السلطان سليمان القانوني الشّهير، أو سليمان العظيم كما يلقّب بالإنجليزيّة، شخصيّة مثيرة جدًا للاهتمام. فقد كان يتمتع بشخصيّة قياديّة وسياسيّة فذّة، وتشهد له إنجازاته وبصماته الكثيرة على تشكّل الإمبراطوريّة العثمانيّة بذلك، ومن جهة أخرى هو شاعر مرهف الحس وعاشق ولهان. وخلّف أشعار عالية الحساسيّة والبلاغة في الغزل والعاطفة وكان غزير الإنتاج الأدبي، حتّى وصفه بعض الباحثين بأحد أهم المبدعين في التّاريخ العثماني، وهذا ليس لأنّه سلطانًا، ولكن لكونه شاعر فذّ أيضًا. يبدو أنّ لهذه الشّخصية التاريخيّة حياة حافلة على الصّعيد الخاص والعام، وهي تتطلّب المزيد من البحث الدؤوب حتّى يتم الكشف عنها بشكل كافي.
ولكن الشعر الذي خلفه شباك جميل يطل على عالمه الخاص والعاطفي، وللسلطان الكبير ديوان شعر بديع يدعى “محبي”، فيه آلاف من أبيات الشعر التي يظهر بها مكنونات قلبه بانكشاف ولغة جميلة. كتب السلطان أشعارًا بالفارسيّة كذلك. وفي المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة نسخ مزوّقة لهذا الدّيوان يمكنكم الاطلاع عليها هنا.
طالع/ي أيضًا: السلطان العظيم سليمان القانوني
السلطان المحب للذوق والجمال
أمضى السلطان أوقاتًا كثيرة من طفولته في قصر جده بيازيد الثّاني حيث تلقّى العلوم والدروس من علماء كبار، ولطالما كان محبّا للشعر والشّعراء وكان يتقن الكتابة بخطّ جميل، كما كان يعتني بمظهره وبهندامه ويمتلك ذوقًا خاصًّا، اذ اشتهر بالبناطيل المختلفة والثّوب الطويل والمزركش ومظاهر الفخامة، كما كان محبًا للأحجار الكريمة. كان مهتمًا بالعمارة الجميلة التي ازدهرت في عهده، كما قام بترميم الكعبة المشرّفة في مكّة وقبّة الصّخرة في القدس، كما بنيت اسوار القدس في عهده أيضًا. كان يعلي من مكانة الصّاغة مثلًا ويقيم لهم محافل، كما استقبل الشّعراء والعلماء في بلاطه وأكرمهم بل وكان يصطحبهم أحيانًا في سفراته ورحلاته. وفي عهده ترجم العمل الكبير “كليلة ودمنة” من روائع الأدب الهندي، بالإضافة الى المزيد من الاعمال الكلاسيكيّة الفارسية التي نقلت إلى التركية في عهده. ولذلك فليس بغريب ان يكون مطلعًا على الشعر والأدب إلى هذا الحد وأن لا يكون شغوفًا بالشعر بنفسه.

بعض الأبيات من ديوان محبي
يشتهر ديوان محبي أي ديوان “المحب” كما سمّى نفسه، بالنّظم على بحر الغزل باللّغة التركية. يقال أن السلطان سليمان كان يسهر الليل بطوله ملوّعًا، يكتب كلمة ويترك الورقة ويعود إليها وهكذا دواليك، ويبقى على هذه الحالة إلى أن تنطلق منه قصيدة كاملة.

لم ينفرد السّلطان سليمان من بين السّلاطين العثمانيّين في شعره، فالسّلطان محمّد الفاتح كان شاعرًا أيضًا، وكذلك السّلطان عثمان الثّاني، وكان كلّ منهم يختار اسمًا له ليوقّع به أشعاره، وفي حالة السّلطان سليمان استخدم الكلمة العربيّة الاصل حُب، وسمّى نفسه بالمحبّ.
إليكم إحدى هذه القصائد الشهيرة:
يا عرشي محرابي الوحيد، يا ثروتي، يا حبّي، يا ضياء قمري
يا أكثر الأصدقاء إخلاصًا، وصاحبة سرّي، يا وجودي، سلطانتي، وحبّي الواحد والوحيد
يا أجمل الجميلات
يا ربيعي وحبّي ووجهي المَرح، يا نهاري وقلبي الحلو وأوراق الأشجار الضاحكة
يا نباتاتي، يا حلوتي، يا زهرتي، أيتها الوحيدة الّتي لا تثقل حياتي في هذه الغرفة
يا إسطنبولي، يا قرماني، يا أرض أناضولي
يا بادخشاني، يا بغدادي، يا خراساني
يا امرأتي ذات الشعر البديع، يا حبّي للحاجب المائل
يا حبّي للعيون المليئة بالأسى
سأسبّح لك دومًا فإنني المحب ذو القلب المحزون
إنّ محبّي ذو العيون المليئة بالدّموع حقًا سعيد
كتب السّلطان سليمان هذه القصيدة إلى زوجته المعروفة باسم روكسالانا، والذي جمعته بها علاقة عاطفية جياشة تعبّر عنها هذه القصيدة. نرى في القصيدة أنها أكثر من مجرد تعبير عن الحبّ والتعلق، إنّما دلالة على المكانة العاليّة التي اتخذتها حرم السلطان في حياته. وأن إشارته إلى مواقع من الدولة العثمانيّة الواسعة والّتي اتّسعت أكثر وأكثر في عهده مثيرة للاهتمام، إذ يصفها بالوطن الأناضول، إلا أنّه أيضًا يصفها بالمدن البعيدة التي من خلال الإشارة لها يرسم خارطة تدلّ على مدى اتّساع رقعة حكمه الجغرافيّة من الشّرق الى الغرب، فكأنه يقول لها: يا قوّتي.
ولدت روكسلانا في شرق أوروبا وتم اختطافها وبيعها في سوق للعبيد في القسطنطينيّة، وهكذا وجدت طريقها الى البلاط ومن ثمّ إلى قلب السّلطان الأعظم. ليس من الممكن معرفة الكثير عن شخصيّة هذه المرأة الّتي عشقها السّلطان وتأثر بها الى هذا الحدّ، فإن حياة حريم السّلطان بقيت غامضة الى حدّ بعيد. ولكن بقيت أبيات “محبي” تشير إليها، وإلى خفايا جميلة في التّاريخ العثماني ولا سيّما في التاريخ الإنساني كله.