كيف احتفت بغداد بابن سينا عام 1952؟ نظرة على “الكتاب الذّهبي”

افتتح المؤرّخ والأديب المصريّ أحمد أمين بهذه الكلمات "الكتاب الذّهبي" الّذي أصدرته جامعة الدّول العربيّة عام 1952 حول مهرجان "ابن سينا" الّذي أقيم في بغداد.

من علامات الأمم الحيّة أن تعتني بكبرائها في الفلسفة أو في العلم أو في الفنّ أو في الحرب، ولها في ذلك طرقٌ مختلفة: إما بإقامة التّماثيل لهم، أو تسمية المعاهد والشّوارع بأسمائهم، أو بإقامة المهرجانات لذكراهم. وقد تنبّه العرب أخيرًا إلى ذلك، فأقاموا مرة مهرجانًا للمتنبّي، وأخرى مهرجانًا لأبي العلاء، وهذا مهرجان ابن سينا”

افتتح المؤرّخ والأديب المصريّ أحمد أمين بهذه الكلمات “الكتاب الذّهبي” الّذي أصدرته جامعة الدّول العربيّة عام 1952 حول مهرجان “ابن سينا” الّذي أقيم في بغداد برعاية الملك فيصل الثّاني.

لم يكن هذا المهرجان هو الأوّل من نوعه في العالم، فقد سبقه مهرجان في تركيا لأن الشّيخ الرّئيس وُلد في تركستان واعتبرت أصوله تركيّة. ثمّ ظهرت فكرة لمهرجان جديد بذكرى مرور ألف عامٍ على مولد ابن سينا، وتمّ العمل لها ما بين طهران وبغداد لأكثر من عامين. في أعقاب التحضير لهذا المهرجان أُقيم تمثال ابن سينا في همذان، ورُسمت صورة متخيّلة له وطُبعت ووزّعت على طوابع بريديّة لتخليد اسمه، وجمعت مخطوطات لمختلف أعماله وحقّق بعضها وتُرجم ونُشر.

: طابع بريد إيراني تم انتاجه اثناء العمل على المهرجان، رسم ابن سينا على يد الفنّان أبو الحسن صديقي، مصدر الصورة ويكيبيديا
طابع بريد إيراني تم انتاجه اثناء العمل على المهرجان، رسم ابن سينا على يد الفنّان أبو الحسن صديقي، مصدر الصورة ويكيبيديا

ترأس أحمد أمين اللجنة العامّة لابن سينا وإدارة العمل الّذي دام لأكثر من عامين على هذا المشروع الثّقافي الضخم الّذي جمع أكثر من مائة وعشرين عالم وباحث من العراق، مصر، سوريا، لبنان، الأردن،ليبيا، أندونيسيا، إيران، تركيا، إسبانيا، ألمانيا، إنجلترا، أمريكا وفرنسا. عملت على المشروع لجان عديدة من عدّة دول وقسّمت مهام العمل وتنظيم المهرجان فيما بينها، وكان هذا من آخر المشاريع الكبرى الّتي عمل بها أمين قبل وفاته عن عمر يناهز السّابعة والسّتين بعد عامين. وقد قام بتقديم البحث الّذي أجراه حول قصّة “حيّ بن يقظان” في المهرجان وفي الكتاب الذّهبي. وكان من أعضاء اللجنة العليا لتنظيم أعمال المهرجان كل من المؤرّخين عبد العزيز الدّوري وجواد علي وغيرهم.

اجتمع كلّ هؤلاء في مهرجان دام ثمانية أيام في بغداد ارتأت لجان العمل تخليدها في كتاب سمّوه “الكتاب الذّهبي” يلخّص ما جرى بها من أبحاث علميّة قاموا بتلخيصها وحتّى جلسات الشّاي وأحاديث الصّباح. ثمانية أيّام حافلة اشتملت على أكثر من أربعين محاضرة علميّة والعديد من الأنشطة الثّقافيّة الصّباحيّة والمسائيّة الّتي تمّ جزء منها في البلاط الملكيّ.

في اليوم الأول، وبعد اجتماع الأعضاء المدعوين جميعًا في بهو الأمانة للتعرّف واستلام شاراتهم في العاشرة صباحًا، اتّجه الجميع معًا لزيارة المقبرة الملكيّة ووضع الأكاليل باسم الوفود القادمة من بلدان عدّة. ثم إلى البلاط الملكيّ لتقييد الأسماء في سجلّ التشريفات الملكيّة، ولاحقًا، حفلة الافتتاح بقاعة الملك فيصل الثّاني الّتي افتتح المهرجان بها ولي العهد الأمير عبد الإله، ثمّ كلمة كل من وزير المعارف ولجنة ابن سينا وأحمد أمين ومندوب اليونيسكو ومندوب الدّول الشّرقيّة رئيس وفد إيران وآخرين.

ركّز معظم المتحدّثين في الجلسة الافتتاحيّة على عالميّة ابن سينا الملقّب بالـ “شيخ الرّئيس” واحتفت بأهميّة إرثه لحضارات وثقافات عديدة. بعد هذه الجلسة، عقد المهرجان تسعة جلسات أخرى تخلّلت عشرات المحاضرات والنّقاشات وزّعت على سبعة أيام متتالية وتوثيق جميعها في “الكتاب الذّهبي”.

أمّا اليوم الثّاني، فافتتح بمعرض كتاب ابن سينا ومعرض فنّي في معهد الفنون الجميلة. تلته زيارة جماعيّة للمتحف العراقيّ والمدرسة المستنصريّة ومن ثمّ مأدبة لجنة ابن سينا العراقيّة في حدائق مسبح الأمانة. أمّا في اليوم الثّالث، فكان طويلًا جدًا، حيث بدأ بجلسة ناقشت سبعة أبحاث تلتها جلسة أربع محاضرات متتالية، إلا أن النهار انتهى بـ “حفلة سمر ويعزف فيها على الكمان الأستاذ سامي الشوا”.

 

المتحدثون في حفل الافتتاح

وكان اليوم الرّابع مكتظًّا بالأبحاث والمحاضرات كذلك، إلا أن اليوم الخامس كان يومًا للتنزّه في بابل والحلّة منذ الصّباح وحتّى الغروب. كانت الأيام المقبلة مكتظّة للغاية، فلا تفهم مثلًا كيف تمكّن الأعضاء من مناقشة تسعة أبحاث والاستماع إلى محاضرتين ومن ثمّ الذّهاب في رحلة الى الموصل. بالإضافة إلى ذلك، ولقد تمّت إذاعة الجلسة الإفتتاحيّة والختاميّة على إذاعة بغداد.

عند الاطّلاع على الصّور وقائمة الأعضاء المدعوين الّتي تظهر مفصّلة في الكتاب، يندر أن نرى صورة أو اسمًا لسيّدة شاركت في المهرجان، إلا أن اسمين لسيّدتين يظهران في قائمة الوفد اللبناني عن وزارة التّربيّة وهما الآنسة إنعام الصّغير والآنسة فهيمة الأحدب. كما أن تلاخيص الأبحاث تظهر مشاركة نسائيّة لا بأس بها، كالبحث حول ترجمات ابن سينا إلى اللاتينية وانتشارها في القرون الوسطى للآنسة دالفيرني، ومحاضرة “الجديد في منطق ابن سينا” للآنسة جواشون.

قدري طوقان: رائد من روّاد النهضة العربية

لم يكد قدري طوقان يبلغ العشرين من عمره، حتى أضحى عنواناً يقصده محررو الصحف والمجلات وأصحاب المطابع؛ إذ اعتبر من رواد النهضة العربية والفلسطينية.

 

 

استطاع طوقان والمولود عام 1910 وفي جيل صغير لفت أنظار العلماء العرب، ففي عام 1935 وقبل أن يبلغ الخامسة والعشرين من عمره، نشر مقالاً في جريدة الجهاد المصرية تحت “عنوان بعث الثقافة العربية” المقال أثار اهتمام الأوساط العلمية العربية مما حدا بالعالم المصري الكبير علي مصطفى مشرفة (الملقب بأينشتاين العرب) إلى الرد على المقال، فبعد أن أثنى عليه واشاد بمضمونه كتب: “وليس بغريب أن تتوافق خواطرنا إذ تجمعنا صلة قوية هي صلة الثقافة العربية التي يجري دمها في عروق المصري والشامي والعراقي والمراكشي على السواء”، وهو ما أوردته جريدة فلسطين في مقال ملفت في 7 تموز 1935.

 جريدة فلسطين، 25 حزيران 1933 جريدة فلسطين، 25 حزيران 1933
جريدة فلسطين، 25 حزيران 1933

على مشارف سنة 1929، أنهى طوقان دراستة في الجامعة الأمريكية في بيروت، وكان اسمه يتردد على كل الألسنة، وحين عاد إلى فلسطين تقلد مباشرة منصب مدير كلية النجاح الوطنية في مدينة نابلس.

 

 نابلس، مسقط رأس قدري طوقان، 1890-1910
نابلس، مسقط رأس قدري طوقان، 1890-1910

للمزيد من المواد الرقمية وصور مدينة نابلس في المكتبة الوطنية.

 

حاول طوقان من خلال عمله إحياء النهضة، ولكنه كان مقتنعاً أن المشكلة تكمن في واقع فلسطين ففي نظر طوقان من الصعب جداً أن تبني مشروعاً نهضوياً في بلد يخضع للاستعمار وهو ما كان قد ذكره في مقالة سابقة نشرها في جريدة الدفاع في 27 تشرين الثاني 1935 قال فيها: “إن هذه الحكومات تسير على برنامج استعماري خاص من شأنه أن يقضي على كل ما من شأنه رفع مستوى الأمة ورقيها، لهذا وجب على العلماء العرب في هذه البلاد والشباب المثقف العامل أن يلتفتوا إلى هذه الناحية ويعيروها بعض اهتمامهم وأن يعتمدوا على أنفسهم قبل كل شيء…”

مع تغير المراحل والحقب، تبدلت السلطات أيضاً وبات طوقان يعيش في كنف الحكم الأردني بدلاً من الحكم الانجليزي، ومن خلال المؤسسات الأردنية سينشط طوقان مجدداً ولكن في اتجاه آخر ليس في العلوم هذه المرة وإنما في السياسية حيث سيصير عضواً في مجلس النواب الأردني وستتوج مسيرته السياسية بتقلده منصب وزير خارجية الأردن عام 1964.

خلال مسيرته، نشر طوقان العديد من المؤلفات مثل “تراث العرب العلمي” و “نواح مجيدة في الثقافة الإسلامية”  و “الأسلوب العلمي عند العرب” وغيرهم. ربما لم يشهد طوقان تحقق النهضة العربية التي أراد، ولكنه يظل بلا شك رائداً نهضوياً ساهم في إحياء وحفظ جانب مهم من تراث العرب العلمي، وكانت وفاته في آذار من عام 1971 فاجعة أحزنت المحافل العلمية والثقافية ورثاه العلماء والمفكرون ونشرت أخبار وفاته على الصفحات الأولى للمجلات والصحف العربية، ليظل اسمه عنواناً للنهضة العربية.

 

جريدة الاتحاد، 2 آذار 1971
جريدة الاتحاد، 2 آذار 1971

 

 

 

 

 

قصة مجموعة التمائم الغامضة التي أتت من موسكو إلى المكتبة الوطنية

وصلت إلينا عشرات التمائم التي كتبت بهدف حماية أصحابها من المخاطر الطبيعية والخارقة للطبيعة. تتبعوا تفاصيل الحكاية في المقال.

لدينا معلومات قليلة جدًا عن زيارة د. ماكس ليوبولد برودني إلى الاتحاد السوفيتي في عام 1959، زيارة عاد منها إلى مدينة شيكاغو، حيث يسكن، حاملًا حقيبة إضافية، غير تلك التي حملها إلى موسكو. كانت حقيبة سوداء، صغيرة وبالية. فهم د. برودني، وهو جرّاح يهودي شهير متخصص في طب المسالك البولية، أنّه تلقى شيئًا مهمًا، واحتفظ بالحقيبة في إحدى خزائن منزله، حيث بقيت حتى وفاته في عام 1979. عند تقسيم الميراث، انتقلت الحقيبة إلى ابنته إلينور، التي حرصت، مثل أبيها، على الاحتفاظ بها في منزلها.

د. ماكس ليوبولد برودني. الصورة مقدمة بلطف من العائلة
د. ماكس ليوبولد برودني. الصورة مقدمة بلطف من العائلة

 

توجّهت إلينور مرتين إلى باحثين في اليودايكا في شيكاغو، ولكنهم لم يبدوا اهتمامًا شديدًا بمحتوى الحقيبة. وفقط عندما توجّهت إلى ستيسي ديربي، باحثة في مجال السير الذاتية وأديبة تساعد العائلات على تدوين سيرهن الذاتية، اكتسبت الحقيبة اهتمامًا. أرت إلينور الحقيبة لستيسي، وأخبرتها بالظروف التي أوصلت الحقيبة إليها.

صورة لابنة د. برودني، إلينور. الصورة مقدّمة بلطف من العائلة
صورة لابنة د. برودني، إلينور. الصورة مقدّمة بلطف من العائلة

 

قصة الحقيبة

لنعود الآن إلى رحلة د. ماكس إلى الاتحاد السوفيتي في عام 1959.

في تلك الرحلة، زار ماركس كنيسًا في موسكو. قاده الحاخام المسؤول عن إدارة الكنيس إلى غرفة جانبية، ووضع بين يديه حقيبة جلدية سوداء. “لا يوجد لها أي مستقبل، خذها من هنا، واحتفظ بها”، توسّل الحاخام من موسكو إلى الطبيب اليهودي من شيكاغو. “ولكن احذر، فهناك من يتعقبنا”.

استجاب ماكس لطلب الحاخام، وأخرج الحقيبة من الاتحاد السوفيتي. أثار محتوى الحقيبة وقصّتها اهتمام ستيسي. توجّهت إلى أستاذة سابقة، بروفسور راحيل إليؤور من الجامعة العبرية في القدس، التي وجّهتها بدورها إلى جهات مختصة في المكتبة الوطنية في إسرائيل، على أمل استكشاف محتوى الحقيبة.

الحقيبة التي قدّمتها إلينور للمكتبة الوطنية
الحقيبة التي قدّمتها إلينور للمكتبة الوطنية

 

أثار محتوى الحقيبة وقصتها اهتمام د. تسفي لشيم، مدير مجموعة غرشوم شوليم المتخصص في الكابالا والحسيدية اليهودية، الذي تلقى التوجّه، وقام بدوره بإخبار د. يوئيل فينكلمان، أمين مجموعة اليهودية في المكتبة الوطنية، بذلك.

وجد طاقم المكتبة 85 قطعة مختلفة في الحقيبة، معظمها تمائم صغيرة وبسيطة (وعددها 76)  كتبت بخط يد. كتبت معظم التمائم في شمال أفريقيا في أواخر القرن التاسع عشر أو في مطلع القرن العشرين، بينما كتبت البقية في البلاد، وكُتب عدد قليل في أماكن أخرى. تحدد ذلك بناءً على نمط الكتابة، الأسماء الظاهرة في التمائم، مثل سلام ابن جدال أو سلطانة بنت أيستريليا ، وفي حالة واحدة أو اثنتين، أشير بوضوح إلى مكان الكتابة (“هنا، في إسرائيل”).

كتبت جميع التمائم لاستجداء الملائكة والقوى السماوية لحماية أصحابها من المخاطر الطبيعية والخارقة للطبيعة. كتبت بعض التمائم للحفاظ على الصحة، كتبت أخرى لحماية المنجبة والمولود، وكتب جزءٌ آخر لحماية المنزل.

كتبت التمائم الـ 76 الصغيرة على بطاقة أو ورقة على شكل لفيفة، وبأحجام مختلفة- يبلغ حجم أطولها قرابة المتر، وقد وضعت داخل أسطوانة (أو تم طيها) لتمكين أصحابها من حملها بسهولة في الجيب أو في الحقيبة. صبغت 11 تميمة باللون الوردي، بينما صبغت تمائم أخرى بألوان أغمق.

كتبت سبع تمائم أخرى بشكل مفصل وبارع، خاصة تلك التي تصف خرائط هيئة الألوهية قبل الكابالا .

قطعة فريدة أخرى تعود إلى القرن التاسع عشر، وقد نسبت إلى شمال أفريقيا، هي ورقة مكتوبة بخط يد وتحتوي على وصفات سحرية وإرشادات لكتابة التمائم. إنّها أكثر القطع تلفًا، يبدو بسبب الاستخدام المتكرر. سنوافيكم بمزيد من التفاصيل في مقالة مستقبلية.

 

بضع صفحات من دفتر التمائم، وسنكتب عنه لاحقًا بإسهاب

 

 

بضع صفحات من دفتر التمائم، وسنكتب عنه لاحقًا بإسهاب
بضع صفحات من دفتر التمائم، وسنكتب عنه لاحقًا بإسهاب

إن لم تظهر معلومات جديدة حول هذه القضية الغامضة، وهذا وارد، لا يمكننا أن نعرف كيف وصلت هذه المجموعة القيّمة ليد الحاخام في موسكو. بسبب قلة التمائم الآتية من أوروبا، يُرجّح أنّ المجموعة غير تابعة لمتصوف روسي/أوروبي شرقي كان ناشطًا في تلك الفترة. ربما كانت هذه المجموعة تابعة لباحث أو هاوٍ جمع في موسكو، وعند وفاته، ورث الكنيس في موسكو مجموعة التمائم هذه، ولكن العِلم عند الله.

حتى إن لم تُكتشف هوية الشخص الذي جمع هذه التمائم، فإنّ المسافات التي قطعتها التمائم (من أفريقيا والبلاد، مرورًا بروسيا والولايات المتحدة إلى أن وصلت أخيرًا إلى القدس) تثبت ما يعرفه باحثون عديدون اليوم- السحر اليهودي ليس أمرًا هامشيًا وخفيًّا. مع أنّ القصة التي عرضناها أمامكم مليئة بالثغرات المعلوماتية، إلّا أنّ اهتمام اليهود بالسحر هو اهتمام يومي، تاريخي بل ومعاصر أيضًا. “على مر التاريخ، تعاطت الجاليات اليهودية السحر والجِن”، يقول فينكلمان.

بعد تخبّط، وبالتشاور مع باحث اليهودية النادرة دافيد فوختل من نيويورك، قررت إلينور التبرع بالمجموعة للمكتبة الوطنية في القدس، بما في ذلك الحقيبة الصغيرة التي حُفظت داخلها التمائم. بعد أسبوعين على إرسال الحقيبة إلى البلاد، انفجر في منزل إلينور أنبوب التدفئة في مكان كان سيُتلف حقيبة التمائم. يقول د. فينكلمان مازحًا ربما حدث ذلك صدفة، و”ربما لا”.

لا نحظى كل يوم بمجموعة قيّمة كهذه تثري مجموعة التمائم والمخطوطات في المكتبة الوطنية. في الوقت الحاضر، تمر المجموعة، التي تم التبرع بها لذكرى د. ماكس ليوبولد برودني، بسيرورة تصنيف وفهرسة، من ثم سيتم مسحها ضوئيًا ورفعها على شبكة الإنترنت لإتاحة هذه المجموعة القيّمة لجمهور الباحثات والباحثين في السحر اليهودي- وهو مجال بحثي يكتسب زخمًا متزايدًا منذ أكثر من عقد من الزمن.

“بفضل التبرع بالمجموعة للمكتبة الوطنية في إسرائيل”، تقول إلينور، “حققنا أمنية الحاخام من موسكو”.

“إذا أتى أباك من مصر أو العراق أو سوريا، فستسكن الفقر لا إسرائيل”: عن حركة الفهود السّود

في العام 1971، تأسست حركة "الفهود السّود" لمناهضة اضطّهاد اليهود الشّرقيين في إسرائيل والتي أصبحت ضمن حلقات ماضي التمرّد لليهود الشّرقيين في إسرائيل

من مظاهرة للفهود السّود عام 1974، أرشيف دان هداني، المكتبة الوطنيّة.

في العام 1971 اجتمع شباب من اليهود الشّرقيين في جادة “مصرارة” في القدس من أجل تأسيس حركة “الفهود السّود” لمناهضة اضطّهاد اليهود الشّرقيين في إسرائيل. وقد اختاروا هذا الاسم تيمّنًا بالحراك السّياسيّ للأفارقة الأمريكيّين تحت ذات المسمّى في الولايات المتّحدة الأمريكيّة سنوات السّتينيّات. “الفهود السّود”. اسمٌ يدلّ على البشرة الغامقة، والقوّة والعنفوان.

من مظاهرة للفهود السّود عام 1973، أرشيف دان هداني، المكتبة الوطنيّة.
من مظاهرة للفهود السّود عام 1973، أرشيف دان هداني، المكتبة الوطنيّة.

في أيار من ذات العام، أي قبل أربعين سنة من اليوم، خرج الفهود السّود في مظاهرة اندلعت عنها اشتباكات عنيفة مع الشّرطة الإسرائيليّة في شوارع القدس. ونُعتوا بالمخرّبين والمتطرّفين، كما لوحق وتمّ  اعتقال الكثير منهم. فما الّذي حدث في ذلك الوقت؟ وأين ذهبت “جهود الفهود السّود” اليوم؟

ماضي لتمرّد اليهود الشّرقيين

لم تكن حركة الفهود السّود الشّرارة الأولى التي تنبعث عن المجتمعات اليهوديّة الشّرقية الوافدة إلى البلاد، فالأدبيات الخاصّة بتلك الحراكات تفيض بإشارات تعود لسنوات قدومهم الأولى، إذ منذ البداية شعر اليهود القادمون من بلدان عربيّة أنهم مضطّهدون “عرقيّا”. كما تشير إحدى منشورات الفهود السّود عام  1977 “إن وصلت أنت أو والدك من شمال إفريقيا أو سوريا أو مصر أو اليمن أو العراق إلى إسرائيل، فاحتمال وصولك إلى شيء ما في هذا البلد يقترب إلى المستحيل، وإن هاجرتم إلى هنا بعد عام 1951، فاحتمال هلاككم كبير جدًا”.

من تلك الإشارات والحراكات السّابقة  “صغار الشّرق” في تل أبيب عام 1913، الّتي ضمّت يهود يمنيين وهدفت للاعتناء بحالتهم الماديّة والرّوحيّة وتعزيز مكانتهم الإجتماعيّة، بالإضافة إلى “علم صهيون”، “إسرائيل الفتاة” و”الحزب السفارادي الوطني” وغيرها من الجهات الّتي نادت بالمساواة. ولعلّ الحدث الأبرز في تلك الذّاكرة “احداث وادي صليب” في حيفا عام 1951 حين اندلعت اشتباكات عنيفة بين يهود شرقيين وعناصر للشرطة على أثر إطلاقها النار على رجلٍ مغربيّ. أدّت هذه الاشتباكات لجرح واعتقال العشرات من اليهود الشرقيين وإصابة بعض عناصر الشّرطة.

ولذلك لم تكن نشأة حركة الفهود السّود أمر مفاجئ للمجتمع الإسرائيليّ، إلّا أن تنظّمهم وسعيهم عبر التّظاهر والحشد الجماهيري إلى المطالبة اللحوحة بحقوقهم بدت كتحذير من صعود قوّة يهوديّة شرقيّة ذات شعبيّة كبيرة، وأظهرت بوادر للعمل الجماهيري السياسي المختلف لتلك الأوساط الّتي عانت من الفقر والإهمال في كلّ من مجالات التنمية والتعليم وتمكّنت من جهة أخرى من خلق حركة احتجاجيّة ذات شعبيّة واسعة.

من مظاهرة للفهود السّود عام 1971، أرشيف دان هداني، المكتبة الوطنيّة.
من مظاهرة للفهود السّود عام 1971، أرشيف دان هداني، المكتبة الوطنيّة.

كان جميع مؤسسّي الحركة الأوائل من أبناء المغاربة، وتتراوح أعمارهم بين الثّامنة عشر والعشرين، حتّى أن لبعضهم كانت ملفّات جنائيّة لدى الشّرطة، وقد مُنعت مظاهراتهم الأولى من ترخيص السّلطات وأحيانًا تمّ اعتقالهم قبل بدايتها.

تشير بعض المصادر إلى أن بعض عناصر الفهود السّود أعلنوا إضرابهم عن الطّعام إلى أن وافقت رئيسة الوزراء آنذاك جولدا مئير على لقاء بعض قاداتهم في الثّالث عشر من نيسان من ذات العام بهدف الاستماع إلى مطالبهم. إلا أن اللقاء لم يسر على ما يرام، كما يصف أحد أعضاء الحركة آنذاك: استخفّت السيّدة بهم، ووصفتهم بمرتكبي الجرائم والمعربدين ولم تعترف بهم كحركة حقوقيّة.

المواجهات والجدل الجماهيريّ

فيما بعد بدأ الفهود السّود بتنظيم مظاهرات كبيرة بدون طلب ترخيص من الشّرطة. كانت أكبرها في الثّامن عشر من أيار وهي اللّيلة الّتي سمّيت لاحقًا ب”ليلة الفهود السّود” بسبب الجدل الّذي أثارته في المجتمع الإسرائيلي لاحقَا.

في ذلك اليوم حشد الفهود السّود أكثر من خمسة آلاف متظاهر وانطلقوا للسير سويًا من دوّار “دافيدكا” بالقدس باتجاه دوار “صهيون”، مطالبين بالمساواة العرقيّة وإنهاء الفقر والتمييز.  تخلّلت المسيرة ساعات من الاشباكات العنيفة بين المتظاهرين والشرطة وأدت إلى اعتقال مئة من المتظاهرين وإصابة العشرات، كما قام بعض المتاظرين برمي الزجاجات الحارقة (المولوتوف) باتّجاه الشّرطة الّتي قامت بدورها برشّهم عبر مدفعيّات خاصّة بمياه مصنّعة ومصبوغة باللون الأخضر.

استمرّت المواجهات والاعتقالات طوال الليل حتى صباح اليوم التّالي. وفي الأيام التي تلت “ليلة الفهود السّود”، ظهر فرقٌ كبير بتغطية الحدث إعلاميًا بين الصّحف العبريّة والعربيّة في البلاد، وتراوحت الآراء في الشّارع الإسرائيليّ، فحتّى تلك الأصوات الّتي عبّرت عن تضامنها مع اليهود الشّرقيين وما يعانونه من ظروف لا تُحتمل، أكدّت على استنكارها للمظاهرات “العنيفة”. بينما قامت صحيفة الاتّحاد باستنكار “عنف الشّرطة” من جهة أخرى، واستنكرت اعتقالاتهم. كما قامت الكتلة الشّيوعيّة في الكنيست بالمطالبة بتحقيق حول عنف الشّرطة واعتقالات الفهود السّود وطالبت بالإفراج عنهم، مظهرة تضامنًا تحوّل بعد سنوات قليلة إلى تعاون رسميّ بين الحزب الشّيوعي الإسرائيليّ والفهود السّود ليؤسسّوا سوية “الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة” ويترشّح أعضاؤها لانتخابات الكنيست التّاسعة لأوّل مرّة جنبًا إلى جنب.

من منشور الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة للكنيست التاسعة عام 1977، المكتبة الوطنيّة.
من منشور الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة للكنيست التاسعة عام 1977، المكتبة الوطنيّة.

                                        لقراءة اتّفاقيّة الفهود السّود مع الحزب الشّيوعي في جريدة الاتّحاد


أثرُ الفهود السّود

 ليس هناك “فهود سود” اليوم في السّياسة أو الشّارع الإسرائيليّ. فالحركة الّتي بدأت كحراكٍ شعبويّ من الشّارع اتّخذت خيارًا بالتّحرك نحو السّياسة والانتخابات، وكان لمجموعة ذات خلفيّة مستضعفة مثلها أن تكون دائمة البحث عن تحالفات كبرى تسند وجودها في الكنيست. بدأت تحالفاتهم من الحزب الشّيوعيّ وترشّحوا  فيما بعد كحزب مستقلّ عام 1990 ولكن لأسباب داخليّة تفكّك الحزب وتنقّل أعضاؤه فرادى بين أحزابٍ شتّى بين اليمين واليسار ولم يعد هناك أثرٌ مرئيٌ لهم كمجموعة واحدة في مشهد السّياسة الإسرائيليّة.

يشير ميناحم هوفنونج في كتابه “أثر تظاهرات الفهود السّود على ميزانيّات المجتمع والرّفاه” إلى أنّ تعامل الدّولة القمعي مع الفهود السّود كحركة في بداياتها كان خوفًا من تعاظم شعبيّتهم في الشّارع، مما كان ليجلب الكثير من الفوضى لأجهزة الدّولة. إلّا أنّها من جهة أخرى، وبسبب تلك التّظاهرات الضّخمة، أضحت تدرك جيّدًا ما قد يواجهها من غضب إن لم تصنع أثرًا فارقًا في ترتيب ميزانيّاتها وتأهيل أجهزتها للعناية بمجتمعات اليهود الشّرقيين بشكلٍ أفضل. بكلمات أخرى، لم تعترف الدّولة ولم تأخذ بمطالبات ومشاكل الفهود السّود كما قاموا هم بصياغتها، إلّا أنها رأت من خلال حركتهم مؤشّرًا لضرورة العمل بشكلٍ مختلف مع هذه الشّريحة في مؤسساتها.