أضيف إلى سكان فلسطين الانتدابية (1917- 1948) العرب واليهود آلاف السكان الجدد من البريطانيّين: موظّفو النظام الانتدابي، الشرطة والجيش، وخلال الحرب العالمية الثانية أضيف إليهم كذلك جنودًا من بلدان أخرى. بالرغم من أن لعبة كرة القدم كانت رائجة في البلاد قبل أن يصل إليها البريطانيون، إلا أنها حصلت على دفعة كبيرة في ظلّ سلطة أمة تعتبر موطن كرة القدم، وشاركت فيها جميع الفئات السكانية في البلاد. وقد ظهرت في هذه الفئات السكانية الثلاث (العرب، اليهود والبريطانيون) فرق رياضية لممارسة لعبة كرة القدم، ونذكر على سبيل المثال فريق Paymasters، وشباب العرب، ومكابي تل أبيب، وهي فرق تنافست فيما بينها على الكأس. تأسّس الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم (بتوصية مصرية) في سنة 1928، وقد اشترط الاتحاد الدولي لكرة القدم للانضمام إلى الاتحاد الدولي (1929) مشاركة جميع الفئات السكانية في البلاد في هذا الاتحاد الجديد. لذلك فقد أجريت مباريات بين فرق عربية ويهودية وبريطانية، وقد تمّ الاعتراف بمشاركة لاعبين من هذه الفئات السكانية الثلاث بالمبدأ في المنتخب الوطني في مبارياتها مع فرق من خارج البلاد ولكن لم يكن يتم ذلك فعليًا على الدوام.
ملعب مشترك
غالبًا ما نعتقد أن علاقة تصادمية كانت سائدة بين الفئات السكانية في البلاد العربية واليهودية في البلاد. وهذا التصوّر ذاته يهيمن على العلاقة بين اليهود والبريطانيّين في البلاد كذلك، وخاصة حين نعاين ذلك من منظور صراع “المنظمة العسكرية القومية” (آتسل) وتنظيم “المقاتلون من أجل حرية إسرائيل” (ليحي) ضد البريطانيّين ونظرتهم للهجرة اليهودية غير الشرعية. إلاّ أن العلاقات الرياضية بين اليهود والعرب والبريطانيّين، كما تجلّت في ألعاب كرة القدم، من شأنها أن تشهد على أنه خلافًا لهذا التصوّر، بما يتعلّق بمنظمات المجتمع المدني، فإن المجتمع لم يكن منفصلاً إلى ثلاث فئات سكانية وإنما كان الواقع أكثر تركيبًا إذ تعاونت هذه الفئات فيما بينها. وعليه، فإنه بالرغم من هيمنة الانتماء القومي على الرياضة في البلاد، فإن النشاطات الرياضية – وكرة القدم تحديدًا في حالتنا – كانت حلبة للقاء هذه الفئات السكانية بعضها ببعض.
لا يعني ذلك بأن التوتّر لم يؤثّر على العلاقات الرياضية. فعلى سبيل المثال، في ظل موجه احتجاج السكان اليهود على الكتاب الأبيض لسنة 1930، توقّفت الألعاب الرياضية بين الفرق البريطانية والفرق اليهودية؛ وفي ظل الاحتجاج على نوع التعامل مع الفرق العربية فقد استقالت في سنة 1934 من الاتحاد الفلسطيني وأنشأت اتحادًا بديلاً إلاّ أنه لم يستمر لفترة طويلة. ومن جانب آخر، فقد استقبل الجمهور بصورة جميلة فرق تنتمي إلى فئات سكانية أخرى. على سبيل المثال، في أعقاب لعبة بين نادي إسلامي يافا وبين مكابي رحوبوت التي جرت على ملعب في رحوبوت في سنة 1941، كتب الصحف العبرية ما يلي: “لقد استُقبلت الفرقة العربية بمشاعر مشجعة من قبل جمهور المشجعين في رحوبوت”؛ وقد اتّسم حكم الاتحاد في الألعاب بروح رياضية من دون تحيّز كبير لصالح الفرق اليهودية على مدار أغلب سنوات الانتداب.
شرق أوسط جديد
لم تجر ألعاب كرة القدم في فلسطين فحسب، وإنما جرت على ملاعب دولية كذلك. نشأت العلاقات الرياضية للفرق اليهودية منذ سنة 1927 مع فرق من بلدان عربية وبصورة مركزية مع مصر ولبنان وسورية، ولم تشهد الصحافة في حينه على تصادمات حتى الأربعينيات.
يقذفون الكرة في وقت الحرب
وعليه، استنادًا إلى علاقات كرة القدم بين الفئات السكانية المختلفة في فترة الانتداب، يبدو أنه يتعيّن علينا التخلّي عن منظور الصراع الذي اعتدنا على النظر من خلاله على تاريخ هذا المكان. لم يهمن الصراع دومًا، وإنما تطوّر هذا الصراع على مدار السنين، كما يمكننا أن نلمس ذلك جيدًا في ملاعب كرة القدم. ومع مرور الوقت، نشهد في حلبة كرة القدم على عملية انفصال بين المؤسّسات والفرق الرياضية اليهودية وتلك العربية والبريطانية. ووصل ذلك ذروته خلال الحرب العالمية الثانية، إذ نشهد في تلك الفترة تصادمات عنيفة مع الفرق العربية والفرق البريطانية (ومع الفرق الرياضية العسكرية الأخرى).
بينما كان توقّفت الألعاب مع الفرق القادمة من خارج البلاد بصورة طبيعية، بسبب انتقال القوات والموظفين البريطانيّين من البلاد في نهاية الحرب، فإن توقّف الألعاب بين الفرق اليهودية والعربية جاءت نتيجة حكم الاتحاد المفتقر للروح الرياضية.
بطاقة حمراء
خلال ألعاب الكأس لسنة 1942 كان من المفترض أن يتنافس فريق مكابي حيفا مع الفريق اليوناني Royal Hellenic Army Team في دور ربع النهائي، إلا أن اللاعبين اليونانيّين تركوا البلاد، وصعد فريق مكابي حيفا في أعقاب ذلك وبصورة فورية إلى الدور نصف النهائي. جرت إحدى الألعاب الثلاث النهاية في دور الربع النهائي بين مكابي تل أبيب وبين الشباب العرب وانتهى بفوز مكابي تل أبيب اليهودية، إلاّ أن هذا الفريق قد شارك لاعبيْن كانا مطلوبيْن للتجنيد، وهو أمر لم يكن مقبولاً وفق القوانين الداخلية للاتحاد. وفي أعقاب ذلك، أُبعد فريق مكابي تل أبيب من الألعاب القادمة. ولكن، لم يتمتّع الفريق العربي من ذلك بل تمتّع من ذلك فريق مكابي حيفا الذي صعد فوريًا إلى دور النهائي. تقدّم فريق الشباب العرب باستئناف ضد هذا القرار إلاّ أن الاتحاد رفض هذا الاستئناف. في أعقاب ذلك، اندلع صراع بين الفرق العربية وبين الاتحاد وانتهى باستقالتها من الاتحاد في سنة 1943 وإنشاء اتحاد عربي في أيار 1944.
إن قصة كرة القدم في فلسطين الانتدابية تجسّد جيدًا أنه لم تكن هناك علاقات عدائية دومًا على الصعيد الشخصي بين السكان العرب وبين اليهود وبين كليهما وبين الحكّام البريطانيّين. ويتجلّى ذلك في اللقاءات الرياضية. وقد استمر اللقاء بين اليهود والعرب والبريطانيّين وغيرهم خلال الثلاثينيات والأربعينيات على أرض ملاعب كرة القدم واستمر ذلك حتى نهاية حقبة الانتداب تقريبًا. بالرغم من ذلك، فإننا نشهد أنه تمّ استخدام كرة القدم بصورة تدريجية وتصاعدية كأداة في الصراعات السياسية بين الفئات المختلفة في فلسطين.