صنف ابن سينا "العشق الشديد" ضمن الأمراض العقلية إلى جانب الأرق والنسيان، ووصف للعاشقين دواءً وعالجهم. فكيف التفت ابن سينا لأعراض الجسد وخفّف من روع العشّاق؟
صنّف ابن سينا “العشق الشديد” ضمن الأمراض العقلية إلى جانب الأرق والنسيان، ووصف للعاشقين دواءً وعالجهم، ولم يكن العالم ابن سينا (980 – 1037) فقط عالمًا في مجال الطب البدني بل وصل إلى مجالات علمية عدة منها الفيزياء، الرياضيات، الفلك، الكيمياء، الفلسفة، الشعر العربي وعلم الكلام وحتى الطب النفسي. وفي الطب النفسي، صُنِّفت مؤلفاته بين الفلسفة والطب، وقد عرّج على الطب النفسي في كتبه القانون في الطب، الشفاء والنجاة، وورد في كتبه بعض النظريات العقلية والتجارب العملية التي اعتمدها مع مرضاه. وقد قسّم ابن سينا النفس البشرية إلى ثلاثة أقسام أو مستويات: نباتية (وهي التي تساعد على توليد الطاقة عبر الغذاء الذي يتناوله الفرد)، حيوانية (أجزاء الجسم التي يتحكّم بها بإرادته)، وإنسانية (أفكار الإنسان ومنبع قرارته).
وضمن مجال الفلسفة، سعى ابن سينا لفهم النفس البشرية والغاية الوجودية لنا على الأرض، وقد ظهر ذلك في تساؤلاته حول طائفته الاسماعيلية واللجوء إلى فلسفة أرسطو والفارابي. وقد قسّم نظرياته حول براهين النفس: طبيعية (قسرية وتحدث من الخارج وتؤثر على الداخل، والقسرية بشكل طبيعي وغير طبيعي) ونفسية (مجموعة من القوى المستقلة في نفس الإنسان، وتكون عبارة عن أفكار).
اقرأ/ي أيضًا: كيف احتفت بغداد بابن سينا عام 1952؟ نظرة على “الكتاب الذّهبي”
كما استطاع ابن سينا قياس الانفعال على أساس قياس التغيرات الفسيولوجية التي تحدث للانفعال؛ إذ عالج أحد مرضاه من حالة عشق شديد، مستندًا على قياس النبض من الرسغ؛ وقد أكّد ابن سينا نظريته التي تقرّ بوجود علاقة وثيقة بين النفس والبدن؛ فالتغيرات في الحالات النفسية التي تحدث في حالات الانفعال العاطفية يصاحبها/ يتبعها تغيّرات في جسم الإنسان، إذ جاء في كتابه (النجاة): “جميع العوارض النفسانية يتبعها أو يصاحبها الروح، إما إلى خارج وإما إلى داخل.. والحركة إلى خارج إما دفعة كما عند الغضب، وإما أوّلا فأولاً كما عند اللذّة وعند الفرح المعتدل، والحركة إلى داخل إما دفعة كما عند الفزَع، وإما أوّلا فأولا كما عند الحزن..”.
ففي حالة “مريض” العشق، أراد ابن سينا أولاً أن يعرف الفتاة التي يعشقها هذا الشخص حتى يتمكّن بعد ذلك من أخذ خطوات عملية في علاجه من عشقه، فكان يضع إصبعه على نبض هذا الشخص، ويأمر أحد المرافقين بذكر أسماء ساكني البيوت بجوار بيت ذاك الشاب، فيلاحظ ما يحدث من تغييرات في سرعة النبض عندما يسمع هذه الأسماء، وبهذه الطريقة، استطاع ابن سينا أن يعرف الفتاة التي يعشقها الشاب؛ إذ بيّن أن من أعراض العشق عدم انتظام النبض وأكد على أنّه “أصبح من الممكن التوصل إلى معرفة المعشوق إذا أصرّ أحد العاشقَين على عدم الكشف عنه، وهذا الكشف هو إحدى طرق العلاج“، أمّا العلاج فكانت وصفة “الزواج” من تلك الفتاة هي العلاج المرجو لشفاء العاشق. (القانون في الطب)
وقد صنّف ابن سينا “حالة العشق الشديد” ضمن الأمراض العقلية إلى جانب الأرق والنسيان، ووضّح أنّ الانفعال عند ذكر اسم المحبوب أو ما يتعلّق به على سبيل المثال يُحدِث تغيرات في الدورة الدموية؛ إذ تزداد سرعةُ خفقان القلب، وينتج عن ذلك زيادة كمية الدم التي يرسلها القلب إلى أجزاء البدن، فتنقبض الأوعية الدموية في جسم الإنسان، فيما تتسع أوعية الأطراف، فعلى سبيل المثال، عند شعور الإنسان بالغضب، تتدفق الحرارة في وجهه وبدنه وبالتالي يحمرّ وجهه. وبذلك يكون ابن سينا قد جمع بين النظرية التي تعلّمها أو الفرضية التي وضعها وبين تجاربه على أبدان الناس تحت مظلة الفلسفة الإنسانية تارة والطب تارة أخرى.
للمزيد من الكتب والمصادر حول ابن سينا في فهرس المكتبة الوطنية.