“قهوة” أو “القهوة البلدي” كما تسمّى في مصر هو الاسم التّراثي والمتداول لمئات السّنين للمقاهي الشّعبيّة الّتي امتدّت وتنوّعت وظائفها في عشرات المدن والعواصم العربيّة. أقيمت أولى القهاوي الشّعبيّة في عهد الدولة العثمانيّة في القرن الخامس عشر، وتختلف المصادر حول المدينة الأولى الّتي نشأت بها القهاوي، فبعضها يشير إلى دمشق وبعضها يشير إلى مكّة وبعضها يشير إلى القاهرة، حيث كان يلتقي التّجار لنقاش صفقاتهم أثناء شرب القهوة أو تدخين الأرجيلة ثم بدأت وظائفها الاجتماعيّة والثقافية تتبلور شيئًا فشيئًا. فكانت الملهى اللّيليّ تارة، والملتقي الفكريّ تارة، أو ملتقى الأصحاب من كبار السّن للعبة النّرد، أو استراحة الظّهر لزملاء الدّراسة، والمساحة الّتي تتطوّر بها الجدالات السّياسيّة ونقاشات الوضع الرّاهن. كانت القهاوي غالبًا مفتوحة أبوابها العريضة على الرّصيف والشّارع حيث تمتد مقاعدها كذلك، ممثّلةً طبيعة حيّزها الّذي تربّع بين العام والخاص، والّذي اقتصر طويلًا على الرّجال دون النّساء.
ما زالت القهاوي موجودة اليوم في المدن والعواصم العربيّة لكنّها قليلة وليست الوجهة الأولى لشرائح عديدة من المجتمع، فهناك المقهى المعاصر اليوم، وشبكات التّواصل، ونمط الحياة السّريع والإستهلاكيّ الّذي لم تعد القهوة البلديّة تشبهه بهدوئها وتواضعها.
وجدنا في مجموعة ملصقات المكتبة الوطنية بالعربيّة إعلانات عديدة تخصّ قهاوي شعبيّة في حيفا ويافا والقدس وغيرها من المدن الفلسطينيّة تعود غالبيّتها لفترة الانتداب البريطاني وعدد قليل لفترة الدولة العثمانيّة، نعرض لكم بعضها هنا.
لتصفّح جميع الملصقات بالعربيّة هنا. (رابط البوابة)
تدلّنا الملصقات على طبيعة مختلفة للقهاوي عن تلك العفويّة والفوضويّة في أذهاننا. فهنا تقوم إدارة القهوة بالإعلان عن برنامج فعاليّاتها مسبقًا وتوزّع منشوراتها المصمّمة والمصوّرة بعناية لحشد الجمهور. تجدون في بعضها أسعار المشروب وفي بعضها الدخوليّة – خمسون قرشًا، ثلاثين مليم للشراب الواحد، ونظافة وخدمة راقية تنتظركم. كما تطغى الحفلات الرّاقصة وأمسيات السّمر على منشوراتها الّتي تبرز بها أسماء الرّاقصات والمغنّيات والعازفون وأحيانًا صورهم. كما يظهر في مناشير قهوة كوكب الصّباح، لصاحباها الحاج عبد الحميد وخليل المغربي، الّتي يبدو أنها كانت وجهة شهيرة للحفلات الغنائيّة والرّاقصة في حيفا في سنوات الثلاثينيّات. وتظهر في بعض المنشورات باسم قهوة وبار كوكب الصّباح.
يعرض المنشور اسم القهوة في العنوان وفي الغالب يتلوها اسم صاحبها الكامل، ثم بكلمات لبقة ك “بشرى سارّة لأهالي حيفا” يبدأ المنشور بدعوة النّاظر إليه لحدث لا يريد أن يفوّته: الرّاقصة الشّهيرة فلانة أو عازف العود فلان، الزّمان والمكان وجملة ختاميّة تعدّ بليلة لا تُنسى. وإن كان ضيوف السّهرة من المشاهير فترفق صورة بالأبيض والأسود في المنتصف أو على الأطراف، كما في منشور أمسية السّيدة ماري شهاب. كما يفصّل المنشور أنواع الرّقص الّتي تتقنها ضيفة السّهرة: ومنها المصري والتركي والعربي والإفرنجي. وكذلك الأمر في منشورات كل من قهوة “قصر البحر” وقهوة “الانشراح”. وفي بعض المنشورات تجدون تفصيلًا للخدمات اليوميّة الّتي تعرضها القهوة. فيوضح أحد منشورات قهوة كوكب الصّباح أن “كل صباح لغاية الساعة الثّامنة مساءً فنجان القهوة أو الشاي ب 5 ملات والكازوز 10 ملات، ومن الساعة الثامنة مساءً لغاية الساعة الثانية عشر مساءً سمع وطرب مع تقديم فنجان قهورة أو شاي أو كازوز أو مشروبات روحيّة ب 30 مل فقط”.
أما في يافا فنجد على مسرح “قهوة البلور” ليلة السبت 10 تشرين الأول 1919 مسرحيّة “فتح الأندلس أو طارق بن زياد”، يقوم بتمثيلها عمّال سكّة الحديد في يافا! ويتّضح من المشروع أنّ النّشاط تطوّعيًا ويجمع ريع المسرحيّة لإعالة عائلات “مستشهدي سكة الحديد الفلسطينيّة”، وتتضمن الأمسية فقرة طربيّة لـ “بلبل فلسطين” السيد درويش اسكسك والسّيدة ثريّا ويتلوهم فعل مفاجئ ومضحك. يدلّنا المنشور هذا بالتحديد على دور إضافيّ للمقاهي تشكّل في المناخ النّضالي وكان جزءًا منه. وفي منشور آخر لقهوة البلور يعود لعام 1907 تعلن القهورة بلغات ثلاث: العربيّة والتركيّة والإنجليزيّة عن أمسية فنّية أخرى. وهو المنشور الوحيد الّذي يستهدف غير العرب من الضّيوف.
لا شكّ أن الملصقات وسيلة ممتعة وناجعة للتعرّف على الماضي عن قرب ومحاولة استكشاف ملامحه ومعايشتها. وملصقات القهاوي ما زالت محفوظة وتحمل لنا تفاصيل كثيرة عن الحياة الاجتماعية والثّقافية للمدن الفلسطينيّة، وتحمل أسماء فنّانين وفنّانات وملّاك ما زالت قصصهم مجهولة لنا، وما نعرفه على الأقل أنّ تلك القهاوي كانت حافلة بالبرامج الترفيهيّة وأنها إلى جانب تقديمها للقهوة والشّاي قدّمت الفنون والأدب والثّقافة.