لا شك أن ثورة 1929 شكلت محطة فاصلة بين حقبتين، شكلت مرحلة اللاعودة في العلاقات العربية اليهودية؛ من عداء واضح وعنف متبادل وشقاق لن يلتئم بعدها، لقد تم دراسة الثورة وأسبابها وتفاصيلها، ولكن على أهمية هذا الإنتاج إلا أنه من المهم أيضاً دراسة أثر ثورة 1929 في الوعي والهوية الفلسطينية
توفر لنا الصحافة الفلسطينية فرصة مدهشة ومثيرة للوقوف على تشكل الهوية الثقافية والسياسية الفلسطينية بتفاصيلها الدقيقة من الأغنية الفلسطينية وحتى العلم الفلسطيني. كل ذلك سيتشكل في ثورة 1929، وهو ما يدل على أثرها في الوعي والذاكرة الفلسطينيتين.
بالنسبة للفلسطينيين فقد اندلعت الثورة بسبب اعتداء اليهود وخروج موكب يهودي بعلم باتجاه حائط البراق، وهو ما شكل بالنسبة لهم اهانة دينية وقومية، حيث ناقشت الجريدة ذلك وذكرته في اليوم الثاني لاندلاع الأحداث
اشتعلت البلاد كلها خلال ايام في الخليل وطبريا والقدس وحيفا وصفد وغيرها، عشرات القتلى والجرحى، العديد من الأحياء نسفت، خطوط الهاتف قطعت، الشوارع أغلقت، خلال أسبوع كانت الثورة قد عمت المدن الرئيسية وتحولت إلى أشبه بساحة حرب.
لكي تخمد السلطات الانتداب الثورة أقدمت على اصدار أوامر بوقف كافة الصحف حينها بما فيها جريدة فلسطين والدفاع ومجلة الفجر وغيرها ولم تسمح لها بالعودة للعمل إلى بعد أسبوع
حين عادت الصحف للعمل نشرت حينها كل الأخبار والبلاغات التي وصلت خلال أسبوع الأحداث دفعة واحدة، توفر لنا هذه المواد اليوم مساحة مهمة جداً لفهم الأحداث والتفاصيل بشكل يومي تماماً كما لخصتها ووصفتها الحكومة البريطانية
كان ذلك ملخصاً أسبوع مما سيطلح على تسميته بثورة البراق في الثقافة الفلسطيية، أو أحداث أو شغب 1929 في الثقافة العبرية، لكنه سيترك أثراً بالغاً في الوعي الفلسطيني، فعلى أثر الاحداث اعتقل ثلاثة فلسطينيين وهم: محمد جمجوم، فؤاد حجازي، وعطا الزير. حكم عليهم لاحقاً بالاعدام، حكم سيدخل التاريخ حيث سيتحول الشبان الثلاثة إلى جزء من ذاكرة الشعب الفلسطيني ونضاله، وسيتم استحضارهم في كل حدث ومناسبة، ولا يزال حتى اليوم بعد عشرات السنين من اعدامهم يُذكرون كل عام ولا يزال معظم الفلسطينيين يحفظون عن ظهر قلب قصيدة “من سجن عكا طلعت جنازة” التي كتبها الشاعر نوح ابراهيم والذي سيستشهد هو الآخر لاحقاً لتصير حكايتهم كأنها قصة ملحمية بنظر الكثيرين.
هذا الأثر في الهوية لن سينعكس أيضاً في الأدبيات والشعر الفلسطيني هكذا ستصير أغنية لا تسل عن سلامته والتي ظهرت في مسلسل “التغريبة الفلسطينية” جزءًا متأصلاً في التراث والأغنية الفلسطينية
اقرأ/ي أيضاً: محطات في حياة السياسي الفلسطيني ابن مدينة الرملة الأستاذ يعقوب الغصين
لكن الأثر الأبرز ربما لأحداث ثورة البراق سيكون سياسياً، حيث يمكن استشفاف علاقة واضحة بين رفع العلم الصهيوني (كما وصفته جريدة فلسطين) وبين ظهور العلم الفلسطيني نفسه، حيث قدمت جريدة فلسطين بعد الثورة بشهر واحد اقتراحاً للجنة التنفيذية بضرورة اتخاذ علم مقترحة عليها علمين ومطالبة أيضاً بنشيد وطني وهو ما سيفتح باب النقاش بعدها والذي سيفضي لاحقاً لتصميم العلم الفلسطيني.
لم تكن ثورة البراق سوى أسبوع واحد ولكنها ساهمت في صقل جوانب متعددة من الهوية الفلسطينية، قد تكون الأمثلة أعلاه بعضها، ولا تزال الكثير من الأمثلة بحاجة لدراسة معمقة، ربما تشكل هذه الصحف الفلسطينية اليوم وقد صارت متاحة للباحثين بداية جيدة لدراسة الكثير من الجوانب واعادة قراءة الماضي قراءة نقدية تسلط الضوء على ما جرى وتمكننا ليس فقط من فهم الماضي بل من فهم الحاضر أيضاً.