إذا كانت الآداب والفنون مرآة الشعوب السياسية والاجتماعية والثقافية، فإن الأزياء والألبسة جزءًا لا يتجزأ من مجتمع وثقافة أي شعب في أي بقعة جغرافية حول العالم، سواء على المستوى المادي لقيمة وشكل الأزياء أو على المستوى الرمزي الذي يعبّر عن حال الشعب بمجتمعاته الصغرى في الأطر الدينية والعُرفية والتقليدية وأحياناً السياسية. هذا إلى جانب دراسة الأقمشة ذاتها وأشكالها وألوانها وزخارفها التي لها طابعها الخاص وشروطها الاجتماعية والاقتصادية والدينية وفي بعض الأحيان السياسية. في منتصف القرن الثامن عشر، سعى العديد من الرحالة والباحثين الغربيين لتوثيق ودراسة تفاصيل الألبسة والأزياء العربية والإسلامية للمناطق الخاضعة للإمبراطورية العثمانية في محاولة منهم لفهم التاريخ المجتمعي بكافة أطيافه، وقد تنوّعت سبل بناء هذه الدراسات وتوثيقها بالكتابة، الرسم والألوان وصولًا لعدسات الكاميرات. ولقد كان توّجه العديد من المصوّريين المحليين والأوروبيين هو تصوير المحليين والسياح الأجانب باللباس العربي التقليدي ولكن كلٌّ لغايته وغرضه، ويعتبر المصور اللبناني خليل رعد من المصوريين الذي وثّقوا اللباس التقليدي في صور السياح والمحليين في الستديو الخاص به.
اقرأ/ي أيضًا: حين تكلمت فلسطين… بعيون أنيس تشارلز حداد
تنوّع إنتاج خليل رعد من صور الحروب حتى صور الأزياء التقليدية
بداية، يعد خليل رعد عميد المصوّرين لأنّه من أوائل المصوّرين العرب في فلسطين العثمانية إن لم يكن هو أولهم، وقد ولد خليل رعد في العام 1869 في لبنان، وانتقلت عائلته إلى مدينة القدس، وتعلّم التصوير على يد المصوّر الأرمني كريكوريان، وافتتح رعد ستوديو خاصًّا به في شارع يافا في العام 1885.
شاهد/ي أيضًا: صور خليل رعد: مقتطفات من أرشيف رعد الرقمي في المكتبة
انتهج خليل رعد في مهنته كمصوّر العديد من المنهجيات لكسب رزقه والحفاظ على إرثه لاحقًا، إذ عمل كمصوّر للقوات العثمانية خلال حروبها في أواخر القرن التاسع عشر حتى هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وذلك من باب الدعاية والحفاظ على “هيبة” الدولة ورفع معنويات جنودها والتأثير على معنويات الخصم كذلك.
اقرأ/ي أيضًا: ألبوم نادر: حين وثق مقاتل في الوحدة المدفعية البريطانية انتزاع فلسطين من العثمانيين
اهتم أيضًا بتوثيق المدن في البلاد بمعالمها التاريخية والجغرافية، وحُفظت صور المدن في ألبوم بعنوان “رحلات فلسطينية“، وكذلك قام بتصوير سكان كل مدينة بلباسهم التقليدي لا سيما البدو والفلاحيين منهم، أو حتى أهالي المدن بلباسهم الذي يشبه اللباس الغربي إلى حدّ ما، أو بحرفهم اليدوية كوسيلة لكسب العيش، وكان ذلك على عكس صور الأوروبيين التي كانت تعكس إما فراغ هذه المدن من الناس، أو تخلّف المحليين بتصوير المرضى منهم لا سيما خلال فترات الأوبئة، أو تصوير الفلاحيين والبدو على الحمير والجمال. واعتُبِر تصوير خليل رعد لطبيعة السكان العرب بكافة خلفياتهم الدينية (مسلمين ومسيحيين ويهود)، أو الاختلاف الطبقي والاجتماعي ردًّا – بقصد أو بغير قصد – على أنّ هذه طبيعة المكان الفسيفسائية دون الحكم على اختلافه أو الدعوة إلى “تنوير” الآخر “المختلف”.
أمّا للتصوير في الستديو، توّجه رعد لأهالي المدن والناس الميسورة، التي في مقدورها دفع ثمن صورة “نادرة” في ذاك الزمان مع العائلة، إذ بيّن لنا المفكّر إدوارد سعيد في يوميّاته “خارج المكان” أنّ عائلته في مدينة القدس حرصت على دعوة خليل رعد في الأعياد والمناسبات لالتقاط صورة عائلية.
“وكان رعد النحيل الأبيض الشعر يستغرق وقتًا طويلاً جداً في تنظيم المجموعة العائلية الكبيرة، ومعها الضيوف في ترتيب مقبول. وخلال تلك اللحظات التي كان يمطها إلى ما لا نهاية بطريقته النيقة واستهتاره بالذين يصوّرهم، يتكون إجماع على أنّ الصمدة أمام آلة التصوير محنة ضرورية من الضرورات التي تفرضها المناسبات العائلية الرسمية.”
ربما يعود وصف سعيد الطريف عن “طقوس” التقاط الصور لدى رعد لصعوبة تكرار الصورة وضمان جودتها، إذ كان التصوير حينها شمسيًّا، وليس الحال كما اليوم أو حتى ما قبل خمسين عامًّا.
بالإضافة إلى العائلات العربية من الطبقة المتوسطة والغنية، توّجه رعد لجمهور اليهود والأجانب بتقديم إعلانات في الصحف العبرية أو الإنجليزية، كما الإعلان أدناه؛ إذا كان الإعلان يؤكد توّفر “كاتلوج” خاص بالعام 1933، يحتوي على صور الأماكن المقدّسة والإطلالات المميزة بالإضافة إلى صور أفراد باللباس التقليدي لكل من منطقة فلسطين وسورية، وصور تعكس قصص توراتية وإنجيلية.
أيقونات إنجيلية وبيزنس المصوّريين
اعتمد المصوّرون الأوروبيون، الأرمنيون، وكذلك العرب على توفير صور تظهر الأحداث التوراتية والإنجيلية الخاصة بالأراضي المقدسة؛ إذ تحوّل الفلاح أو الفلاحة الفلسطينيين إلى “أيقونات” إنجيلية، والتي حرص رعد أن تَظهر في نوعية الصور المأخوذة في الستديو والتي راجت في أواخر القرن التاسع عشر حتى ثلاثينيّات القرن العشرين.
واعتبر الباحث عصام نصّار في كتابه “لقطات مغايرة” أّنّ مثل هذه الصور هي بمثابة تحويل الحضور الإنساني الطبيعي إلى أغراض تجارية وذلك باستعراض أحداث من الرواية الإنجيلية أو التوراتية، فيبيّن مثلًا أنّ صورة السيدة التي تحمل طفلًا تشير إلى ولادة السيد المسيح، وصورة المرأة التي تملاً جرّة ماء من البئر أو تحمله تذكر بالمشهد الذي يجمع السيد المسيح بالمرأة السامرية، وصورة النساء الجالسات على مدخل الكهف تستدعي مشهد القيامة. (نصّار، 2005)
شاهد/ي أيضًا: عيد الميلاد: صور، ترانيم، بطاقات تهنئة، واحتفالات في محيط كنيسة المهد
واعتُبر مثل هذا النوع في إنتاج التصوير ما هو إلا تقليد أوروبي معتمد على طباعة صور الأماكن والناس مع وصوفات مكتوبة باللغة الإنجليزية للتوجّه لجمهور الأجانب والسياح القادمين لزيارة الأراضي المقدّسة.
في الواقع، بين التناقض في صور رعد ذات الطابع الأوروبي “الاستعماري” والشيئي، إلا أنّه لم يوثّق الحياة الاجتماعية للفلسطينيين بنظرة أوروبية مستشرقة “إلى حد ما”، على الأقل في ألبومه “رحلات فلسطينية”. مع ذلك، تتداخل المعاني لكل صورة – مهما كانت بسيطة – وتنشأ علاقات جديدة بين الصورة ومشاهدها في كل مرة تنشأ فيها “قراءة” جديدة للصورة في سياقها التاريخي، دون إغفال جماليات الصورة وقت التقاطها.