في المعرض العربي الذي أقيم في المجلس الإسلامي الأعلى في شارع مأمن الله (ماميلا) في القدس، كانت الفنانة زلفة السعدي تعرض في جناح فلسطين رسوماتها الزيتية ومنتجاتها التطريزية، وقد ولدت الفنانة زلفة السعدي (1905-1988) في مدينة القدس في البلدة القديمة بالقرب من باب السلسلة، أحد أبواب المسجد الأقصى.
المعرض العربي في المجلس الإسلامي الأعلى
خلال الفترة الانتدابية على فلسطين، نشطت حركة المعارض الفنية بدعم من الإرساليات الأجنبية في المدارس التبشيرية، وكانت المعارض عبارة عن عرض صور لمصورين محليين، منتجات يدوية لعدد من الحرفيين والمتاجر، ولاحقًا ضُمّت اللوحات الزيتية في فن التصوير والذي عُرف بفن الأيقونغرافي، وكانت لوحات الفنانة زلفة السعدي المرسومة بالزيت قد لاقت استحسان الجمهور الفلسطيني وغير الفلسطيني؛ إذ قدّمت السعدي حينها معرضًا منفردًا في جناح فلسطين؛ وعرضت فيه لوحاتها وأعمالها اليدوية من التطريز. (بُلاطة، 2011)
فن الأيقونغرافي
قام الفنان كمال بلاطة، ابن مدينة القدس، بتحضير دراسة عن الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر بعنوان “استحضار المكان: دراسة في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر” باحثًا حول بداية وتاريخ الفن التشكيلي الفلسطيني. وقد قدّم لجمهور القراء والباحثين جانبًا فنيًّا عن الفنانة زلفة السعدي؛ إذ ورد في كتابه أنّ السعدي اعتمدت في رسماتها على محاكاة الصور، وبالتالي كانت من السبّاقات في فن اللوحات المصوّرة المعروف بالأيقونغرافي، والذي اُعتُبِر فنًّا “مستحدثًا” في التعبير وقد ساهم في تأريخ الوجه الثقافي الفلسطيني في ذلك الوقت. (بلاطة، 2011)
بالإضافة إلى ذلك، أضافت زلفة السعدي لرسماتها صورًا لشخصيات تاريخية دينية ووطنية مثل المفكر جمال الدين الأفغاني، عمر المختار، وأحمد شوقي محاكية ظروف التصوير في تلك الفترة والتي كانت معتمدة على صور شخصيات باللباس التقليدي الديني والمجتمعي. بالرغم من أنّ المعارض الفنية كانت ضمن النشاطات الممولة من الإرساليات الأجنبية، إلا أنّ الفنانة زلفة السعدي استبدلت في لوحاتها التصويرية الأحرف اللاتينية واليونانية بأحرف اللغة العربية.
“وقائع اكتشاف فنانة”
نشرت صحيفة الاتحاد في 9 تشرين أول 1998 وقائع اكتشاف الفنانة زلفة السعدي من قبل الفنان إسماعيل شمّوط. خلال بحث الفنان إسماعيل شمّوط عن الحركة الفنية التشكيلية الفلسطينية، اصطدم برسومات للفنانة زلفة السعدي عندما قام شاب وشابة بتسليمه ما تبّقى من رسوماتها، إلى جانب دفتر الزيارات الخاصة بالمعرض العربي والذي أقيم في المجلس الإسلامي الأعلى. ورد في دفتر الزيارات أن شركة المعرض العربي بفلسطين المحدودة قد رعت مجموعة من الأجنحة والأقسام لمنتجات زراعية صناعية وفنية، وقد كان هناك جناحًا للفنانة زلفة السعدي باسم “جناح فلسطين“، بالإضافة إلى ذلك، ورد في الدفتر إشادة الاقتصادي ورجل الأعمال ومدير بنك الأمة العربية آنذاك أحمد حلمي عبد الباقي، إذ كتب على الدفتر: “وإنه ليسرنا أن نرى الآنسات والسيدات العربيات في الطليعة من هذه الفئة العاملة… زرت قسم الأشغال اليدوية في المعرض العربي الأول التي تعرض فيه الآنسة زلفى ]زلفة[ السعدي صنع أناملها وآثار عبقريتها وبحثت المعروضات وأمعنت النظر فيها فملأت قلبي بهجة وحبورًا ونفسي إعجابا.” ووفقًا لما ذُكِر في هذا الدفتر، فقد مُنِحت زلفة السعدي، شهادة من الدرجة الأولى بناءً على قرار لجنة التحكيم الخاصة بالمعرض.
وقد وُصِفت صورها أو رسوماتها بأنّها صورًا ناطقة وذلك لشدة دقتها ووضوحها، وقد عبّر شمّوط عن ذلك بأنّه على الرغم من السعدي تتلمذت على يد نقولا الصايغ، عميد المعلمين والحرفين في القدس في الفن الأيقوني، إلا أنّ دقة رسوماتها للأشخاص والطبيعة والنباتات، تعكس وتبيّن أن الفنانة لم تكن تلميذة أو حتى هاوية بل هي فنّانة متمّرسة.
تزوجت زلفة السعدي عام 1938 من السيد سيف الدين الدجاني وهو فنان تشكيلي كذلك، وبعد حرب الـ 1948، هاجرت السعدي وزوجها إلى دمشق وهناك أصبحت معلمة للفنون ومديرة مدرسة اللد التابعة لوكالة الغوث (الأنوروا). غادرت زلفة السعدي مدينة القدس مع عدد قليل جدًا من لوحاتها الزيتية، وعلى ما يبدو أنّها لم تعد تمارس الرسم كمهنة بعد الحرب.
من نَعَتّم بالـ “شلوحيين”؟
يستخدم العديد من الناس الكلمة الازدرائية "شلوح" لوصف شخص مُهمل ورَث الهيئة. هي كلمة ازدرائية نَعت بها سكان المدن الكبرى في المغرب أهالي القرى؟
تبلورت فكرة المقالة قبل عدة سنوات، عندما سألت جدتي عن عدد اللغات التي تجيدها. يصعب تحديد ذلك، لأنّها تجيد عدة لهجات عربية (إلى جانب الفرنسية والإسبانية)، ولكنّها صبّت جل اهتمامها في إحدى اللغات: الشلحية، أو كما سميت بالأصل، تشلحيت. أخبرتني جدتي لديسيا بأنّها تعلمت هذه اللغة لتتواصل مع حماتها، التي لم تكن تتحدث سوى التشلحيت. اقترن اسم اللغة مباشرة في ذهني بالكلمة الازدرائية الشائعة في البلاد “شلوح”- أي الشخص المُهمل ورث الهيئة.
تناولت إحدى مقالاتنا السابقة اللقب المهين والمضلل الذي نُعت به سكان مدينة تشيلم في بولندا، ونتناول في هذه المقالة الشلوحيين. أولًا، إن لم تعرفوا من قبل مصدر المصطلح “شلوح”، إنّها كلمة ازدرائية تعود أصولها إلى المغرب، وعلى غرار “التشيلميم” مواليد بولندا أو “الحورانيين” مواليد سوريا، فإنّ كلمة “شلوح” هو لقب مهين نُسب لمجتمع كامل.
على غرار اللغة العربية متعددة اللهجات المحلية، فإنّ لغة الشلوحيين، تشلحيت، هي واحدة من اللغات الأمازيغية المحكية الثلاث متعددة اللهجات في المغرب. اللغتان الأخريان هما التمازيغت- الأمازيغية المعيارية ولهجة الريف.
يعيش الشلوحيون، موضوع هذه المقالة، في جنوب غرب المغرب، في نحو ألف قرية تربطها علاقة تجارية. قطنت هذه المنطقة أكبر جالية يهودية من يهود المغرب الذين جاوروا الأمازيغ.
الشهادات الأولى على الحياة المشتركة بين اليهود والأمازيغ في المغرب تعود إلى القرن الثالث للميلاد، ولكن التقاليد الشفوية ليهود جنوب المغرب تفيد بحضور اليهود إلى المنطقة في فترة الهيكل الأول، أي في القرن الـ 11 قبل الميلاد. إنّها على ما يبدو محاولة لدحض النظرية بأنّ يهود المنطقة هم من أصول أمازيغية وأنّهم اعتنقوا اليهودية في القرون الأولى بعد الميلاد. ينفي يهود المغرب الادعاء بأنّهم في الأصل أمازيغ اعتنقوا اليهودية-بل يعتبرون أنفسهم نسل جنود الملك داود وقائدهم وزير الجيش يوآف بن تسرويا، والذين لاحقوا الفلستيين حتى شمال أفريقيا.
بسبب القرب الجغرافي بين اليهود والشلوحيين- تطورت علاقات وثيقة وودية بين المجموعات السكانية المختلفة. ليس صدفة إذًا أن يتبنى يهود المنطقة لهجة التشلحيت وأن يتحدثوها. ما زال اليهود الذين سكنوا في هذه المجتمعات المحلية يقتبسون ويذكرون العديد من أمثال وأغاني وعادات جيرانهم الأمازيغ. الغالبية العظمى من هؤلاء اليهود قدموا إلى إسرائيل في الهجرة الكبرى في مطلع الخمسينات، قبل استقلال المغرب.
اعتاش الشلوحيون، ومعظمهم قرويون، على الزراعة. أما اليهود، فقد كانوا من أهل الذمة، وبالتالي، لم يكن يسمح لهم بحيازة أملاك. لذلك، كانوا بالأساس تجارًا اعتادوا التنقل في مجموعات صغيرة بين قراهم والقرى المجاورة لبيع بضائعهم وتقديم خدماتهم. موّل البعض منهم المبادرات الزراعية لجيرانهم الأمازيغ بواسطة شراء البذور من أجلهم. وفي موسم الحصاد، كان المستثمرون اليهود يحصلون على ثلاثة أرباع المحصول الزراعي.
على مدار أكثر من أربعة عقود، التقى بروفسور يوسف شطريت بأشخاص يهود وأمازيغ جاوروا بعضهم بعضًا. في مقالته حول القرب والتباعد بين هذين المجتمعين، يشير إلى أنّه حتى بعد مرور عدة عقود، ما زال الجيران الشلوحيون يذكرون بعض العبارات العبرية، ابتداءً من “بروطيم” (مال) وحتى مشروب الحياة- الكلمة اليهودية-المغربية لمشروب العرق. خلال الفترة الطويلة التي عاشوا فيها جنبًا إلى جنب، عُرف اليهود كتجار أذكياء ومحنكين، وخُلّدوا في العديد من الأمثال الأمازيغية، مثل: اليهود في السوق كالملح في العجين.
لم يتشارك اليهود وجيرانهم الشلوحيون مصادر المعيشة فحسب. فقد انضم الأمازيغ إلى يهود المنطقة في زياراتهم إلى قبور القديسين اليهود في مواسم الحجيج (الهيلولاه)؛ وكانوا يبيعون العجول والأغنام للمشاركين في مواسم الحجيج، بالإضافة إلى الفواكه والخضار. كان المعالجون اليهود يحظون بزيارات جيرانهم الشلوحيين في أوقات متقاربة، وقد استخدموا تمائمهم وعصائرهم بدون أي خوف.
في الأفراح أيضًا، كما في الأحزان، كان لليهود والشلوحيين عادات مشتركة، بل وتعاونوا أيضًا في أداء الرقصات والأغاني في المناسبات العامة. مع أنّ اليهود امتنعوا عن المشاركة في عادات أمازيغية متعلقة بالعقيدة الإسلامية، إلا أنّ كلّ من المجموعتين كانت تعرف جيدًا تقويم المجموعة الأخرى. إلى جانب تهنئة الجيران بالأعياد أو التمني لهم بصيام سهل، فإنّ أعياد ومناسبات هذين المجتمعين شكلت فرصة اقتصادية ذهبية: كان الشلوحيون يبيعون محاصيلهم الزراعية لليهود قبل دخول السبت وعشية الأعياد، ومن ضمنها القَصَب لبناء العرائش، بينما كانت النساء اليهوديات يُحكن ملابس جديدة لمناسبة الأعياد الإسلامية.
برز التعاون بين اليهود والمسلمين بشكل خاص قبل احتفال الميمونة. خلال العيد، كان اليهود يقدمون هدية لمعارفهم المسلمين، وقد شملت: مصّة، فطيرة وأحيانًا يخنة اللحم، بالمقابل، كان المسلمون يقدّمون لليهود الحليب، العسل، البيض والطحين، أي مستلزمات الميمونة.
كيف إذًا ارتبط اسم “الشلوحيين”، هذه المجموعة المتنوعة والنشطة، بكلمة ازدرائية تعني شخص مهمل وغير جدير بالثقة؟ القادمون من المغرب هم من جلبوا هذا اللقب المهين، والذي يسيء للمسلمين ولليهود القرويين.
في سنة 1931، نشرت الصحيفة اليهودية الناطقة بالفرنسية “لافنير إيلوستريه” (L’Avenir illustré)، بالعبرية: المستقبل المصور، مقالة لتشارلز أبي حصيرة من مدينة الرباط في ملحق “إسرائيل الشابة”- Jeune Israël . يكتب أبي حصيرة عن المهاجرين اليهود القرويين الذين ملأوا مدينته وينعت أحدهم بـ “شلوح”. الشخص الموصوف بهذا اللقب المهين في مقالة أبي حصيرة هو مسن يهودي يعتاش على التبرعات وبفضل السياح الذين يدفعون له مبلغًا بسيطًا ليلتقط لهم الصور. الشيء الثاني الذي يزعج “أبي حصيرة” هو حقيقة أنّ “الشلوح” كان يتسول أيام السبت، ويخرق قوانين الديانة اليهودية.
أبي حصيرة، الممثل الشاب ليهود المغرب الغربيين، يميّز نفسه عن هذا “الشلوح”، الذي يصوّره كشخص قذر وسلبي، لا يجيد العربية أو الفرنسية، بل الأمازيغية فقط. فهو يفعل ذلك بالفرنسية، في ملحق “إسرائيل الشابة” الذي كان يقرأه الفتيان والفتيات اليهود في المغرب الذين تعلموا الفرنسية في مدارس الإليانس، أجادوا اللغة الفرنسية وكانوا أكثر ارتباطًا بالقيم الغربية الأوروبية من القيم التقليدية في المغرب.
لم يبتكر أبي حصيرة لقب “شلوح” لنعت القرويين بالطبع، ولكنه استخدمه ليميز نفسه ومجتمعه عن المهاجرين من المناطق القروية. تجدر الإشارة إلى أنّ الاسم “بربر” يوحي بالسلبية، وأنّه اسم غريب عن البربر أنفسهم الذين يسمّون أنفسهم “أمازيغ” وتعني الإنسان الحر. يعود الاسم “بربر” إلى الكلمة الازدرائية الذي استخدمها اليونانيون القدماء لكل من لم يتكلم اليونانية (بحيث يعود الاسم بربر الذي نعرفه إلىβάρβαρος,.
على الرغم من محاولة الشاب أبي حصيرة والكثيرين غيره من اليهود أبناء المدن المغربية التميز عن اليهود الناطقين بالأمازيغية، تجدر الإشارة إلى أنّه قبيل مغادرة اليهود للمغرب، كان نصف سكان الدولة (المسلمين واليهود) يتحدثون الأمازيغية كلغتهم الأولى أو الثانية. بعد استقلال المغرب والتعليم الرسمي الذي اتبع فيها، انخفض هذا العدد إلى 30 بالمئة. تحدث معظم اليهود الناطقين بالأمازيغية بلهجة تشلحيت، وبالنسبة للبعض منهم (في منطقة تفنوت مثلًا، في أعالي سهل سوس)، كانت التشلحيت لغتهم الأم، على الأقل حتى الاحتلال الفرنسي للبلاد. بفضل الحماية الفرنسية على المغرب، والتي أنشأت شبكة طرق ربطت يهود القرى بالمدن الكبرى، تبلورت حركة هجرة من القرى. نشأ عن اللقاء بين أهالي المدن وأهالي القرى هذا اللقب المهين.
علاقة الجوار المركبة بين اليهود وجيرانهم الشلوحيين هي جزء لا يتجزأ من قصة القادمين من المغرب، وهو بالطبع جزء مهم من تاريخ المغرب. لم تسكن هاتان المجموعتان بجوار بعضهما بعضًا على مدار مئات وربما آلاف السنين فحسب، بل تشاركتا أيضًا عقائد وعادات، مثل تمجيد القديسين، الطب الشعبي ومخزون كامل من الأغاني الأمازيغية، الرقصات الشعبية والحِكم والأمثال. لذلك، فإنّ ازدراء الثقافة الشلوحية وإلغاءها- والذي بدأ في المغرب- يعتبر إساءة لجزء كبير من ثقافة يهود شمال أفريقيا.
في الوقت الحالي، وعلى الرغم من العلاقات المركبة والحساسة بين المجموعات المختلفة، فإنّ اليهود والأمازيغ يستذكرون ماضيهم المشترك بحنين. مغادرة اليهود للمغرب تركت أثرًا سلبيًا لسنوات طويلة على الاقتصادي القروي للأمازيغ والشلوحيين. قبل توطيد العلاقات الرسمية وغير الرسمية بين إسرائيل والمغرب، تعزز الحنين إلى هذه الشراكة، وانعكس ذلك في إضفاء المثالية على واقع اليهود في قراهم وبلداتهم الأصلية في المغرب. الآن، في أعقاب تسهيل السفر إلى المغرب، فإنّ الإسرائيليين المنحدرين من أصول مغربية يستطيعون معاودة زيارة هذه القرى وإعادة بناء العلاقات التي نُسجت بين آبائهم والأمازيغ على مدار عدة أجيال.
نتقدم بجزيل الشكر لبروفسور يوسف شطريت ود. دافيد غادج على مساهمتهما في كتابة المقالة.
لمزيد من المراجع
Joseph Yossi Chetrit, Intimacy, Cooperation and Ambivalence: Social, Economic and Cultural Interaction between Jews and Berbes in Morocco, European Judaism, Volume 52, No. 2, 2019: pp. 18-30
Joseph Yossi Chetrit, ” Judeo-Berber in Morocco” in: Languages in Jewish Communities, Past and Present, Edited by Benjamin Hary & Sarah Bunin Benor (De Gruyter, 2018)
David Guedj, “Jeune Israel”: Multiple Modernities of Jewish Childhood and Youth in Morocco in the First Half of the Twentieth Century, Jewish Quarterly Review, Volume 112, Number 2, 2022, pp. 316-343
דוד גדג’, דיוקנאות, ארץ־ישראל והקהילות היהודיות במרוקו: המסרים החזותיים בעיתון L’Avenir Illustré, מרכז יד בן-צבי
السامريون في مدينة نابلس
مجموعة صور حول الحياة الدينية والاجتماعية للطائفة السامرية في نابلس من أرشيف أرنون دانتشو في مجموعات صور المكتبة الوطنية
تعتبر الطائفة السامرية أصغر الطوائف في العالم وهي موجودة في مدينة نابلس على جبل جرزيم تحديدًا وحولون جنوب مدينة تل أبيب. السامريون في نابلس يتشابهون جدًا مع أغلبية سكان المدينة هناك في طقوسهم الاجتماعية بالذات، ولكن بدايةً، كيف وصل السامريون إلى مدينة نابلس؟
بعد خروجهم من مصر بقيادة يوشع بن نون، دخلوا فلسطين حتى وصلوا جبل جرزيم وأقاموا هناك، وعندما احتل نبوخذ نصّر البلاد، سبى العديد منهم حتى أًصبحوا أقليّة فيما بعد. ويعتقد السامريّون أنّهم الوحيدون من بني إسرائيل “الأنقياء”؛ إذ لم يختلطوا مع باقي المجتمعات منها اليهودية، وهم ينسبون أنفسهم إلى نسل النبي يوسف. (ميلز، 1860)
أمّا اسم الطائفة بـ “السامرية”، اختلفت الآراء حول التسمية، منهم من أكّد أنها مشتقة من كلمة “السامرة” أو “شومرون” بالعبرية، وهي عاصمة القبائل التي خرجت من مصر واستقّرت في هذه المنطقة، بينما ورد في بعض المصادر والتي يؤكدها أبناء الطائفة أن “السامري” هو الحارس أو المحافظ؛ ويؤمن السامريّون أنّهم حافظوا على شريعة النبي موسى أكثر من اليهود، وقد وردت هذه التسمية كذلك في العهد الجديد مع حكاية المرأة السامرية مع السيد المسيح. وفي مقالنا هذا سنتطرق لبعض الصور الرقمية في المكتبة الوطنية التي تعكس الحياة الاجتماعية والدينية للطائفة السامرية في نابلس من خمسينيّات القرن الماضي حتى السنوات الأخيرة من الألفية الثانية.
بعد حرب العام 1948، عانى السامريّون كغيرهم من أهل البلاد؛ إذ بقي البعض منهم في جبل جرزيم، فيما بقيت باقي الطائفة في حولون، وكان الذهاب للحج في جبل جرزيم؛ إذ يعتبر السامريّون أنّ جبل جرزيم هو الجبل المقدّس المذكور في التوراة وليست تلة موريا في القدس. الصور أدناه من حدود بوابة مندلباوم على خط التماس في القدس لسامريين يعبرون للضفة الغربية بقيادة الحكومة الأردنية آنذاك.
وكما يظهر في الصور السابقة وبعض الصور التالية أنّ السامريين يتميّزون بلباسهم التقليدي وتحديدًا في أيام السبت والأعياد الدينية؛ إذ يلبس الصغار والكبار الجبات والطرابيش ذات اللون الأحمر.
أمّا طقوس الزفاف والأفراح لدي السامريين، فهي شبيهة إلى حدًّ كبير للطقوس الشعبية التقليدية في مدينة نابلس، والتي تبدأ من الخطبة والتي يجتمع فيها الرجال بانفراد عن النساءـ والتي يظهر بعضها في حفل الحنّاء العربي، أو كما اجتماع عقد القران لدى المسلمين…
والطائفة السامرية تلتزم بختان الذكور في اليوم الثامن وفقًا للشريعة اليهودية واتباعًا لأوامر النبي إبراهيم، ويكون الختان كحفل تقيمه العائلة ويجتمع فيه الناس للمباركة.
ونختم المقال بصورة اجتماعية في مناسبة دينية محضة وهي مولد النبي موسى، وعلى الرغم منّ أنّ المناسبة دينية إلا الصورة – وصور أخرى في ذات الألبوم – تظهر تجمّع لعدد من الرجال وكأنها مناسبة اجتماعية أو حفل عائلي.
تعرّفوا على كاكال، أو بالعربيّة، “رأس المال الدائم للأمة الإسرائيليّة”
"إنّ الأرض هي الدعامة الأساسية لحياة كل شعب من الشعوب. وخصوصا شعبنا الوحيد في جميع أنحاء العالم. وإنّ الإسرائيلي الغيور يحترم كيرن كييمت لأنها توجد الأموال العقاريّة للأمّة، تلك الأموال الّتي لا يهدّدها فناء أو ضياع" تعرّفوا على إنجازات كيرن كييمت ودعايتها العربيّة-اليهوديّة عام 1924.
تأسس صندوق “كاكال” وهو الصّندوق القومي اليهودي عام 1905، وكان الهدف الأساسي منه في البداية هو جمع الأموال وشراء الأراضي باسم الشّعب اليهودي في فلسطين العثمانيّة، ولذلك كان هذا الصّندوق من أهمّ الأذرع التّنفيذيّة للحركة الصّهيونيّة منذ نشأته وإلى اليوم.
تُعرف منظّمة كيرن كييمت (كاكال) اليوم بالعربيّة تحت مسمّى “الصّندوق القومي اليهودي”، إلّا أنّ إحدى الترجمات المبكّرة وربّما الأولى من نوعها لاسم المنظّمة للعربيّة هو “رأس المال الدائم للأمّة الإسرائيليّة”. لاحقًا عُرفت تسميات أخرى كـ “المال الدّائم لإسرائيل” وكذلك “الصندوق الدائم لإسرائيل”. سنأخذكم من خلال معاينة نشرة مطبوعة موجودة في مجموعة النّوادر في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة في رحلة للتّعرف على نشأة هذه المنظّمة التّي بلغ عمرها اليوم أكثر من 120 عام. وللمرّة الأولى، سيكون هذا التّعارف مباشر وبدون أي وسيط، إذ نطقت المنظّمة الصّهيونيّة في هذه النّشرة باللغة العربيّة-اليهوديّة، وهي لغة عربيّة فصيحة لكنها تكتب بحروف عبريّة.
منشورات كاكال الدّعائيّة
قامت كيرن كييمت باستخدام جميع الوسائل الإعلاميّة من أجل الانتشار وبثّ الدّعاية في عقودها الأولى، واستخذمت تكتيكات عديدة منها المنشورات والتّصميمات الإبداعيّة والحصّالة الزّرقاء الّتي حملت اسم الصّندوق وانتشرت في جميع أنحاء وجود اليهود في العالم والطّوابع البريديّة وغيرها. هدفت هذه الحملة بالأساس لجمع التّبرّعات للصندوق من أجل شراء الأراضي، لكنّها استهدفت كذلك الوعي القومي الجمعي وتعزيز الانتماء للصّهيونيّة والاهتمام بضمان الأرض، الركيزة الأساسيّة لبناء الوطن. ولذلك، نشرت كاكال ملصقاتها ودوريّاتها في لغات عديدة لمخاطبة المجتمعات اليهوديّة المتفرّقة بلغاتهم المحلّية. توجد في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة منشورات لكاكال بأكثر من 25 لغة. منها العبريّة والإنكليزيّة والألمانيّة والفرنسيّة والعربيّة-اليهوديّة وحتّى بالفارسيّة-اليهوديّة. وهذا يدلّ على مدى قوّة انتشار الصّندوق وقدرته للوصول إلى مختلف المجتمعات اليهوديّة حول العالم.
في هذا السّياق الدّعائي والحماسة من العقود الأولى لعمل الصّندوق من أجل الوصول إلى مختلف يهود العالم، نجد نشرة مميّزة من مجموعة النّوادر في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة بعنوان “كيرن كييمت ليسرائيل: الرأس المال الدائم للأمّة الإسرائيليّة”. تأخذنا هذه النّشرة إلى مطبعة الصّحافي اليهودي نيسيم مالول في القدس عام 1924 حيث طبعت معظم المنشورات والنّشرات الّتي عني بها اليهود من قراء العربيّة-اليهوديّة في البلاد. تعرّفنا هذه النشرة في 17 صفحة على خطاب المنظّمة وإنجازاتها في ذلك الوقت من جهة، وعلى العربيّة-اليهوديّة الدّارجة حينها من جهة ثانية، وعلى طريقة وأسلوب كاكال باجتذاب اليهود ذوي الأصول العربيّة من جهة ثالثة، ممّا يجعل هذه النّشرة مميّزة على عدّة أصعدة.
تظهر على الصّفحة الأولى من النّشرة صورة هيرمان شابيرا المبادر لإنشاء الصّندوق القومي اليهودي الّذي تأسس رسميًا عام 1905، وتعرّف عنه بأنّه “صاحب مشروع كيرن كييمت ليسرائيل”. ومن ثمّ تستهلّ النّشرة الحديث عن المشروع من خلال مقدّمة حول أهمّية الأرض لكلّ شعب. إذ تقول “إنّ الأرض هي الدعامة الأساسية لحياة كل شعب من الشعوب. وخصوصا شعبنا الوحيد في جميع أنحاء العالم. ولذلك فمن كان أمر أرض إسرائيل يهمّه، فهو يتشوّق لمعرفة مساحة الأرض الّتي ملكها الشعب الإسرائيلي في هذه البلاد، وخصوصا كيرن كييمت ليسرائيل، وهي من أكبر الدوائر الإسرائيليّة صاحبة الأراضي بعد البارون روتشيلد”، وهنا نرى أنّ النّشرة كتبت خصيصًا لجمهور هدف محدّد، جمهور يعرف من هو البارون روتشيلد، وهم اليهود من قرّاء العربيّة اليهوديّة في البلاد في ذلك الوقت.
سياسة كاكال العقاريّة
إذًا فمن المقدّمة نفهم أنّ الهدف الأساسي من النّشرة هو التّعريف بمساحة الأراضي الّتي ملكتها كيرن كييمت حتّى عام طباعتها وهو العام 1924. ولذلك، فهي من الشّواهد الأساسيّة على حيثيّات المهمّة الأولى في تاريخ هذا الصّندوق، وهي شراء الأراضي وكلّ ما يدور حول هذه المهمة من إمكانيّات دعم وتعزيز الاستيطان اليهودي.
إذ تخبرنا النّشرة عن مواقع ومساحات الأراضي الّتي ملكتها المنظّمة في ذلك الوقت “هذا الّذي تمّ حتّى الآن ما هو إلّا ابتداء فقط، لأنّ مساحة الأرض الّتي تحت الانتداب الإنجليزي هي 195،00،000 دونم. (تضمّ هذه المساحة الأردن اليوم) أمّا الّتي يملكها اليهود وخصوصا اراضي كيرن كييمت فتبلغ 800،000 دونم، يعني 4 في المئة من مجموع مساحة الانتداب الإنجليزي” وفي موضع آخر تحت عنوان “الموقع الجغرافي” تحدّد النّشرة مواقع هذه الاأراضي فتقول “أراضي كيرن كييمت تمتدّ في جميع أرض إسرائيل في البلاد وفي الكفاريم (القرى)، وأهم مراكزها موجودة في مرج ابن عامر “عيمك يزراعيل” هذا المرج المشهور منذ القدم بخصبه وببركته وبجودة أرضه، في يد كيرن كييمت منه نحو 110،000 دونم تمتد من حيفا إلى سهل الياردين (الاردن) عيمك يزراعيل كان منذ القدم مفترق الطرق المهمة عند شعوب غرب آسيا وشعوب شمال أفريقيا: ومما يستحق الذكر هنا أن نقطة المواصلات هذه موجودة اليوم في يد كيرن كييمت وفيها كثير من المستعمرات اليهودية الجديدة، التي ننتظر أن يكون لها مستقبل حسن جدًا”.
تقول لنا النّشرة عن أهداف كيرن كييمت الواضحة في ذلك الوقت التّالي: “إنّ المقصد الأصلي للسياسة العقاريّة الصهيونيّة هو نقل الأراضي الّتي يعمر فيها العمران الإسرائيلي إلى ملكيّة الشعب اليهودي…مقاصد كيرن كييمت هي: 1. امتلاك الأراضي في أرض إسرائيل بما يتبرّع به الشعب لتكون ملك للشعب. 2. تحكير (احتكار) الأراضي للاستغلال والبناء بصورة وراثية من الأب إلى الإبن إلى ولده. 3. مساعدة الذي يشتغل بنفسه في تلك الأراضي وليس له مال ليكون من أصحاب العقار. 4. تأمين وضمان الشّغل لليهود.5. ملاحظة كيفيّة خدمة الأرض. 6. منع المضاربات في تمن الأراضي.”
وبالفعل، تقوم النّشرة بتفصيل جميع إنجازات كيرن كييمت حتّى ذلك الوقت في كلّ ما يخصّ هذه المقاصد السّتة تحت عناوين مختلفة: تحسين الأرض، تجفيف المستنقعات، تموين الأمّة، إنشاء الطرق، غرس الأشجار، التعمير، المستعمرات، سلفيّات (قروض). وهي إنجازات تبدو غزيرة جدًا في عشرين عام، فكيف تمكّنت كيرن كييمت من القيام بها؟
الغاية من النّشرة
تكشف هذه النشرة عن التفاصيل التي اعتمدت عليها كيرن كييمت بجمع أموال اليهود. إذ من خلال بناء تكتيكات معتمدة وواسعة الانتشار وشديدة التّنظيم والدّقة، وبالاعتماد على العاطفة الدّينيّة والقوميّة في خطابها، قامت المنظّمة بحشد كل يهودي لخدمتها كأنّه متطوّع فيها. وتعتبر النّشرات من هذا النّوع إحدى وسائل تحقيق هذه الغاية، إذ تقوم النشرة بعرض إنجازات الصّندوق والاستفاضة حول أهمّيتها، ومن ثمّ تعرض قائمة من الواجبات الّتي على كل يهودي جيّد القيام بها لدعم هذا الصّندوق: “إنّ الإسرائيلي الغيور يحترم كيرن كييمت لأنها توجد الأموال العقاريّة للأمّة، تلك الأموال الّتي لا يهدّدها فناء أو ضياع، إنّ الإسرائيلي المستمسك بأصول دينه يجد فيها انها تعمل أكبر متسفات توراتينو هكدوشا (اكبر فروض توراتنا المقدسة)”.
تفصّل النّشرة للقراء كيفيّة المساهمة لهذا الفرض الدّيني والقومي من خلال أساليب محدّدة تحت عنوان “واجبات كل يهودي لكيرن كييمت ليسرائيل”، وهي أطر قام القائمون على الصّندوق بابتكارها خصيصا ومنها “الحصالة الزرقاء” الشهيرة التي انتشرت في كل بيت، والّتي تؤكّد النّشرة على حضور مندوب كيرن كييمت كلّ ثلاثة أشهر أو كلّ ستة أشهر على الأكثر لكل مدينة وقرية لتفريغها، وإذا لم يحضر في ميعاده أو امتلأت الحصّالة قبل ذلك فيمكن مخابرته. وهناك الكتاب الذّهبي الّذي يتم به تكريم من يقدّم خدمات كبيرة ومشرّفة للصندوق، فمن يريد أن يكتب اسمه في كتاب الذّهب مثلًا يكلّفه ذلك 20 ليرة إنجليزيّة أو مئة دولار، أمّا شراء دونم الأرض فيكلّف 5 ليرات إنجليزيّة أو 20 دولار، أما غرس بستان فيه مائة شجرة فيكلف 6 شلن.
تذكّر النشرة جمهور القرّاء بأن تكون مساعدة كيرن كييمت عادة من عادات إحياء المناسبات العائليّة والاجتماعيّة السّعيدة منها أو الحزينة، وتعد بشهادة جميلة سيحصل عليها كلّ من يصل لتقييد اسمه في الكتاب الذّهبي، وكل من يساعد في غرس الأشجار.
للختام، من خلال التعرّف على رؤية كيرن كييمت ووظيفتها وطريقة تسويقها لنفسها في هذه النّشرة، نرى أنّها استخدمت المحورين الدّيني والقومي لاجتذاب اهتمام اليهود، وفي هذه النّشرة تحديدًا، نرى اهتمامًا واضحًا بالمسائل الّتي تهمّ جمهور الهدف من اليهود الّذين يتحدّثون العربيّة ويقرأونها، فنرى النّشرة تتطرّق إلى يهود اليمن دونًا عن غيرهم مثلًا، وتذكر الخدمات الّتي قدّمتها كيرن كييمت للمهاجرين من البلاد العربيّة.
تُظهر هذه النّشرة مدى اهتمام المنظّمة بدقّة المعلومات الّتي تقدّمها وبملائمة خطابها لجمهور الهدف، وتظهر تفاصيل الحالة الاجتماعيّة الّتي ساهمت المنظّمة في بنائها وتغذّت عليها.