الحياة والأزياء التقليدية في مسيرة خليل رعد

يعتبر المصور خليل رعد حالة نادرة نشأت في نهاية القرن التاسع عشر، وتركت بصمة في توثيق كل ما هو عربي وغير عربي بأسلوب مختلف ومميز. للمزيد، في صور المقالة.

صورة بالزي الفلاحي في ستديو رعد، 1910 من كتاب "لقطات مغايرة" للباحث عصام نصّار

صورة بالزي الفلاحي في ستديو رعد، 1910 من كتاب "لقطات مغايرة" للباحث عصام نصّار

إذا كانت الآداب والفنون مرآة الشعوب السياسية والاجتماعية والثقافية، فإن الأزياء والألبسة جزءًا لا يتجزأ من مجتمع وثقافة أي شعب في أي بقعة جغرافية حول العالم، سواء على المستوى المادي لقيمة وشكل الأزياء أو على المستوى الرمزي الذي يعبّر عن حال الشعب بمجتمعاته الصغرى في الأطر الدينية والعُرفية والتقليدية وأحياناً السياسية. هذا إلى جانب دراسة الأقمشة ذاتها وأشكالها وألوانها وزخارفها التي لها طابعها الخاص وشروطها الاجتماعية والاقتصادية والدينية وفي بعض الأحيان السياسية. في منتصف القرن الثامن عشر، سعى العديد من الرحالة والباحثين الغربيين لتوثيق ودراسة تفاصيل الألبسة والأزياء العربية والإسلامية للمناطق الخاضعة للإمبراطورية العثمانية في محاولة منهم لفهم التاريخ المجتمعي بكافة أطيافه، وقد تنوّعت سبل بناء هذه الدراسات وتوثيقها بالكتابة، الرسم والألوان وصولًا لعدسات الكاميرات. ولقد كان توّجه العديد من المصوّريين المحليين والأوروبيين هو تصوير المحليين والسياح الأجانب باللباس العربي التقليدي ولكن كلٌّ لغايته وغرضه، ويعتبر المصور اللبناني خليل رعد من المصوريين الذي وثّقوا اللباس التقليدي في صور السياح والمحليين في الستديو الخاص به.


اقرأ
/ي أيضًا: حين تكلمت فلسطين… بعيون أنيس تشارلز حداد


تنوّع إنتاج خليل رعد من صور الحروب حتى صور الأزياء التقليدية

بداية، يعد خليل رعد عميد المصوّرين لأنّه من أوائل المصوّرين العرب في فلسطين العثمانية إن لم يكن هو أولهم، وقد ولد خليل رعد في العام 1869 في لبنان، وانتقلت عائلته إلى مدينة القدس، وتعلّم التصوير على يد المصوّر الأرمني كريكوريان، وافتتح رعد ستوديو خاصًّا به في شارع يافا في العام 1885.

عائلة خليل رعد؛ زوجته آني، ابنه جورج وابنته روت، 1932، من كتاب "خليل رعد" للباحثة رونا سيلع
عائلة خليل رعد؛ زوجته آني، ابنه جورج وابنته روت، 1932، من كتاب “خليل رعد” للباحثة رونا سيلع

 

شاهد/ي أيضًا: صور خليل رعد: مقتطفات من أرشيف رعد الرقمي في المكتبة

انتهج خليل رعد في مهنته كمصوّر العديد من المنهجيات لكسب رزقه والحفاظ على إرثه لاحقًا، إذ عمل كمصوّر للقوات العثمانية خلال حروبها في أواخر القرن التاسع عشر حتى هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وذلك من باب الدعاية والحفاظ على “هيبة” الدولة ورفع معنويات جنودها والتأثير على معنويات الخصم كذلك.


اقرأ
/ي أيضًا: ألبوم نادر: حين وثق مقاتل في الوحدة المدفعية البريطانية انتزاع فلسطين من العثمانيين

اهتم أيضًا بتوثيق المدن في البلاد بمعالمها التاريخية والجغرافية، وحُفظت صور المدن في ألبوم بعنوان “رحلات فلسطينية“، وكذلك قام بتصوير سكان كل مدينة بلباسهم التقليدي لا سيما البدو والفلاحيين منهم، أو حتى أهالي المدن بلباسهم الذي يشبه اللباس الغربي إلى حدّ ما، أو بحرفهم اليدوية كوسيلة لكسب العيش، وكان ذلك على عكس صور الأوروبيين التي كانت تعكس إما فراغ هذه المدن من الناس، أو تخلّف المحليين بتصوير المرضى منهم لا سيما خلال فترات الأوبئة، أو تصوير الفلاحيين والبدو على الحمير والجمال. واعتُبِر تصوير خليل رعد لطبيعة السكان العرب بكافة خلفياتهم الدينية (مسلمين ومسيحيين ويهود)، أو الاختلاف الطبقي والاجتماعي ردًّا – بقصد أو بغير قصد – على أنّ هذه طبيعة المكان الفسيفسائية دون الحكم على اختلافه أو الدعوة إلى “تنوير” الآخر “المختلف”.

عائلة من الناصرة، 1912
عائلة من الناصرة، 1912، عدسة خليل رعد، أرشيف يعقوب فارمان

 

عائلة يهودية، تصوير خليل رعد من كتاب "لقطات مغايرة" لعصام نصّار
عائلة يهودية، تصوير خليل رعد من كتاب “لقطات مغايرة” لعصام نصّار

أمّا للتصوير في الستديو، توّجه رعد لأهالي المدن والناس الميسورة، التي في مقدورها دفع ثمن صورة “نادرة” في ذاك الزمان مع العائلة، إذ بيّن لنا المفكّر إدوارد سعيد في يوميّاته “خارج المكان” أنّ عائلته في مدينة القدس حرصت على دعوة خليل رعد في الأعياد والمناسبات لالتقاط صورة عائلية.

“وكان رعد النحيل الأبيض الشعر يستغرق وقتًا طويلاً جداً في تنظيم المجموعة العائلية الكبيرة، ومعها الضيوف في ترتيب مقبول. وخلال تلك اللحظات التي كان يمطها إلى ما لا نهاية بطريقته النيقة واستهتاره بالذين يصوّرهم، يتكون إجماع على أنّ الصمدة أمام آلة التصوير محنة ضرورية من الضرورات التي تفرضها المناسبات العائلية الرسمية.”

ربما يعود وصف سعيد الطريف عن “طقوس” التقاط الصور لدى رعد لصعوبة تكرار الصورة وضمان جودتها، إذ كان التصوير حينها شمسيًّا، وليس الحال كما اليوم أو حتى ما قبل خمسين عامًّا.

بالإضافة إلى العائلات العربية من الطبقة المتوسطة والغنية، توّجه رعد لجمهور اليهود والأجانب بتقديم إعلانات في الصحف العبرية أو الإنجليزية، كما الإعلان أدناه؛ إذا كان الإعلان يؤكد توّفر “كاتلوج” خاص بالعام 1933، يحتوي على صور الأماكن المقدّسة والإطلالات المميزة بالإضافة إلى صور أفراد باللباس التقليدي لكل من منطقة فلسطين وسورية، وصور تعكس قصص توراتية وإنجيلية.

إعلان من العام 1933 لستديو رعد، من كتاب "خليل رعد" للباحثة رونا سيلع
إعلان من العام 1933 لستديو رعد، من كتاب “خليل رعد” للباحثة رونا سيلع

 

أيقونات إنجيلية وبيزنس المصوّريين

اعتمد المصوّرون الأوروبيون، الأرمنيون، وكذلك العرب على توفير صور تظهر الأحداث التوراتية والإنجيلية الخاصة بالأراضي المقدسة؛ إذ تحوّل الفلاح أو الفلاحة الفلسطينيين إلى “أيقونات” إنجيلية، والتي حرص رعد أن تَظهر في نوعية الصور المأخوذة في الستديو والتي راجت في أواخر القرن التاسع عشر حتى ثلاثينيّات القرن العشرين.

صورة بالزي الفلاحي في ستديو رعد، 1910 من كتاب "لقطات مغايرة" للباحث عصام نصّار
صورة عائلية بالزيّ الفلاحي في ستديو رعد، 1910 من كتاب “لقطات مغايرة” للباحث عصام نصّار

 

واعتبر الباحث عصام نصّار في كتابه “لقطات مغايرة” أّنّ مثل هذه الصور هي بمثابة تحويل الحضور الإنساني الطبيعي إلى أغراض تجارية وذلك باستعراض أحداث من الرواية الإنجيلية أو التوراتية، فيبيّن مثلًا أنّ صورة السيدة التي تحمل طفلًا تشير إلى ولادة السيد المسيح، وصورة المرأة التي تملاً جرّة ماء من البئر أو تحمله تذكر بالمشهد الذي يجمع السيد المسيح بالمرأة السامرية، وصورة النساء الجالسات على مدخل الكهف تستدعي مشهد القيامة. (نصّار، 2005)

شاهد/ي أيضًا: عيد الميلاد: صور، ترانيم، بطاقات تهنئة، واحتفالات في محيط كنيسة المهد

سيدة مع طفلها من بيت لحم، من كتاب "خليل رعد" للباحثة رونا سيلع
سيدة مع طفلها من بيت لحم، من كتاب “خليل رعد” للباحثة رونا سيلع

 

فتاة من الناصرة، من كتاب "خليل رعد" للباحثة رونا سيلع
فتاة من الناصرة، من كتاب “خليل رعد” للباحثة رونا سيلع

واعتُبر مثل هذا النوع في إنتاج التصوير ما هو إلا تقليد أوروبي معتمد على طباعة صور الأماكن والناس مع وصوفات مكتوبة باللغة الإنجليزية للتوجّه لجمهور الأجانب والسياح القادمين لزيارة الأراضي المقدّسة.

 

الشاعر الروسي ألتر ليفين بلباس عربي في ستديو رعد، 1929.
الشاعر الروسي ألتر ليفين بلباس عربي في ستديو رعد، 1929، أرشيف أبراهام شفدرون.

في الواقع، بين التناقض في صور رعد ذات الطابع الأوروبي “الاستعماري” والشيئي، إلا أنّه لم يوثّق الحياة الاجتماعية للفلسطينيين بنظرة أوروبية مستشرقة “إلى حد ما”، على الأقل في ألبومه “رحلات فلسطينية”. مع ذلك، تتداخل المعاني لكل صورة – مهما كانت بسيطة – وتنشأ علاقات جديدة بين الصورة ومشاهدها في كل مرة تنشأ فيها “قراءة” جديدة للصورة في سياقها التاريخي، دون إغفال جماليات الصورة وقت التقاطها.

“وحسب فرائضهم لا تسلكوا”؛ ما بين التصوّف اليهودي والإسلامي

هكذا ترك التّصوّف الإسلامي بصمته على العبادة والفكر اليهوديّ من العصور الوسطى إلى اليوم

بقلم: راحيل جولدبيرغ

منذ نعومة أظفاره، تأهّب إبراهيم وتربّى لأن يملأ مكان أبيه يومًا ما حين يكبر، وكان أبوه رجل الدّين والطّبيب والفيلسوف اليهوديّ الشّهير موسى بن ميمون، المولود في مدينة قرطبة في القرن الثّاني عشر للميلاد.

نشأ إبراهيم ليرث بالفعل دور أبيه كرئيسٍ للطائفة اليهوديّة في مصر. إلّا أنّه من خلال سعيه لحثّ أبناء المجتمع اليهوديّ على التّمسك باليهوديّة كشف بدوره عن تأثّره الكبير بالمسلك الرّوحانيّ في الإسلام إلا وهو التّصوّف. ويظهر هذا الأثر في كتاباته وفي أحكامه الشّرعيّة. فمثلًا، ابتدع وجوب غسل القدمين واليدين قبل الصّلاة، ودعم هذا الادّعاء بمصدر تلموديّ واحد وهو ما لم يتمّ تقبّله، وذلك بالطّبع لأن المصدر الحقيقي لهذا التّجديد كان نابعًا من التّقاليد الإسلاميّة (الوضوء).

واجه إبراهيم بن موسى من اتّهموه بتقليد غير اليهود بطريقتين. أمّا الأولى فمن خلال إيجاد مصادر يهوديّة الأصل لتدعم مختلف أحكامه، وإن كانت هذه المصادر فريدة وغير واسعة الانتشار. أمّا الثّانية، فقد جادل بأنّ الوصيّة التوراتيّة “ولا تتّبعوا قوانينهم” لا تشمل بالضّرورة تقليد المسلمين.

بالطّبع لم يكن إبراهيم بن موسى بن ميمون أوّل من أظهر تأثرًا يهوديًّا بالتّصوّف الإسلامي، فقبله بكثير عُرفت حركة “الحاسيدوت” اليهوديّة، وقد كانت معروفة بتأثّرها بحركة التّصوف الإسلامي.

أوّل كتاب نعرفه من هذه الحركة هو كتاب “فرائض القلوب” لابن فقوده المولود في سرقسطة عام 1080 للميلاد. قسّم ابن فقوده كتابه إلى أبواب تدلّ القارئ على الطّريقة الرّوحانيّة ليصل بالنّهاية إلى الباب العاشر ويرى كما ورد في عنوانه “المحبّة الحقيقيّة لله تعالى”. تتشابه بنية كتاب “فرائض القلوب” مع الطّريقة الصّوفيّة إلى حدٍ كبير، والّتي تعد السّالك بالتّرقي من مرحلة إلى مرحلة ليصل إلى الهدف نفسه. يستخدم الكتاب، الّذي كُتب بالعربيّة اليهوديّة، تعابير إسلاميّة عديدة مثل “الله تعالى” و”الله عزّ وجلّ”. وبالإضافة إلى ذلك، فإن ابن فقوده يستشهد بمصادر إسلاميّة للتأكيد على صحّة كلامه، فنراه يقتبس مثلًا الصّوفي ذو النّون المصري (ت 859م) في مقالته عن إثبات وجود الله: “من يعرف الله حقًا هو من يستحي منه”، ثمّ لاحقًا في ذات المقالة، يتحدّث عن التّفسير العقلي لوجود الله ويقول “من المنطقيّ أن نقول عن خالق كلّ شيء، أنّه ليس كمثله شيء”. وهنا يقتبس ابن فقوده من الآية الحادية عشر من سورة الشّورى في القرآن.

من مخطوطة ل"فرائض القلوب"، القرن الرّابع عشر
من مخطوطة ل”فرائض القلوب”، القرن الرّابع عشر

تشير هيئة الكتاب إلى أنّها ليست النّسخة الأولى من نوعها، إلّا أنّها الأقدم من بين النّسخ الّتي حُفظت ووصلت إلينا. يحظى كتاب “فرائض القلوب” بشعبيّة كبيرة إلى اليوم، ويُعتبر من الكتب الأساسيّة في مجالات الإيمان والأخلاق. تمّ نشر نُسخ حديثة للكتاب في السّنوات الأخيرة ، كنُسخ دراسيّة بالإضافة إلى نُسخ مقسّمة لفصول صغيرة مُعدّة للقراءة اليوميّة وبالخصوص لفترة “سليحوت” أي أيّام الاستغفار الّتي تمهّد ليوم الغفران.

لقد كان إبراهيم بن موسى يكتُب لتثقيف المجتمع اليهوديّ الّذي تواجد في مكانه وزمانه، بينما كتب ابن فقوده للجميع ولكلّ يهودي في أي مكان، بغضّ النّظر عن الدّرجة الرّوحانيّة أو المعرفيّة له، ومن هنا ينبع التّباين بين شعبيّة الكاتِبيَن.

ترك التّصوّف الإسلامي وقيمُه بصمته على اليهوديّة وتاريخها بعدّة طرق، بدءًا من ظهور مصطلح “حساب النّفس” الّذي لم يُذكر قبل كتاب “فرائض القلوب”، إلى تطوّر أدبيّات الأخلاق ووجوب تأكيد نيّة القلب قبل أداء الفرائض.

 

قرافة المماليك: بوابة سماء القاهرة الشرقية

تشهد صحراء المماليك على عراقة تاريخ المماليك بكثرة المباني المعمارية ذات الطابع الفني. في هذا المقال، سنتعرّف عليها وكيف تحوّلت إلى قرافة.

مشهد عام على جبل المقطّم في مدينة القاهرة، 1898-1907، أرشيف بن تسفي.

انغمست الدول على مر الزمن وحتى يومنا هذا ببناء العديد من المساجد، الكنائس، القلاع، القصور، والأبراج وغيرها من المنشآت المعمارية وذلك لإظهار مدى قوة ونفوذ الدولة من جهة، ولكسب شرعية البقاء من جهة أخرى. ولقد انشغلت السلطات الحاكمة في مصر على مر التاريخ بتقاليد البناء المعماري للمدافن من أيام الفراعنة حتى أواخر الأمبراطوريّة العثمانية، وكان لكل عصر التقليد المعماري الخاص به والذي يعكس وجه الدولة الحاكمة. وعلى الرغم من رفض الإسلام لتقديس الموتى، كانت العديد من الدول الإسلامية تجعل لمتصوفيها الأضرحة في مدافن للزيارة والتبرك بها. (حمزة، 2021) وقد بنى المماليك في صحراء شرق مدينة القاهرة وشمال باب النصر في منطقة الحسينيّة المساجد، المدارس، الخانقات، الأضرحة والمدافن فيما عُرف باسم “صحراء المماليك” أو “القرافة” أو “المقبرة الشمالية”. وكلمة “قرافة”، وفقًا لمعجم المعاني، هو اسم قبيلة يمنية سكنت بجوار المقابر في مصر، فلاحقًا، أصبح لفظ “قرافة” يُطلق على كل مقبرة. ولكن ما العلاقة بين القرافة والمماليك ولماذا وُصِفَت ببوابة السماء الشرقيّة؟

من ميدان صحرواي لاستعراض الجنود والممارسات الحربية إلى قرافة

بدأت الحكاية مع الظاهر بيبرس (1223 – 1277)، المؤسس الفعلي للدولة المملوكية، الذي قرّر تعزيز الجيش بالمعدّات والوسائل والتدريبات وذلك للتصدّي لهجمات المغول والصليبيين الدائمة. وكانت قدرات الجيش تُستعرض في ميدان صحراوي عُرف باسم ميدان الأسود أو الميدان الأخضر، بالإضافة إلى بناء مدّرج للمشاهدين. في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون (1285 – 1341)، ظهرت بعض المباني مثل المساجد والأضرحة والبيمارستانات (المشافي) والمدارس كذلك. مع ذلك، برز بتفرّد تطوّر العمران المملوكي في الفترة الثانية للدولة المملوكية وهي فترة المماليك البُرجية (سكان برج قلعة صلاح الدين) والذين يُعرفون أيضًا باسم المماليك الجراكسة (الشركسيين)؛ إذ بدأت هذه الفترة بحكم سيف الدين بن بُرقوق (1340 – 1399) وتلاه ابنه الناصر فرج بن بُرقوق (1386 – 1411) الذي حكم لفترتين؛ مرة في صباه حتى عُزِل ومرة ثانية بعدما انتزع حكمه من معتزليه. وقد كانت المنشأة المملوكية البُرجية الأولى في صحراء المماليك هي خانقاه يونس الداودار التي بناها للمتصوفين هناك، وقد كان الداودار أحد الأمراء المخلصين والمواليين لبُرقوق، ثم توالت الأبنية من خانقات ومساجد ومدارس لجميع الأئمة والمدارس الفقهية. وعلى الرغم من الصراعات الداخلية المطوّلة والاقتصاد المدمَّر الذي عاشته فترتي توليّ الظاهر فرج بن بُرقوق، إلا أنّه تمكّن من تشييد مجمع ضخم يتكوّن من خانقاه لأربعين صوفيًّا، جامع، ضريحيْن، وسبيليْن ومئذنتيْن ومدخلين وقاعات كبيرة لطلبة العلم. (حمزة، 2021)

مسجد السلطان فرج بن برقوق، 1857، مجموعة عائلة لينكن
مسجد السلطان فرج بن برقوق، 1857، مجموعة عائلة لينكن

 

المدخل الغربي لجامع وضريح فرج بن برقوق، 1894، مجموعة عائلة لينكن
المدخل الغربي لجامع وضريح فرج بن برقوق، 1894، مجموعة عائلة لينكن

للمزيد من صور المساجد والمنشآت المملوكية في القاهرة ضمن مجموعات صور المكتبة الوطنية الرقمية

وكما أسلفنا في أول المقال، كانت الصحراء عبارة عن ميدان للجنود والاستعراض الحربي، إلّا أنّ بناء الخانقات (زوايا عبادات المتصوّفيين) والأضرحة والمساجد قد ساهم في تطوّر نشاط حركات التصوّف في مصر ولا سيما في عهد المماليك البرجية حتى لقبت ببوابة السماء الشرقية؛ إذ كانت بقعة الصوفيين للتوجه لله في التضرّع، طلب العلم، حفظ القرآن وكذلك الإحسان لكل الفقراء والمشرّدين آنذاك. وأصبحت تُعرف باسم “القرافة” لكثرة مدافن الصوفيين والسلاطين المماليك فيها. ومن الأمثلة على هذه المنشآت: قبة ومدرسة الأشرف قايتباي ذات القبة المشابهة تمامًا لقبة سبيل قايتباي في المسجد الأقصى، قبة الأشرف برسباي وقبة والدته خديجة أم الأشرف، مجمع الأشرف إينال، مجمع قرقماس، معبد الرفاعي والكثير من القباب والأسبلة الشاهدة على التطوّر العمراني المملوكي القائم حتى يومنا هذا.

منشأة وقبر السلطان الأشرف قايتباي في القاهرة، مجموعة عائلة لينكن، المكتبة الوطنية
منشأة وقبر السلطان الأشرف قايتباي في القاهرة، مجموعة عائلة لينكن، المكتبة الوطنية

 

بطاقة بريدية مرسومة لسبيل قايتباي في المسجد الأقصى، أرشيف يتسحاك بن تسفي، المكتبة الوطنية.
بطاقة بريدية مرسومة لسبيل قايتباي في المسجد الأقصى، أرشيف يتسحاك بن تسفي، المكتبة الوطنية.


أكثر الأنماط المعمارية انتشارًا

في الفترة المملوكية الجركسية الوسطى والمتأخرة، أمست صحراء المماليك موضع الدفن المفضّل لأعيان الدولة وذلك لكثرة الرعاية السلطانية بها وبالمنشآت ولكثرة مزارات العامة. لذلك، كانت الأضرحة هي أكثر الأنماط المعمارية انتشارًا في الصحراء إمّا منفردة في البنيان أو جزءًا من مسجد أو مجمّع؛ إذ يوجد 88 ضريحًا من أصل 107 منشأة مملوكية، وجميعها مربّعة الشكل ويعلوها قبة مزخرفة تعكس النمط المعماري المملوكي المتمثّل في رسومات الزخارف الإسلامية الهندسية والنباتية.

ضريح السبع بنات: تعدّدت الأساطير والبركة واحدة

يعتبر ضريح السبع بنات من الأضرحة الهامة والمميزة في تاريخ المنطقة حتى اللحظة، ومن الملفت أنّ هذا الضريح يعود للدولة الفاطمية أي ما قبل الدول المملوكية، مع ذلك هو من الأضرحة الهامة والقيّمة في صحراء المماليك. على الرغم من أنّ المكان معروف باسم السبع بنات، إلّا أنّه في الحقيقة لا يوجد رفات لأي امرأة أو حتى فتيات صغيرات. فيما تقول إحدى الأساطير أن السبع بنات كانوا فعلًا سبعًا يعملن على خدمة أهالي المنطقة، يطبّبنَ المرضى ويوهبنَ الفقراء من مالهنّ الخاص، فأصبح لهنّ مكانة عالية في قلوب الناس، وبات ضريحهنّ مزارًا لكل سيدة تريد الإنجاب وذلك، وفقًا للأسطورة، برميها من تلة مرتفعة بعض الشيء كي تحدث لها الصدمة فينشط الرحم.

تشهد صحراء المماليك أو قرافة المماليك على عز الدولة المملوكية بكثرة القباب والأضرحة والمنشآت المعمارية والتي تحاكي حكايات النُصُب التذكارية التخليدية لشخصيات مروا في تاريخ الدول وساهموا في بنائها. ربما لم تعد صحراء المماليك بوابة للسماء كما كانت، إلا أنّها ما زالت رمزًا هامًّا لعراقة الحضارة الإسلامية التي لمعت وازدهرت آنذاك في مدينة القاهرة.

عودة إلى الفلسفة: لماذا لا نشعر بالدّهشة؟ وهل أهملنا العافية؟

انشغل الإنسان عبر القرون بالبحث عن معنى وغاية من حياته ووجوده على الأرض. ولربّما تكون بداية جيّدة أن نسأل: ما الّذي دفع الإنسان للفلسفة في الأصل؟

انشغل الإنسان عبر القرون بالبحث عن معنى وغاية من حياته ووجوده على الأرض. من أنا؟ ولماذا أنا موجود؟ وما هذا الكون الذي حولي؟ وتفرّعت عشرات التّوجهات الفلسفيّة انطلاقًا من هذه الأسئلة الأساس.

ومع أنّ تاريخ الفلسفة يمتد لأكثر من ألفيّ عام، فإنّ تعريفها ما زال ضبابيًا ويستعصي على التّفسير. وما زالت محلّ جدلٍ في كثير من المجتمعات، وقد اعتبرها الكثيرون خروجًا عن الدّين وتنكّرًا للحقيقة الّتي يقدّمها للإنسان. أو ربّما مسعى عقيم وثرثرة لا فائدة منها. أو أنّها ممارسة لا يمكن إلّا لنخبة صغيرة من النّاس أن تفهمها وتُسهم فيها.

إلّا أننّا شئنا أم أبينا، نعيش في حضارة بشريّة لطالما أثّرت في الفلسفة وتأثّرت بها، فإسكندر المقدوني الّذي غيّر وجه التّاريخ بتوسّعاته العسكريّة الّتي طالت الشّرق والغرب، كان تلميذًا للفيلسوف أرسطو، ولا يخلو تاريخ العصور الوسطى ولا تاريخنا الحديث، من ظهور تيّارات فكريّة وأيديولوجيّة وسياسيّة، حملت فلسفتها الخاصّة في دوافعها ورؤيتها لما ينبغي على حياة الفرد أو الدّولة أن تكون، وغيّرت بذلك مسار التّاريخ. أمّا ثقافتنا الّتي نعيشها اليوم، والتطوّر التكنولوجيّ والمعرفيّ الّذي يخدمنا ويضيّعنا أحيانًا، فيرى الكثيرون أنّه يعكس افتقارًا للاهتمام بالفلسفة، وأنّ الرّجوع إلى التّفلسف قد يفسح مجالًا أكثر أملًا وذي معنى للكائن البشريّ الحديث.

ولكن بغضّ النّظر عن رأينا في الفلسفة والفلاسفة، ربّما تكون بداية جيّدة أن نسأل: ما الّذي دفع الإنسان للفلسفة عبر العصور؟ وكيف فسّر بعض الفلاسفة الغاية من هذا المسعى؟ فلطالما واجه الفلاسفة عبر العصور استهجانًا من أبناء عصرهم ومحيطهم ووجدوا أنفسهم مضطرّين لتقديم إجابة ما لهذه الأسئلة الّتي ما زالت تُطرح في يومنا هذا: لماذا تتفلسفون؟ وما يمكن أن يجنيه البشر، وسط كلّ هذه الفوضى، من هذه التّأمّلات الّتي تبدو كأنها ضرب من ضروب الهذيان، وتستعصي على فهم الكثيرين؟

فلنرى، ربّما تكون إجابات بعض الفلاسفة على هذه الأسئلة كفيلة بإثارة اهتمامكم للغوص في هذا العالم. وقد اخترنا إجابتين من عصرين مختلفين وبعيدين عنّا اليوم، إلّا أنّهما تحاكيان اهتمامات وأسئلة ما زالت تشغلنا في عصرنا الحالي أيضًا.

 أرسطو: الدّهشة!

آمن أرسطو، فيلسوف القرن الرّابع قبل الميلاد، أنّ الدّهشة هي أوّل ما يبعث المرء على الفلسفة. إذًا فأرسطو ربط الفلسفة الّتي تمتاز بإعمال العقل والحكمة بالشّعور، وتحديدًا بشعور الدّهشة.

ولكنّ أرسطو لم يقصد الدّهشة الّتي نشعر بها حين نقابل أمرًا غريبًا واستثنائيًّا أو خارق الجمال، إنّما قصَد الدّهشة من الأمر الاعتيادي. أن تكون الأشياء المعهودة والمعتادة مثيرة للدّهشة والتّعجّب. أن لا يكون هناك ما هو مفهوم ضمنًا واعتياديًّا وغير جدير بالتّساؤل والتّفكير. حالة تشبه حالة الإنسان في سنينه الأولى حين يكون طفلًا، ولا يكفّ عن طرح الأسئلة الّتي لا يفكّر بها الكبار لأنّها أصبحت مفهومة ضمنًا ولا داعي أن يكون هناك فرصة للتّفكير فيها، وقد يرونها أسئلة تافهة أو بسيطة، إلّا أنّهم في الوقت ذاته لا يملكون الإجابات لها. فالطّفل قد يجلس في حديقة يجدها والداه عاديّة أو جميلة على الأكثر، لكنّ الطّفل يستطيع أن ينظر إلى العشب، الشّجر، الزّهور، الهواء، والحشرات على أنّها عالم مدهش إلى أبعد الحدود، عالمٌ يثير لديه سيل لا ينتهي من الأسئلة عن الوجود والعالم: ما هذه الشّجرة؟ لماذا هي هكذا؟ هل لديها أمّ؟ هل تعرف أنّني أنظر إليها؟ هل هي بيت ذلك العصفور؟ لماذا هو صغير؟ هل أنا محظوظ لأن بيتي أكبر من بيته؟

وفقًا لهذه النّظرة، فإنّ العالم الّذي نعيش فيه أشبه باللّغز الّذي لا مناص منه، تثيرنا الدّهشة والتّعجب، فنبدأ بالتّساؤل وبالبحث عن أدلّة وإجابات. ولذلك، نجد أن جلّ علماء الأحياء والفيزياء والرّياضيات القدامى كانوا أيضًا فلاسفة.


محمّد بن معشر المقدسي وإخوان الصّفا: العافية!

عاش محمّد بن معشر البستي والمعروف بالمقدسي في مدينة البصرة العراقيّة في القرن العاشر للميلاد. وكان منتميًا لجماعة “إخوان الصّفا” السّريّة الّتي اشتغلت في الفلسفة والعقائد الدّينيّة وألّفت ما يزيد عن خمسين رسالة. عُرفت تلك الحقبة التّاريخيّة للحضارة الإسلاميّة بالتّنوع الفكري والنّقاش واسع المدى بين روّاد التّوجّهات المختلفة. وفي هذا المناخ المزدهر فكريًا، توجّه أحد نقّاد الفلسفة إلى محمّد بن معشر المقدسي كمن بدا عليه حبّ الفلسفة بالسؤال التّالي: لماذا نحتاج الفلسفة ولدينا الشّريعة؟ إليكم إجابة المقدسي الذّي يوضّح بها الفارق بين الشّريعة والفلسفة برأيه.

“الشّريعة طبّ المرضى، والفلسفة طبّ الأصحّاء. والأنبياء يطبّبون للمرضى حتّى لا يتزايد مرضهم، وحتى يزول المرض بالعافية فقط. وأمّا الفلاسفة فإنّهم يحفظون الصّحة على أصحابها، حتّى لا يعتريهم مرض أصلًا. فبين مدبّر المريض وبين مدبّر الصّحيح فرقٌ ظاهر وأمرٌ مكشوف، لأنّ غاية تدبير المريض أن يُنتقل به إلى الصّحة، هذا إذا كان الدّواء ناجعًا، والطّبع قابلًا، والطّبيب ناصحًا. وغاية تدبير الصّحيح أن يحفظ الصّحة، وإذا حفظ الصّحة فقد أفاده كسب الفضائل وفرّغه لها وعرّضه لاقتنائها، وصاحب هذه الحال فائزٌ بالسّعادة العظمى”.

نستدلّ من ما ورد عن المقدسيّ إذًا أمرين عن الفلسفة، الأوّل هو أنّه وجد الفلسفة ضروريّة للحفاظ على صحّة الإنسان كي لا يتعرّض للمرض، والأكيد أنّه يقصد مرضًا غير جسدي إنّما عقلي أو نفسي أو روحي. والأمر الثّاني هو أنّه رأى أن غاية الفلسفة هي أن يكون الإنسان سعيدًا. وفي هذا اتّفق معه عددٌ من الفلاسفة السّابقين واللّاحقين.

ومن يدري، قد تأتيكم قراءة الفلسفة بالدّهشة والعافية والسّعادة معًا!