جزء من خارطة تقسيم فلسطين عام 1947، أرشيف الخرائط على اسم عيران لئور في المكتبة الوطنية الإسرائيلية
ربما أول ما يتبادر إلى ذهن القارئ حول موضوع تقسيم فلسطين، بعيدًا عن الحكم بمدى صواب قرار التقسيم أو عدمه، هو صدور قرار التقسيم في نهاية شهر تشرين الثاني عام 1947 إلى دولتين، دولة يهودية إلى جانب الدولة العربية، لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن حقيقة فكرة تقسيم فلسطين قد سبقت ذلك التاريخ بفترة من الزمن، فلم يكن قرار التقسيم إلا نتيجة وتتويج لحقبة من زمن قد تعددت فيه أفكار تقسيم هذه البلاد.
بمناسبة الذكرى ال72 لسن مشروع قرار تقسيم فلسطين، ارتأينا إنه ليس بالإمكان المرور على هذه الذكرى بدون أن نسلط الضوء على بعض جوانب هذا المشروع، ولم يكن هنالك عنوان مناسب أكثر من جانب الصحافة الفلسطينية لمعالجة ذلك.
لم تكن الصحافة الفلسطينية بمعزل عن تسليط الضوء حول تلك الأفكار والمشاريع، فقد كان دورها رياديًا في تداولها لمشاريع تقسيم فلسطين، سواء من خلال تناول الأفكار أو التصورات حول مشروع التقسيم أو من خلال نقل الأخبار عن الصحف العالمية حول فلسطين (خاصة الصحف الإنجليزية). مرت عملية تسليط الضوء على أفكار مشروع تقسيم فلسطين في عدة مراحل وتحولات أبرزها تمثل في بداية طرح الفكرة عام 1933 بجريدة مرآة الشرق (كان هنالك بعض الآراء التي طرحت فكرة التقسيم قبل هذا التاريخ، لكن أول مقال موثق حول تقسيم فلسطين يعود إلى عام 1933)، ومن ثم تبلورها بعد زيارة اللجنة الملكية البريطانية (لجنة بيل-PEEL) عام 1936، والمرحلة الأخيرة كانت التصدي لها ومقاومتها حتى صدور قرار التقسيم في 29 تشرين الثاني 1947.
في معالجة موضوع فكرة تقسيم فلسطين لم تكن الصحف الفلسطينية ذات لون واحد بنقاشاتها ومقالاتها، بل يمكن القول إنها كانت تمثل الصورة الأقرب إلى الصورة الفسيفسائية في كيفية تغطيتها للمسائل حول قضية التقسيم وذلك تبعًا لاختلاف الرؤى، المصادر، والزمن. لقد أفردت صحيفة مرآة الشرق الصادرة من القدس مساحة كبيرة من صفحتها الأولى لمقالة بعنوان “حلول القضية الصهيونية: تقسيم فلسطين إلى قسمين”، والتي من خلال هذا المقال حاولت أن تضع سيناريو لتقسيم فلسطين بالاعتماد على أراء الباحثين والكتاب من العرب واليهود أمثال يوسف أفندي العيسى والكاتب اليهودي بن أفي والذين كانوا مقتنعين بفكرة التقسيم (بحسب صحيفة مرآة الشرق كان يوسف العيسى قد طرح فكرة تقسيم البلاد بين العرب واليهود قبل تسع سنوات من نشر هذا المقال، أي في عام 1924). على الرغم من اقتناع الصحيفة باستحالة تنفيذ الفكرة على أرض الواقع تبعًا لعوامل كثيرة أهمها التداخل ما بين التجمعات العربية والمستعمرات اليهودية إلا أنها تناولت الموضوع من زاوية محاولة تصورها لسبل الحل في فلسطين تبعًا للفكرة التي يقوم عليها المقال “إن المشاكل تزداد تعقدًا كلما طال الزمن والقضية الفلسطينية واحدة منها”1.
منذ نهاية ثلاثينيات القرن العشرين لم تعد فكرة تقسيم فلسطين مجرد أفكار يتناقلها الكتاب والباحثون، إنما أصبحت فكرة أكثر تبلورًا، وذلك من ناحية الانتقال من تصور قبول التقسيم أم عدمه إلى تصور شكل التقسيم المفترض بين الدولة العربية والدولة اليهودية وكيفية التعامل مع قضايا السكان في كل من الأجزاء المفترض تقسيمها. من أهم الصحف التي تناولت مشاريع التقسيم كانت صحيفة الدفاع والتي احتوت على اتجاه أكثر شمولي من حيث تطرقها لتلك المشاريع، وكان ذلك يتمثل بالجهد التي بذلته الصحيفة في تجميع الأخبار العالمية والبريطانية خاصة مع ازدياد تداول الأفكار بخصوص قضية فلسطين بعد أحداث عام 1936، ومن ثم تعيين اللجنة الملكية البريطانية الخاصة بفلسطين (لجنة بيل – PEEL). في الحقيقة حاولت صحيفة الدفاع الموازنة والتنويع في طرح الأخبار بخصوص موقف كافة الأطراف من فكرة التقسيم وبين الأخبار التي تحاول تصور أشكال التقسيم لهذه البلاد. فبخصوص أشكال التقسيم، ضمت صحيفة الدفاع خبرًا بعنوان “عودة إلى تقسيم فلسطين إلى منطقتين: صحيفة إنكليزية كبيرة تنشر رواية عن ذلك” والتي نقلته عن صحيفة “الدايلي هرالد” الإنجليزية حول نماذج التقسيم التي كانت اللجنة الملكية البريطانية الخاصة بفلسطين تحاول أن تطرحها ليتم تطبيقها في فلسطين. وقد كان النموذج الأول هو تطبيق فكرة الاتحاد السويسري، وذلك من حيث أن يكون هنالك استقلالًا ذاتيًا للمنطقتين ، العربية واليهودية تحت حكومة واحدة. أما النموذج الثاني حول التقسيم، كان من خلال أن يتم منح الدولة العربية استقلالًا أوسع وبعد ذلك تكون هذه الدولة متحدة مع شرق الأردن، بينما المنطقة الساحلية يتم تأسيس منطقة يهودية تابعة للإمبراطورية البريطانية2.
من الجدير ذكره أن تصور فكرة مشروع التقسيم لم يكن لها القدر الكافي من جعل المسألة في فلسطين أقل تعقيدًا مما كانت عليه، سواء تمثل ذلك برفض الطرفين في فلسطين: اليهودي والعربي تقسيم “كعكة” فلسطين، أو بسبب الرفض “الظاهري” للمحيط الإقليمي للمشروع، فالترويسة التي تصدرت مقال في صحيفة الدفاع تعبر بلا شك عن ذلك، حيث جاء عنوان المقال “فكرة تقسيم فلسطين أسوأ فكرة دعا إليها يأس اللجنة الملكية، موقف البحر المتوسط يدعو إلى إلغاء، أو إرجاء تنفيذ هذه الفكرة”3.
ركزت الصحافة الفلسطينية على استعراض الأصوات والأقلام العربية والدولية التي في طياتها تعالج قضية مشروع تقسيم فلسطين، فكانت الاقتباسات من الصحافة العالمية قد اخذت مساحة واسعة في الصحافة الفلسطينية وكان ذلك على حساب تغطية النقاش الداخلي، سواء النقاش الداخلي الفلسطيني أو داخل الحركة الصهيونية.
بالتزامن مع اقتراب انعقاد موعد الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 من أجل مناقشة مستقبل فلسطين وطرح فكرة التقسيم أصبح شبح فكرة التقسيم والحرب يخيم على الصحف الفلسطينية بكافة ألوناها وأقلامها، وكان ذلك قد انعكس بشكل كبير على الكتابات والمقالات التي فيها، فالكلمات قد أمست أكثر رصانة وقساوة في محاولة للتوحد ضد فكرة التقسيم وتبيان مدى الخطر التي تتعرض له البلاد. لعل العنوان التي وضعته صحيفة فلسطين يعبر عن تلك الكلمات الحاسمة في مواجهة مشروع التقسيم، فكان العنوان “تقسيم فلسطين يهدد السلام في الشرق الأوسط كله!“4.
يمكن القول إن الصحف الفلسطينية احتوت على العديد التخمينات والتنبؤات حول تصور أشكال التقسيم ومستقبل البلاد (فلسطين) بخصوص تناول فكرة تقسيم فلسطين وذلك تبعًا لتنوع مصادر المعلومات، وكيفية تغطية كل صحيفة للخبر، لكن بالمقابل حافظت مجمل الصحف الفلسطينية على الخطوط العريضة ضمن تغطيتها لفكرة مشروع التقسيم، فقد كانت غالبيتها ضد قرار فكرة مشروع التقسيم وعلى رأسها الصحف الكبيرة والتي كانت لهم الحصة الأكبر من تغطية مسألة تقسيم فلسطين كصحيفة الدفاع وفلسطين خاصة في نهاية أربعينيات القرن الماضي إضافة إلى وجود صحف أخرى عملت على إيصال أفكارها حول مسألة التقسيم مثل صحيفة الوحدة والشعب التي استعرضت على وجه الخصوص موقف الدول العربية من مشروع تقسيم فلسطين، ففي الصفحة الأولى عنونت الصحيفة خبرًا تتناول فيه موقف جامعة الدول العربية الرافض لتقسيم فلسطين والخطوات الواجب اتخاذها لمنع حدوث التقسيم5.
إن تناول موضوع شائك يحتمل العديد من الرؤى مثل موضوع تقسيم فلسطين ليس بالأمر السهل خاصة بدون دون التعرض إلى جوانب عدة، مشارب وأدوات مختلفة نستطيع من خلالها تصور الظروف التي مرت بها البلاد وكيفية تبلور فكرة التقسيم منذ بدايتها حتى تطبيقها على أمر الواقع، ويأتي هنا دور الصحافة الفلسطينية في كونها إحدى تلك المشارب والأدوات التي من خلالها يمكننا الوصول إلى تصور جزئيات من أجل تركيب صورة أكثر شمولية حول تلك الحقبة التي مرت بها فلسطين.
1 حلول القضية الصهيونية: تقسيم فلسطين إلى قسمين”، مرآة الشرق، 27 أيلول 1933، الصفحة الأولى.
2 عودة إلى تقسيم فلسطين إلى منطقتين: صحيفة إنكليزية كبيرة تنشر رواية عن ذلك”، صحيفة الدفاع، 4 نيسان 1937، الصفحة الأولى.
3 فكرة تقسيم فلسطين أسوأ فكرة دعا إليها يأس اللجنة الملكية، صحيفة الدفاع، 18 كانون الثاني 1938، صفحة 2.
4 “تقسيم فلسطين يهدد السلام في الشرق الأوسط كله”، صحيفة فلسطين، 21 أيار 1947، الصفحة الأولى.
5 الجامعة العربية ترفض تقسيم فلسطين، صحيفة الشعب، 13 كانون الأول 1946، الصفحة الأولى.