ابن سينا وأعراض “مرض” العشق الشديد

صنف ابن سينا "العشق الشديد" ضمن الأمراض العقلية إلى جانب الأرق والنسيان، ووصف للعاشقين دواءً وعالجهم. فكيف التفت ابن سينا لأعراض الجسد وخفّف من روع العشّاق؟

رسم توضيحي للعالم ابن سينا، من موقع CMI، 2020.

رسم توضيحي للعالم ابن سينا، من موقع CMI، 2020.

صنّف ابن سينا “العشق الشديد” ضمن الأمراض العقلية إلى جانب الأرق والنسيان، ووصف للعاشقين دواءً وعالجهم، ولم يكن العالم ابن سينا (980 – 1037) فقط عالمًا في مجال الطب البدني بل وصل إلى مجالات علمية عدة منها الفيزياء، الرياضيات، الفلك، الكيمياء، الفلسفة، الشعر العربي وعلم الكلام وحتى الطب النفسي. وفي الطب النفسي، صُنِّفت مؤلفاته بين الفلسفة والطب، وقد عرّج على الطب النفسي في كتبه القانون في الطب، الشفاء والنجاة، وورد في كتبه بعض النظريات العقلية والتجارب العملية التي اعتمدها مع مرضاه. وقد قسّم ابن سينا النفس البشرية إلى ثلاثة أقسام أو مستويات: نباتية (وهي التي تساعد على توليد الطاقة عبر الغذاء الذي يتناوله الفرد)، حيوانية (أجزاء الجسم التي يتحكّم بها بإرادته)، وإنسانية (أفكار الإنسان ومنبع قرارته).

ابن سينا: الطبيب الفيلسوف والشيخ الرئيس، مجلة المنتدى: 1 شباط 1945
ابن سينا: الطبيب الفيلسوف والشيخ الرئيس، مجلة المنتدى: 1 شباط 1945

وضمن مجال الفلسفة، سعى ابن سينا لفهم النفس البشرية والغاية الوجودية لنا على الأرض، وقد ظهر ذلك في تساؤلاته حول طائفته الاسماعيلية واللجوء إلى فلسفة أرسطو والفارابي. وقد قسّم نظرياته حول براهين النفس: طبيعية (قسرية وتحدث من الخارج وتؤثر على الداخل، والقسرية بشكل طبيعي وغير طبيعي) ونفسية (مجموعة من القوى المستقلة في نفس الإنسان، وتكون عبارة عن أفكار).

اقرأ/ي أيضًا: كيف احتفت بغداد بابن سينا عام 1952؟ نظرة على “الكتاب الذّهبي”

كما استطاع ابن سينا قياس الانفعال على أساس قياس التغيرات الفسيولوجية التي تحدث للانفعال؛ إذ عالج أحد مرضاه من حالة عشق شديد، مستندًا على قياس النبض من الرسغ؛ وقد أكّد ابن سينا نظريته التي تقرّ بوجود علاقة وثيقة بين النفس والبدن؛ فالتغيرات في الحالات النفسية التي تحدث في حالات الانفعال العاطفية يصاحبها/ يتبعها تغيّرات في جسم الإنسان، إذ جاء في كتابه (النجاة): “جميع العوارض النفسانية يتبعها أو يصاحبها الروح، إما إلى خارج وإما إلى داخل.. والحركة إلى خارج إما دفعة كما عند الغضب، وإما أوّلا فأولاً كما عند اللذّة وعند الفرح المعتدل، والحركة إلى داخل إما دفعة كما عند الفزَع، وإما أوّلا فأولا كما عند الحزن..”.

ففي حالة “مريض” العشق، أراد ابن سينا أولاً أن يعرف الفتاة التي يعشقها هذا الشخص حتى يتمكّن بعد ذلك من أخذ خطوات عملية في علاجه من عشقه، فكان يضع إصبعه على نبض هذا الشخص، ويأمر أحد المرافقين بذكر أسماء ساكني البيوت بجوار بيت ذاك الشاب، فيلاحظ ما يحدث من تغييرات في سرعة النبض عندما يسمع هذه الأسماء، وبهذه الطريقة، استطاع ابن سينا أن يعرف الفتاة التي يعشقها الشاب؛ إذ بيّن أن من أعراض العشق عدم انتظام النبض وأكد على أنّه “أصبح من الممكن التوصل إلى معرفة المعشوق إذا أصرّ أحد العاشقَين على عدم الكشف عنه، وهذا الكشف هو إحدى طرق العلاج“، أمّا العلاج فكانت وصفة “الزواج” من تلك الفتاة هي العلاج المرجو لشفاء العاشق. (القانون في الطب)

القانون في الطب، ابن سينا، مخطوطة منقحة 1291-1310
القانون في الطب، ابن سينا، مخطوطة منقحة 1291-1310

وقد صنّف ابن سينا “حالة العشق الشديد” ضمن الأمراض العقلية إلى جانب الأرق والنسيان، ووضّح أنّ الانفعال عند ذكر اسم المحبوب أو ما يتعلّق به على سبيل المثال يُحدِث تغيرات في الدورة الدموية؛ إذ تزداد سرعةُ خفقان القلب، وينتج عن ذلك زيادة كمية الدم التي يرسلها القلب إلى أجزاء البدن، فتنقبض الأوعية الدموية في جسم الإنسان، فيما تتسع أوعية الأطراف، فعلى سبيل المثال، عند شعور الإنسان بالغضب، تتدفق الحرارة في وجهه وبدنه وبالتالي يحمرّ وجهه. وبذلك يكون ابن سينا قد جمع بين النظرية التي تعلّمها أو الفرضية التي وضعها وبين تجاربه على أبدان الناس تحت مظلة الفلسفة الإنسانية تارة والطب تارة أخرى.

للمزيد من الكتب والمصادر حول ابن سينا في فهرس المكتبة الوطنية.

زلفة السعدي: فنانة تشكيلية في المجلس الإسلامي الأعلى

زلفة السعدي: فنانة تشكيلية مقدسية عرضت رسوماتها ومنتجاتها في المعرض العربي في المجلس الإسلامي الأعلى في ثلاثينيّات القرن الماضي.

صحيفة الاتحاد في 9 تشرين أول 1998

صحيفة الاتحاد في 9 تشرين أول 1998

في المعرض العربي الذي أقيم في المجلس الإسلامي الأعلى في شارع مأمن الله (ماميلا) في القدس، كانت الفنانة زلفة السعدي تعرض في جناح فلسطين رسوماتها الزيتية ومنتجاتها التطريزية، وقد ولدت الفنانة زلفة السعدي (1905-1988) في مدينة القدس في البلدة القديمة بالقرب من باب السلسلة، أحد أبواب المسجد الأقصى.

المعرض العربي في المجلس الإسلامي الأعلى

خلال الفترة الانتدابية على فلسطين، نشطت حركة المعارض الفنية بدعم من الإرساليات الأجنبية في المدارس التبشيرية، وكانت المعارض عبارة عن عرض صور لمصورين محليين، منتجات يدوية لعدد من الحرفيين والمتاجر، ولاحقًا ضُمّت اللوحات الزيتية في فن التصوير والذي عُرف بفن الأيقونغرافي، وكانت لوحات الفنانة زلفة السعدي المرسومة بالزيت قد لاقت استحسان الجمهور الفلسطيني وغير الفلسطيني؛ إذ قدّمت السعدي حينها معرضًا منفردًا في جناح فلسطين؛ وعرضت فيه لوحاتها وأعمالها اليدوية من التطريز. (بُلاطة، 2011)

فن الأيقونغرافي

قام الفنان كمال بلاطة، ابن مدينة القدس، بتحضير دراسة عن الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر بعنوان “استحضار المكان: دراسة في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر” باحثًا حول بداية وتاريخ الفن التشكيلي الفلسطيني. وقد قدّم لجمهور القراء والباحثين جانبًا فنيًّا عن الفنانة زلفة السعدي؛ إذ ورد في كتابه أنّ السعدي اعتمدت في رسماتها على محاكاة الصور، وبالتالي كانت من السبّاقات في فن اللوحات المصوّرة المعروف بالأيقونغرافي، والذي اُعتُبِر فنًّا “مستحدثًا” في التعبير وقد ساهم في تأريخ الوجه الثقافي الفلسطيني في ذلك الوقت. (بلاطة، 2011)

اقرأ/ي أيضًا: الحياة والأزياء التقليدية في مسيرة خليل رعد

بالإضافة إلى ذلك، أضافت زلفة السعدي لرسماتها صورًا لشخصيات تاريخية دينية ووطنية مثل المفكر جمال الدين الأفغاني، عمر المختار، وأحمد شوقي محاكية ظروف التصوير في تلك الفترة والتي كانت معتمدة على صور شخصيات باللباس التقليدي الديني والمجتمعي. بالرغم من أنّ المعارض الفنية كانت ضمن النشاطات الممولة من الإرساليات الأجنبية، إلا أنّ الفنانة زلفة السعدي استبدلت في لوحاتها التصويرية الأحرف اللاتينية واليونانية بأحرف اللغة العربية.

رسم شخصية أحمد شوقي، 1930، بريشة زلفة السعدي
رسم شخصية أحمد شوقي، 1930، بريشة زلفة السعدي من كتاب استحضار المكان لكمال بلاطة

 

 

رسم شخصية الملك فيصل الأول، 1930، بريشة زلفة السعدي من كتاب استحضار المكان لكمال بلاطة
رسم شخصية الملك فيصل الأول، 1930، بريشة زلفة السعدي من كتاب استحضار المكان لكمال بلاطة



“وقائع اكتشاف فنانة”

نشرت صحيفة الاتحاد في 9 تشرين أول 1998 وقائع اكتشاف الفنانة زلفة السعدي من قبل الفنان إسماعيل شمّوط. خلال بحث الفنان إسماعيل شمّوط عن الحركة الفنية التشكيلية الفلسطينية، اصطدم برسومات للفنانة زلفة السعدي عندما قام شاب وشابة بتسليمه ما تبّقى من رسوماتها، إلى جانب دفتر الزيارات الخاصة بالمعرض العربي والذي أقيم في المجلس الإسلامي الأعلى. ورد في دفتر الزيارات أن شركة المعرض العربي بفلسطين المحدودة قد رعت مجموعة من الأجنحة والأقسام لمنتجات زراعية صناعية وفنية، وقد كان هناك جناحًا للفنانة زلفة السعدي باسم “جناح فلسطين“، بالإضافة إلى ذلك، ورد في الدفتر إشادة الاقتصادي ورجل الأعمال ومدير بنك الأمة العربية آنذاك أحمد حلمي عبد الباقي، إذ كتب على الدفتر: “وإنه ليسرنا أن نرى الآنسات والسيدات العربيات في الطليعة من هذه الفئة العاملة… زرت قسم الأشغال اليدوية في المعرض العربي الأول التي تعرض فيه الآنسة زلفى ]زلفة[ السعدي صنع أناملها وآثار عبقريتها وبحثت المعروضات وأمعنت النظر فيها فملأت قلبي بهجة وحبورًا ونفسي إعجابا.” ووفقًا لما ذُكِر في هذا الدفتر، فقد مُنِحت زلفة السعدي، شهادة من الدرجة الأولى بناءً على قرار لجنة التحكيم الخاصة بالمعرض.

صحيفة الاتحاد في 9 تشرين أول 1998
صحيفة الاتحاد في 9 تشرين أول 1998

وقد وُصِفت صورها أو رسوماتها بأنّها صورًا ناطقة وذلك لشدة دقتها ووضوحها، وقد عبّر شمّوط عن ذلك بأنّه على الرغم من السعدي تتلمذت على يد نقولا الصايغ، عميد المعلمين والحرفين في القدس في الفن الأيقوني، إلا أنّ دقة رسوماتها للأشخاص والطبيعة والنباتات، تعكس وتبيّن أن الفنانة لم تكن تلميذة أو حتى هاوية بل هي فنّانة متمّرسة.

رسم شخصية أحمد شوقي، 1930، بريشة زلفة السعدي من كتاب استحضار المكان لكمال بلاطة
رسم شخصية عمر المختار، 1930، بريشة زلفة السعدي من كتاب استحضار المكان لكمال بلاطة

تزوجت زلفة السعدي عام 1938 من السيد سيف الدين الدجاني وهو فنان تشكيلي كذلك، وبعد حرب الـ 1948، هاجرت السعدي وزوجها إلى دمشق وهناك أصبحت معلمة للفنون ومديرة مدرسة اللد التابعة لوكالة الغوث (الأنوروا). غادرت زلفة السعدي مدينة القدس مع عدد قليل جدًا من لوحاتها الزيتية، وعلى ما يبدو أنّها لم تعد تمارس الرسم كمهنة بعد الحرب.

موهبة لا يمكن تقليدها: عازف القانون يوسف زعرور

كان يوسف زعرور موسيقيًا وعازفًا للقانون، عمل موسيقيًا في إذاعة أوركسترا بغداد، وقد منحته موهبته العظيمة نجاحًا في البلاد.

يوسف زعرور في المؤتمر العالمي للموسيقى العربيّة في القاهرة 1932

بقلم: راحيل جولدبيرغ

في أحد الأيام، خلال أحد التّمرينات في أوركسترا المقام العراقي في سلطة الإذاعة الإسرائيليّة، لاحظ عازف القانون يوسف زعرور عازفًا للقانون من زملائه، أفراهام سلمان، يجلس خارج الغرفة ويحاول تقليد تقنيّة زعرور المذهلة في العزف على الآلة. اقترب منه زعرور وقال مازحًا “ما الّذي تفعله؟ تقلّد عزفي؟ تقلّدني؟” أراد زعرور من المزحة أن يخفّف من حدّة التّوتر الحاصل كلّما أراد تلميذًا أن يجاري أستاذه. في النّهاية، لقد عرف زعرور سلمان منذ أيامهم في العراق، حين كان زعرور مديرًا فنّيا في أوركسترا إذاعة بغداد. كان زعرور يدعم الموسيقيين الموهوبين من الشّباب دومًا، بالذّات هؤلاء الّذين أتوا من الجالية اليهوديّة، وكان أفراهام سلمان من هؤلاء.

أوركسترا إذاعة بغداد، 1936
أوركسترا إذاعة بغداد، 1936

 

وُلد يوسف زعرور عام 1902 لعائلة ثريّة في بغداد. أظهر موهبة موسيقيّة منذ صغره، وفي سن الثامنة عشر اقتنى لنفسه قانونه الأوّل، كما عزف على الكمان والتشيللو. في العام 1932، شارك مع مجموعة من زملائه الموسيقيين العراقيين (كلهم يهود) في أول مؤتمر عالمي للموسيقى العربيّة في القاهرة. تجدون تسجيل نادر من هذا الحدث في مجموعات المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة. في المقطوعة الخامسة تسمعون عزف زعرور الجميل على القانون، وهي مقطوعة تقسيم على المقام العراقي “بنجكاه” على القانون. لشدّة تمرّسه وجمال موهبته، حصل زعرور على ميداليّة وحصد المركز الأوّل في هذا المؤتمر. لاحقًا، انضمّ زعرور إلى راديو بغداد عام 1936، وبعد خمس سنوات، عُيّن مديرًا فنّيًا في الإذاعة وبقي في هذه الوظيفة حتّى هاجر إلى البلاد عام 1951، وأثناء عمله في إذاعة بغداد، دعم زعرور العديد من الموسيقيين اليهود منهم المغنّي سليم شوات، ألبيرت الياس، أفراهام داوود، أفراهام سلمان، داوود أكرم، حقي عوفاديا، المغني صالح الشلبي وغيرهم كُثر.

أوركسترا إذاعة بغداد، 1938
أوركسترا إذاعة بغداد، 1938

لم يدفع زعرور الموسيقيين اليهود قدمًا وحسب، فحين أتى إليه المغني العراقي ناظم الغزالي إلى تجربة أداء غنّى أغنية مصريّة، فطلب منه زعرور أن يغنّي أغنيّة عراقيّة، مؤكّدًا على أن الغناء العراقي سيليق بأدائه أكثر، وبعد انتهاء تجربة الأداء أثنى زعرور على أداء الغزالي وتنبأ له بمستقبل عظيم وهو ما كان بالفعل. خلال سنوات عمله في راديو بغداد، لحّن زعرور ألحانًا مشهورة عديدة وعمل مع كبار المطربين العرب في ذلك الوقت، من الموسيقار الكبير محمّد عبدالوهاب إلى مطربة العالم العربي أم كلثوم. وبالرّغم من شدّة الطّلب عليه، إلّا أنّه كموظّف حكومي قدّم عروضًا خاصّة لعدد قليل من الشّخصيّات، منها الملك فيصل ملك العراق ورئيس الوزراء نوري السّعيد.

عازف الكمان الشّهير سامي الشّوّا عام 1931 في سينيما رويال في بغداد برفقة يوسف زعرور أما القانون وعيزرا أهارون عزّوري على العود
عازف الكمان الشّهير سامي الشّوّا عام 1931 في سينيما رويال في بغداد برفقة يوسف زعرور أما القانون وعيزرا أهارون عزّوري على العود.

أدّى مجيء زعرور إلى البلاد إلى تراجع ملحوظ في مكانته الفنّية، فتحوّل من إدارة الفنّانين والأوركسترا إلى العزف في الحفلات الخاصّة وأفراح الجالية العراقيّة اليهودية في البلاد. وبالرّغم من افتقاد الوقار الّذي تمتّع به في العراق فإنّه لم يتوقّف عن البحث عن المواهب وضمّها إليه. تقول عائلته، أنّه كلّما عُرض عليه العزف في احتفال عائليّ كان يسأل أصحاب الاحتفال عمّا إذا أرادوا عازف عود إلى جانبه، وكانوا دائمًا ما يرفضون الاقتراح لأنّهم يريدون سماع عزفه هو فقط، إلّا أنّهم تقديرًا لموهبته العظيمة كانوا يدفعون كما لو كانوا يستأجرون أوركسترا بأكملها.

 

مؤتمر الموسيقى العربيّة في القاهرة عام 1932 حين فاز زعرور بالمركز الأوّل
مؤتمر الموسيقى العربيّة في القاهرة عام 1932 حين فاز زعرور بالمركز الأوّل

جلبت له موهبته العظيمة نجاحًا مجدّدًا في البلاد وأسّس أوركسترا المقام البغدادي كجزء من الأوركسترا العربيّة في سلطة الإذاعة الإسرائيليّة، ومع ذلك كان عليه أن يقاتل للحصول على مكان بين الموسيقيين الّذين نجحوا هنا، وبعضهم كان قد قدّم دعمه لهم في السابق في العراق. العديد من تسجيلات زعرور من هذه الفترة تجدونها في مجموعات المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة.

 

يوسف زعرور في بيته عام 1966
يوسف زعرور في بيته عام 1966

إن القصّة الّتي بدأنا بها هذه المقالة تظهر التّحدّيات من أجل النّجاح ما بين المهاجرين القدامى والجدد وموهبة يوسف زعرور النّادرة. وقد حاول العديد من الموسيقيّون أن يصلوا إلى هذا المستوى من التمرّس، منهم حفيده عازف القانون دافيد ريغيف زعرور، الذي يقول أنّه يحاول أن يعزف مثل جدّه، وأنّه يتمنّى أن يتمكّن من ذلك يومًا ما.

من نَعَتّم بالـ “شلوحيين”؟

يستخدم العديد من الناس الكلمة الازدرائية "شلوح" لوصف شخص مُهمل ورَث الهيئة. هي كلمة ازدرائية نَعت بها سكان المدن الكبرى في المغرب أهالي القرى؟

أبناء قبيلة محلية في جبال الأطلس، 1955

أبناء قبيلة محلية في جبال الأطلس، 1955

بقلم: حن ملول

تبلورت فكرة المقالة قبل عدة سنوات، عندما سألت جدتي عن عدد اللغات التي تجيدها. يصعب تحديد ذلك، لأنّها تجيد عدة لهجات عربية (إلى جانب الفرنسية والإسبانية)، ولكنّها صبّت جل اهتمامها في إحدى اللغات: الشلحية، أو كما سميت بالأصل، تشلحيت. أخبرتني جدتي لديسيا بأنّها تعلمت هذه اللغة لتتواصل مع حماتها، التي لم تكن تتحدث سوى التشلحيت.  اقترن اسم اللغة مباشرة في ذهني بالكلمة الازدرائية الشائعة في البلاد “شلوح”- أي الشخص المُهمل ورث الهيئة.

تناولت إحدى مقالاتنا السابقة  اللقب المهين والمضلل الذي نُعت به سكان مدينة تشيلم في بولندا، ونتناول في هذه المقالة الشلوحيين. أولًا، إن لم تعرفوا من قبل مصدر المصطلح “شلوح”، إنّها كلمة ازدرائية تعود أصولها إلى المغرب، وعلى غرار “التشيلميم” مواليد بولندا أو “الحورانيين” مواليد سوريا، فإنّ كلمة “شلوح” هو لقب مهين نُسب لمجتمع كامل.

يهود من منطقة جبال الأطلس في مطلع القرن الـ 20. المصدر Jewish Encyclopedia
يهود من منطقة جبال الأطلس في مطلع القرن الـ 20. 

 

على غرار اللغة العربية متعددة اللهجات المحلية، فإنّ لغة الشلوحيين، تشلحيت، هي واحدة من اللغات الأمازيغية المحكية الثلاث متعددة اللهجات في المغرب. اللغتان الأخريان هما التمازيغت- الأمازيغية المعيارية ولهجة الريف.

يعيش الشلوحيون، موضوع هذه المقالة، في جنوب غرب المغرب، في نحو ألف قرية تربطها علاقة تجارية. قطنت هذه المنطقة أكبر جالية يهودية من يهود المغرب الذين جاوروا الأمازيغ.

الشهادات الأولى على الحياة المشتركة بين اليهود والأمازيغ في المغرب تعود إلى القرن الثالث للميلاد، ولكن التقاليد الشفوية ليهود جنوب المغرب تفيد بحضور اليهود إلى المنطقة في فترة الهيكل الأول، أي في القرن الـ 11 قبل الميلاد. إنّها على ما يبدو محاولة لدحض النظرية بأنّ يهود المنطقة هم من أصول أمازيغية وأنّهم اعتنقوا اليهودية في القرون الأولى بعد الميلاد. ينفي يهود المغرب الادعاء بأنّهم في الأصل أمازيغ اعتنقوا اليهودية-بل يعتبرون أنفسهم نسل جنود الملك داود وقائدهم وزير الجيش يوآف بن تسرويا، والذين لاحقوا الفلستيين حتى شمال أفريقيا.

بسبب القرب الجغرافي بين اليهود والشلوحيين- تطورت علاقات وثيقة وودية بين المجموعات السكانية المختلفة. ليس صدفة إذًا أن يتبنى يهود المنطقة لهجة التشلحيت وأن يتحدثوها. ما زال اليهود الذين سكنوا في هذه المجتمعات المحلية يقتبسون ويذكرون العديد من أمثال وأغاني وعادات جيرانهم الأمازيغ. الغالبية العظمى من هؤلاء اليهود قدموا إلى إسرائيل في الهجرة الكبرى في مطلع الخمسينات، قبل استقلال المغرب.

اعتاش الشلوحيون، ومعظمهم قرويون، على الزراعة. أما اليهود، فقد كانوا من أهل الذمة، وبالتالي، لم يكن يسمح لهم بحيازة أملاك. لذلك، كانوا بالأساس تجارًا اعتادوا التنقل في مجموعات صغيرة بين قراهم والقرى المجاورة لبيع بضائعهم وتقديم خدماتهم.  موّل البعض منهم المبادرات الزراعية لجيرانهم الأمازيغ بواسطة شراء البذور من أجلهم. وفي موسم الحصاد، كان المستثمرون اليهود يحصلون على ثلاثة أرباع المحصول الزراعي.

على مدار أكثر من أربعة عقود، التقى بروفسور يوسف شطريت بأشخاص يهود وأمازيغ جاوروا بعضهم بعضًا. في مقالته حول القرب والتباعد بين هذين المجتمعين، يشير إلى أنّه حتى بعد مرور عدة عقود، ما زال الجيران الشلوحيون يذكرون بعض العبارات العبرية، ابتداءً من “بروطيم” (مال) وحتى مشروب الحياة- الكلمة اليهودية-المغربية لمشروب العرق. خلال الفترة الطويلة التي عاشوا فيها جنبًا إلى جنب، عُرف اليهود كتجار أذكياء ومحنكين، وخُلّدوا في العديد من الأمثال الأمازيغية، مثل: اليهود في السوق كالملح في العجين.

سوق في المغرب، من مجموعات بيتمونا 
سوق في المغرب، من مجموعات بيتمونا

 

امرأة شلوحية من جنوب المغرب
امرأة شلوحية من جنوب المغرب

 

لم يتشارك اليهود وجيرانهم الشلوحيون مصادر المعيشة فحسب. فقد انضم الأمازيغ إلى يهود المنطقة في زياراتهم إلى قبور القديسين اليهود في مواسم الحجيج (الهيلولاه)؛ وكانوا يبيعون العجول والأغنام للمشاركين في مواسم الحجيج، بالإضافة إلى الفواكه والخضار. كان المعالجون اليهود يحظون بزيارات جيرانهم الشلوحيين في أوقات متقاربة، وقد استخدموا تمائمهم وعصائرهم بدون أي خوف.

في الأفراح أيضًا، كما في الأحزان، كان لليهود والشلوحيين عادات مشتركة، بل وتعاونوا أيضًا في أداء الرقصات والأغاني في المناسبات العامة. مع أنّ اليهود امتنعوا عن المشاركة في عادات أمازيغية متعلقة بالعقيدة الإسلامية، إلا أنّ كلّ من المجموعتين كانت تعرف جيدًا تقويم المجموعة الأخرى. إلى جانب تهنئة الجيران بالأعياد أو التمني لهم بصيام سهل، فإنّ أعياد ومناسبات هذين المجتمعين شكلت فرصة اقتصادية ذهبية: كان الشلوحيون يبيعون محاصيلهم الزراعية لليهود قبل دخول السبت وعشية الأعياد، ومن ضمنها القَصَب لبناء العرائش، بينما كانت النساء اليهوديات يُحكن ملابس جديدة لمناسبة الأعياد الإسلامية.

برز التعاون بين اليهود والمسلمين بشكل خاص قبل احتفال الميمونة. خلال العيد، كان اليهود يقدمون هدية لمعارفهم المسلمين، وقد شملت: مصّة، فطيرة وأحيانًا يخنة اللحم، بالمقابل، كان المسلمون يقدّمون لليهود الحليب، العسل، البيض والطحين، أي مستلزمات الميمونة.

 

صورة لشابة يهودية من جبال الأطلس على غلاف صحيفة "لافنير إيلوستريه" بعنوان: "دراستنا عن أحياء الملاح"، 19 آذار 1931. لقراءة المقالة، انقروا على الصورة
صورة لشابة يهودية من جبال الأطلس على غلاف صحيفة “لافنير إيلوستريه” بعنوان: “دراستنا عن أحياء الملاح”، 19 آذار 1931.

 

كيف إذًا ارتبط اسم “الشلوحيين”، هذه المجموعة المتنوعة والنشطة، بكلمة ازدرائية تعني شخص مهمل وغير جدير بالثقة؟ القادمون من المغرب هم من جلبوا هذا اللقب المهين، والذي يسيء للمسلمين ولليهود القرويين.

في سنة 1931، نشرت الصحيفة اليهودية الناطقة بالفرنسية “لافنير إيلوستريه” (L’Avenir illustré)، بالعبرية: المستقبل المصور، مقالة لتشارلز أبي حصيرة من مدينة الرباط في ملحق “إسرائيل الشابة”-  Jeune Israël . يكتب أبي حصيرة عن المهاجرين اليهود القرويين الذين ملأوا مدينته وينعت أحدهم بـ “شلوح”. الشخص الموصوف بهذا اللقب المهين في مقالة أبي حصيرة هو مسن يهودي يعتاش على التبرعات وبفضل السياح الذين يدفعون له مبلغًا بسيطًا ليلتقط لهم الصور. الشيء الثاني الذي يزعج “أبي حصيرة” هو حقيقة أنّ “الشلوح” كان يتسول أيام السبت، ويخرق قوانين الديانة اليهودية.

أبي حصيرة، الممثل الشاب ليهود المغرب الغربيين، يميّز نفسه عن هذا “الشلوح”، الذي يصوّره كشخص قذر وسلبي، لا يجيد العربية أو الفرنسية، بل الأمازيغية فقط. فهو يفعل ذلك بالفرنسية، في ملحق “إسرائيل الشابة” الذي كان يقرأه الفتيان والفتيات اليهود في المغرب الذين تعلموا الفرنسية في مدارس الإليانس، أجادوا اللغة الفرنسية وكانوا أكثر ارتباطًا بالقيم الغربية الأوروبية من القيم التقليدية في المغرب.

لم يبتكر أبي حصيرة لقب “شلوح” لنعت القرويين بالطبع، ولكنه استخدمه ليميز نفسه ومجتمعه عن المهاجرين من المناطق القروية. تجدر الإشارة إلى أنّ الاسم “بربر” يوحي بالسلبية، وأنّه اسم غريب عن البربر أنفسهم الذين يسمّون أنفسهم “أمازيغ” وتعني الإنسان الحر. يعود الاسم “بربر” إلى الكلمة الازدرائية الذي استخدمها اليونانيون القدماء لكل من لم يتكلم اليونانية (بحيث يعود الاسم بربر الذي نعرفه إلىβάρβαρος,.

 

"السواح في حي الملاح في الرباط"، لقراءة المقالة، انقروا على الصورة
“السواح في حي الملاح في الرباط”

على الرغم من محاولة الشاب أبي حصيرة والكثيرين غيره من اليهود أبناء المدن المغربية التميز عن اليهود الناطقين بالأمازيغية، تجدر الإشارة إلى أنّه قبيل مغادرة اليهود للمغرب، كان نصف سكان الدولة (المسلمين واليهود) يتحدثون الأمازيغية كلغتهم الأولى أو الثانية. بعد استقلال المغرب والتعليم الرسمي الذي اتبع فيها، انخفض هذا العدد إلى 30 بالمئة. تحدث معظم اليهود الناطقين بالأمازيغية بلهجة تشلحيت، وبالنسبة للبعض منهم (في منطقة تفنوت مثلًا، في أعالي سهل سوس)، كانت التشلحيت لغتهم الأم، على الأقل حتى الاحتلال الفرنسي للبلاد. بفضل الحماية الفرنسية على المغرب، والتي أنشأت شبكة طرق ربطت يهود القرى بالمدن الكبرى، تبلورت حركة هجرة من القرى. نشأ عن اللقاء بين أهالي المدن وأهالي القرى هذا اللقب المهين.

علاقة الجوار المركبة بين اليهود وجيرانهم الشلوحيين هي جزء لا يتجزأ من قصة القادمين من المغرب، وهو بالطبع جزء مهم من تاريخ المغرب. لم تسكن هاتان المجموعتان بجوار بعضهما بعضًا على مدار مئات وربما آلاف السنين فحسب، بل تشاركتا أيضًا عقائد وعادات، مثل تمجيد القديسين، الطب الشعبي ومخزون كامل من الأغاني الأمازيغية، الرقصات الشعبية والحِكم والأمثال. لذلك، فإنّ ازدراء الثقافة الشلوحية وإلغاءها- والذي بدأ في المغرب- يعتبر إساءة لجزء كبير من ثقافة يهود شمال أفريقيا.

في الوقت الحالي، وعلى الرغم من العلاقات المركبة والحساسة بين المجموعات المختلفة، فإنّ اليهود والأمازيغ يستذكرون ماضيهم المشترك بحنين. مغادرة اليهود للمغرب تركت أثرًا سلبيًا لسنوات طويلة على الاقتصادي القروي للأمازيغ والشلوحيين. قبل توطيد العلاقات الرسمية وغير الرسمية بين إسرائيل والمغرب، تعزز الحنين إلى هذه الشراكة، وانعكس ذلك في إضفاء المثالية على واقع اليهود في قراهم وبلداتهم الأصلية في المغرب. الآن، في أعقاب تسهيل السفر إلى المغرب، فإنّ الإسرائيليين المنحدرين من أصول مغربية يستطيعون معاودة زيارة هذه القرى وإعادة بناء العلاقات التي نُسجت بين آبائهم والأمازيغ على مدار عدة أجيال.

 

نتقدم بجزيل الشكر لبروفسور يوسف شطريت ود. دافيد غادج على مساهمتهما في كتابة المقالة.

 

لمزيد من المراجع

Joseph Yossi Chetrit, Intimacy, Cooperation and Ambivalence: Social, Economic and Cultural Interaction between Jews and Berbes in Morocco, European Judaism, Volume 52, No. 2, 2019: pp. 18-30

Joseph Yossi Chetrit, ” Judeo-Berber in Morocco” in: Languages in Jewish Communities, Past and Present, Edited by Benjamin Hary & Sarah Bunin Benor (De Gruyter, 2018)

David Guedj, “Jeune Israel”: Multiple Modernities of Jewish Childhood and Youth in Morocco in the First Half of the Twentieth Century, Jewish Quarterly Review, Volume 112, Number 2, 2022, pp. 316-343

דוד גדג’, דיוקנאות, ארץ־ישראל והקהילות היהודיות במרוקו: המסרים החזותיים בעיתון L’Avenir Illustré, מרכז יד בן-צבי