تأسس صندوق “كاكال” وهو الصّندوق القومي اليهودي عام 1905، وكان الهدف الأساسي منه في البداية هو جمع الأموال وشراء الأراضي باسم الشّعب اليهودي في فلسطين العثمانيّة، ولذلك كان هذا الصّندوق من أهمّ الأذرع التّنفيذيّة للحركة الصّهيونيّة منذ نشأته وإلى اليوم.
تُعرف منظّمة كيرن كييمت (كاكال) اليوم بالعربيّة تحت مسمّى “الصّندوق القومي اليهودي”، إلّا أنّ إحدى الترجمات المبكّرة وربّما الأولى من نوعها لاسم المنظّمة للعربيّة هو “رأس المال الدائم للأمّة الإسرائيليّة”. لاحقًا عُرفت تسميات أخرى كـ “المال الدّائم لإسرائيل” وكذلك “الصندوق الدائم لإسرائيل”. سنأخذكم من خلال معاينة نشرة مطبوعة موجودة في مجموعة النّوادر في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة في رحلة للتّعرف على نشأة هذه المنظّمة التّي بلغ عمرها اليوم أكثر من 120 عام. وللمرّة الأولى، سيكون هذا التّعارف مباشر وبدون أي وسيط، إذ نطقت المنظّمة الصّهيونيّة في هذه النّشرة باللغة العربيّة-اليهوديّة، وهي لغة عربيّة فصيحة لكنها تكتب بحروف عبريّة.
منشورات كاكال الدّعائيّة
قامت كيرن كييمت باستخدام جميع الوسائل الإعلاميّة من أجل الانتشار وبثّ الدّعاية في عقودها الأولى، واستخذمت تكتيكات عديدة منها المنشورات والتّصميمات الإبداعيّة والحصّالة الزّرقاء الّتي حملت اسم الصّندوق وانتشرت في جميع أنحاء وجود اليهود في العالم والطّوابع البريديّة وغيرها. هدفت هذه الحملة بالأساس لجمع التّبرّعات للصندوق من أجل شراء الأراضي، لكنّها استهدفت كذلك الوعي القومي الجمعي وتعزيز الانتماء للصّهيونيّة والاهتمام بضمان الأرض، الركيزة الأساسيّة لبناء الوطن. ولذلك، نشرت كاكال ملصقاتها ودوريّاتها في لغات عديدة لمخاطبة المجتمعات اليهوديّة المتفرّقة بلغاتهم المحلّية. توجد في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة منشورات لكاكال بأكثر من 25 لغة. منها العبريّة والإنكليزيّة والألمانيّة والفرنسيّة والعربيّة-اليهوديّة وحتّى بالفارسيّة-اليهوديّة. وهذا يدلّ على مدى قوّة انتشار الصّندوق وقدرته للوصول إلى مختلف المجتمعات اليهوديّة حول العالم.
في هذا السّياق الدّعائي والحماسة من العقود الأولى لعمل الصّندوق من أجل الوصول إلى مختلف يهود العالم، نجد نشرة مميّزة من مجموعة النّوادر في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة بعنوان “كيرن كييمت ليسرائيل: الرأس المال الدائم للأمّة الإسرائيليّة”. تأخذنا هذه النّشرة إلى مطبعة الصّحافي اليهودي نيسيم مالول في القدس عام 1924 حيث طبعت معظم المنشورات والنّشرات الّتي عني بها اليهود من قراء العربيّة-اليهوديّة في البلاد. تعرّفنا هذه النشرة في 17 صفحة على خطاب المنظّمة وإنجازاتها في ذلك الوقت من جهة، وعلى العربيّة-اليهوديّة الدّارجة حينها من جهة ثانية، وعلى طريقة وأسلوب كاكال باجتذاب اليهود ذوي الأصول العربيّة من جهة ثالثة، ممّا يجعل هذه النّشرة مميّزة على عدّة أصعدة.
تظهر على الصّفحة الأولى من النّشرة صورة هيرمان شابيرا المبادر لإنشاء الصّندوق القومي اليهودي الّذي تأسس رسميًا عام 1905، وتعرّف عنه بأنّه “صاحب مشروع كيرن كييمت ليسرائيل”. ومن ثمّ تستهلّ النّشرة الحديث عن المشروع من خلال مقدّمة حول أهمّية الأرض لكلّ شعب. إذ تقول “إنّ الأرض هي الدعامة الأساسية لحياة كل شعب من الشعوب. وخصوصا شعبنا الوحيد في جميع أنحاء العالم. ولذلك فمن كان أمر أرض إسرائيل يهمّه، فهو يتشوّق لمعرفة مساحة الأرض الّتي ملكها الشعب الإسرائيلي في هذه البلاد، وخصوصا كيرن كييمت ليسرائيل، وهي من أكبر الدوائر الإسرائيليّة صاحبة الأراضي بعد البارون روتشيلد”، وهنا نرى أنّ النّشرة كتبت خصيصًا لجمهور هدف محدّد، جمهور يعرف من هو البارون روتشيلد، وهم اليهود من قرّاء العربيّة اليهوديّة في البلاد في ذلك الوقت.
سياسة كاكال العقاريّة
إذًا فمن المقدّمة نفهم أنّ الهدف الأساسي من النّشرة هو التّعريف بمساحة الأراضي الّتي ملكتها كيرن كييمت حتّى عام طباعتها وهو العام 1924. ولذلك، فهي من الشّواهد الأساسيّة على حيثيّات المهمّة الأولى في تاريخ هذا الصّندوق، وهي شراء الأراضي وكلّ ما يدور حول هذه المهمة من إمكانيّات دعم وتعزيز الاستيطان اليهودي.
إذ تخبرنا النّشرة عن مواقع ومساحات الأراضي الّتي ملكتها المنظّمة في ذلك الوقت “هذا الّذي تمّ حتّى الآن ما هو إلّا ابتداء فقط، لأنّ مساحة الأرض الّتي تحت الانتداب الإنجليزي هي 195،00،000 دونم. (تضمّ هذه المساحة الأردن اليوم) أمّا الّتي يملكها اليهود وخصوصا اراضي كيرن كييمت فتبلغ 800،000 دونم، يعني 4 في المئة من مجموع مساحة الانتداب الإنجليزي” وفي موضع آخر تحت عنوان “الموقع الجغرافي” تحدّد النّشرة مواقع هذه الاأراضي فتقول “أراضي كيرن كييمت تمتدّ في جميع أرض إسرائيل في البلاد وفي الكفاريم (القرى)، وأهم مراكزها موجودة في مرج ابن عامر “عيمك يزراعيل” هذا المرج المشهور منذ القدم بخصبه وببركته وبجودة أرضه، في يد كيرن كييمت منه نحو 110،000 دونم تمتد من حيفا إلى سهل الياردين (الاردن) عيمك يزراعيل كان منذ القدم مفترق الطرق المهمة عند شعوب غرب آسيا وشعوب شمال أفريقيا: ومما يستحق الذكر هنا أن نقطة المواصلات هذه موجودة اليوم في يد كيرن كييمت وفيها كثير من المستعمرات اليهودية الجديدة، التي ننتظر أن يكون لها مستقبل حسن جدًا”.
تقول لنا النّشرة عن أهداف كيرن كييمت الواضحة في ذلك الوقت التّالي: “إنّ المقصد الأصلي للسياسة العقاريّة الصهيونيّة هو نقل الأراضي الّتي يعمر فيها العمران الإسرائيلي إلى ملكيّة الشعب اليهودي…مقاصد كيرن كييمت هي: 1. امتلاك الأراضي في أرض إسرائيل بما يتبرّع به الشعب لتكون ملك للشعب. 2. تحكير (احتكار) الأراضي للاستغلال والبناء بصورة وراثية من الأب إلى الإبن إلى ولده. 3. مساعدة الذي يشتغل بنفسه في تلك الأراضي وليس له مال ليكون من أصحاب العقار. 4. تأمين وضمان الشّغل لليهود.5. ملاحظة كيفيّة خدمة الأرض. 6. منع المضاربات في تمن الأراضي.”
وبالفعل، تقوم النّشرة بتفصيل جميع إنجازات كيرن كييمت حتّى ذلك الوقت في كلّ ما يخصّ هذه المقاصد السّتة تحت عناوين مختلفة: تحسين الأرض، تجفيف المستنقعات، تموين الأمّة، إنشاء الطرق، غرس الأشجار، التعمير، المستعمرات، سلفيّات (قروض). وهي إنجازات تبدو غزيرة جدًا في عشرين عام، فكيف تمكّنت كيرن كييمت من القيام بها؟
الغاية من النّشرة
تكشف هذه النشرة عن التفاصيل التي اعتمدت عليها كيرن كييمت بجمع أموال اليهود. إذ من خلال بناء تكتيكات معتمدة وواسعة الانتشار وشديدة التّنظيم والدّقة، وبالاعتماد على العاطفة الدّينيّة والقوميّة في خطابها، قامت المنظّمة بحشد كل يهودي لخدمتها كأنّه متطوّع فيها. وتعتبر النّشرات من هذا النّوع إحدى وسائل تحقيق هذه الغاية، إذ تقوم النشرة بعرض إنجازات الصّندوق والاستفاضة حول أهمّيتها، ومن ثمّ تعرض قائمة من الواجبات الّتي على كل يهودي جيّد القيام بها لدعم هذا الصّندوق: “إنّ الإسرائيلي الغيور يحترم كيرن كييمت لأنها توجد الأموال العقاريّة للأمّة، تلك الأموال الّتي لا يهدّدها فناء أو ضياع، إنّ الإسرائيلي المستمسك بأصول دينه يجد فيها انها تعمل أكبر متسفات توراتينو هكدوشا (اكبر فروض توراتنا المقدسة)”.
تفصّل النّشرة للقراء كيفيّة المساهمة لهذا الفرض الدّيني والقومي من خلال أساليب محدّدة تحت عنوان “واجبات كل يهودي لكيرن كييمت ليسرائيل”، وهي أطر قام القائمون على الصّندوق بابتكارها خصيصا ومنها “الحصالة الزرقاء” الشهيرة التي انتشرت في كل بيت، والّتي تؤكّد النّشرة على حضور مندوب كيرن كييمت كلّ ثلاثة أشهر أو كلّ ستة أشهر على الأكثر لكل مدينة وقرية لتفريغها، وإذا لم يحضر في ميعاده أو امتلأت الحصّالة قبل ذلك فيمكن مخابرته. وهناك الكتاب الذّهبي الّذي يتم به تكريم من يقدّم خدمات كبيرة ومشرّفة للصندوق، فمن يريد أن يكتب اسمه في كتاب الذّهب مثلًا يكلّفه ذلك 20 ليرة إنجليزيّة أو مئة دولار، أمّا شراء دونم الأرض فيكلّف 5 ليرات إنجليزيّة أو 20 دولار، أما غرس بستان فيه مائة شجرة فيكلف 6 شلن.
تذكّر النشرة جمهور القرّاء بأن تكون مساعدة كيرن كييمت عادة من عادات إحياء المناسبات العائليّة والاجتماعيّة السّعيدة منها أو الحزينة، وتعد بشهادة جميلة سيحصل عليها كلّ من يصل لتقييد اسمه في الكتاب الذّهبي، وكل من يساعد في غرس الأشجار.
للختام، من خلال التعرّف على رؤية كيرن كييمت ووظيفتها وطريقة تسويقها لنفسها في هذه النّشرة، نرى أنّها استخدمت المحورين الدّيني والقومي لاجتذاب اهتمام اليهود، وفي هذه النّشرة تحديدًا، نرى اهتمامًا واضحًا بالمسائل الّتي تهمّ جمهور الهدف من اليهود الّذين يتحدّثون العربيّة ويقرأونها، فنرى النّشرة تتطرّق إلى يهود اليمن دونًا عن غيرهم مثلًا، وتذكر الخدمات الّتي قدّمتها كيرن كييمت للمهاجرين من البلاد العربيّة.
تُظهر هذه النّشرة مدى اهتمام المنظّمة بدقّة المعلومات الّتي تقدّمها وبملائمة خطابها لجمهور الهدف، وتظهر تفاصيل الحالة الاجتماعيّة الّتي ساهمت المنظّمة في بنائها وتغذّت عليها.