في الثالث من أيلول للعام 1939 بدأت حرب بريطانيا ضد ألمانيا النازية، وقد عاون بريطانيا العديد من الدول والفرق إلى جانب الحلفاء، حيث انضم الفيلق اليهودي للتدريب مع الجيش البريطاني وذلك للحفاظ على حلم الوطن القومي في فلسطين الذي ضمنه وعد بلفور. ولكن الأمر لم يتوقف على مؤازرة اليهود في أوروبا وفلسطين بقيادة الوكالة اليهودية والمندوب السامي، بل وصل إلى أبواب الفلسطينيين وكل ذلك خلال فترة استعمار بريطانيا أو انتدابها للبلاد، ولكن كيف بدأت حكاية تطوّع الفلسطيني مع مستعمره في محاربة استعمار آخر؟
بعد شهر من اندلاع الحرب، أعلنت القوات البريطانية في الصحف العربية عن فتح باب التطوّع للفلسطينيين للمشاركة في الحرب إلى جانب الجيش البريطاني، وذلك للحد من نفوذ ألمانيا النازية؛ إذ كانت المعارك لصالح الألمان حتى العام 1941، إلّا أنّ التطوّع كان مشروطًا، وقد نشرت صحيفة فلسطين بيان المندوب السامي حول الاستفادة من خدمات الفلسطينيين وذلك بإعلانها الحاجة إلى مهندسيين، عمال في النقليات ومخازن الأسلحة والذخائر وبالطبع الحاجة الكبرى إلى محاربين. ومن أبرز الشروط أن يكون عمر المحارب بين 20 – 25 بينما أعمار الفنيين لا بأس أن يكونوا أكبر سنًّا وقد أتيحت “الفرصة” لكل من كان عمره بين 35 – 40 عامًا. لم يتوقف الأمر بحكومة الانتداب عند هذا الحد، بل وعدت كل متطوع برواتب عالية تتوفر له ولعائلته – إن كان متزوجًا – وكل من يخدم خارج فلسطين سيعامل معاملة الجندي البريطاني، على حدّ قولهم.
شاهد/ي أيضًا: الحرب العالمية الثانية: معارض رقمية لصور وأخبار من الصحف الفلسطينية
فجأة، بدأت القوات البريطانية تنشر في الصحف الفلسطينية أعداد المتطوعين في كل أسبوع، والذي كان يزداد،؛ إذ نُشر بعد 10 أيام من الإعلان الأول، في الصفحة الثالثة من صحيفة فلسطين في خبر في آخر الصفحة بخط صغير، كخبر مهمل، العنوان التالي: 440 متطوّعًا حتى الآن منهم 7 أطباء ومهندسين، 252 حِرَفي، 147 محاربًا مع صفوف الجيش إلى جانب 34 متطوّعًا في المهام الفنية والكتابية.
رجال دين وأدباء في خدمة الحكومة البريطانية الانتدابية
لم يتوانى الأمر مع الحكومة البريطانية عند حد إعلان التطوّع، بل تعاونت مع بعض الوجهاء في فلسطين ومصر لتشجيع عامة الناس للتطوّع في صفوف الجيش البريطاني، ولم تتوانى كذلك الصحف الفلسطينية عن توثيق الخطابات الجماهيرية التعبوية إن كانت من الشيوخ أو المثقفين أو الأدباء. ولكنّ السؤال هنا، لماذا لجأت بريطانيا لدعم “الوجهاء”؟ الجواب يبدأ من إيطاليا؛ إذ انضمت إلى صفوف ألمانيا النازية وشكّلت مع اليابان دول المحور. دخول إيطاليا، كان بمثابة انتهاء الحلم القومي لليهود لأنّها دعمت ثورة العرب والفلسطينيين منذ العام 1935. (بيان نويهض الحوت، 1983)
“أبدى العرب اليوم دليلًا جديدًا يُضاف إلى الأدلة الكثيرة التي سبقت على أنّهم في كل مكان موالون لبريطانيا العظمى وحلفائها ويؤيدون بكل قواهم قضية الديموقراطية العادلة”، هكذا استهلت صحيفة فلسطين في الصفحة الثالثة من عدد 18 حزيران 1940 حول اجتماع حاكم القدس العسكري، ومساعد حاكم لواء القدس، ومدير بوليس القدس والضابط فايز الإدريسي بالإضافة إلى الكاهنين يعقوب الحنّا ونقولا الخوري وصحفييْن من صحيفتي الدفاع وفلسطين، كل هؤلاء تجمّعوا في بيت المختار عبد الرحمن عريقات في منزله في بلدة أبو ديس، وكل هؤلاء اجتمعوا أيضًا للتأكيد لجماهير أبو ديس والبلدات المحيطة على أهمية الوقوف مع بريطانيا ودول الحلفاء في محاربة فاشية إيطاليا ونازية ألمانيا.
بعد أقل من شهر، عُقد اجتماع مشابه في مدينة الخليل للتأكيد على الولاء للديموقراطية؛ إذ بسّط فطين طهبوب مرامي السياسة الدولية والعالمية للجمهور، وبيّن كذلك كامل الجعبري مطامع الاستعمار الإيطالي، فيما تحدّث وشبان آخرون باللغة الإنجليزية للترحيب بالضيوف الإنجليز وتجديد الولاء والثبات على المبادئ الديموقراطية للحكومة البريطانية. لكنّ الحديث الأدهش والمؤثر في هذا اليوم كان لصالح حاكم لواء القدس البريطاني “كيث روتش” الذي ذكّر الحضور العربي الفلسطيني أنّ الجميع يؤمن بالله، وأنّ بريطانيا وحكومتها وشعبها من أهل الكتاب، ويُعدّ دعم الإمبراطورية البريطانية من أسس الدين السليم، ووجب محاربة هتلر الذي استبدل الكتب المقدسة بنظامه النازي المطروح في كتابه “كفاحي”.
استمّرا المندوب السامي والحاكم العسكري بتشجيع الناس للانضمام لصفوف الحرب عبر استقبال بعض العائدين من الفرقة الفلسطينية من الحرب العالمية بحفل صاخب واستعراض عسكريّ مهيب يتخلله عامة الناس، سياسيون من الجانب الإنجليزي، اليهودي والعربي، بالإضافة إلى الصحافة العربية واليهودية؛ إذ نقلت صحيفة فلسطين الخبر في الصفحة الأولى من عددها الصادر في 29 أيلول من العام 1940، أي بعد عام من اندلاع الحرب.
عباس محمود العقّاد ينادي بالولاء لبريطانيا الديموقراطية
الحرب بعد 12 شهرًا و6 أسابيع، خطب الأديب عباس محمود العقّاد، والذي كان أيضًا أحد أعضاء مجلس النوّاب المصري، في إذاعة القدس مستهّلًا خطابه بـ “إخواننا أبناء العربية”، متابعًا وواصفًا فلسطين بأنّها مهد الديانات والرسالات السماوية، وكان الشاعر والروائي المصري عبد القادر المازني قد رافق العقّاد في رحلته إلى فلسطين وقد استقبلهم الأديب والمؤرخ عجاج نويهض في المسجد الأقصى. في يوميات طاهر عبد الحميد الفتياني، ورد بأنّ نويهض شارك في المؤتمر الذي أعدّه المندوب السامي في دار الحكومة بالقدس مع رؤساء بلديات يافا، الرملة، القدس، رام الله، حيفا، عكا، الناصرة، الخليل، وغزة حول مشروع تطوع عرب فلسطين في الجيش البريطاني، والبحث في وسائل تشجيع العرب للتطوّع. (سميح حمودة، مجلة حوليات مقدسية)
شاهد/ي أيضًا: مدن تاريخية مصوّرة
أما المحامي حنّا ديب نقارة، فقد أورد في كتابه “مذكرات محامٍ فلسطيني” الصادر في العام 1985 – بعد عام من وفاته – أنّ عجاج نويهض أدار إذاعة القدس لخدمة الجيش البريطاني؛ إذ كان هو والعقّاد يخطبون لصالح بريطانيا، وعلّق حينها: “مما أثار استهزاءنا بهذه الإذاعات الكاذبة. إذ كانت بريطانيا في نظرنا رأس الحية، ولا يهمنا من سيقضي على هذه الحية الرقطاء.”
بعد 10 أيام من خطاب العقاد، تعرّض هو والمازني وفخري النشاشيبي لإطلاق نار دون أن يُصاب أيّ منهم، أما عادل أرسلان – أخو الأمير شاكر أرسلان؛ المتهم بدعمه لألمانيا مع المفتي أمين الحسيني – فقد علّق على تصرفات العقّاد المتذبذة بأنه كان أشد الناس والكتّاب عداءً لبريطانيا لأنها قوة مستعمرة كغيرها؛ إلا أنّه في الحرب العالمية الثانية جاء إلى فلسطين مع المازني ليؤثر على عقول العرب فيصبحوا صهيانة. (أرسلان، 1983)
توالت الأحداث والأخبار حتى أصبحت تنشر في الصحف الفلسطينية أسماء المتطوعين القتلى والجرحى والمفقودين وتحديدًا في العام 1941 بعدما حمي الوطيس مع دول المحور وبدأت تنقلب معادلة الحرب لصالح دول الحلفاء.
لم تتوقف مكاتب التجنيد عن طلب المتطوعين، بل ازداد عدد المتطوعين المنخرطين في البحرية البريطانية كذلك.
قبل نهاية الحرب بأشهر قليلة، بدأت تنشر الصحف عن الأسرى الجنود، وعن عودة البعض واختفاء البعض الآخر، كما ورد في صحيفة فلسطين على سبيل المثال في العدد 9 حزيران 1945 خبر وصول 65 أسير حرب.
ولأن نهايات الحروب كما وصفها محمود درويش: “ستنتهي الحرب ويتصافح القادة وتبقى تلك العجوز، تنتظر ولدها الشهيد وتلك الفتاة، تنتظر زوجها الحبيب وأولئك الأطفال، ينتظرون والدهم البطل. لا أعلم من باع الوطن، ولكنني رأيتُ من دفع الثمن”. وعلى الرغم من هذا الوصف “الرومانسي” لنهاية الحرب، إلّا أنّ هذه عادة الحروب، تختفي أسماء وتُخلّد أسماء أخرى، فيما تنتصر دول وتُباد شعوب أخرى لسوء إدارة حُكّامها وألاعيب مثقّفيها.