من علامات الأمم الحيّة أن تعتني بكبرائها في الفلسفة أو في العلم أو في الفنّ أو في الحرب، ولها في ذلك طرقٌ مختلفة: إما بإقامة التّماثيل لهم، أو تسمية المعاهد والشّوارع بأسمائهم، أو بإقامة المهرجانات لذكراهم. وقد تنبّه العرب أخيرًا إلى ذلك، فأقاموا مرة مهرجانًا للمتنبّي، وأخرى مهرجانًا لأبي العلاء، وهذا مهرجان ابن سينا”
افتتح المؤرّخ والأديب المصريّ أحمد أمين بهذه الكلمات “الكتاب الذّهبي” الّذي أصدرته جامعة الدّول العربيّة عام 1952 حول مهرجان “ابن سينا” الّذي أقيم في بغداد برعاية الملك فيصل الثّاني.
لم يكن هذا المهرجان هو الأوّل من نوعه في العالم، فقد سبقه مهرجان في تركيا لأن الشّيخ الرّئيس وُلد في تركستان واعتبرت أصوله تركيّة. ثمّ ظهرت فكرة لمهرجان جديد بذكرى مرور ألف عامٍ على مولد ابن سينا، وتمّ العمل لها ما بين طهران وبغداد لأكثر من عامين. في أعقاب التحضير لهذا المهرجان أُقيم تمثال ابن سينا في همذان، ورُسمت صورة متخيّلة له وطُبعت ووزّعت على طوابع بريديّة لتخليد اسمه، وجمعت مخطوطات لمختلف أعماله وحقّق بعضها وتُرجم ونُشر.
ترأس أحمد أمين اللجنة العامّة لابن سينا وإدارة العمل الّذي دام لأكثر من عامين على هذا المشروع الثّقافي الضخم الّذي جمع أكثر من مائة وعشرين عالم وباحث من العراق، مصر، سوريا، لبنان، الأردن،ليبيا، أندونيسيا، إيران، تركيا، إسبانيا، ألمانيا، إنجلترا، أمريكا وفرنسا. عملت على المشروع لجان عديدة من عدّة دول وقسّمت مهام العمل وتنظيم المهرجان فيما بينها، وكان هذا من آخر المشاريع الكبرى الّتي عمل بها أمين قبل وفاته عن عمر يناهز السّابعة والسّتين بعد عامين. وقد قام بتقديم البحث الّذي أجراه حول قصّة “حيّ بن يقظان” في المهرجان وفي الكتاب الذّهبي. وكان من أعضاء اللجنة العليا لتنظيم أعمال المهرجان كل من المؤرّخين عبد العزيز الدّوري وجواد علي وغيرهم.
اجتمع كلّ هؤلاء في مهرجان دام ثمانية أيام في بغداد ارتأت لجان العمل تخليدها في كتاب سمّوه “الكتاب الذّهبي” يلخّص ما جرى بها من أبحاث علميّة قاموا بتلخيصها وحتّى جلسات الشّاي وأحاديث الصّباح. ثمانية أيّام حافلة اشتملت على أكثر من أربعين محاضرة علميّة والعديد من الأنشطة الثّقافيّة الصّباحيّة والمسائيّة الّتي تمّ جزء منها في البلاط الملكيّ.
في اليوم الأول، وبعد اجتماع الأعضاء المدعوين جميعًا في بهو الأمانة للتعرّف واستلام شاراتهم في العاشرة صباحًا، اتّجه الجميع معًا لزيارة المقبرة الملكيّة ووضع الأكاليل باسم الوفود القادمة من بلدان عدّة. ثم إلى البلاط الملكيّ لتقييد الأسماء في سجلّ التشريفات الملكيّة، ولاحقًا، حفلة الافتتاح بقاعة الملك فيصل الثّاني الّتي افتتح المهرجان بها ولي العهد الأمير عبد الإله، ثمّ كلمة كل من وزير المعارف ولجنة ابن سينا وأحمد أمين ومندوب اليونيسكو ومندوب الدّول الشّرقيّة رئيس وفد إيران وآخرين.
ركّز معظم المتحدّثين في الجلسة الافتتاحيّة على عالميّة ابن سينا الملقّب بالـ “شيخ الرّئيس” واحتفت بأهميّة إرثه لحضارات وثقافات عديدة. بعد هذه الجلسة، عقد المهرجان تسعة جلسات أخرى تخلّلت عشرات المحاضرات والنّقاشات وزّعت على سبعة أيام متتالية وتوثيق جميعها في “الكتاب الذّهبي”.
أمّا اليوم الثّاني، فافتتح بمعرض كتاب ابن سينا ومعرض فنّي في معهد الفنون الجميلة. تلته زيارة جماعيّة للمتحف العراقيّ والمدرسة المستنصريّة ومن ثمّ مأدبة لجنة ابن سينا العراقيّة في حدائق مسبح الأمانة. أمّا في اليوم الثّالث، فكان طويلًا جدًا، حيث بدأ بجلسة ناقشت سبعة أبحاث تلتها جلسة أربع محاضرات متتالية، إلا أن النهار انتهى بـ “حفلة سمر ويعزف فيها على الكمان الأستاذ سامي الشوا”.
وكان اليوم الرّابع مكتظًّا بالأبحاث والمحاضرات كذلك، إلا أن اليوم الخامس كان يومًا للتنزّه في بابل والحلّة منذ الصّباح وحتّى الغروب. كانت الأيام المقبلة مكتظّة للغاية، فلا تفهم مثلًا كيف تمكّن الأعضاء من مناقشة تسعة أبحاث والاستماع إلى محاضرتين ومن ثمّ الذّهاب في رحلة الى الموصل. بالإضافة إلى ذلك، ولقد تمّت إذاعة الجلسة الإفتتاحيّة والختاميّة على إذاعة بغداد.
عند الاطّلاع على الصّور وقائمة الأعضاء المدعوين الّتي تظهر مفصّلة في الكتاب، يندر أن نرى صورة أو اسمًا لسيّدة شاركت في المهرجان، إلا أن اسمين لسيّدتين يظهران في قائمة الوفد اللبناني عن وزارة التّربيّة وهما الآنسة إنعام الصّغير والآنسة فهيمة الأحدب. كما أن تلاخيص الأبحاث تظهر مشاركة نسائيّة لا بأس بها، كالبحث حول ترجمات ابن سينا إلى اللاتينية وانتشارها في القرون الوسطى للآنسة دالفيرني، ومحاضرة “الجديد في منطق ابن سينا” للآنسة جواشون.