بقلم: حن ملول
تبلورت فكرة المقالة قبل عدة سنوات، عندما سألت جدتي عن عدد اللغات التي تجيدها. يصعب تحديد ذلك، لأنّها تجيد عدة لهجات عربية (إلى جانب الفرنسية والإسبانية)، ولكنّها صبّت جل اهتمامها في إحدى اللغات: الشلحية، أو كما سميت بالأصل، تشلحيت. أخبرتني جدتي لديسيا بأنّها تعلمت هذه اللغة لتتواصل مع حماتها، التي لم تكن تتحدث سوى التشلحيت. اقترن اسم اللغة مباشرة في ذهني بالكلمة الازدرائية الشائعة في البلاد “شلوح”- أي الشخص المُهمل ورث الهيئة.
تناولت إحدى مقالاتنا السابقة اللقب المهين والمضلل الذي نُعت به سكان مدينة تشيلم في بولندا، ونتناول في هذه المقالة الشلوحيين. أولًا، إن لم تعرفوا من قبل مصدر المصطلح “شلوح”، إنّها كلمة ازدرائية تعود أصولها إلى المغرب، وعلى غرار “التشيلميم” مواليد بولندا أو “الحورانيين” مواليد سوريا، فإنّ كلمة “شلوح” هو لقب مهين نُسب لمجتمع كامل.
على غرار اللغة العربية متعددة اللهجات المحلية، فإنّ لغة الشلوحيين، تشلحيت، هي واحدة من اللغات الأمازيغية المحكية الثلاث متعددة اللهجات في المغرب. اللغتان الأخريان هما التمازيغت- الأمازيغية المعيارية ولهجة الريف.
يعيش الشلوحيون، موضوع هذه المقالة، في جنوب غرب المغرب، في نحو ألف قرية تربطها علاقة تجارية. قطنت هذه المنطقة أكبر جالية يهودية من يهود المغرب الذين جاوروا الأمازيغ.
الشهادات الأولى على الحياة المشتركة بين اليهود والأمازيغ في المغرب تعود إلى القرن الثالث للميلاد، ولكن التقاليد الشفوية ليهود جنوب المغرب تفيد بحضور اليهود إلى المنطقة في فترة الهيكل الأول، أي في القرن الـ 11 قبل الميلاد. إنّها على ما يبدو محاولة لدحض النظرية بأنّ يهود المنطقة هم من أصول أمازيغية وأنّهم اعتنقوا اليهودية في القرون الأولى بعد الميلاد. ينفي يهود المغرب الادعاء بأنّهم في الأصل أمازيغ اعتنقوا اليهودية-بل يعتبرون أنفسهم نسل جنود الملك داود وقائدهم وزير الجيش يوآف بن تسرويا، والذين لاحقوا الفلستيين حتى شمال أفريقيا.
بسبب القرب الجغرافي بين اليهود والشلوحيين- تطورت علاقات وثيقة وودية بين المجموعات السكانية المختلفة. ليس صدفة إذًا أن يتبنى يهود المنطقة لهجة التشلحيت وأن يتحدثوها. ما زال اليهود الذين سكنوا في هذه المجتمعات المحلية يقتبسون ويذكرون العديد من أمثال وأغاني وعادات جيرانهم الأمازيغ. الغالبية العظمى من هؤلاء اليهود قدموا إلى إسرائيل في الهجرة الكبرى في مطلع الخمسينات، قبل استقلال المغرب.
اعتاش الشلوحيون، ومعظمهم قرويون، على الزراعة. أما اليهود، فقد كانوا من أهل الذمة، وبالتالي، لم يكن يسمح لهم بحيازة أملاك. لذلك، كانوا بالأساس تجارًا اعتادوا التنقل في مجموعات صغيرة بين قراهم والقرى المجاورة لبيع بضائعهم وتقديم خدماتهم. موّل البعض منهم المبادرات الزراعية لجيرانهم الأمازيغ بواسطة شراء البذور من أجلهم. وفي موسم الحصاد، كان المستثمرون اليهود يحصلون على ثلاثة أرباع المحصول الزراعي.
على مدار أكثر من أربعة عقود، التقى بروفسور يوسف شطريت بأشخاص يهود وأمازيغ جاوروا بعضهم بعضًا. في مقالته حول القرب والتباعد بين هذين المجتمعين، يشير إلى أنّه حتى بعد مرور عدة عقود، ما زال الجيران الشلوحيون يذكرون بعض العبارات العبرية، ابتداءً من “بروطيم” (مال) وحتى مشروب الحياة- الكلمة اليهودية-المغربية لمشروب العرق. خلال الفترة الطويلة التي عاشوا فيها جنبًا إلى جنب، عُرف اليهود كتجار أذكياء ومحنكين، وخُلّدوا في العديد من الأمثال الأمازيغية، مثل: اليهود في السوق كالملح في العجين.
لم يتشارك اليهود وجيرانهم الشلوحيون مصادر المعيشة فحسب. فقد انضم الأمازيغ إلى يهود المنطقة في زياراتهم إلى قبور القديسين اليهود في مواسم الحجيج (الهيلولاه)؛ وكانوا يبيعون العجول والأغنام للمشاركين في مواسم الحجيج، بالإضافة إلى الفواكه والخضار. كان المعالجون اليهود يحظون بزيارات جيرانهم الشلوحيين في أوقات متقاربة، وقد استخدموا تمائمهم وعصائرهم بدون أي خوف.
في الأفراح أيضًا، كما في الأحزان، كان لليهود والشلوحيين عادات مشتركة، بل وتعاونوا أيضًا في أداء الرقصات والأغاني في المناسبات العامة. مع أنّ اليهود امتنعوا عن المشاركة في عادات أمازيغية متعلقة بالعقيدة الإسلامية، إلا أنّ كلّ من المجموعتين كانت تعرف جيدًا تقويم المجموعة الأخرى. إلى جانب تهنئة الجيران بالأعياد أو التمني لهم بصيام سهل، فإنّ أعياد ومناسبات هذين المجتمعين شكلت فرصة اقتصادية ذهبية: كان الشلوحيون يبيعون محاصيلهم الزراعية لليهود قبل دخول السبت وعشية الأعياد، ومن ضمنها القَصَب لبناء العرائش، بينما كانت النساء اليهوديات يُحكن ملابس جديدة لمناسبة الأعياد الإسلامية.
برز التعاون بين اليهود والمسلمين بشكل خاص قبل احتفال الميمونة. خلال العيد، كان اليهود يقدمون هدية لمعارفهم المسلمين، وقد شملت: مصّة، فطيرة وأحيانًا يخنة اللحم، بالمقابل، كان المسلمون يقدّمون لليهود الحليب، العسل، البيض والطحين، أي مستلزمات الميمونة.
كيف إذًا ارتبط اسم “الشلوحيين”، هذه المجموعة المتنوعة والنشطة، بكلمة ازدرائية تعني شخص مهمل وغير جدير بالثقة؟ القادمون من المغرب هم من جلبوا هذا اللقب المهين، والذي يسيء للمسلمين ولليهود القرويين.
في سنة 1931، نشرت الصحيفة اليهودية الناطقة بالفرنسية “لافنير إيلوستريه” (L’Avenir illustré)، بالعبرية: المستقبل المصور، مقالة لتشارلز أبي حصيرة من مدينة الرباط في ملحق “إسرائيل الشابة”- Jeune Israël . يكتب أبي حصيرة عن المهاجرين اليهود القرويين الذين ملأوا مدينته وينعت أحدهم بـ “شلوح”. الشخص الموصوف بهذا اللقب المهين في مقالة أبي حصيرة هو مسن يهودي يعتاش على التبرعات وبفضل السياح الذين يدفعون له مبلغًا بسيطًا ليلتقط لهم الصور. الشيء الثاني الذي يزعج “أبي حصيرة” هو حقيقة أنّ “الشلوح” كان يتسول أيام السبت، ويخرق قوانين الديانة اليهودية.
أبي حصيرة، الممثل الشاب ليهود المغرب الغربيين، يميّز نفسه عن هذا “الشلوح”، الذي يصوّره كشخص قذر وسلبي، لا يجيد العربية أو الفرنسية، بل الأمازيغية فقط. فهو يفعل ذلك بالفرنسية، في ملحق “إسرائيل الشابة” الذي كان يقرأه الفتيان والفتيات اليهود في المغرب الذين تعلموا الفرنسية في مدارس الإليانس، أجادوا اللغة الفرنسية وكانوا أكثر ارتباطًا بالقيم الغربية الأوروبية من القيم التقليدية في المغرب.
لم يبتكر أبي حصيرة لقب “شلوح” لنعت القرويين بالطبع، ولكنه استخدمه ليميز نفسه ومجتمعه عن المهاجرين من المناطق القروية. تجدر الإشارة إلى أنّ الاسم “بربر” يوحي بالسلبية، وأنّه اسم غريب عن البربر أنفسهم الذين يسمّون أنفسهم “أمازيغ” وتعني الإنسان الحر. يعود الاسم “بربر” إلى الكلمة الازدرائية الذي استخدمها اليونانيون القدماء لكل من لم يتكلم اليونانية (بحيث يعود الاسم بربر الذي نعرفه إلىβάρβαρος,.
على الرغم من محاولة الشاب أبي حصيرة والكثيرين غيره من اليهود أبناء المدن المغربية التميز عن اليهود الناطقين بالأمازيغية، تجدر الإشارة إلى أنّه قبيل مغادرة اليهود للمغرب، كان نصف سكان الدولة (المسلمين واليهود) يتحدثون الأمازيغية كلغتهم الأولى أو الثانية. بعد استقلال المغرب والتعليم الرسمي الذي اتبع فيها، انخفض هذا العدد إلى 30 بالمئة. تحدث معظم اليهود الناطقين بالأمازيغية بلهجة تشلحيت، وبالنسبة للبعض منهم (في منطقة تفنوت مثلًا، في أعالي سهل سوس)، كانت التشلحيت لغتهم الأم، على الأقل حتى الاحتلال الفرنسي للبلاد. بفضل الحماية الفرنسية على المغرب، والتي أنشأت شبكة طرق ربطت يهود القرى بالمدن الكبرى، تبلورت حركة هجرة من القرى. نشأ عن اللقاء بين أهالي المدن وأهالي القرى هذا اللقب المهين.
علاقة الجوار المركبة بين اليهود وجيرانهم الشلوحيين هي جزء لا يتجزأ من قصة القادمين من المغرب، وهو بالطبع جزء مهم من تاريخ المغرب. لم تسكن هاتان المجموعتان بجوار بعضهما بعضًا على مدار مئات وربما آلاف السنين فحسب، بل تشاركتا أيضًا عقائد وعادات، مثل تمجيد القديسين، الطب الشعبي ومخزون كامل من الأغاني الأمازيغية، الرقصات الشعبية والحِكم والأمثال. لذلك، فإنّ ازدراء الثقافة الشلوحية وإلغاءها- والذي بدأ في المغرب- يعتبر إساءة لجزء كبير من ثقافة يهود شمال أفريقيا.
في الوقت الحالي، وعلى الرغم من العلاقات المركبة والحساسة بين المجموعات المختلفة، فإنّ اليهود والأمازيغ يستذكرون ماضيهم المشترك بحنين. مغادرة اليهود للمغرب تركت أثرًا سلبيًا لسنوات طويلة على الاقتصادي القروي للأمازيغ والشلوحيين. قبل توطيد العلاقات الرسمية وغير الرسمية بين إسرائيل والمغرب، تعزز الحنين إلى هذه الشراكة، وانعكس ذلك في إضفاء المثالية على واقع اليهود في قراهم وبلداتهم الأصلية في المغرب. الآن، في أعقاب تسهيل السفر إلى المغرب، فإنّ الإسرائيليين المنحدرين من أصول مغربية يستطيعون معاودة زيارة هذه القرى وإعادة بناء العلاقات التي نُسجت بين آبائهم والأمازيغ على مدار عدة أجيال.
نتقدم بجزيل الشكر لبروفسور يوسف شطريت ود. دافيد غادج على مساهمتهما في كتابة المقالة.
لمزيد من المراجع
Joseph Yossi Chetrit, Intimacy, Cooperation and Ambivalence: Social, Economic and Cultural Interaction between Jews and Berbes in Morocco, European Judaism, Volume 52, No. 2, 2019: pp. 18-30
Joseph Yossi Chetrit, ” Judeo-Berber in Morocco” in: Languages in Jewish Communities, Past and Present, Edited by Benjamin Hary & Sarah Bunin Benor (De Gruyter, 2018)
David Guedj, “Jeune Israel”: Multiple Modernities of Jewish Childhood and Youth in Morocco in the First Half of the Twentieth Century, Jewish Quarterly Review, Volume 112, Number 2, 2022, pp. 316-343
דוד גדג’, דיוקנאות, ארץ־ישראל והקהילות היהודיות במרוקו: המסרים החזותיים בעיתון L’Avenir Illustré, מרכז יד בן-צבי