، في أعقاب لعبة بين نادي إسلامي يافا وبين مكابي رحوبوت التي جرت على ملعب في رحوبوت في سنة 1941، كتب الصحف العبرية ما يلي: “لقد استُقبلت الفرقة العربية بمشاعر مشجعة من قبل جمهور المشجعين في رحوبوت”؛ وقد اتّسم حكم الاتحاد في الألعاب بروح رياضية من دون تحيّز كبير لصالح الفرق اليهودية على مدار أغلب سنوات الانتداب.

 

​شرق أوسط جديد

لم تجر ألعاب كرة القدم في فلسطين فحسب، وإنما جرت على ملاعب دولية كذلك. نشأت العلاقات الرياضية للفرق اليهودية منذ سنة 1927 مع فرق من بلدان عربية وبصورة مركزية مع مصر ولبنان وسورية، ولم تشهد الصحافة في حينه على تصادمات حتى الأربعينيات.

 

يقذفون الكرة في وقت الحرب

وعليه، استنادًا إلى علاقات كرة القدم بين الفئات السكانية المختلفة في فترة الانتداب، يبدو أنه يتعيّن علينا التخلّي عن منظور الصراع الذي اعتدنا على النظر من خلاله على تاريخ هذا المكان. لم يهمن الصراع دومًا، وإنما تطوّر هذا الصراع على مدار السنين، كما يمكننا أن نلمس ذلك جيدًا في ملاعب كرة القدم. ومع مرور الوقت، نشهد في حلبة كرة القدم على عملية انفصال بين المؤسّسات والفرق الرياضية اليهودية وتلك العربية والبريطانية. ووصل ذلك ذروته خلال الحرب العالمية الثانية، إذ نشهد في تلك الفترة تصادمات عنيفة مع الفرق العربية والفرق البريطانية (ومع الفرق الرياضية العسكرية الأخرى).

بينما كان توقّفت الألعاب مع الفرق القادمة من خارج البلاد بصورة طبيعية، بسبب انتقال القوات والموظفين البريطانيّين من البلاد في نهاية الحرب، فإن توقّف الألعاب بين الفرق اليهودية والعربية جاءت نتيجة حكم الاتحاد المفتقر للروح الرياضية.

 

 ​بطاقة حمراء

خلال ألعاب الكأس لسنة 1942 كان من المفترض أن يتنافس فريق مكابي حيفا مع الفريق اليوناني Royal Hellenic Army Team في دور ربع النهائي، إلا أن اللاعبين اليونانيّين تركوا البلاد، وصعد فريق مكابي حيفا في أعقاب ذلك وبصورة فورية إلى الدور نصف النهائي. جرت إحدى الألعاب الثلاث النهاية في دور الربع النهائي بين مكابي تل أبيب وبين الشباب العرب وانتهى بفوز مكابي تل أبيب اليهودية، إلاّ أن هذا الفريق قد شارك لاعبيْن كانا مطلوبيْن للتجنيد، وهو أمر لم يكن مقبولاً وفق القوانين الداخلية للاتحاد. وفي أعقاب ذلك، أُبعد فريق مكابي تل أبيب من الألعاب القادمة. ولكن، لم يتمتّع الفريق العربي من ذلك بل تمتّع من ذلك فريق مكابي حيفا الذي صعد فوريًا إلى دور النهائي. تقدّم فريق الشباب العرب باستئناف ضد هذا القرار إلاّ أن الاتحاد رفض هذا الاستئناف. في أعقاب ذلك، اندلع صراع بين الفرق العربية وبين الاتحاد وانتهى باستقالتها من الاتحاد في سنة 1943 وإنشاء اتحاد عربي في أيار 1944.

إن قصة كرة القدم في فلسطين الانتدابية تجسّد جيدًا أنه لم تكن هناك علاقات عدائية دومًا على الصعيد الشخصي بين السكان العرب وبين اليهود وبين كليهما وبين الحكّام البريطانيّين. ويتجلّى ذلك في اللقاءات الرياضية. وقد استمر اللقاء بين اليهود والعرب والبريطانيّين وغيرهم خلال الثلاثينيات والأربعينيات على أرض ملاعب كرة القدم واستمر ذلك حتى نهاية حقبة الانتداب تقريبًا. بالرغم من ذلك، فإننا نشهد أنه تمّ استخدام كرة القدم بصورة تدريجية وتصاعدية كأداة في الصراعات السياسية بين الفئات المختلفة في فلسطين.

 

لمن نسلم مدينة القدس؟

توضّح المقالة كيف تمت ظروف تسليم مدينة القدس في يوم 9 كانون الأول من العام 1917 للجنرال ألنبي.

 

الجنرال ألِنبي بالقرب من باب الخليل. سيدخل إلى المدينة الجنرال بيرغل.

تصوير: أريك ماطسون، مكتب الصحافة الحكوميّ

مع انسحاب القوّات العثمانية من القدس، خرج وفد رئيس البلديّة بنيّة تسليم المدينة للقوّات البريطانيّة. حاول رئيس البلديّة المرّة تلو الأخرى تسليم المدينة لكلّ جنديّ التقى به، إلّا أنّ الاستسلام هذا كان يُرفض دائمًا. هذه قصّة أطول يوم في حياة رئيس البلديّة، اليوم الذي تسبّب، على ما يبدو، بموته.

إحدى لحظات الذروة في المعركة البريطانيّة لاحتلال فلسطين كانت رمزيّة أكثر من كونها عسكريّة: احتلال القدس. التقدّم السريع للإمبراطوريّة البريطانيّة عن طريق سيناء، مرورًا بغزّة ووصولًا إلى مشارف القدس أثبت لقوّات الإمبراطوريّة العثمانيّة في المدينة أنّ الوضع العسكريّ لا أمل منه. تلقّت قوّات الإمبراطوريّة العثمانيّة الأمر: انسحاب تامّ من القدس سيتمّ في 9 كانون الأوّل 1917.

عند انسحاب القوّات العثمانية بسرعة من المدينة، نظّم رئيس البلديّة حسين سالم الحسينيّ وفد استسلام رسميًّا. مرّ رئيس البلديّة من المستعمرة الأمريكيّة في المدينة باحثًا عن مصوّر كي يوثّق الحدث. عندما عثر رئيس البلديّة على مصوّر المستعمرات هولس لارس لارسون، ناداه، “سوف أسلّم المدينة للإنجليز، أحضر الكاميرا”. أثناء السير في الطريق توقّفوا في المستشفى الإيطاليّ، قاموا بإزالة غطاء سرير أبيض من أحد الأسرّة ووصلوه بعصا مكنسة: جُهّزت راية الاستسلام!

 

أصبح كلّ شيء جاهزًا الآن ومعدًّا لمراسم الاستسلام، السؤال الوحيد الذي بقي هو: أمام مَن يتمّ الاستسلام؟

لمح الوفد في حوالي الساعة الخامسة قبل الصباح اثنين من الطهاة الإنجليز اللذين أُرسلا في المساء السابق لشراء البيض من القرية المجاورة فضلّا في طريق عودتهما إلى المعسكر. سارع الوفد الموقّر للاستسلام أمام الرمزيْن وقدّم لهما- كممثّلين للجيش البريطانيّ العظيم- كتاب التسليم وراية الاستسلام البيضاء: تحوّل هذا الوضع غير الطبيعيّ إلى أكثر غرابة عندما استدرك الرمزان ورفضا أن يقبلا كتاب الاستسلام. وطلبا من الوجهاء تأجيل ذلك عدّة ساعات وخرجا للبحث عن قائدهما للتشاور السريع- حتّى ذلك الوقت، لن تستسلم المدينة أمام الإمبراطوريّة الجديدة في المنطقة.

في حين كان الطبّاخان في طريق العودة إلى المعسكر، ظهرت فجأة ظهر أفراد من الدوريّة البريطانيّة مع بنادقهم المشهرة وطلبوا من أعضاء الوفد أن يعرّفوا بأنفسهم. تمالك رئيس البلديّة نفسه وحاول، للمرّة الثانية في ذلك الصباح الطويل، الاستسلام أمام ممثّليّ الجيش البريطانيّ العظيم- ولكنّهما رفضا، وطلبا من الوفد الانتظار حتّى وصول الجنرال ولكنّهما استجابا لإلحاح المصوّر ووافقا على التقاط الصور مع الوفد.  

وفد رئيس البلديّة مع اثنين من رجال الدوريّة اللذَين رفضا قبول الاستسلام، عن أرشيف مكتبة الكونغرس

بعد مضيّ عدّة ساعات على ذلك وصل الكولونيل ووطسون وتمّ التعريف به أمام رئيس البلديّة ورفاقه. اعتبر ووطسون نفسه جديرًا بهذا المقام ووافق على قبول كتاب الاستسلام. في ختام المراسم المستعجلة توجّه الكولونيل الذي كان يعاني من الزكام إلى المصوّر وسأله “أين بإمكاني الحصول على كوب من الشاي؟” ومن هناك توجّهت المجموعة إلى مستشفى “شعاري تسيدك”، لتناول الشاي والكعك احتفالاً باستسلام المدينة.

في اليوم التالي، أخذ المصوّر لارسون صور الاحتفال الخاصة بووطسون إلى مقرّ قيادة الجنرال مايور جون شاين في المدينة. من منطلق اعترافه بالأهمّيّة التاريخيّة للحدث الذي حضره، سأل لارسون الجنرال فيما يتعلّق بالطريقة اللائقة لنقل الصور إلى لندن. “أيّ صور؟” ردّ الجنرال مستغربًا، “هل تقصد الصور من الاحتفال الذي قرأت فيه البيان على مدرّجات برج داود(قلعة القدس)؟”. عندما سمع الجنرال شاين عن مجريات الأحداث من يوم أمس من المصوّر الذي قام بتوثيقها، غضب على الكولونيل ووطسون الذي قبل استسلام المدينة نيابة عن الجنرال ألِنبي وأمر المصوّر بالتخلّص من صور الاحتفال الذي شارك فيه ووطسون.  وأصرّ على أنّ مراسم الاستسلام الحقيقيّة كانت تلك التي جرت على درج قلعة داود.

بعد يومين من يوم الاستسلام الطويل، وصل قائد المعركة البريطانيّة في سيناء وفلسطين إلى القدس. عند مدخل باب الخليل نزل الجنرال إدموند ألِنبي عن جواده ودخل المدينة راجلًا، حتّى لا يُنظر إليه على أنّه مُحتلٌّ وصيّ وقاسٍ ينظر إلى سكّانها من على صهوة جواده.

ألغى ألِنبي على الفور جميع مراسم الاستسلام السابقة وطلب تنظيم مراسم استسلام ثالثة (أو رابعة، الأمر يتعلّق بكيفيّة العدّ) في حضوره. رفض رئيس البلديّة الحسينيّ المراسم النهائيّة بذريعة أنّه يعاني من التهاب رئويّ الذي ألمّ به خلال مراسم الاستسلام الطويلة قبل يومين من هذا الموعد.

الجنرال ألِنبي بصحبة ضبّاط من ثلاثة جيوش- الأمريكيّة، الفرنسيّة والإيطاليّة، يدخل راجلًا إلى القدس عبر باب الخليل. الصورة مأخوذة من مجموعة الصور الخاصّة بالمكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة.

 

وهكذا، وفي ظلّ غياب رئيس البلديّة جرت مراسم استسلام مدينة القدس– شارك في المراسم الجنرال ألِنبي، ممثّلو الطوائف المختلفة في المدينة وبضعة آلاف من السكّان الذين وصلوا لرؤية الحكّام الجدد.

بعد عدّة أسابيع على ذلك، توفّي رئيس البلديّة حسين سالم الحسينيّ من جرّاء الالتهاب الرئويّ.

 

مراسم استسلام القدس للجنرال ألِنبي. الصورة مأخوذة من مجموعة الصور الخاصّة بالمكتبة الوطنيّة.

 

 

 

فكرة تقسيم فلسطين وتداولها في الصحف الفلسطينية: منذ تبلور الفكرة حتى مواجهتها

يبحث المقال في عناوين الصحف الفلسطينية حول تبلور فكرة تقسيم فلسطين منذ بداية نشوء الفكرة وحتى صدور القرار في 1947، ويسلط الضوء على تغطية الصحف المتنوّعة.

جزء من خارطة تقسيم فلسطين عام 1947، أرشيف الخرائط على اسم عيران لئور في المكتبة الوطنية الإسرائيلية

 ربما أول ما يتبادر إلى ذهن القارئ حول موضوع تقسيم فلسطين، بعيدًا عن الحكم بمدى صواب قرار التقسيم أو عدمه، هو صدور قرار التقسيم في نهاية شهر تشرين الثاني عام 1947 إلى دولتين، دولة يهودية إلى جانب الدولة العربية، لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن حقيقة فكرة تقسيم فلسطين قد سبقت ذلك التاريخ بفترة من الزمن، فلم يكن قرار التقسيم إلا نتيجة وتتويج لحقبة من زمن قد تعددت فيه أفكار تقسيم هذه البلاد.

بمناسبة الذكرى ال72 لسن مشروع قرار تقسيم فلسطين، ارتأينا إنه ليس بالإمكان المرور على هذه الذكرى بدون أن نسلط الضوء على بعض جوانب هذا المشروع، ولم يكن هنالك عنوان مناسب أكثر من جانب الصحافة الفلسطينية لمعالجة ذلك.

  لم تكن الصحافة الفلسطينية بمعزل عن تسليط الضوء حول تلك الأفكار والمشاريع، فقد كان دورها رياديًا في تداولها لمشاريع تقسيم فلسطين، سواء من خلال تناول الأفكار أو التصورات حول مشروع التقسيم أو من خلال نقل الأخبار عن الصحف العالمية حول فلسطين (خاصة الصحف الإنجليزية). مرت عملية تسليط الضوء على  أفكار مشروع تقسيم فلسطين في عدة مراحل وتحولات أبرزها تمثل في بداية طرح الفكرة عام 1933  بجريدة مرآة الشرق (كان هنالك بعض الآراء التي طرحت فكرة التقسيم قبل هذا التاريخ، لكن أول مقال موثق حول تقسيم فلسطين يعود إلى عام 1933)، ومن ثم  تبلورها بعد زيارة اللجنة الملكية البريطانية (لجنة بيل-PEEL) عام 1936، والمرحلة الأخيرة كانت التصدي لها ومقاومتها حتى صدور قرار التقسيم في 29 تشرين الثاني 1947.

في معالجة موضوع فكرة تقسيم فلسطين لم تكن الصحف الفلسطينية ذات لون واحد بنقاشاتها ومقالاتها، بل يمكن القول إنها كانت تمثل الصورة الأقرب إلى الصورة الفسيفسائية في كيفية تغطيتها للمسائل حول قضية التقسيم وذلك تبعًا لاختلاف الرؤى، المصادر، والزمن. لقد أفردت صحيفة مرآة الشرق الصادرة من القدس مساحة كبيرة من صفحتها الأولى لمقالة بعنوان “حلول القضية الصهيونية: تقسيم فلسطين إلى قسمين”، والتي من خلال هذا المقال حاولت أن تضع سيناريو لتقسيم فلسطين بالاعتماد على أراء الباحثين والكتاب من العرب واليهود أمثال يوسف أفندي العيسى والكاتب اليهودي بن أفي والذين كانوا مقتنعين بفكرة التقسيم (بحسب صحيفة مرآة الشرق  كان يوسف العيسى قد طرح فكرة تقسيم البلاد بين العرب واليهود قبل تسع سنوات من نشر هذا المقال، أي في عام 1924). على الرغم من اقتناع الصحيفة باستحالة تنفيذ الفكرة على أرض الواقع تبعًا لعوامل كثيرة أهمها التداخل ما بين التجمعات العربية والمستعمرات اليهودية إلا أنها تناولت الموضوع من زاوية محاولة تصورها لسبل الحل في فلسطين تبعًا للفكرة التي يقوم عليها المقال “إن المشاكل تزداد تعقدًا كلما طال الزمن والقضية الفلسطينية واحدة منها”1.

منذ نهاية ثلاثينيات القرن العشرين لم تعد فكرة تقسيم فلسطين مجرد أفكار يتناقلها الكتاب والباحثون، إنما أصبحت فكرة أكثر تبلورًا، وذلك من ناحية الانتقال من تصور قبول التقسيم أم عدمه إلى تصور شكل التقسيم المفترض بين الدولة العربية والدولة اليهودية وكيفية التعامل مع قضايا السكان في كل من الأجزاء المفترض تقسيمها. من أهم الصحف التي تناولت مشاريع التقسيم كانت صحيفة الدفاع والتي احتوت على اتجاه أكثر شمولي من حيث تطرقها لتلك المشاريع، وكان ذلك يتمثل بالجهد التي بذلته الصحيفة في تجميع الأخبار العالمية والبريطانية خاصة مع ازدياد تداول الأفكار بخصوص قضية فلسطين بعد أحداث عام 1936، ومن ثم تعيين اللجنة الملكية البريطانية الخاصة بفلسطين (لجنة بيل –  PEEL). في الحقيقة حاولت صحيفة الدفاع الموازنة والتنويع في طرح الأخبار بخصوص موقف كافة الأطراف من فكرة التقسيم وبين الأخبار التي تحاول تصور أشكال التقسيم لهذه البلاد. فبخصوص أشكال التقسيم، ضمت صحيفة الدفاع خبرًا بعنوان “عودة إلى تقسيم فلسطين إلى منطقتين: صحيفة إنكليزية كبيرة تنشر رواية عن ذلك” والتي نقلته عن صحيفة “الدايلي هرالد” الإنجليزية حول نماذج التقسيم التي كانت اللجنة الملكية البريطانية الخاصة بفلسطين تحاول أن تطرحها ليتم تطبيقها في فلسطين. وقد كان النموذج الأول هو تطبيق فكرة الاتحاد السويسري، وذلك من حيث أن يكون هنالك استقلالًا ذاتيًا للمنطقتين ، العربية واليهودية تحت حكومة واحدة. أما النموذج الثاني حول التقسيم، كان من خلال أن يتم منح الدولة العربية استقلالًا أوسع وبعد ذلك تكون هذه الدولة متحدة مع شرق الأردن، بينما المنطقة الساحلية يتم تأسيس منطقة يهودية تابعة للإمبراطورية البريطانية2.

من الجدير ذكره أن تصور فكرة مشروع التقسيم لم يكن لها القدر الكافي من جعل المسألة في فلسطين أقل تعقيدًا مما كانت عليه، سواء تمثل ذلك برفض الطرفين في فلسطين: اليهودي والعربي تقسيم “كعكة” فلسطين، أو بسبب الرفض “الظاهري” للمحيط الإقليمي للمشروع، فالترويسة التي تصدرت مقال في صحيفة الدفاع تعبر بلا شك عن ذلك، حيث جاء عنوان المقال “فكرة تقسيم فلسطين أسوأ فكرة دعا إليها يأس اللجنة الملكية، موقف البحر المتوسط يدعو إلى إلغاء، أو إرجاء تنفيذ هذه الفكرة”3.

ركزت الصحافة الفلسطينية على استعراض الأصوات والأقلام العربية والدولية التي في طياتها تعالج قضية مشروع تقسيم فلسطين، فكانت الاقتباسات من الصحافة العالمية قد اخذت مساحة واسعة في الصحافة الفلسطينية وكان ذلك على حساب تغطية النقاش الداخلي، سواء النقاش الداخلي الفلسطيني أو داخل الحركة الصهيونية.

 

بالتزامن مع اقتراب انعقاد موعد الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 من أجل مناقشة مستقبل فلسطين وطرح فكرة التقسيم أصبح شبح فكرة التقسيم والحرب  يخيم على الصحف الفلسطينية بكافة ألوناها وأقلامها، وكان ذلك قد انعكس بشكل كبير على الكتابات والمقالات التي فيها، فالكلمات قد أمست أكثر رصانة وقساوة في محاولة للتوحد ضد فكرة التقسيم وتبيان مدى الخطر التي تتعرض له البلاد. لعل العنوان التي وضعته صحيفة فلسطين يعبر عن تلك الكلمات الحاسمة في مواجهة مشروع التقسيم، فكان العنوان “تقسيم فلسطين يهدد السلام في الشرق الأوسط كله!4.

يمكن القول إن الصحف الفلسطينية احتوت على العديد التخمينات والتنبؤات حول تصور أشكال التقسيم ومستقبل البلاد (فلسطين) بخصوص تناول فكرة تقسيم فلسطين وذلك تبعًا لتنوع مصادر المعلومات، وكيفية تغطية كل صحيفة للخبر، لكن بالمقابل حافظت مجمل الصحف الفلسطينية على الخطوط العريضة ضمن تغطيتها لفكرة مشروع التقسيم، فقد كانت غالبيتها ضد قرار فكرة مشروع التقسيم وعلى رأسها الصحف الكبيرة والتي كانت لهم الحصة الأكبر من تغطية مسألة تقسيم فلسطين كصحيفة الدفاع وفلسطين خاصة في نهاية أربعينيات القرن الماضي إضافة إلى  وجود صحف أخرى عملت على إيصال أفكارها حول مسألة التقسيم مثل صحيفة الوحدة والشعب التي استعرضت على وجه الخصوص موقف الدول العربية من مشروع  تقسيم فلسطين، ففي الصفحة الأولى عنونت الصحيفة خبرًا تتناول فيه موقف جامعة الدول العربية الرافض لتقسيم فلسطين والخطوات الواجب اتخاذها لمنع حدوث التقسيم5.

 

إن تناول موضوع شائك يحتمل العديد من الرؤى مثل موضوع تقسيم فلسطين ليس بالأمر السهل خاصة بدون دون التعرض إلى جوانب عدة، مشارب وأدوات مختلفة نستطيع من خلالها تصور الظروف التي مرت بها البلاد وكيفية تبلور فكرة التقسيم منذ بدايتها حتى تطبيقها على أمر الواقع، ويأتي هنا دور الصحافة الفلسطينية في كونها إحدى تلك المشارب والأدوات التي من خلالها يمكننا الوصول إلى تصور جزئيات من أجل تركيب صورة أكثر شمولية حول تلك الحقبة التي مرت بها فلسطين.

 

1 حلول القضية الصهيونية: تقسيم فلسطين إلى قسمين”، مرآة الشرق، 27 أيلول 1933، الصفحة الأولى.
عودة إلى تقسيم فلسطين إلى منطقتين: صحيفة إنكليزية كبيرة تنشر رواية عن ذلك”، صحيفة الدفاع، 4 نيسان 1937، الصفحة الأولى.
فكرة تقسيم فلسطين أسوأ فكرة دعا إليها يأس اللجنة الملكية، صحيفة الدفاع، 18 كانون الثاني 1938، صفحة 2.
“تقسيم فلسطين يهدد السلام في الشرق الأوسط كله”، صحيفة فلسطين، 21 أيار 1947، الصفحة الأولى.
الجامعة العربية ترفض تقسيم فلسطين، صحيفة الشعب، 13 كانون الأول 1946، الصفحة الأولى.