من نَعَتّم بالـ “شلوحيين”؟

يستخدم العديد من الناس الكلمة الازدرائية "شلوح" لوصف شخص مُهمل ورَث الهيئة. هي كلمة ازدرائية نَعت بها سكان المدن الكبرى في المغرب أهالي القرى؟

أبناء قبيلة محلية في جبال الأطلس، 1955

أبناء قبيلة محلية في جبال الأطلس، 1955

بقلم: حن ملول

تبلورت فكرة المقالة قبل عدة سنوات، عندما سألت جدتي عن عدد اللغات التي تجيدها. يصعب تحديد ذلك، لأنّها تجيد عدة لهجات عربية (إلى جانب الفرنسية والإسبانية)، ولكنّها صبّت جل اهتمامها في إحدى اللغات: الشلحية، أو كما سميت بالأصل، تشلحيت. أخبرتني جدتي لديسيا بأنّها تعلمت هذه اللغة لتتواصل مع حماتها، التي لم تكن تتحدث سوى التشلحيت.  اقترن اسم اللغة مباشرة في ذهني بالكلمة الازدرائية الشائعة في البلاد “شلوح”- أي الشخص المُهمل ورث الهيئة.

تناولت إحدى مقالاتنا السابقة  اللقب المهين والمضلل الذي نُعت به سكان مدينة تشيلم في بولندا، ونتناول في هذه المقالة الشلوحيين. أولًا، إن لم تعرفوا من قبل مصدر المصطلح “شلوح”، إنّها كلمة ازدرائية تعود أصولها إلى المغرب، وعلى غرار “التشيلميم” مواليد بولندا أو “الحورانيين” مواليد سوريا، فإنّ كلمة “شلوح” هو لقب مهين نُسب لمجتمع كامل.

يهود من منطقة جبال الأطلس في مطلع القرن الـ 20. المصدر Jewish Encyclopedia
يهود من منطقة جبال الأطلس في مطلع القرن الـ 20. 

 

على غرار اللغة العربية متعددة اللهجات المحلية، فإنّ لغة الشلوحيين، تشلحيت، هي واحدة من اللغات الأمازيغية المحكية الثلاث متعددة اللهجات في المغرب. اللغتان الأخريان هما التمازيغت- الأمازيغية المعيارية ولهجة الريف.

يعيش الشلوحيون، موضوع هذه المقالة، في جنوب غرب المغرب، في نحو ألف قرية تربطها علاقة تجارية. قطنت هذه المنطقة أكبر جالية يهودية من يهود المغرب الذين جاوروا الأمازيغ.

الشهادات الأولى على الحياة المشتركة بين اليهود والأمازيغ في المغرب تعود إلى القرن الثالث للميلاد، ولكن التقاليد الشفوية ليهود جنوب المغرب تفيد بحضور اليهود إلى المنطقة في فترة الهيكل الأول، أي في القرن الـ 11 قبل الميلاد. إنّها على ما يبدو محاولة لدحض النظرية بأنّ يهود المنطقة هم من أصول أمازيغية وأنّهم اعتنقوا اليهودية في القرون الأولى بعد الميلاد. ينفي يهود المغرب الادعاء بأنّهم في الأصل أمازيغ اعتنقوا اليهودية-بل يعتبرون أنفسهم نسل جنود الملك داود وقائدهم وزير الجيش يوآف بن تسرويا، والذين لاحقوا الفلستيين حتى شمال أفريقيا.

بسبب القرب الجغرافي بين اليهود والشلوحيين- تطورت علاقات وثيقة وودية بين المجموعات السكانية المختلفة. ليس صدفة إذًا أن يتبنى يهود المنطقة لهجة التشلحيت وأن يتحدثوها. ما زال اليهود الذين سكنوا في هذه المجتمعات المحلية يقتبسون ويذكرون العديد من أمثال وأغاني وعادات جيرانهم الأمازيغ. الغالبية العظمى من هؤلاء اليهود قدموا إلى إسرائيل في الهجرة الكبرى في مطلع الخمسينات، قبل استقلال المغرب.

اعتاش الشلوحيون، ومعظمهم قرويون، على الزراعة. أما اليهود، فقد كانوا من أهل الذمة، وبالتالي، لم يكن يسمح لهم بحيازة أملاك. لذلك، كانوا بالأساس تجارًا اعتادوا التنقل في مجموعات صغيرة بين قراهم والقرى المجاورة لبيع بضائعهم وتقديم خدماتهم.  موّل البعض منهم المبادرات الزراعية لجيرانهم الأمازيغ بواسطة شراء البذور من أجلهم. وفي موسم الحصاد، كان المستثمرون اليهود يحصلون على ثلاثة أرباع المحصول الزراعي.

على مدار أكثر من أربعة عقود، التقى بروفسور يوسف شطريت بأشخاص يهود وأمازيغ جاوروا بعضهم بعضًا. في مقالته حول القرب والتباعد بين هذين المجتمعين، يشير إلى أنّه حتى بعد مرور عدة عقود، ما زال الجيران الشلوحيون يذكرون بعض العبارات العبرية، ابتداءً من “بروطيم” (مال) وحتى مشروب الحياة- الكلمة اليهودية-المغربية لمشروب العرق. خلال الفترة الطويلة التي عاشوا فيها جنبًا إلى جنب، عُرف اليهود كتجار أذكياء ومحنكين، وخُلّدوا في العديد من الأمثال الأمازيغية، مثل: اليهود في السوق كالملح في العجين.

سوق في المغرب، من مجموعات بيتمونا 
سوق في المغرب، من مجموعات بيتمونا

 

امرأة شلوحية من جنوب المغرب
امرأة شلوحية من جنوب المغرب

 

لم يتشارك اليهود وجيرانهم الشلوحيون مصادر المعيشة فحسب. فقد انضم الأمازيغ إلى يهود المنطقة في زياراتهم إلى قبور القديسين اليهود في مواسم الحجيج (الهيلولاه)؛ وكانوا يبيعون العجول والأغنام للمشاركين في مواسم الحجيج، بالإضافة إلى الفواكه والخضار. كان المعالجون اليهود يحظون بزيارات جيرانهم الشلوحيين في أوقات متقاربة، وقد استخدموا تمائمهم وعصائرهم بدون أي خوف.

في الأفراح أيضًا، كما في الأحزان، كان لليهود والشلوحيين عادات مشتركة، بل وتعاونوا أيضًا في أداء الرقصات والأغاني في المناسبات العامة. مع أنّ اليهود امتنعوا عن المشاركة في عادات أمازيغية متعلقة بالعقيدة الإسلامية، إلا أنّ كلّ من المجموعتين كانت تعرف جيدًا تقويم المجموعة الأخرى. إلى جانب تهنئة الجيران بالأعياد أو التمني لهم بصيام سهل، فإنّ أعياد ومناسبات هذين المجتمعين شكلت فرصة اقتصادية ذهبية: كان الشلوحيون يبيعون محاصيلهم الزراعية لليهود قبل دخول السبت وعشية الأعياد، ومن ضمنها القَصَب لبناء العرائش، بينما كانت النساء اليهوديات يُحكن ملابس جديدة لمناسبة الأعياد الإسلامية.

برز التعاون بين اليهود والمسلمين بشكل خاص قبل احتفال الميمونة. خلال العيد، كان اليهود يقدمون هدية لمعارفهم المسلمين، وقد شملت: مصّة، فطيرة وأحيانًا يخنة اللحم، بالمقابل، كان المسلمون يقدّمون لليهود الحليب، العسل، البيض والطحين، أي مستلزمات الميمونة.

 

صورة لشابة يهودية من جبال الأطلس على غلاف صحيفة "لافنير إيلوستريه" بعنوان: "دراستنا عن أحياء الملاح"، 19 آذار 1931. لقراءة المقالة، انقروا على الصورة
صورة لشابة يهودية من جبال الأطلس على غلاف صحيفة “لافنير إيلوستريه” بعنوان: “دراستنا عن أحياء الملاح”، 19 آذار 1931.

 

كيف إذًا ارتبط اسم “الشلوحيين”، هذه المجموعة المتنوعة والنشطة، بكلمة ازدرائية تعني شخص مهمل وغير جدير بالثقة؟ القادمون من المغرب هم من جلبوا هذا اللقب المهين، والذي يسيء للمسلمين ولليهود القرويين.

في سنة 1931، نشرت الصحيفة اليهودية الناطقة بالفرنسية “لافنير إيلوستريه” (L’Avenir illustré)، بالعبرية: المستقبل المصور، مقالة لتشارلز أبي حصيرة من مدينة الرباط في ملحق “إسرائيل الشابة”-  Jeune Israël . يكتب أبي حصيرة عن المهاجرين اليهود القرويين الذين ملأوا مدينته وينعت أحدهم بـ “شلوح”. الشخص الموصوف بهذا اللقب المهين في مقالة أبي حصيرة هو مسن يهودي يعتاش على التبرعات وبفضل السياح الذين يدفعون له مبلغًا بسيطًا ليلتقط لهم الصور. الشيء الثاني الذي يزعج “أبي حصيرة” هو حقيقة أنّ “الشلوح” كان يتسول أيام السبت، ويخرق قوانين الديانة اليهودية.

أبي حصيرة، الممثل الشاب ليهود المغرب الغربيين، يميّز نفسه عن هذا “الشلوح”، الذي يصوّره كشخص قذر وسلبي، لا يجيد العربية أو الفرنسية، بل الأمازيغية فقط. فهو يفعل ذلك بالفرنسية، في ملحق “إسرائيل الشابة” الذي كان يقرأه الفتيان والفتيات اليهود في المغرب الذين تعلموا الفرنسية في مدارس الإليانس، أجادوا اللغة الفرنسية وكانوا أكثر ارتباطًا بالقيم الغربية الأوروبية من القيم التقليدية في المغرب.

لم يبتكر أبي حصيرة لقب “شلوح” لنعت القرويين بالطبع، ولكنه استخدمه ليميز نفسه ومجتمعه عن المهاجرين من المناطق القروية. تجدر الإشارة إلى أنّ الاسم “بربر” يوحي بالسلبية، وأنّه اسم غريب عن البربر أنفسهم الذين يسمّون أنفسهم “أمازيغ” وتعني الإنسان الحر. يعود الاسم “بربر” إلى الكلمة الازدرائية الذي استخدمها اليونانيون القدماء لكل من لم يتكلم اليونانية (بحيث يعود الاسم بربر الذي نعرفه إلىβάρβαρος,.

 

"السواح في حي الملاح في الرباط"، لقراءة المقالة، انقروا على الصورة
“السواح في حي الملاح في الرباط”

على الرغم من محاولة الشاب أبي حصيرة والكثيرين غيره من اليهود أبناء المدن المغربية التميز عن اليهود الناطقين بالأمازيغية، تجدر الإشارة إلى أنّه قبيل مغادرة اليهود للمغرب، كان نصف سكان الدولة (المسلمين واليهود) يتحدثون الأمازيغية كلغتهم الأولى أو الثانية. بعد استقلال المغرب والتعليم الرسمي الذي اتبع فيها، انخفض هذا العدد إلى 30 بالمئة. تحدث معظم اليهود الناطقين بالأمازيغية بلهجة تشلحيت، وبالنسبة للبعض منهم (في منطقة تفنوت مثلًا، في أعالي سهل سوس)، كانت التشلحيت لغتهم الأم، على الأقل حتى الاحتلال الفرنسي للبلاد. بفضل الحماية الفرنسية على المغرب، والتي أنشأت شبكة طرق ربطت يهود القرى بالمدن الكبرى، تبلورت حركة هجرة من القرى. نشأ عن اللقاء بين أهالي المدن وأهالي القرى هذا اللقب المهين.

علاقة الجوار المركبة بين اليهود وجيرانهم الشلوحيين هي جزء لا يتجزأ من قصة القادمين من المغرب، وهو بالطبع جزء مهم من تاريخ المغرب. لم تسكن هاتان المجموعتان بجوار بعضهما بعضًا على مدار مئات وربما آلاف السنين فحسب، بل تشاركتا أيضًا عقائد وعادات، مثل تمجيد القديسين، الطب الشعبي ومخزون كامل من الأغاني الأمازيغية، الرقصات الشعبية والحِكم والأمثال. لذلك، فإنّ ازدراء الثقافة الشلوحية وإلغاءها- والذي بدأ في المغرب- يعتبر إساءة لجزء كبير من ثقافة يهود شمال أفريقيا.

في الوقت الحالي، وعلى الرغم من العلاقات المركبة والحساسة بين المجموعات المختلفة، فإنّ اليهود والأمازيغ يستذكرون ماضيهم المشترك بحنين. مغادرة اليهود للمغرب تركت أثرًا سلبيًا لسنوات طويلة على الاقتصادي القروي للأمازيغ والشلوحيين. قبل توطيد العلاقات الرسمية وغير الرسمية بين إسرائيل والمغرب، تعزز الحنين إلى هذه الشراكة، وانعكس ذلك في إضفاء المثالية على واقع اليهود في قراهم وبلداتهم الأصلية في المغرب. الآن، في أعقاب تسهيل السفر إلى المغرب، فإنّ الإسرائيليين المنحدرين من أصول مغربية يستطيعون معاودة زيارة هذه القرى وإعادة بناء العلاقات التي نُسجت بين آبائهم والأمازيغ على مدار عدة أجيال.

 

نتقدم بجزيل الشكر لبروفسور يوسف شطريت ود. دافيد غادج على مساهمتهما في كتابة المقالة.

 

لمزيد من المراجع

Joseph Yossi Chetrit, Intimacy, Cooperation and Ambivalence: Social, Economic and Cultural Interaction between Jews and Berbes in Morocco, European Judaism, Volume 52, No. 2, 2019: pp. 18-30

Joseph Yossi Chetrit, ” Judeo-Berber in Morocco” in: Languages in Jewish Communities, Past and Present, Edited by Benjamin Hary & Sarah Bunin Benor (De Gruyter, 2018)

David Guedj, “Jeune Israel”: Multiple Modernities of Jewish Childhood and Youth in Morocco in the First Half of the Twentieth Century, Jewish Quarterly Review, Volume 112, Number 2, 2022, pp. 316-343

דוד גדג’, דיוקנאות, ארץ־ישראל והקהילות היהודיות במרוקו: המסרים החזותיים בעיתון L’Avenir Illustré, מרכז יד בן-צבי

 

تعرّفوا على كاكال، أو بالعربيّة، “رأس المال الدائم للأمة الإسرائيليّة”

"إنّ الأرض هي الدعامة الأساسية لحياة كل شعب من الشعوب. وخصوصا شعبنا الوحيد في جميع أنحاء العالم. وإنّ الإسرائيلي الغيور يحترم كيرن كييمت لأنها توجد الأموال العقاريّة للأمّة، تلك الأموال الّتي لا يهدّدها فناء أو ضياع" تعرّفوا على إنجازات كيرن كييمت ودعايتها العربيّة-اليهوديّة عام 1924.

طفلة تتبرّع للعلبة الزّرقاء في روضة الأطفال العبريّة في كازابلانكا، المغرب، 1954-1956، ارشيف ياد بن تسفي

طفلة تتبرّع للعلبة الزّرقاء في روضة الأطفال العبريّة في كازابلانكا، المغرب، 1954-1956، ارشيف ياد بن تسفي

تأسس صندوق “كاكال” وهو الصّندوق القومي اليهودي عام 1905، وكان الهدف الأساسي منه في البداية هو جمع الأموال وشراء الأراضي باسم الشّعب اليهودي في فلسطين العثمانيّة، ولذلك كان هذا الصّندوق من أهمّ الأذرع التّنفيذيّة للحركة الصّهيونيّة منذ نشأته وإلى اليوم.

تُعرف منظّمة كيرن كييمت (كاكال) اليوم بالعربيّة تحت مسمّى “الصّندوق القومي اليهودي”، إلّا أنّ إحدى الترجمات المبكّرة وربّما الأولى من نوعها لاسم المنظّمة للعربيّة هو “رأس المال الدائم للأمّة الإسرائيليّة”. لاحقًا عُرفت تسميات أخرى كـ “المال الدّائم لإسرائيل” وكذلك “الصندوق الدائم لإسرائيل”. سنأخذكم من خلال معاينة نشرة مطبوعة موجودة في مجموعة النّوادر في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة في رحلة للتّعرف على نشأة هذه المنظّمة التّي بلغ عمرها اليوم أكثر من 120 عام. وللمرّة الأولى، سيكون هذا التّعارف مباشر وبدون أي وسيط، إذ نطقت المنظّمة الصّهيونيّة في هذه النّشرة باللغة العربيّة-اليهوديّة، وهي لغة عربيّة فصيحة لكنها تكتب بحروف عبريّة.

إحدى التّسميات المبكّرة للصندوق: الصندوق القومي اليهودي – صندوق فلسطين
إحدى التّسميات المبكّرة للصندوق: الصندوق القومي اليهودي – صندوق فلسطين


منشورات كاكال الدّعائيّة

قامت كيرن كييمت باستخدام جميع الوسائل الإعلاميّة من أجل الانتشار وبثّ الدّعاية في عقودها الأولى، واستخذمت تكتيكات عديدة منها المنشورات والتّصميمات الإبداعيّة والحصّالة الزّرقاء الّتي حملت اسم الصّندوق وانتشرت في جميع أنحاء وجود اليهود في العالم والطّوابع البريديّة وغيرها. هدفت هذه الحملة بالأساس لجمع التّبرّعات للصندوق من أجل شراء الأراضي، لكنّها استهدفت كذلك الوعي القومي الجمعي وتعزيز الانتماء للصّهيونيّة والاهتمام بضمان الأرض، الركيزة الأساسيّة لبناء الوطن. ولذلك، نشرت كاكال ملصقاتها ودوريّاتها في لغات عديدة لمخاطبة المجتمعات اليهوديّة المتفرّقة بلغاتهم المحلّية. توجد في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة منشورات لكاكال بأكثر من 25 لغة. منها العبريّة والإنكليزيّة والألمانيّة والفرنسيّة والعربيّة-اليهوديّة وحتّى بالفارسيّة-اليهوديّة. وهذا يدلّ على مدى قوّة انتشار الصّندوق وقدرته للوصول إلى مختلف المجتمعات اليهوديّة حول العالم.

منشور كاكال بالألمانية - ثلاثون عامًا بالعمل في ومن أجل فلسطين
منشور كاكال بالألمانية – ثلاثون عامًا بالعمل في ومن أجل فلسطين

 

في هذا السّياق الدّعائي والحماسة من العقود الأولى لعمل الصّندوق من أجل الوصول إلى مختلف يهود العالم، نجد نشرة مميّزة من مجموعة النّوادر في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة بعنوان “كيرن كييمت ليسرائيل: الرأس المال الدائم للأمّة الإسرائيليّة”. تأخذنا هذه النّشرة إلى مطبعة الصّحافي اليهودي نيسيم مالول في القدس عام 1924 حيث طبعت معظم المنشورات والنّشرات الّتي عني بها اليهود من قراء العربيّة-اليهوديّة في البلاد. تعرّفنا هذه النشرة في 17 صفحة على خطاب المنظّمة وإنجازاتها في ذلك الوقت من جهة، وعلى العربيّة-اليهوديّة الدّارجة حينها من جهة ثانية، وعلى طريقة وأسلوب كاكال باجتذاب اليهود ذوي الأصول العربيّة من جهة ثالثة، ممّا يجعل هذه النّشرة مميّزة على عدّة أصعدة.

نشرة كيرن كييمت ليسرائيل: الرأس المال الدائم للأمّة الإسرائيليّة لنيسيم مالول
نشرة كيرن كييمت ليسرائيل: الرأس المال الدائم للأمّة الإسرائيليّة لنيسيم مالول

تظهر على الصّفحة الأولى من النّشرة صورة هيرمان شابيرا المبادر لإنشاء الصّندوق القومي اليهودي الّذي تأسس رسميًا عام 1905، وتعرّف عنه بأنّه “صاحب مشروع كيرن كييمت ليسرائيل”. ومن ثمّ تستهلّ النّشرة الحديث عن المشروع من خلال مقدّمة حول أهمّية الأرض لكلّ شعب. إذ تقول “إنّ الأرض هي الدعامة الأساسية لحياة كل شعب من الشعوب. وخصوصا شعبنا الوحيد في جميع أنحاء العالم. ولذلك فمن كان أمر أرض إسرائيل يهمّه، فهو يتشوّق لمعرفة مساحة الأرض الّتي ملكها الشعب الإسرائيلي في هذه البلاد، وخصوصا كيرن كييمت ليسرائيل، وهي من أكبر الدوائر الإسرائيليّة صاحبة الأراضي بعد البارون روتشيلد”، وهنا نرى أنّ النّشرة كتبت خصيصًا لجمهور هدف محدّد، جمهور يعرف من هو البارون روتشيلد، وهم اليهود من قرّاء العربيّة اليهوديّة في البلاد في ذلك الوقت.

من نشرة كيرن كييمت ليسرائيل: الرأس المال الدائم للأمّة الإسرائيليّة لنيسيم مالول
من نشرة كيرن كييمت ليسرائيل: الرأس المال الدائم للأمّة الإسرائيليّة لنيسيم مالول

سياسة كاكال العقاريّة

إذًا فمن المقدّمة نفهم أنّ الهدف الأساسي من النّشرة هو التّعريف بمساحة الأراضي الّتي ملكتها كيرن كييمت حتّى عام طباعتها وهو العام 1924. ولذلك، فهي من الشّواهد الأساسيّة على حيثيّات المهمّة الأولى في تاريخ هذا الصّندوق، وهي شراء الأراضي وكلّ ما يدور حول هذه المهمة من إمكانيّات دعم وتعزيز الاستيطان اليهودي.

إذ تخبرنا النّشرة عن مواقع ومساحات الأراضي الّتي ملكتها المنظّمة في ذلك الوقت “هذا الّذي تمّ حتّى الآن ما هو إلّا ابتداء فقط، لأنّ مساحة الأرض الّتي تحت الانتداب الإنجليزي هي 195،00،000 دونم. (تضمّ هذه المساحة الأردن اليوم) أمّا الّتي يملكها اليهود وخصوصا اراضي كيرن كييمت فتبلغ 800،000 دونم، يعني 4 في المئة من مجموع مساحة الانتداب الإنجليزي” وفي موضع آخر تحت عنوان “الموقع الجغرافي” تحدّد النّشرة مواقع هذه الاأراضي فتقول “أراضي كيرن كييمت تمتدّ في جميع أرض إسرائيل في البلاد وفي الكفاريم (القرى)، وأهم مراكزها موجودة في مرج ابن عامر “عيمك يزراعيل” هذا المرج المشهور منذ القدم بخصبه وببركته وبجودة أرضه، في يد كيرن كييمت منه نحو 110،000 دونم تمتد من حيفا إلى سهل الياردين (الاردن) عيمك يزراعيل كان منذ القدم مفترق الطرق المهمة عند شعوب غرب آسيا وشعوب شمال أفريقيا: ومما يستحق الذكر هنا أن نقطة المواصلات هذه موجودة اليوم في يد كيرن كييمت وفيها كثير من المستعمرات اليهودية الجديدة، التي ننتظر أن يكون لها مستقبل حسن جدًا”.

خارطة للأراضي التي ملكتها كاكال في منطقة مرج ابن عامر في سنوات الثلاثينيّات.
خارطة للأراضي التي ملكتها كاكال في منطقة مرج ابن عامر في سنوات الثلاثينيّات.

 

تقول لنا النّشرة عن أهداف كيرن كييمت الواضحة في ذلك الوقت التّالي: “إنّ المقصد الأصلي للسياسة العقاريّة الصهيونيّة هو نقل الأراضي الّتي يعمر فيها العمران الإسرائيلي إلى ملكيّة الشعب اليهودي…مقاصد كيرن كييمت هي: 1. امتلاك الأراضي في أرض إسرائيل بما يتبرّع به الشعب لتكون ملك للشعب. 2. تحكير (احتكار) الأراضي للاستغلال والبناء بصورة وراثية من الأب إلى الإبن إلى ولده. 3. مساعدة الذي يشتغل بنفسه في تلك الأراضي وليس له مال ليكون من أصحاب العقار. 4. تأمين وضمان الشّغل لليهود.5. ملاحظة كيفيّة خدمة الأرض. 6. منع المضاربات في تمن الأراضي.”

وبالفعل، تقوم النّشرة بتفصيل جميع إنجازات كيرن كييمت حتّى ذلك الوقت في كلّ ما يخصّ هذه المقاصد السّتة تحت عناوين مختلفة:  تحسين الأرض، تجفيف المستنقعات، تموين الأمّة، إنشاء الطرق، غرس الأشجار، التعمير، المستعمرات، سلفيّات (قروض). وهي إنجازات تبدو غزيرة جدًا في عشرين عام، فكيف تمكّنت كيرن كييمت من القيام بها؟


الغاية من النّشرة

تكشف هذه النشرة عن التفاصيل التي اعتمدت عليها كيرن كييمت بجمع أموال اليهود. إذ من خلال بناء تكتيكات معتمدة وواسعة الانتشار وشديدة التّنظيم والدّقة، وبالاعتماد على العاطفة الدّينيّة والقوميّة في خطابها، قامت المنظّمة بحشد كل يهودي لخدمتها كأنّه متطوّع فيها. وتعتبر النّشرات من هذا النّوع إحدى وسائل تحقيق هذه الغاية، إذ تقوم النشرة بعرض إنجازات الصّندوق والاستفاضة حول أهمّيتها، ومن ثمّ تعرض قائمة من الواجبات الّتي على كل يهودي جيّد القيام بها لدعم هذا الصّندوق: “إنّ الإسرائيلي الغيور يحترم كيرن كييمت لأنها توجد الأموال العقاريّة للأمّة، تلك الأموال الّتي لا يهدّدها فناء أو ضياع، إنّ الإسرائيلي المستمسك بأصول دينه يجد فيها انها تعمل أكبر متسفات توراتينو هكدوشا (اكبر فروض توراتنا المقدسة)”.

طفلة تتبرّع للعلبة الزّرقاء في روضة الأطفال العبريّة في كازابلانكا، المغرب، 1954-1956، ارشيف ياد بن تسفي
طفلة تتبرّع للعلبة الزّرقاء في روضة الأطفال العبريّة في كازابلانكا، المغرب، 1954-1956، ارشيف ياد بن تسفي

 

تفصّل النّشرة للقراء كيفيّة المساهمة لهذا الفرض الدّيني والقومي من خلال أساليب محدّدة تحت عنوان “واجبات كل يهودي لكيرن كييمت ليسرائيل”، وهي أطر قام القائمون على الصّندوق بابتكارها خصيصا ومنها “الحصالة الزرقاء” الشهيرة التي انتشرت في كل بيت، والّتي تؤكّد النّشرة على حضور مندوب كيرن كييمت كلّ ثلاثة أشهر أو كلّ ستة أشهر على الأكثر لكل مدينة وقرية لتفريغها، وإذا لم يحضر في ميعاده أو امتلأت الحصّالة قبل ذلك فيمكن مخابرته. وهناك الكتاب الذّهبي الّذي يتم به تكريم من يقدّم خدمات كبيرة ومشرّفة للصندوق، فمن يريد أن يكتب اسمه في كتاب الذّهب مثلًا يكلّفه ذلك 20 ليرة إنجليزيّة أو مئة دولار، أمّا شراء دونم الأرض فيكلّف 5 ليرات إنجليزيّة أو 20 دولار، أما غرس بستان فيه مائة شجرة فيكلف 6 شلن.

منشور لجمع التبرّع بالاشجار
منشور لجمع التبرّع بالاشجار

تذكّر النشرة جمهور القرّاء بأن تكون مساعدة كيرن كييمت عادة من عادات إحياء المناسبات العائليّة والاجتماعيّة السّعيدة منها أو الحزينة، وتعد بشهادة جميلة سيحصل عليها كلّ من يصل لتقييد اسمه في الكتاب الذّهبي، وكل من يساعد في غرس الأشجار.

منشور لجمع التبرعات للعلبة الزرقاء – لمن هذه الأموال؟ لفلسطين
 منشور لجمع التبرعات للعلبة الزرقاء – لمن هذه الأموال؟ لفلسطين

للختام، من خلال التعرّف على رؤية كيرن كييمت ووظيفتها وطريقة تسويقها لنفسها في هذه النّشرة، نرى أنّها استخدمت المحورين الدّيني والقومي لاجتذاب اهتمام اليهود، وفي هذه النّشرة تحديدًا، نرى اهتمامًا واضحًا بالمسائل الّتي تهمّ جمهور الهدف من اليهود الّذين يتحدّثون العربيّة ويقرأونها، فنرى النّشرة تتطرّق إلى يهود اليمن دونًا عن غيرهم مثلًا، وتذكر الخدمات الّتي قدّمتها كيرن كييمت للمهاجرين من البلاد العربيّة.

تُظهر هذه النّشرة مدى اهتمام المنظّمة بدقّة المعلومات الّتي تقدّمها وبملائمة خطابها لجمهور الهدف، وتظهر تفاصيل الحالة الاجتماعيّة الّتي ساهمت المنظّمة في بنائها وتغذّت عليها.

 

التّصوير السّياحي في مصر القرن التّاسع عشر والأخوان زانجاكي في بورسعيد

في منشور الأخوان زانجاكي الذي نتناوله في هذا المقال نرى ميّزات عديدة تعرّفنا على الذّوق الفنّي والاهتمام السّياحي بقناة السّويس في القرن التاسع عشر.

مدخل قناة السّويس ومقرّ الشركة العالمية لقناة السويس البحرية، تصوير الأخوان زانجاكي، مجموعة عائلة لينكن.

مدخل قناة السّويس ومقرّ الشركة العالمية لقناة السويس البحرية، تصوير الأخوان زانجاكي، مجموعة عائلة لينكن.

 من منا لم يسمع عن الاحتفال المهيب الذي أقامه الخديوي اسماعيل لافتتاح قناة السويس في السادس عشر من نوفمبر عام 1869؟ فبعد أكثر من عشر سنوات على مباشرة العمل على حفر القناة افتتحت الشركة العالمية لقناة السويس البحرية مشروعًا ضخمًا لم يشهد مثله البشر من قبل، وكان من اللائق أن يكون الاحتفال على درجة من الفخامة لا تقلّ عن فخامة المشروع. فكيف بثّت دعاية هذا الحفل وكيف روّج له؟

اقرأ/ي أيضًا: قناة السويس: استعادة الشرق هدية الغرب

تواجدت العائلات المصرية على ضفاف القناة على امتدادها ترحيبًا بالسفن الّتي عبرتها للمرة الأولى واحتفالًا بافتتاح القناة بإشارة من الحكومة المصريّة، وحضر إلى مدينة بور سعيد ألوف مؤلّفة من المصريين لمشاهدة الحفل، بالإضافة إلى آلاف الضيوف المدعويين من رؤساء دول وسياسيين وفنانين وشخصيات كبرى من حول العالم تمّت رعايتهم من قبل مئات الطهاة وآلاف الخدام واستقبلوا على سجاجيد فاخرة ومنصات خشبية مكسوة بالحرير والديباج والأعلام والمظلّات البهيّة. واشترك في هذا الحفل كلّ من علماء الدين المصريين وجيشها ورجال دولتها وأهلها.

رافق هذا الحفل المهيب مطبوعات ومنشورات مصممة خصيصًا ما زال الكشف عنها يعبّر عن الحالة الاجتماعية الفريدة والمتنوّعة في مصر في تلك الحقبة. من بين هذه المنشورات خارطة قام بتصميمها ونشرها الأخوان زانجاكي اليونانيان والمقيمان في بور سعيد في تلك الفترة.

خارطة قناة السويس البحرية"، القرن التاسع عشر، مجموعة عائلة لينكن.
خارطة قناة السويس البحرية”، القرن التاسع عشر، مجموعة عائلة لينكن.

 

ليس لدينا الكثير من المعلومات حول هذه الخارطة وتصميمها ولا نعرف في أي عام نُشرت بالضبط. لكن من تفاصيل هذا المنشور وبالمقارنة مع تصميمات شبيهة خرجت في تلك الفترة يمكننا التعرف على السياق العام الّذي أنتجت به. فمن هما الأخوان زانجاكي؟ وما المشاهد المحيطة للخريجة ومن الشخصيات التي تظهر عليها صورتهم؟

الاخوان زانجاكي مصوّران يونانيان يكتنفهما الغموض إذ ليس هناك معلومات مؤكّدة حول جذورهما أو حول أسماءهما حتّى. ولكن من المؤكّد أنهما عاشا في مصر العثمانية ما بين ستّينيّات وتسعينيّات القرن التّاسع عشر وخلّفا صورًا مذهلة عن مصر في تلك الفترة.

ارتبط اسمهما بالمصوّر الرّسمي لتوثيق العمل على قناة السويس الفرنسي إيبوليت أرنو صاحب “ألبوم قناة السويس” الّذي وثّق عشر سنين حفر القناة. ويبدو أن الإخوة زانجاكي كانا مساعدين أو مرافقين له في العل على هذا الألبوم إلى جانب عملهما الخاص، حيث كانا ينتجان الصّور التذكارية لبيعها لسيّاح مصر حيث امتلكا ستديو خاص في بور سعيد وآخر في القاهرة.

مدخل قناة السويس في بورسعيد، تصوير الأخوان زانجاكي، مجموعة عائلة لينكلن
مدخل قناة السويس في بورسعيد، تصوير الأخوان زانجاكي، مجموعة عائلة لينكن

 

مجرى مائي والعاملين حوله من ورشات العمل في قناة السويس، الاخوان زانجاكي، مجموعة عائلة لينكن
مجرى مائي والعاملين حوله من ورشات العمل في قناة السويس، الاخوان زانجاكي، مجموعة عائلة لينكن

 

خلال سنوات مكوثهما في مصر، قام الاخوان زانجاكي بتوثيق معالم مصر الشهيرة على امتداد النيل برفقة عربة حصان مزوّدة بغرفة مظلمة للتصوير، وقاما بتوثيق بعض المشاهد من قناة السويس وبتوثيق حياة المصريين اليوميّة وتقاليدهم وأعمالهم.

في الصّورة التي نتناولها عن قناة السويس نرى ميّزات عديدة: تتربّع خارطة القناة بشكل أفقي على مركز التصميم، يعلوها صور شخصيّة لمحمد علي باشا وولديه الّذين تمّ افتتاح العمل على قناة السّويس واختتامه في عهديهما الخديوي سعيد والخديوي اسماعيل. ثمّ على الهامشين العلوي والسّفلي نرى نوعين من الصّور، صور لمشاهد من قناة السّويس على امتدادها، على ما يبدو قام الأخوان بالتقاطها وإلّا لما كان من القانونيّ نشرها على تصميمهم الخاص، وصور لشخصيّات بعضها معروف وذات أهميّة في تاريخ إقامة القناة. ففي أعلى الصورة نرى على طرفيها من اليمين صورة السلطان العثماني عبد العزيز الأوّل (1830-1876) وعلى يسارها السياسي الفرنسي فرديناند ديلسبس  (1805-1894) صاحب فكرة القناة والمبادر الأوّل لها.

ليست هذه الخارطة بتصميمها الأولى من نوعها في تلك الفترة، فعلى سبيل المثال، في إحدى دعوات حفل الافتتاح المهيب والمحفوظة نسخة عنها لدى جمعية إحياء ذكري ديلسيبس وقناة السويس، تظهر خارطة لامتداد القناة وحولها صور شخصيّة لملوك ورؤساء دول العالمين الّذين سيحضرون الحفل.

وفي منشور آخر للمصوّر الفرنسي أرنو الّذي عملا معه الأخوان زانجاكي، تظهر خارطة لامتداد القناة بالعرض وحولها كذلك صور لمشاهد من مناطق مختلفة على ضفاف القناة وصور لشخصيات في تصميم يكاد يكون مطابق لخارطة الأخوان زانجاكي في مجموعة عائلة لينكن.

فعلى ما يبدو كان هذا التّصميم متداول في المنشورات والدّعوات المتعلّقة بالحفل أو حتّى المعروضة للبيع في التجارة السّياحيّة كنوع من التّعريف بالقناة وتبجيل القائمين عليها. ولكن ما يميّز تصميم الأخوان زانجاكي هو وجود شخصيات نسائيّة أكثر عدًدا من الشخصيات الرجالية من الرؤساء والسّياسيين، إلّا أن هويّة هؤلاء النّسوة وارتباطهنّ بقناة السويس يحتاج للمزيد من البحث والتّقصي.

ولكنّ الأرجح، أنّ النّساء السّبع المرفقة صورهنّ في التّصميم، بالإضافة إلى الرّجلين على الجانب السّفلي من التّصميم، هم أشخاص مغمورين ومحلّيين، قام الأخوة زانجاكي بتصويرهم خلال رحلتهم الشّهيرة على امتداد النّيل أو في الاستديو الخاص بهم، وقاموا بارفاق صورهم بألبستهم التّقليديّة والمتنوّعة إلى التّصميم كنوع من لفت الانتباه إلى ثقافة المنطقة الغريبة والأخّاذة بالنّسبة للسائحين الفرنسيين والبريطانييّن في ذلك الوقت. ومما يؤكّد على هذا الاحتمال هو عدم ورود أسماء لهم تحت صورهم مقارنة بصور الشّخصيات الهامّة والشّهيرة، بالإضافة إلى غلبة صور النّساء، وهو اهتمام شائع لدي المصّورين الأوروبيين في مصر وبلاد الشام في تلك الفترة. كما أنّ هذا التفسير يتماشى مع عرض التّصميم لصور مشاهد طبيعيّة من مصر، وكأنما التّصميم جاء ليحتفل بمشروع القناة وبمصر كلّها.

اقرأ/ي أيضًا: الحياة والأزياء التقليدية في مسيرة خليل رعد

 

من الجدير بالذّكر أن الأخوان زانجاكي قاما بزيارة البلاد أيضًا وخلّفا صورًا عديدة من هذه الزّيارة يمكنكم مشاهدتها هنا.

سوق يافا القرن ال 19، تصوير الأخوان زانجاكي، مجموعة عائلة لينكن.
سوق يافا القرن ال 19، تصوير الأخوان زانجاكي، مجموعة عائلة لينكن.

 

 

مكتشفات: توثيق محاولات هجرة يهود النمسا بعد الاحتلال النازي

تم الكشف بشكل حصريّ عن الوثائق الخفيّة ليهود فيينا خلال الحرب العالمية الثانية، وذلك في إطار التعاون بين شركة MyHeritage والأرشيف المركزي لتاريخ الشعب اليهودي في المكتبة الوطنية. تشمل المجموعة 228,250 سجّلًا وصورة ممسوحة ضوئية للوثائق الأصلية التي قدّمها مهاجرون يهود من فيينا في الفترة ما بين الحربين العالميتين. تكشف هذه الوثائق، المتاحة على موقع المكتبة، عن معلومات استثنائية بخصوص حياة الجالية اليهودية المزدهرة في فيينا، عاصمة النمسا، بين 1938-1939.

هجرة جماعية ليهود فيينا، تشرين الأول 1941 (تصوير: موقع بلدية فيينا)، على خلفية وثائق الهجرة المحفوظة في الأرشيف المركزي لتاريخ الشعب اليهودي في المكتبة الوطنية

مكتشفات: توثيق محاولات هجرة يهود النمسا بعد الاحتلال النازي

في 12 آذار 1938، غزت ألمانيا النازية النمسا، وقد سميت هذه العملية بالألمانية “أنشلوس”- أي الضم.

لم يكن احتلال النمسا احتلالًا عاديًا، وعندما حقق هتلر النصر في فيينا بعد ثلاثة أيام، نزل مئات آلاف النمساويين إلى شوارع فيينا للاحتفاء به. وفقًا للشهادات المختلفة، لم تبقّ في النمسا وردة واحدة لم تُقطف في هذه المناسبة.

الحشود النمساوية في هيلدنلاتز تستقبل هتلر. المصدر: الأرشيف المركزي لتاريخ الشعب اليهودي
الحشود النمساوية في هيلدنلاتز تستقبل هتلر. المصدر: الأرشيف المركزي لتاريخ الشعب اليهودي
بالنسبة ليهود النمسا، وتحديدًا لربع مليون يهودي في النمسا، لم تكن تلك مناسبة احتفالية. فور انتهاء عملية أنشلوس، بدأ التنكيل بقادة الجالية والحاخامات، وتم توقيف العديدين منهم وإرسالهم إلى معسكريْ داخاو ويوخنفالد. وفي نفس الوقت، أغلق النازيون مكاتب الجالية في فيينا.

الحشود النمساوية تؤدي التحية النازية لهتلر في جادة RING. المصدر: الأرشيف المركزي لتاريخ الشعب اليهودي
الحشود النمساوية تؤدي التحية النازية لهتلر في جادة RING. المصدر: الأرشيف المركزي لتاريخ الشعب اليهودي

أعيد افتتاح مقر الجالية بعد شهرين، وأقيم فيها قسم جديد: “قسم الرفاه للجالية اليهودية في فيينا- قسم الهجرة”. أي يهودي أراد الهجرة من فيينا- وجميعهم تقريبًا أرادوا ذلك، المتدينون والمنصهرون على حد سواء- كان ملزمًا بتعبئة استمارات، بنسختين، وتقديمها للقسم.

يشكّل أرشيف الجالية اليهودية في فيينا أحد أكبر وأهم الأرشيفات في الأرشيف المركزي لتاريخ الشعب اليهودي. أُرْسِلت مجموعة الوثائق، التي تعود إلى مطلع القرن الـ 17، من الفترة التي سبقت طرد اليهود من فيينا، إلى مدينة القدس من قبل الجالية في فيينا بعد المحرقة النازية. استمارات مكتب الهجرة مشمولة في هذا الأرشيف المهم.

تشمل الاستمارات الاسم الشخصي واسم العائلة لمقدم الطلب، العنوان الكامل، تاريخ الميلاد، مكان الولادة، الحالة الاجتماعية (متزوج، أعزب وما إلى ذلك)، الجنسية، منذ متى يسكن مقدم الطلب في فيينا وهل سكن قبل ذلك في مكان آخر، مهنته، تاريخه التشغيلي، اللغات التي يجيدها، الوضع الاقتصادي والدخل الشهري ومعلومات بخصوص وجهة الهجرة المطلوبة.

المعلومات بخصوص الهجرة تطرقت إلى احتمال الحصول على المستندات المطلوبة للهجرة، وجهة الهجرة، أقرباء وأصدقاء خارج البلاد، خاصة في وجهة الهجرة المطلوبة (الاسم، العنوان ودرجة القرابة) ومعلومات بخصوص جواز السفر وتأشيرات الهجرة.

لا تشمل الاستمارات معلومات حول مقدم الطلب فحسب، إنّما أيضًا حول أفراد عائلته، خاصة الزوجة والأبناء- وفي كثير من الأحيان الوالدين أو والديْ الزوج/ة.

قدّمت الاستمارات بنسختين، وأضيفت إليها لاحقًا مستندات أخرى وثّقت سيرورة محاولات الهجرة. أعطي لكل استمارة رقم تسلسلي (عددي). تم لاحقًا الفصل بين النسختين في قسم الهجرة. حافظت إحدى النسختين على مبناها العددي، وفي النسخة الثانية (غير الكاملة)، أدرجت الاستمارات بترتيب أبجدي حسب اسم العائلة (بالألمانية). أدار قسم الهجرة أيضًا ثلاث بطاقات مفهرسة لتوثيق الاستمارات، بطاقة أبجدية، الثانية عددية والثالثة تُعنى بمهنة مقدم الطلب، وهو عنصر مهم جدًا في طلب الهجرة. ففي تلك الفترة، أي بين 1938-1940، قام قسم الأبحاث الخاص بالجالية ومنظمات الدعم اليهودية العالمية، مثل جمعية مساعدة المهاجرين العبرانيين، بإعداد تقارير تستند إلى الإحصائيات المهمة المسجلة في الاستمارات، وذلك لتنجيع عملية الهجرة من فيينا.

ولكنّ الجالية لم تكن تنشط في الخواء خلال تلك السنين، وأشرف الغيستابو، برئاسة أدولف آيخمان، على نشاطها بشكل كامل. في المرحلة الأولى، كانت لدى اليهود والنازيين مصلحة مشتركة، لأنّ آيخمان كُلّف بمهمّة إفراغ مدينة فيينا من اليهود بواسطة الهجرة. في مراحل لاحقة، مُنعت الهجرة، ونجح الغيستابو في استغلال المعلومات المتوفرة لتنجيع عملية إفراغ فيينا من اليهود بواسطة الاصطلاح المُجَمّل “الهجرة إلى الشرق”، أيّ إلى معسكرات التركيز والإبادة.

وصل أرشيف قسم الهجرة إلى القدس مع سائر محتويات أرشيف الجالية، وقد بقيت الاستمارات مرتّبة في مجموعتين: أبجدية وعددية. حُفظت المجموعتان على مدار عقود بمبنيهما الأصليين، على شكل سلسلة استمارات مجلّدة معًا، حيث كان الاستمارات العددية مرقمة (من 1-400، 401-800 وهكذا دواليك) والأبجدية مرتّبة إسميًا (بلوم-بلومفيلد، بلومفيلد- بلومشطاين وهكذا دواليك). ولذلك، لم يكن بالإمكان التحقق مما إذا شملت المجموعة الأبجدية استمارة شخص معين بدون الحضور شخصيًا إلى الأرشيف وفحص مجلّد الاستمارات. المجموعة العددية كانت مغلقة تمامًا، لأنّه تعذّر تخمين الرقم التسلسلي لكل طلب.

للحصول على أكبر قدر من المعلومات من هذه الوثائق المهمة، نشأ تعاون بين الأرشيف المركزي لتاريخ الشعب اليهودي، المكتبة الوطنية وشركة MyHeritage. باعتبارها شركة تجارية رائدة في مجال علم الأنساب، أدركت Myheritage أهمية وقيمة هذه الاستمارات. فبالإضافة إلى التوثيق الكامل والمفصل ليهود فيينا، وهي إحدى أكبر الجاليات اليهودية في العالم عشية المحرقة النازية، تشمل المجموعة معلومات حول أقرباء يعيشون في قارة أخرى، وهذه معلومات نادرة يصعب إيجادها في قواعد البيانات المستخدمة في الأبحاث في علم الأنساب.

في إطار المشروع، قام طاقم الأرشيف المركزي بتفكيك المجلّد لاستمارات منفصلة، وتم إرسالها إلى مركز التحويل الرقمي المتقدم في المكتبة الوطنية بهدف رقمنتها. تم ربط الوثائق الممسوحة ضوئيًا بوثائق خفية في كتالوج الأرشيف، والتي لم تكن تشمل أية معلومات في تلك المرحلة، وتم إرسال نسخة رقمية تشمل مئات آلاف الأوراق الممسوحة ضوئيًا إلى شركة MyHeritage التي كلّفت طاقمًا دوليًا كبيرًا ببناء دليل مفصّل لأهم المعلومات الواردة في الاستمارات. نتج عن ذك ملف إكسل ضخم، مكوّن من أكثر من ثلاثمئة ألف سطر، ويمتد عبر 129 عمودًا، وقد تم إرساله للأرشيف وفي الوقت نفسه، تمت معالجته وتحميله على نظم MyHeritage.

قام طاقم الأرشيف بمعالجة ملايين البيانات ضمن سجّلات مفهرسة ملاءمة لمبنى المعلومات المتبع في الأرشيف. استثمرت جهود حثيثة في توحيد المصطلحات المختلفة ومئات الصِيغ المختلفة لتوثيق الحالة الاجتماعية أو نوع القرابة بين أفراد العائلة وأقربائهم خارج البلاد. كان علينا أيضًا تصحيح عدد كبير من الأخطاء، جزء كبير منها أخطاء كتبت في الوثائق الأصلية. جميعنا يخطئ عند تعبئة استمارات طويلة كهذه، فقد نسجل تاريخ ميلادنا في خانة العنوان الحالي، نستبدل تاريخ ميلادنا بتاريخ تعبئة الاستمارة، أو نخطئ في تسجيل القرن الذي ولدنا فيه، فعلى سبيل المثال، سجّل بعض الأشخاص في عام 1938 أنّهم ولدوا في عام 1988، بينما كانوا يقصدون 1888.  من الطبيعي أن نجد مثل هذه الأخطاء لدى أشخاص مروا بمثل هذه الظروف العصيبة، كم بالحري إن كانوا مهاجرين من مناطق إمبراطورية هابسبورغ سابقًا- غليتسيا، بوهيميا، مورافيا، بوكوفينا وهنغاريا، ولم يكن العديد منهم يجيد اللغة الألمانية بالقدر الكافي. استثمرت، وما زالت تستثمر جهود حثيثة في توحيد ومعايرة أسماء الأماكن حيث ولد مقدمو الطلبات، وأسماء الأماكن التي سكنها أقرباؤهم. كشفت الوثائق عن أمور مثيرة للاهتمام، مثل شكل جغرافيا الولايات المتحدة في مخيلة يهودي غليتسيّ في فيينا، وكيفية كتابة اسم مدينة نيويورك وأحيائها في طلبات الهجرة.

بعد تنقيح المعلومات، نتجت عن هذه التفاصيل المجزّأة معلومات متجانسة، وفقًا لصيغ محوسبة بالمبنى والترتيب التاليين: مقدم الطلب: اسم العائلة، الاسم الشخصي، تاريخ الميلاد (اليوم/الشهر/السنة) في – (الموقع الجغرافي)، والحالة الاجتماعية. بُنيت صيغ أخرى لأفراد العائلة المرافقين لمقدم الطلب، وللأقرباء خارج البلاد.

في بعض الحالات، كانت الاستمارة الأصلية منقوصة، ووضعت بدلا منها بطاقة كُتب عليها أنّ الاستمارة استخرجت في حينه لأغراض مكتبية، ولم تُعَد. حيثما شملت هذه البطاقات معلومات مهمة، مثل اسم مقدم الطلب والرقم التسلسلي للاستمارة، احتفظنا بالمعلومات كدلالة على وجود استمارة في السابق، ولكنها غير متاحة لنا في الوقت الحالي.

تم تحميل المعلومات المفهرسة على الوثائق الخفية واردة الذكر، وأتيحت للجمهور، بالإضافة إلى الوثائق الممسوحة ضوئيًا.

 

المجموعة متاحة على موقع المكتبة والأرشيف، وهي أيضًا متاحة لمستخدمي MyHeritage، حيث قورنت المعلومات مع قواعد بيانات أخرى موجودة على موقعهم، مما يتيح المجال للحصول على معلومات مكملة حول الأشخاص من مصادر أخرى.

في الأسابيع التي تلت إتاحة المجموعة للجمهور، انكشف العديدون على قصتهم العائلية وعرفوا تفاصيل كانوا يجهلونها. إذا كانت عائلاتكم متواجدة في فيينا عشية الحرب العالمية الثانية، هناك احتمال بأن يكنَّ قد ملأنَ مثل هذه الاستمارات، والتي يمكن إيجادها على موقع المكتبة الوطنية أو عبر هذا الرابط .

اقرأ/ي أيضًا:حينما غُفِر لبريطانيا استعمارها: وجهاء عرب يدعون للتطوّع في الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية

إذا واجهتكم أية صعوبات، يمكنكم التوجه إلينا على عنوان البريد الإلكتروني – [email protected]

استمارة قسم الهجرة في قسم الرفاه الخاص بالجالية اليهودية في فيينا والتي ملأها زيغموند [شيغو] فيرطهايمر في 11 آب 1938. كان فيرطهايمر مدرب سباحة حظيِ بالتقدير المهني بفضل تدريبه للنساء. كان متزوجًا من السبّاحة هيدي [هيدفيغ] بينفيلد، والتي تفوقت في سباحة الصدر والظهر، واكتسبت شهرة جماهيرية في عام 1924 حين فازت بالمرتبة الأولى في مسابقة السباحة "عابر فيينا".
استمارة قسم الهجرة في قسم الرفاه الخاص بالجالية اليهودية في فيينا والتي ملأها زيغموند [شيغو] فيرطهايمر في 11 آب 1938. كان فيرطهايمر مدرب سباحة حظيِ بالتقدير المهني بفضل تدريبه للنساء. كان متزوجًا من السبّاحة هيدي [هيدفيغ] بينفيلد، والتي تفوقت في سباحة الصدر والظهر، واكتسبت شهرة جماهيرية في عام 1924 حين فازت بالمرتبة الأولى في مسابقة السباحة “عابر فيينا”.

إنّه مرجع فريد من نوعه، ولا تقتصر أهميته على القصة الشخصية والعائلية. فهو لا يكشف عن تلك الفترة المروعة فحسب، إنما أيضًا عن الحياة اليهودية المليئة بالنشاط في فيينا بين الحربين العالميتين، عشية الأنشلوس.  نجد فيه عناوين دقيقة لمساكن عدد كبير من اليهود، من بينهم أدباء، مؤلفين مسرحيين، موسيقيين، قادة روحانيين في الحركة الحسيدية ووجهاء. فضّل آخرون الاستعانة بالمجموعة لإيجاد الشوارع والأحياء التي سكنها اليهود في فيينا، أو لإيجاد الأماكن التي هاجر منها اليهود إلى فيينا. في نهاية المجموعة، يمكن أيضًا إيجاد المهن التي زاولها يهود فيينا وعن المزيج اللغوي الذي تحدثوا به.

ولكن الأهم من كل ذلك هو أنّ هذه المجموعة تسرد قصة يهود فيينا، الذين وجدوا أنفسهم ذات صباح تحت وطأة الحكم النازي. المحاولات اليائسة لتأمين الفدية التي طلب من اليهود دفعها للمغادرة، إلى جانب الجحيم البيروقراطي الذي مروا به للتصديق على جوازات السفر، الحصول على تأشيرة لوجهة الهجرة ومن ثم المصادقة على “النقل” إلى دولة مؤقتة.

في كتاب “ترانزيت” لآنا زغرس، وهي لاجئة يهودية حاولت الخروج من أوروبا، اقتبست طرفة سردها اللاجئون الذين حاولوا الهجرة عبر ميناء مرسيليا، في فرنسا الفيشية:
صعد شخص إلى السماء ووصل إلى غرفة انتظار فيها بابان، أحدهما مؤد إلى الجنة والثاني إلى الجحيم. أخذ يتنقل على مدار نصف ساعة من موظف لآخر للحصول على عدد لا متناه من الاستمارات والتواقيع. في مرحلة ما، توجه إلى الموظف المسؤول، وقال له إنّه سئم الانتظار. إنّه مستغنٍ عن فرصة الذهاب إلى الجنة، وإنّه يفضل أن يرسلوه إلى الجحيم. يؤسفني أن أصحح معلوماتك، قال له الموظف، فأنت الآن في الجحيم.