لفتا – ذكريات مصوّرة

"إذا دخلتم القدس عبر لفتا- روميما أو عبر محانيه يهودا أو عبر الملك جورج أو مئاه شعاريم فإنكم لن تجدوا غريبًا واحدًا" هكذا بدأ دافيد بن غوريون حديثه حول قرية لفتا.

كلارا ورفيقتها في نقطة الحراسة

في مطلع شباط من العام 1948، قال دافيد بن غوريون رئيس الوكالة اليهوديّة حينها ورئيس حكومة إسرائيل فيما بعد “إذا دخلتم القدس عبر لفتا- روميما أو عبر محانيه يهودا أو عبر الملك جورج أو مئاه شعاريم فإنكم لن تجدوا غريبًا واحدًا”. وكان كلامه هذا احتفائًا بانتصارات الجماعات اليهوديّة المسلّحة ونجاحها بإحكام قبضتها على تلك المناطق في الشهر السابق وخلوها من غير اليهود.

لفتا، البوابة الغربيّة للقدس، الّتي امتدّت على مساحات شاسعة، تختلف حدودها بحسب الشهادات المختلفة. إلّا أن جمالها لا يختلف عليه أحد. شملت القرية بيوتًا جميلة ذات طابع معماري مميّز، بالإضافة إلى عين الماء الّتي ما زالت موجودة إلى اليوم، معصرة زيتون، أراضي زراعيّة ودور عبادة، مدرسة ومقبرة. كما أن تاريخها العريق يمتدّ بعيدًا. حيث وُجدت في أراضي لفتا آثار للعصر الحديديّ، كما يربط بعض المؤرّخين اليهود لفتا بقرية “مي نفتواح” المذكورة في التوراة، ومن أسمائها الأخرى “نيفثو” و “كليبستا”، نيفثو كان اسمها إبّان الحكم البيزنطيّ والرومانيّ، وكلبستا أثناء الحكم الصّليبي. أما في فترة الحكم العثماني فكانت تابعة للواء القدس.

تصوير جوي لقرية لفتا عام 1947، من ملف مسح القرى العربيّة للهجاناه، أرشيف ياد يتسحاك بن تسفي، المكتبة الوطنية.
تصوير جوي لقرية لفتا عام 1947، من ملف مسح القرى العربيّة للهجاناه، أرشيف ياد يتسحاك بن تسفي، المكتبة الوطنية.

ومن المصادر الّتي توضح  شيئًا من تفاصيل الحياة الجميلة في لفتا نهاية الفترة العثمانية هي مقالة كتبها المؤرّخ الألمانيّ جوستاف روشتاين بعنوان “عادات العرس الإسلامي في قرية لفتا قرب القدس”، فقد زار القرية عام 1907 ملبيَا دعوة مدرّسه للّغة العربيّة وابن القرية إلياس نصرالله وفُتن بعادات الأعراس الّتي كانت تستمرّ لياليها لأكثر من أسبوع يحفل بالرقص والغناء والطعام المميّز والعادات الخاصّة بالأعراس كرسم الحنّاء والأزياء.

عند الانتداب البريطاني، كان تعداد سكّان لفتا يقارب ال 1500 ساكن، كلّهم من المسلمين، وقد شارك أهالي القرية بما عُرف بثورة البراق عام 1929 وهاجموا الأحياء اليهوديّة القريبة منهم.

بدأ القتال في لفتا نهاية عام 1947 حين هاجم عناصر من الهاجاناه محطة وقود يملكها أحد سكّان لفتا ظنًّا بأنه ينقل معلومات للمقاتلين العرب حول حركة المجموعات اليهوديّة بين القدس وتل أبيب، بحسب المؤرّخ الإسرائيلي بيني موريس، أما وفقًا لشهادات فلسطينيّة وثّقها عارف العارف فإنّ الشّرارة الأولى كانت هجومًا شُنّ على أحد مقاهي القرية، والذي أسفر عن مقتل ستة رجال كانوا يجلسون بها ومن ثمّ الهجوم بالنيران على حافلة كانت على مداخل القرية، وقد أدت هذه الحوادث إلى خروج أهالي لفتا منها، بالإضافة إلى تفجير البيوت، كما ذكر مقاتل الليحي عيزرا يخين في مذكّراته، حيث شارك في عمليات الليحي في القرية حين بلغ 19 عامًا والّتي شملت تفجير ثلاثة بيوت، كما كان مشاركًا في معركة دير ياسين كذلك ومعارك أخرى.

 

غلاف كتاب "الناكام : قصّة محارب لحريّة إسرائيل"، عزرا يخين، مجموعة المكتبة الوطنيّة.
غلاف كتاب “الناكام : قصّة محارب لحريّة إسرائيل”، عزرا يخين، مجموعة المكتبة الوطنيّة.

 

بين مجموعات المكتبة الوطنيّة وُجدت بعض الصّور من معسكر الهجاناه في القرية أثناء الحرب وهي من مجموعة كلارا دي هرتوخ (من أرشيف ياد يتسحاك بن تسفي) وقد كانت مجنّدة في الهاجاناه حينها، وأصبحت فيما بعد في درجة ضابط ورقيب في الجيش. توثّق هذه الصّور نقاط الحراسة الخاصّة بالهجاناه والتي كان دورها إيجاد المقاتلين العرب وترقّب اقترابهم.

كلارا دي هيرتوخ وإليعزر غرايبر، لفتا، أرشيف ياد يتسحاك، المكتبة الوطنيّة
كلارا دي هيرتوخ وإليعزر غرايبر، لفتا، أرشيف ياد يتسحاك، المكتبة الوطنيّة

 

كلارا في نقطة الحراسة وتظهر مع السلاح وبعض القنابل والمنظار، لفتا، أرشيف ياد يتسحاك، المكتبة الوطنيّة.
كلارا في نقطة الحراسة وتظهر مع السلاح وبعض القنابل والمنظار، لفتا، أرشيف ياد يتسحاك، المكتبة الوطنيّة.

 

أثناء الحرب، كانت قرية لفتا خالية بالكامل وحينها تم توطين أكثر من مائتي عائلة يهوديّة يمنيّة بهدف منع العائلات العربيّة من العودة كما تمّ توطين عائلات يهوديّة كرديّة كذلك والتي سكنت القرية لعشرات السّنين.

باتيا مازور، الّتي عاشت طفولتها في القرية قامت بإنتاج فيلم قصير يحكي ذكريات ساكنيها من اليمنييّن والأكراد اليهود قبل نقلهم منذ بداية السّبعينات إلى وحدات سكنيّة خارج القرية، ومعارضة أبنائهم فيما بعد لمشاريع حكوميّة كان من المخطّط إقامتها على أراضي لفتا.

لمشاهدة الفيلم (بالعبريّة)

حكاية مكتبة محمد هادي الحاج مير؛ ثروةٌ فُقدت في البقعة

"لكن الذي يهمني في الحقيقة مكتبتي" – من كلمات الأستاذ محمد هادي الحاج مير في رسالته التي كتبها للبروفيسور هوغو بيرغمان طالبًا منه العون في البحث عن مكتبته في القدس والمحافظة عليها.

ربما حرب عام 1948 قد وضعت أوزارها، إلّا أنّ العديد من القصص والحكايات فُـقدت أثناء الحرب. ومن أكثر الحكايات التي آلمت أصحابها، هي حكاية مكتباتهم المفقودة التي فارقوها خلال الحرب آملين بعودتهم إليها واستعادة هذه الثروة المعرفية التي امتلكوها؛ مثل كتب خليل السكاكيني، محمد هادي الحاج مير، محمد إسعاف النشاشيبي، فايز أبو رحمة، توفيق كنعان وغيرهم من روّاد الثقافة الفلسطينية خلال عهد الانتداب البريطاني.

اختلفت سبل وتوجهات كلٍّ منهم بالمطالبة بمكتبته وتتبع أماكن وجود كتبهم، وكان من بين الأشخاص الأستاذ والمربي محمد هادي الحاج مير الذي تكاتب، برسالة بخط اليد، كتبها للبروفيسور هوجو بيرغمان مستفسرًا عن حال مكتبته أو كما سمّاها بالثروة العلمية.

ارتأينا أن نشارككم قصّة مكتبة الحاج مير وبحثه الضّنين عنها. فمن هو الأستاذ محمد الحاج مير؟

وردت بعض القصص والذكريات من الكلية العربية في كتاب “الكلية العربية في القدس: ذكريات وتاريخ” لـ مالك المصري وذلك توثيقاً لتاريخ هذا الصرح العلمي الأصيل والغني؛ حيث عرّف بكل الأساتذة فيما ترك الختام للأستاذ محمد هادي الحاج مير، وذلك للإسهاب في الحديث عنه كقامة تربوية وعلمية، فأخبرنا المصري: “لقد تلقى الدكتور الحاج مير دراسته العليا في ألمانيا، ومنها حصل على شهادة الدكتوراة، ومنها عاد إلى فلسطين ليمارس مهنة التعليم، حيث ارتقى حتى أصبح مدّرساً لمادة التاريخ في الكلية العربية. ولقد كان دائمًا يخبرنا أنّ التاريخ كالرياضيات، هكذا كان يقول الحاج مير، المقدمات تؤدي إلى النتائج.” لقد كان الحاج مير أستاذًا لمادة التاريخ المتوسط والتاريخ الحديث، ومن المربيين الذي دعموا الطلبة لتحصيل المعرفة وكذلك ممن يمازحون طلبتهم ويهتمون بهم وبأحوالهم الشخصية والعائلية وذوي الهيبة بين طلبتهم. (الكلية العربية في القدس: ذكريات وتاريخ، 1995)

كتب الأستاذ الحاج مير العديد من المقالات في مجلة الكلية العربية، منها مقالة الفوضى الثقافية في الشرق العربي” الصادرة في العام 1946، وكذلك نشر بعض الاقتراحات لتدريس مادة التاريخ في العام 1928. ظلّ الالحاج مير من أبرز المدرّسين المتميّزين في كلٍّ من الكليّة العربيّة والمدرسة الرّشيديّة في القدس حتّى أتى العام 1948 وغيّر أحوال البلاد وأهلها.

المنتدى، 22 شباط 1946
المنتدى، 22 شباط 1946

 

⁨⁨الكلية-العربية⁩⁩، 01 كانون الأوّل 1928
⁨⁨الكلية-العربية⁩⁩، 01 كانون الأوّل 1928

 

ماذا حلّ بـ الحاج مير؟

في تاريخ 14 تموز 1951، بعد ثلاثة أعوام من الحرب، أرسل الأستاذ الحاج مير رسالة بخط اليد وباللغة العربية للبروفيسور هوغو بيرغمان يطلب منه مساعدته لإيجاد مكتبته، ونفهم من خلالها ماذا حلّ بحياته بعد خروجه من بيته في القدس وأين انتهى به المطاف.

رسالة محمد حاج مير إلى هوغو بيرغمان
رسالة محمد حاج مير إلى هوغو بيرغمان


حضرة الأستاذ هوغو بيرغ
من المحترم،

أرجو أن تكون وعائلتك بصحة وعافية.
أكتب لك هذه الرسالة من أدنبرة – اسكتلندا راجيًا أن تفيدوني عن مسألة تهمني جدّا ألا وهي: مكتبتي
library

عندما غادرتُ البقعة في 5/5/1948 وكنت أسكن في بيت القوّاس في البقعة الفوقاء في جوار مدرسة الأمة على الطريق المؤدي إلى ميكور حاييم – تركت بيتي كما هو؛ أيّ بكل ما فيه من أثاث وغيره.

لكنّ الذي يهمني في الحقيقة مكتبتي الذي لا أشك بأنكم تقدّرون ما فيها من مؤلفات في جميع المراجع الإنسانية من تاريخ وفلسفة وفن واقتصاد والعلوم الإسلامية وكتب قّيمة جدًا في الصهيونية وتاريخها عدا عن بعض المخطوطات والآثار. كما أنّي تركت ثروة عظيمة من المحاضرات والمواضيع التي كنت جهّزتها للطبع وخاصة في تاريخ الحروب الصليبية وغيرها من المواضيع الإسلامية والأدبية.

وبما أّني أعتقد باهتمامك في هذا التراث العلمي القيّم وددتُ أن أتصل بك حتى تفيدني عما تمّ بذلك كما أنّي أرجوك أن تهتم بالمحافظة على هذه المكتبة لأنّي أعتقد بأنّك لا تشكّ بأنّ الأمر لو كان بالعكس؛ أي لو كانت مكتبتك في منطقة تخصني لما تأخرتُ أصلاً عن المحافظة كتراث علميّ أقدّر قيمته وعلى أمل أن أحصل على جواب مطمئن منك.

أتقدم باحتراماتي،
المخلص،
محمد الحاج مير

فما كان من البروفيسور هوجو بيرغمان إلا أن قام بالرّد عليه برسالة باللغة الألمانية “ليطمئنه” وذلك في تاريخ 29 تموز 1951، قمنا بترجمتها للعربية هنا:

 

رد هوغو بيرغمان على حاج مير
رد هوغو بيرغمان على حاج مير

عزيزي الأستاذ الحاج مير،
لقد استلمتُ رسالتك، شكراً لك. كنت أتمنى لو كان بمقدرتي أن أساعدك من الناحية القانونية لتتبع مسار مكتبتك. خلال القتال آنذاك، سعت مكتبتنا جاهدة لمنع تلف ودمار المكتبات وذلك من أجل الحفاظ على الكثير من الكتب، وهذه المكتبات الآن تحت رعاية السلطات المخوّلة بالحفاظ عليها. لقد توجهتُ إلى المدير الحالي للبحث والفحص مع مجموعة من الخبراء فيما لو كانت كتبك ضمن المجموعة التي حُفظت. بكل أسف، لقد أعلموني أنّ كتبك لم تكن ضمن المجموعة المحتفظ بها. أعتذر لهذا الخبر.

يُسرني أنك الآن في أدنبرة وأنك قد باشرتَ العمل على أبحاثك العلمية.
تحياتي الحارة وأطيب الأمنيات بالخير والسعادة،

مع الاحترام،
هوغو بيرغمان

لم يكن توجه الحاج مير لهوجو بيرغمان عبثًا، فلقد كان هوجو بيرغمان بروفيسورًا في الجامعة العبرية ولاحقاً رئيساً لدار الكتاب القومي والجامعي (المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة)، ومن نخبة المثقّفين الأوروبيين وصديقاً للعديد من الكُتّاب والفلاسفة مثل فرانز كافكا. لقد علم الحاج مير أن هوجر بيرغمان سيقّدر هذه الثروة العلمية ويساعده، وهو ما لم يحدث، مع الأسف. ولكن السؤال الأهم: أين المكتبة؟

لم يتمّ العثور على مكتبة محمد هادي الحاج مير حتّى هذه اللحظة، بعد ثلاثة وسبعون عامًا منذ أن افترق عنها في حي البقعة عام 1948. ربما اختفت المكتبة لعدم توثيق الكتب باسمه، وربّما أحيلت تحت قانون “أملاك الغائبين” وما زالت مقفلة في إحدى المخازن، وربما هُرست كما أسلف بعض الباحثين، إلّا أن عمله كمربي وأكاديمي لم يختفي وما زال حاضرًا حتى يومنا هذا.

يمكنكم الاطّلاع على كتابات الأستاذ محمد هادي الحاج مير في مجلّة الكلّية العربيّة على موقع أرشيف الصّحف الفلسطينيّة القديمة في المكتبة (جرايد).

هوغو بيرغمان: هو فيلسوف وأكاديمي إسرائيلي من أصول نمساوية ولد في مدينة براغ في العام 1883 وتوفي في مدينة القدس في العام 1975. قدم إلى البلاد عام 1920 وترأس دار الكتب القومية ولاحقاً في عام 1925 (افتتاح الجامعة العبرية في القدس) أصبح بروفيسورًا ورئيسًا للجامعة العبرية ولدار الكتب القومية والوطنية. بالإضافة لتأليف أكثر من عشرة كتب في مجالي الفلسفة والسياسة، والعديد من الكتب المترجمة والدراسات البحثية إلى اللغة العبرية.

أين ذهبت القهاوي؟ عن إعلانات القهاوي فترة الانتداب البريطاني

إلى جانب تقديم للقهوة والشّاي، قدّمت القهاوي الفنون والأدب والثّقافة. تحمل ملصقات القهاوي العديد من الحكايات التي رافقت المجتمع الفلسطيني فترة الانتداب.

قهوة كوكب الصباح

“قهوة” أو “القهوة البلدي” كما تسمّى في مصر هو الاسم التّراثي والمتداول لمئات السّنين للمقاهي الشّعبيّة الّتي امتدّت وتنوّعت وظائفها في عشرات المدن والعواصم العربيّة. أقيمت أولى القهاوي الشّعبيّة في عهد الدولة العثمانيّة في القرن الخامس عشر، وتختلف المصادر حول المدينة الأولى الّتي نشأت بها القهاوي، فبعضها يشير إلى دمشق وبعضها يشير إلى مكّة وبعضها يشير إلى القاهرة، حيث كان يلتقي التّجار لنقاش صفقاتهم أثناء شرب القهوة أو تدخين الأرجيلة ثم بدأت وظائفها الاجتماعيّة والثقافية تتبلور شيئًا فشيئًا. فكانت الملهى اللّيليّ تارة، والملتقي الفكريّ تارة، أو ملتقى الأصحاب من كبار السّن للعبة النّرد، أو استراحة الظّهر لزملاء الدّراسة، والمساحة الّتي تتطوّر بها الجدالات السّياسيّة ونقاشات الوضع الرّاهن. كانت القهاوي غالبًا مفتوحة أبوابها العريضة على الرّصيف والشّارع حيث تمتد مقاعدها كذلك، ممثّلةً طبيعة حيّزها الّذي تربّع بين العام والخاص، والّذي اقتصر طويلًا على الرّجال دون النّساء.

قهوة في القاهرة عام 1898، أرشيف مكتبة الكونغرس
قهوة في القاهرة عام 1898، أرشيف مكتبة الكونغرس

ما زالت القهاوي موجودة اليوم في المدن والعواصم العربيّة لكنّها قليلة وليست الوجهة الأولى لشرائح عديدة من المجتمع، فهناك المقهى المعاصر اليوم، وشبكات التّواصل، ونمط الحياة السّريع والإستهلاكيّ الّذي لم تعد القهوة البلديّة تشبهه بهدوئها وتواضعها.

وجدنا في مجموعة ملصقات المكتبة الوطنية بالعربيّة إعلانات عديدة تخصّ قهاوي شعبيّة في حيفا ويافا والقدس وغيرها من المدن الفلسطينيّة تعود غالبيّتها لفترة الانتداب البريطاني وعدد قليل لفترة الدولة العثمانيّة، نعرض لكم بعضها هنا.

لتصفّح جميع الملصقات بالعربيّة هنا. (رابط البوابة)

تدلّنا الملصقات على طبيعة مختلفة للقهاوي عن تلك العفويّة والفوضويّة في أذهاننا. فهنا تقوم إدارة القهوة بالإعلان عن برنامج فعاليّاتها مسبقًا وتوزّع منشوراتها المصمّمة والمصوّرة بعناية لحشد الجمهور. تجدون في بعضها أسعار المشروب وفي بعضها الدخوليّة – خمسون قرشًا، ثلاثين مليم للشراب الواحد، ونظافة وخدمة راقية تنتظركم. كما تطغى الحفلات الرّاقصة وأمسيات السّمر على منشوراتها الّتي تبرز بها أسماء الرّاقصات والمغنّيات والعازفون وأحيانًا صورهم. كما يظهر في مناشير قهوة كوكب الصّباح، لصاحباها الحاج عبد الحميد وخليل المغربي، الّتي يبدو أنها كانت وجهة شهيرة للحفلات الغنائيّة والرّاقصة في حيفا في سنوات الثلاثينيّات. وتظهر في بعض المنشورات باسم قهوة وبار كوكب الصّباح.

يعرض المنشور اسم القهوة في العنوان وفي الغالب يتلوها اسم صاحبها الكامل، ثم بكلمات لبقة ك “بشرى سارّة لأهالي حيفا” يبدأ المنشور بدعوة النّاظر إليه لحدث لا يريد أن يفوّته: الرّاقصة الشّهيرة فلانة أو عازف العود فلان، الزّمان والمكان وجملة ختاميّة تعدّ بليلة لا تُنسى. وإن كان ضيوف السّهرة من المشاهير فترفق صورة بالأبيض والأسود في المنتصف أو على الأطراف، كما في منشور أمسية السّيدة ماري شهاب. كما يفصّل المنشور أنواع الرّقص الّتي تتقنها ضيفة السّهرة: ومنها المصري والتركي والعربي والإفرنجي. وكذلك الأمر في منشورات كل من قهوة “قصر البحر” وقهوة “الانشراح”. وفي بعض المنشورات تجدون تفصيلًا للخدمات اليوميّة الّتي تعرضها القهوة. فيوضح أحد منشورات قهوة كوكب الصّباح أن “كل صباح لغاية الساعة الثّامنة مساءً فنجان القهوة أو الشاي ب 5 ملات والكازوز 10 ملات، ومن الساعة الثامنة مساءً لغاية الساعة الثانية عشر مساءً سمع وطرب مع تقديم فنجان قهورة أو شاي أو كازوز أو مشروبات روحيّة ب 30 مل فقط”.

ملصق مصوّر لقهوة وبار كوكب الصّباح في حيفا، مجموعة الملصقات والإفميرا بالعربيّة، المكتبة الوطنيّة.
ملصق مصوّر لقهوة وبار كوكب الصّباح في حيفا، مجموعة الملصقات والإفميرا بالعربيّة، المكتبة الوطنيّة.

 

ملصق  لقهوة النشراح في الثلاثينيّات، مجموعة الملصقات والإفميرا بالعربيّة، المكتبة الوطنيّة.
ملصق  لقهوة الانشراح في الثلاثينيّات، مجموعة الملصقات والإفميرا بالعربيّة، المكتبة الوطنيّة.

 

ملصق  لقهوة كوكب الصّباح في حيفا، مجموعة الملصقات والإفميرا بالعربيّة، المكتبة الوطنيّة.
ملصق  لقهوة كوكب الصّباح في حيفا، مجموعة الملصقات والإفميرا بالعربيّة، المكتبة الوطنيّة.

 

منشور لقهوة قصر البحر، مجموعة الملصقات والإفميرا بالعربيّة، المكتبة الوطنيّة.
منشور لقهوة قصر البحر، مجموعة الملصقات والإفميرا بالعربيّة، المكتبة الوطنيّة.

أما في يافا فنجد على مسرح “قهوة البلور” ليلة السبت 10 تشرين الأول 1919 مسرحيّة “فتح الأندلس أو طارق بن زياد”، يقوم بتمثيلها عمّال سكّة الحديد في يافا! ويتّضح من المشروع أنّ النّشاط تطوّعيًا ويجمع ريع المسرحيّة لإعالة عائلات “مستشهدي سكة الحديد الفلسطينيّة”، وتتضمن الأمسية فقرة طربيّة لـ “بلبل فلسطين” السيد درويش اسكسك والسّيدة ثريّا ويتلوهم فعل مفاجئ ومضحك. يدلّنا المنشور هذا بالتحديد على دور إضافيّ للمقاهي تشكّل في المناخ النّضالي وكان جزءًا منه. وفي منشور آخر لقهوة البلور يعود لعام 1907 تعلن القهورة بلغات ثلاث: العربيّة والتركيّة والإنجليزيّة عن أمسية فنّية أخرى. وهو المنشور الوحيد الّذي يستهدف غير العرب من الضّيوف.

منشور لقهوة البلور عام 1907 في يافا، مجموعة الملصقات والإفميرا بالعربيّة، المكتبة الوطنيّة.
منشور لقهوة البلور عام 1907 في يافا، مجموعة الملصقات والإفميرا بالعربيّة، المكتبة الوطنيّة.

 

منشور لقهوة البلور عام 1919 في يافا، مجموعة الملصقات والإفيمرا بالعربيّة، المكتبة الوطنيّة.
منشور لقهوة البلور عام 1919 في يافا، مجموعة الملصقات والإفيمرا بالعربيّة، المكتبة الوطنيّة.

لا شكّ أن الملصقات وسيلة ممتعة وناجعة للتعرّف على الماضي عن قرب ومحاولة استكشاف ملامحه ومعايشتها. وملصقات القهاوي ما زالت محفوظة وتحمل لنا تفاصيل كثيرة عن الحياة الاجتماعية والثّقافية للمدن الفلسطينيّة، وتحمل أسماء فنّانين وفنّانات وملّاك ما زالت قصصهم مجهولة لنا، وما نعرفه على الأقل أنّ تلك القهاوي كانت حافلة بالبرامج الترفيهيّة وأنها إلى جانب تقديمها للقهوة والشّاي قدّمت الفنون والأدب والثّقافة.

 

صحيفة الوحدة ورؤيتها للصحافة

تعد جريدة الوحدة من الصحف القليلة التي اتخذت طريقًا مختلفًا وهو طريق التوعية الشاق: التوعية بالصحافة، أهميتها، بدايتها، ومحاولة إعطاء الجمهور فكرة جيّدة عن النشاط الصحفي الفلسطيني. كيف كان ذلك؟

لا شك أن مصلحة الصحف الفلسطينية كانت دومًا تسويق ذاتها، لنجاح مشروعها وزيادة إيراداتها وتعزيز حضورها. وقد كان ذلك يتم دومًا من خلال الاعلانات، أو من خلال الكتابة في مواضيع مثيرة ليزيد اقبال الجمهور عليها. لكن جريدة الوحدة  – الصادرة في القدس لمحررها اسحاق عبد السلام الحسيني – من الصحف القليلة التي اتخذت طريقًا مختلفًا وهو طريق التوعية الشاق: التوعية بالصحافة، أهميتها، بدايتها، ومحاولة اعطاء الجمهور فكرة جيّدة عن النشاط الصحفي الفلسطيني خلال العقود الأربعة الأخيرة.

                                                              جريدة الوحدة، 23 شباط 1946​

قامت جريدة الوحدة بإثارة النقاش حول الصحف المحليّة، ومحاولة القاء الضوء على نشاطات الصحف وكم الجهد الذي بذلته كل صحيفة. الوحدة تذكر وبشكل واضح لهذا الاهتمام، فهي ترى بالصحافة سلطة، فالأمن والاستقرار والسلم والحرب وكل ذلك متوقف على الرأي العام والرأي العام يتخذ مواقفه من الصحافة التي تساهم في تشكيله، فهي بمنزلة الاستاذ الأكبر للشعب، والذي يستمع لكلامها وعليه فعلى الصحافة كما الأستاذ أن تسهل المعرفة للناس، وأن تنقلها اليهم حيثما كانوا.

                                                              جريدة الوحدة، 23 شباط 1946

من هنا تأتي أهميّة هذه التغطية أو المسح الشامل للصحف، كمحاولة لاطّلاع الجمهور على واقع الصحف، تعزيزها، وتعزيز حضورها بين الناس، اضافة لخلق اجماع بين الناس، ان رؤية قراءة لكيفية تعريف صحيفة الوحدة بجريدتي فلسطين والكرمل مثلًا يظهر بعض هذه الرسائل حين يتم تصوير رياديتهما، نضالهما في نقل الحقيقة، وخلق روح الاعتزاز لدى القراءة مثلًا حين يتم الحديث عن جريدة فلسطين كأوّل جريدة فلسطينيّة يوميًّا والتي تقرأ أيضاً خارج البلاد حيث تصل أعدادها بالطائرة إلى بيروت وبلاد أخرى وفي مواضع أخرى يقول “لا يستولي عليك الذهول عندما أقول لك بأننا سنشتري بعد وقت قريب طائرة خاصة بجريدة فلسطين”.

                                                               جريدة الوحدة، 23 شباط 1946

                                                                 جريدة الوحدة، 23 شباط 1946

لم تستكف الوحدة بذلك فقط بل ناقشت ضرورات صحفيّة ارتأت أن المجتمع الفلسطيني في البلاد يحتاجها، وبالتالي فان صحيفة الوحدة بذلك، تعمل على تعزيز الماضي وأيضًا على المستقبل، من قبل الحث وفتح النقاش على إصدار جريدة باللغة الانجليزيّة.

                                                               جريدة الوحدة، 23 شباط 1946

استكتبت كتابًا للحديث حول تاريخ الصحافة الفلسطينية، كان من بينهم الأديب والمؤرخ الفلسطيني عارف العارف والذي لمع نجمه بين الفلسطينيين كأحد الوجوه الثقافيّة البارزة، حيث تحدّث في مقاله عن الصحافة العربية ونشاطاتها ودورها كما قدم توصيته لمن يريد الاشتغال بهذه المهنة متنبّهًا لواقع الصحافيّين وارتهان النقد الموضوع لرأسمال حيث يضطر الصحفي لغض البصر عن جهات بعينها إن كانت تمول الصحيفة أو تدعمها.
                                                              جريدة الوحدة، 23 شباط 1946

تجلّت أيضًا محاولات نشر الوعي الصحفي من خلال مقالات تحاول اعطاء تعريف دقيق لمعنى الصحافة، ان مقالة “كيف تصبح صحافيًّا ناجحًا” لا تهمنا فقط على مستوى أهميّتها في التوعية بقدر ما تعطينا تفاصيل دقيقة عن فلسفة الفلسطينيين لمفهوم الصحافة، في تشديدها على البساطة في توصيل الفكرة، والأسلوب السلس الطريف، والأهم هو في المسؤوليّة الاجتماعيّة التي يجب على الصحفي أن يتحلى بها، والاختصار قدر المستطاع.

                                                                جريدة الوحدة، 23 شباط 1946

إن جريدة الوحدة في عددها هذا من عام 1946، تعكس مستوى جيّد من النهضة الصحافيّة التي وصلها الفلسطينيّون، من خلال تقديمها مسحًا للصحف الفلسطينيّة ومضاي بعضها، دراسات لإشكاليّات الحاضر، توعية للصحافيين وتوجيهات كيف يكونوا صحفيين ناجحين، دعوة لسد النقص في بعض الجوانب كاللغة الانجليزيّة، ثم وبأسلوب جميل دعوة القراء أنفسهم للمشاركة في استطلاع رأي حاولت الصحيفة من خلاله فهم أنماط القراءة والاهتمام لدى قراءها، وهو ما يعكس مسؤولية صحفية حقيقية.
                                                                جريدة الوحدة، 23 شباط 1946

لا شكّ أنّ جريدة الوحدة ليست عمليًّا دلالة على نهضة فرديّة بقدر ما هي انعكاس لتفاعل مجتمعيّ مع الصحافة واهتمام ملحوظ شارك فيها الكثيرون، وبالتالي فإنّ تطوّرها هو تطوّر وعي كامل بأهميّة الصحافة بدأ مع بدايات القرن العشرين ووصل إلى ذروته في الأربعينيّات. في صفحتيها السادسة والسابعة تدرج الوحدة قائمة بأسماء عشرات الجرائد والمجلاّت الفلسطينيّة منذ صدورها حتى لحظة صدور جريدة الوحدة، مراجعة عناوين الصحف هذه وأعدادها وأماكن صدورها يدل على انتشار الصحف على امتداد البلاد وعلى مشاركة جمعيّة هائلة وتنوع في الموضوعات والقضايا.

                                                                 جريدة الوحدة، 23 شباط 1946

قد يكون البحث التاريخي مهمًّا في الصحافة الفلسطينيّة، لكن هذا العدد من جريدة الوحدة يحمل أهميّة، خاصّة أنّه يوفّر معلومات أوليّة غاية في الأهمية، ويوفر لنا نظرة عميقة، إنّها دراسة تاريخ الصحاف​​ة من خلال الصحافة وهي مهمّة ستحتاج الكثير من الباحثين لدراسة الصحف وما حملته من معلومات لقراءة جديدة في التاريخ.