السّلطان سليمان القانوني خلّف بصمة جميلة في صفات تبدو متناقضة في شخصيّة تاريخيّة ذات أثر هام على التاريخ. فلنقرأ إحدى قصائده ونلقي نظرة على عالمه العاطفي.
من مخطوطة لديوان محبي في المكتبة الوطنيّة،1552، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنيّة.
السلطان سليمان القانوني الشّهير، أو سليمان العظيم كما يلقّب بالإنجليزيّة، شخصيّة مثيرة جدًا للاهتمام. فقد كان يتمتع بشخصيّة قياديّة وسياسيّة فذّة، وتشهد له إنجازاته وبصماته الكثيرة على تشكّل الإمبراطوريّة العثمانيّة بذلك، ومن جهة أخرى هو شاعر مرهف الحس وعاشق ولهان. وخلّف أشعار عالية الحساسيّة والبلاغة في الغزل والعاطفة وكان غزير الإنتاج الأدبي، حتّى وصفه بعض الباحثين بأحد أهم المبدعين في التّاريخ العثماني، وهذا ليس لأنّه سلطانًا، ولكن لكونه شاعر فذّ أيضًا. يبدو أنّ لهذه الشّخصية التاريخيّة حياة حافلة على الصّعيد الخاص والعام، وهي تتطلّب المزيد من البحث الدؤوب حتّى يتم الكشف عنها بشكل كافي.
ولكن الشعر الذي خلفه شباك جميل يطل على عالمه الخاص والعاطفي، وللسلطان الكبير ديوان شعر بديع يدعى “محبي”، فيه آلاف من أبيات الشعر التي يظهر بها مكنونات قلبه بانكشاف ولغة جميلة. كتب السلطان أشعارًا بالفارسيّة كذلك. وفي المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة نسخ مزوّقة لهذا الدّيوان يمكنكم الاطلاع عليها هنا.
أمضى السلطان أوقاتًا كثيرة من طفولته في قصر جده بيازيد الثّاني حيث تلقّى العلوم والدروس من علماء كبار، ولطالما كان محبّا للشعر والشّعراء وكان يتقن الكتابة بخطّ جميل، كما كان يعتني بمظهره وبهندامه ويمتلك ذوقًا خاصًّا، اذ اشتهر بالبناطيل المختلفة والثّوب الطويل والمزركش ومظاهر الفخامة، كما كان محبًا للأحجار الكريمة. كان مهتمًا بالعمارة الجميلة التي ازدهرت في عهده، كما قام بترميم الكعبة المشرّفة في مكّة وقبّة الصّخرة في القدس، كما بنيت اسوار القدس في عهده أيضًا. كان يعلي من مكانة الصّاغة مثلًا ويقيم لهم محافل، كما استقبل الشّعراء والعلماء في بلاطه وأكرمهم بل وكان يصطحبهم أحيانًا في سفراته ورحلاته. وفي عهده ترجم العمل الكبير “كليلة ودمنة” من روائع الأدب الهندي، بالإضافة الى المزيد من الاعمال الكلاسيكيّة الفارسية التي نقلت إلى التركية في عهده. ولذلك فليس بغريب ان يكون مطلعًا على الشعر والأدب إلى هذا الحد وأن لا يكون شغوفًا بالشعر بنفسه.
بعض الأبيات من ديوان محبي
يشتهر ديوان محبي أي ديوان “المحب” كما سمّى نفسه، بالنّظم على بحر الغزل باللّغة التركية. يقال أن السلطان سليمان كان يسهر الليل بطوله ملوّعًا، يكتب كلمة ويترك الورقة ويعود إليها وهكذا دواليك، ويبقى على هذه الحالة إلى أن تنطلق منه قصيدة كاملة.
لم ينفرد السّلطان سليمان من بين السّلاطين العثمانيّين في شعره، فالسّلطان محمّد الفاتح كان شاعرًا أيضًا، وكذلك السّلطان عثمان الثّاني، وكان كلّ منهم يختار اسمًا له ليوقّع به أشعاره، وفي حالة السّلطان سليمان استخدم الكلمة العربيّة الاصل حُب، وسمّى نفسه بالمحبّ.
إليكم إحدى هذه القصائد الشهيرة:
يا عرشي محرابي الوحيد، يا ثروتي، يا حبّي، يا ضياء قمري
يا أكثر الأصدقاء إخلاصًا، وصاحبة سرّي، يا وجودي، سلطانتي، وحبّي الواحد والوحيد
يا أجمل الجميلات
يا ربيعي وحبّي ووجهي المَرح، يا نهاري وقلبي الحلو وأوراق الأشجار الضاحكة
يا نباتاتي، يا حلوتي، يا زهرتي، أيتها الوحيدة الّتي لا تثقل حياتي في هذه الغرفة
يا إسطنبولي، يا قرماني، يا أرض أناضولي
يا بادخشاني، يا بغدادي، يا خراساني
يا امرأتي ذات الشعر البديع، يا حبّي للحاجب المائل
يا حبّي للعيون المليئة بالأسى
سأسبّح لك دومًا فإنني المحب ذو القلب المحزون
إنّ محبّي ذو العيون المليئة بالدّموع حقًا سعيد
كتب السّلطان سليمان هذه القصيدة إلى زوجته المعروفة باسم روكسالانا، والذي جمعته بها علاقة عاطفية جياشة تعبّر عنها هذه القصيدة. نرى في القصيدة أنها أكثر من مجرد تعبير عن الحبّ والتعلق، إنّما دلالة على المكانة العاليّة التي اتخذتها حرم السلطان في حياته. وأن إشارته إلى مواقع من الدولة العثمانيّة الواسعة والّتي اتّسعت أكثر وأكثر في عهده مثيرة للاهتمام، إذ يصفها بالوطن الأناضول، إلا أنّه أيضًا يصفها بالمدن البعيدة التي من خلال الإشارة لها يرسم خارطة تدلّ على مدى اتّساع رقعة حكمه الجغرافيّة من الشّرق الى الغرب، فكأنه يقول لها: يا قوّتي.
ولدت روكسلانا في شرق أوروبا وتم اختطافها وبيعها في سوق للعبيد في القسطنطينيّة، وهكذا وجدت طريقها الى البلاط ومن ثمّ إلى قلب السّلطان الأعظم. ليس من الممكن معرفة الكثير عن شخصيّة هذه المرأة الّتي عشقها السّلطان وتأثر بها الى هذا الحدّ، فإن حياة حريم السّلطان بقيت غامضة الى حدّ بعيد. ولكن بقيت أبيات “محبي” تشير إليها، وإلى خفايا جميلة في التّاريخ العثماني ولا سيّما في التاريخ الإنساني كله.
لورنس العرب أم لورنس صهيون؟
قصة عالم الآثار الذي عمل ضابط استخبارات بريطاني: هل يعقل أن يتحوّل نصير العرب إلى نصير الصهيونية؟ ما هي المنظّمة التي ساهمت في هذا التحول؟
الفترة هي الحرب العالمية الأولى، تقع أرض إسرائيل تحت حكم الدولة العثمانية الآخذة في الانهيار. في مكان غير بعيد، يتواجد البريطانيون في مصر. سنتحدّث اليوم عن ضابط بريطاني- عالم آثار اقترن اسمه بالكثير من القصص والخرافات والغموض والألغاز – شخصية تاريخية مرموقة، تم تمثيلها سينمائيًا، خلّدتها فرقة البيتلز على غلاف ألبومها ووجد وينستون تشرشل أنّ سيرتها الذاتية هي “واحدة من أفضل القصص في تاريخ الأدب الإنجليزي”.
لا بد أنّكم تعرفون الآن من تكون هذه الشخصية.
حظيت مساهمة هذه الشخصية بقدر أقل من الاهتمام في البلاد (لِمَن لم يشاهد الفيلم الهوليوودي الدرامي)، ربما لأنّ الحديث يدور حول شخصية جدلية في إسرائيل اعتبرت نصيرة للعرب. ألَم يعلّمنا خيرة المؤرّخين أنّه علينا الانحياز لطرف معين- الخير أو الشر، هم أو نحن. فمن يدعم الاستقلال العربي لا يمكنه دعم النزعة القومية اليهودية!
أتحدّث بالطبع عن توماس إدوارد لورنس، الشهير بـ “لورنس العرب”- بطل الفيلم الشهير، الظاهر على غلاف ألبوم نادي القلوب الوحيدة للرقيب بيبِر لفرقة البيتلز، ذاك المسؤول عن الثورة العربية الكبرى، أو مؤلّف السيرة الذاتية “أعمدة الحكمة السبعة” التي افتُتحت بقصيدة مُهداة لشخص كُتب اسمه بالحرفيْن S.A.
كان لورنس عالم آثار. في السنوات الأخيرة، صدر أيضًا كتيّب بعنوان “مذكرات رحلة إلى شمال سوريا، 1911” والذي يتعقب مذكّراته التي ألّفها في سن 23 عامًا أثناء مشاركته في حفريات أثرية في منطقة سوريا قبل الحرب العالمية الأولى. رفض الحصول على لقب الفروسية لأنّه شعر بالغدر من قبل ملك بريطانيا، ولقي حتفه في حادثة دراجة نارية بظروف غامضة وهو في الـ 46 من عمره، تاركًا خلفه سيرة غنية جدًا، مما يجعل منه حتى الآن أسطورة تتناقلها الأجيال.
من كان إذًا لورنس العرب؟
لنعد إلى البداية، ولد لورنس العرب، واسمه الحقيقي توماس إدوارد لورنس، في عام 1888 في ويلز، خارج إطار الزواج، لأبٍ أرستقراطي من أصول إيرلندية-بريطانية وأمٍ عملت مربية في منزل والده. هجر الأب منزل والده برفقة المربية، وتنقلت العائلة من مكان لآخر. أدرك لورنس أنّه عليه كتمان السر، تحمّل الخزي والعار والتعامل مع وضعه الجديد كشخص مرفوض اجتماعيًا. لاحقًا، نجح هذا الابن غير الشرعي في تحطيم السقف الزجاجي في بريطانيا الطبقية، ووصل إلى قصر بكنغهام.
عند بلوغه، التحق بجامعة أوكسفورد وأنهى دراسته بتفوّق. في عام 1910، وصل لأول مرة إلى الشرق الأوسط، وانضم إلى البعثة الأثرية للمتحف البريطاني للتنقيب الأثري في كركميش. التقى هناك بعالميْ الآثار ليونارد وولي (احفظوا الاسم لأننا سنعود إليه) وديفيد هوغارث الذي أعجب بشخصية الشاب. أثناء تواجده في المنطقة، تعلم لورنس اللغة والعادات والثقافة العربية. ساعدته هذه المهارات لاحقًا في حياته، وبفضلها، اكتسب الاسم الذي اقترن به تاريخيًا.
مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، تجنّد لورنس لصفوف الجيش البريطاني، حيث حصل على رتبة رائد وبدأ بالعمل كضابط استخبارات. في عام 1916، التحق بـ “المكتب العربي” في القاهرة، وهناك، التقى مجددًا بديفيد هوغارث، من كان مسؤولًا عنه في عمليات التنقيب الأثري. تولى قبله منصبه هذا ماركس سايكس، ذاك الشخص من اتفاقية سايكس-بيكو التي أُبرمت بين بريطانيا وفرنسا لتقسيم أراضي الدولة العثمانية مستقبلا. تزامنًا مع ذلك، سعى البريطانيين لحشد الدعم العربي للجهود الحربية. محادثات الحشد والتجنيد دارت أيضًا مع الهاشميين بقيادة حسين بن علي، شريف مكة، وتم التوصل إلى تفاهم سيسطر الهاشميون بموجبه على كامل المنطقة الواقعي جنوبيّ تركيا-مملكة عربية كبرى تمتد من شبه الجزيرة العربية وحتى منطقة الشام (بما في ذلك أرض إسرائيل). هنا، يدخل لورنس إلى الصورة، فقد كان له دور رئيسي في بلورة الاتفاقية مع الهاشميين. ولكنه أقصيَ عن اتفاقية سايكس-بيكو، وعندما اكتشف وجود اتفاقية كهذه، غضب جدًا وكشف الأمر للهاشميين. كانت هذه الاتفاقية السرية للإمبراطورية البريطانية خيبة الأمل الأولى لدى لورنس تجاه الإمبراطورية التي مثّلها. خلقت التأويلات المختلفة لدى لورنس الشعور بانعدام الثقة، لأنّه اعتبر ذلك خيانة لقيم بريطانيا، من جملة أسباب أخرى.
كان لورنس العرب، اسم على مسمى، ضابط ارتباط مكلّف من قبل البريطانيين، أرسله الجنرال ألنبي لمساعدة العرب في الثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية. قاد لورنس، إلى جانب فيصل، ابن علي، مجموعة تضم آلاف المقاتلين المسلحين من قبل البريطانيين. المعركة التي بدأت في شبه الجزيرة العربية انتهت باحتلال دمشق مرورًا بالجانب الشرقي، ولكنّ دمشق كانت ضمن المنطقة المخصصة لفرنسا وفقًا للاتفاقية. مع أنّ لورنس كان على علم بذلك، إلا أنّ ذلك لم يمنعه من المساعدة في احتلال دمشق ودعم تتويج فيصل ملكًا لسوريا. في الواقع، حاول لورنس إفشال اتفاقية سايكس-بيكو.
ماذا سيفعل البريطانيون؟
نجحت الثورة العربية، وتمكنت القوات الهاشمية من احتلال العقبة وساعدوا البريطانيين على تسريع احتلال أرض إسرائيل. ولكن مطلب الشريف حسين بإقامة مملكة عربية كبرى من شبه الجزيرة العربية وحتى منطقة الشام-لبنان (بما في ذلك أرض إسرائيل) – والتي وعد بها من قبل البريطانيين، كما جاء أعلاه- رفضت بشكل قاطع. عاود الفرنسيون احتلال دمشق، وطردوا فيصل منها. بينما وقف البريطانيون جانبًا ولم يفعلوا شيئًا. كانت تلك الخيانة الثانية، من وجهة نظر لورنس.
وهنا، يجب ذكر منظمة نيلي الاستخباراتية والتي عملت في اليشوف العبري تزامنًا مع هذه الأحداث. كانت المنظمة على تواصل مع زميل لورنس- عالم الآثار ليونارد وولي. سعت المجموعتان لتحقيق نفس الهدف: التعاون مقابل تقديم وعد للدولة. قدّمت منظمة نيلي معلومات استخباراتية غنية ساعدت البريطانيين إلى حد كبير، ولكن هل ساهمت نيلي بطرق أخرى أيضًا؟ ماذا كان رد فعل لورنس على ذلك؟
في نهاية المطاف، فرض البريطانيون والفرنسيون سلطتهم على الجزء الأكبر من الأراضي التي وعد بها الشريف حسين، وقاموا بتقسيمها بينهم وفقًا لاتفاقيات سايكس-بيكو. ولكن لورنس وحسين أيضًا حققا نجاحًا معينًا: توّح اثنان من أبناء حسين ملوكًا- عبد الله في الأردن (العائلة المالكة حتى الآن هي من السلالة الهاشمية) وفيصل في العراق. مع ذلك، اعتبر لورنس الاتفاقية خيانة للبريطانيين، وعندما دعيَ إلى قصر الملك للحصول على لقب الفروسية في نهاية الحرب، رفض الحضور، وغضب الملك. ولكن عندما قتل لورنس في حادثة دراجة نارية في عام 1935، رثاه الشعب كله، وما زال يعتبر أسطورة من قبل العديد من البريطانيين، إلى حد وضع صورته على غلاف ألبوم لفرقة البيتلز.
بعد كل ذلك، هل عرفتم المنظمة؟
ربما يكون هذا الجزء مفاجئًا للعديدين، ولكن لورنس العرب لم يكن نصير العرب فقط، إنّما نصير الصهيونية أيضًا. فقد تغير موقف لورنس من اليهود، على ما يبدو بفضل محادثاته مع ويلي الذي أخبره بمساهمة اليهود في الجهود الحربية، من بينها جهود منظمة ويلي. باقتراب نهاية الحرب، كان لورنس قد بلور موقفًا مواليًا لجهات مختلفة، فقد اعتبر حكومة المملكة المتحدة خائنة لحلفائها، وبات مواليًا للهاشميين. في تلك الفترة التي أعاد خلالها التفكير في وجهة نظره، تغير أيضًا موقفه من اليهود. فبعد أن قلّل من شأنهم عشية الحرب، اعتبرهم بعد الحرب شجعانًا وأذكياء، بناءً على ما حققه أهرون أهرونسون وأصدقاؤه. ولم يتوقف التغيير عند هذا الحد. استغل لورنس قوته ونفوذه لتغيير شكل الشرق الأوسط: فهو من بادر للقاء بين حاييم وايزمان، رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، والأمير فيصل، حيث تنازل عن الضفة الغربية، وهو من جعل تشرشل يغير اتفاقيات سايكس-بيكو لكيلا تشمل أرض إسرائيل. وفي مؤتمر القاهرة في عام 1921، حيث اتفق نهائيًا على تطبيق وعد بلفور رسميًا، طالب بالاحتفاظ بمنطقة انتدابية، ومن ضمنها، وطن للشعب اليهودي. توقّع لورنس أيضًا أنه ستكون لليهود مساهمة كبرى في رفع مستوى السكان في الشرق الأوسط العربي. في مقابلة أجريت معه في صحيفة يهودية محلية في لندن بمرور عام على إعلان بلفور، قال لورنس: “باعتباري شخص غير يهودي، أعتقد أنّه من البديهي أن يحمل اليهود معهم “الخميرة الغربية” التي يحتاج إليها بلدان الشرق الأوسط. قد يجد البعض في ذلك شيئًا من العنصرية، وقد يعتبر آخرون هذه الفكرة مديحًا لـ “العبقرية اليهودية”.
في اقتباس آخر له، تحدث لورنس عن قيام الدولة اليهودية المستقبلية: “إذا قامت دولة يهودية في أرض إسرائيل، فإنّ ذلك سيتطلب استخدام قوة السلاح! ستقوم الدولة حتمًا بقوة السلاح في مواجهة مجموعة سكانية معادية، وكبيرة جدًا”. في اقتباسه هذا، يتشارك هو وأهرونسون خطًا فكريًا متشابهًا، ولكن لا يوجد ما يثبت أنهما تحدثا عن الموضوع ذات مرة.
عندما أدرك لورنس أنّ السلاح قد يكون يهوديًا وليس إنجليزيًا، أصبح تدريجيًا مناصرًا للصهيونية. في هذا المضمار، تجدر الإشارة إلى أنّ أهرون أهرونسون التقى بلورنس عندما عمل كلاهما في الاستخبارات البريطانية. في حينه، لم يرُق لورنس لأهرونسون لأنّه كان يظنه معارضًا للفكرة الصهيونية، ولم يستلطف لورنس أهرونسون أيضًا. وبعد سقوط الدولة العثمانية، توقع أهرونسون شرقًا أوسط جديدًا قائمًا على الشراكة اليهودية-الأرمنية-العربية، حيث يؤدي الأرمن دور الوسيط بين اليهود والعرب- أولى أهرونسون أهمية قصوى لوجود دولة أرمنية على ضوء الإبادة الجماعية التي تعرض لها الأرمن. شارك سايكس بأفكاره هذه، ولا يمكننا سوى تخمين رد فعل أهرونسون على تجنّد لورنس لخدمة الفكرة الصهيونية، ففي عام 1919، قتل أهرونسون في حادثة طائرة فوق قناة المانش وهو في طريقه إلى مؤتمر السلام في باريس، ولم يعثر على جثته.
بغض النظر عن منظورنا للتاريخ، فالمؤكد هو أنّ لورنس العرب، “المرفوض اجتماعيًا” عند ولادته، كان يقدّر الشعوب المستضعفة، كان يؤمن بالنزاهة والإخلاص تجاه بني البشر على اختلاف مستوياتهم ويبغض الخيانة، آمن بالطريق التي سلكها وتجنّد لخدمة المهمشين. يرجّح أنه عايش بنفسه مشاعر الخزي والألم التي ترافق الإنسان المهمش اجتماعيًا.
لكتابة هذه المقالة، استعنا بـ “كتاب رحلة إلى شمال سوريا”، 1911، وبكتاب أليعزر ليفانا، أهرون أهرونسون- الرجل وعصره.
ابن سينا وأعراض “مرض” العشق الشديد
صنف ابن سينا "العشق الشديد" ضمن الأمراض العقلية إلى جانب الأرق والنسيان، ووصف للعاشقين دواءً وعالجهم. فكيف التفت ابن سينا لأعراض الجسد وخفّف من روع العشّاق؟
صنّف ابن سينا “العشق الشديد” ضمن الأمراض العقلية إلى جانب الأرق والنسيان، ووصف للعاشقين دواءً وعالجهم، ولم يكن العالم ابن سينا (980 – 1037) فقط عالمًا في مجال الطب البدني بل وصل إلى مجالات علمية عدة منها الفيزياء، الرياضيات، الفلك، الكيمياء، الفلسفة، الشعر العربي وعلم الكلام وحتى الطب النفسي. وفي الطب النفسي، صُنِّفت مؤلفاته بين الفلسفة والطب، وقد عرّج على الطب النفسي في كتبه القانون في الطب، الشفاء والنجاة، وورد في كتبه بعض النظريات العقلية والتجارب العملية التي اعتمدها مع مرضاه. وقد قسّم ابن سينا النفس البشرية إلى ثلاثة أقسام أو مستويات: نباتية (وهي التي تساعد على توليد الطاقة عبر الغذاء الذي يتناوله الفرد)، حيوانية (أجزاء الجسم التي يتحكّم بها بإرادته)، وإنسانية (أفكار الإنسان ومنبع قرارته).
وضمن مجال الفلسفة، سعى ابن سينا لفهم النفس البشرية والغاية الوجودية لنا على الأرض، وقد ظهر ذلك في تساؤلاته حول طائفته الاسماعيلية واللجوء إلى فلسفة أرسطو والفارابي. وقد قسّم نظرياته حول براهين النفس: طبيعية (قسرية وتحدث من الخارج وتؤثر على الداخل، والقسرية بشكل طبيعي وغير طبيعي) ونفسية (مجموعة من القوى المستقلة في نفس الإنسان، وتكون عبارة عن أفكار).
كما استطاع ابن سينا قياس الانفعال على أساس قياس التغيرات الفسيولوجية التي تحدث للانفعال؛ إذ عالج أحد مرضاه من حالة عشق شديد، مستندًا على قياس النبض من الرسغ؛ وقد أكّد ابن سينا نظريته التي تقرّ بوجود علاقة وثيقة بين النفس والبدن؛ فالتغيرات في الحالات النفسية التي تحدث في حالات الانفعال العاطفية يصاحبها/ يتبعها تغيّرات في جسم الإنسان، إذ جاء في كتابه (النجاة): “جميع العوارض النفسانية يتبعها أو يصاحبها الروح، إما إلى خارج وإما إلى داخل.. والحركة إلى خارج إما دفعة كما عند الغضب، وإما أوّلا فأولاً كما عند اللذّة وعند الفرح المعتدل، والحركة إلى داخل إما دفعة كما عند الفزَع، وإما أوّلا فأولا كما عند الحزن..”.
ففي حالة “مريض” العشق، أراد ابن سينا أولاً أن يعرف الفتاة التي يعشقها هذا الشخص حتى يتمكّن بعد ذلك من أخذ خطوات عملية في علاجه من عشقه، فكان يضع إصبعه على نبض هذا الشخص، ويأمر أحد المرافقين بذكر أسماء ساكني البيوت بجوار بيت ذاك الشاب، فيلاحظ ما يحدث من تغييرات في سرعة النبض عندما يسمع هذه الأسماء، وبهذه الطريقة، استطاع ابن سينا أن يعرف الفتاة التي يعشقها الشاب؛ إذ بيّن أن من أعراض العشق عدم انتظام النبض وأكد على أنّه “أصبح من الممكن التوصل إلى معرفة المعشوق إذا أصرّ أحد العاشقَين على عدم الكشف عنه، وهذا الكشف هو إحدى طرق العلاج“، أمّا العلاج فكانت وصفة “الزواج” من تلك الفتاة هي العلاج المرجو لشفاء العاشق. (القانون في الطب)
وقد صنّف ابن سينا “حالة العشق الشديد” ضمن الأمراض العقلية إلى جانب الأرق والنسيان، ووضّح أنّ الانفعال عند ذكر اسم المحبوب أو ما يتعلّق به على سبيل المثال يُحدِث تغيرات في الدورة الدموية؛ إذ تزداد سرعةُ خفقان القلب، وينتج عن ذلك زيادة كمية الدم التي يرسلها القلب إلى أجزاء البدن، فتنقبض الأوعية الدموية في جسم الإنسان، فيما تتسع أوعية الأطراف، فعلى سبيل المثال، عند شعور الإنسان بالغضب، تتدفق الحرارة في وجهه وبدنه وبالتالي يحمرّ وجهه. وبذلك يكون ابن سينا قد جمع بين النظرية التي تعلّمها أو الفرضية التي وضعها وبين تجاربه على أبدان الناس تحت مظلة الفلسفة الإنسانية تارة والطب تارة أخرى.
ثمة عشرات الصور التي يتداولها الناس اليوم حول معارك عام 1948، مشاهد الدمار والبيوت المهدمة، مشاهد اللاجئين والراحلين، ولكن ما لا يعرفه الكثيرون أن معظم هذه الصور قد التقطها مصور واحد، وهو المصور بِنو روتنبرغ والذي تجول في عشرات القرى والمدن حينها ووثّق المعارك كما لم يفعل أحد.
روتنبرغ الذي ولد في فرانكفورت في ألمانيا عام 1914 انتقل ليعيش في البلاد عام 1933 تعرف على اثنين من قيادة الحركة الصهيونية حينها، إسحاق سدي مؤسس قوات الصاعقة الصهيونية، ويجئال ألون جنرال عسكري في الهاجاناة سيصير لاحقاً قائد أركان الجيش الإسرائيلي. علاقة بنو روتنبرغ مع الاثنين ستكون مدخلاً له للتواجد في عشرات المواقع والأحداث المميزة ربما يكون الأكثر أهمية هو تواجده على الجبهات الأكثر تقدماً في معارك عام 1948.
تواجد بنو روتنبرغ على جبهة يافا وتل أبيب والتقطت عشرات الصور من القرى المحيطة كأبو كبير وغيرها، كما تواجد في الطنطورة والتقط صوراً نادرة حينها لا تزال مرجعاً للباحثين والمهتمين حتى اليوم.
كانت الطنطورة منطقة واحدة من بين عشرات المواقع والجبهات المهمة التي تواجد بها روتنبرغ، ففي حي أبو كبير في يافا سيلتقط عشرات الصور المهمة من لحظة المعارك، كما ستوثق عدسته الدمار الذي سيلحق بالحي لتكون صوره مادة حية حول ما حدث هناك.
ستكمل عدسة روتنبرغ التوثيق في أبو كبير، يبنا، العباسية، قرى الشمال والجنوب، قرى وادي عارة، الناصرة، حيفا، عكا، والقدس، وعشرات القرى والمدن أخرى. عشرات القضايا والملفات، سيتواجد ضمن الاتفاقيات والمعاهدات اللاحقة، كاتفاقية إخلاء قرية عراق السويدان، قضايا العرب المتبقين في البلاد، والذين سيشكلون نواة المجتمع العربي اليوم.
من ضمن القضايا ستكون ضمن اهتمام روتنبرغ: انتخابات الكنيست الإسرائيلية الأولى والتي شارك فيها العرب، المناسبات الثقافية والاجتماعية العربية وعشرات الصور التي توثق الحياة اليومية في البلاد. هذا لا يعني بأن روتنبرغ لم يصوّر المجتمع الإسرائيلي، روتنبرغ كان مهتمًا جداً بالآثار، بالمواقع التاريخية، وبتحوّلات البلاد خلال سنينها وعليه فإنّ توثيقه للمجتمع الإسرائيلي أيضاً لا يقل أهمية عن توثيقه للمجتمع والبلاد العربية.
في 13 آذار 2012 توفي المصوّر الإسرائيلي بِنو روتنبرغ عن عمر يناهز 97 عاماً، مختتماً بذلك مسيرة عمل تمتد لأكثر من 60 عاماً في عالم التصوير، تاركاً لنا في ختامها إرثاً ضخماً يزيد عن 48 ألف صورة توثق عشرات المدن والقرى في بلادنا والعالم. يمكنكم الآن الاطلاع على كافة الصور في أرشيف روتنبيرغ.