في العام 1971 اجتمع شباب من اليهود الشّرقيين في جادة “مصرارة” في القدس من أجل تأسيس حركة “الفهود السّود” لمناهضة اضطّهاد اليهود الشّرقيين في إسرائيل. وقد اختاروا هذا الاسم تيمّنًا بالحراك السّياسيّ للأفارقة الأمريكيّين تحت ذات المسمّى في الولايات المتّحدة الأمريكيّة سنوات السّتينيّات. “الفهود السّود”. اسمٌ يدلّ على البشرة الغامقة، والقوّة والعنفوان.

في أيار من ذات العام، أي قبل أربعين سنة من اليوم، خرج الفهود السّود في مظاهرة اندلعت عنها اشتباكات عنيفة مع الشّرطة الإسرائيليّة في شوارع القدس. ونُعتوا بالمخرّبين والمتطرّفين، كما لوحق وتمّ اعتقال الكثير منهم. فما الّذي حدث في ذلك الوقت؟ وأين ذهبت “جهود الفهود السّود” اليوم؟
ماضي لتمرّد اليهود الشّرقيين
لم تكن حركة الفهود السّود الشّرارة الأولى التي تنبعث عن المجتمعات اليهوديّة الشّرقية الوافدة إلى البلاد، فالأدبيات الخاصّة بتلك الحراكات تفيض بإشارات تعود لسنوات قدومهم الأولى، إذ منذ البداية شعر اليهود القادمون من بلدان عربيّة أنهم مضطّهدون “عرقيّا”. كما تشير إحدى منشورات الفهود السّود عام 1977 “إن وصلت أنت أو والدك من شمال إفريقيا أو سوريا أو مصر أو اليمن أو العراق إلى إسرائيل، فاحتمال وصولك إلى شيء ما في هذا البلد يقترب إلى المستحيل، وإن هاجرتم إلى هنا بعد عام 1951، فاحتمال هلاككم كبير جدًا”.
من تلك الإشارات والحراكات السّابقة “صغار الشّرق” في تل أبيب عام 1913، الّتي ضمّت يهود يمنيين وهدفت للاعتناء بحالتهم الماديّة والرّوحيّة وتعزيز مكانتهم الإجتماعيّة، بالإضافة إلى “علم صهيون”، “إسرائيل الفتاة” و”الحزب السفارادي الوطني” وغيرها من الجهات الّتي نادت بالمساواة. ولعلّ الحدث الأبرز في تلك الذّاكرة “احداث وادي صليب” في حيفا عام 1951 حين اندلعت اشتباكات عنيفة بين يهود شرقيين وعناصر للشرطة على أثر إطلاقها النار على رجلٍ مغربيّ. أدّت هذه الاشتباكات لجرح واعتقال العشرات من اليهود الشرقيين وإصابة بعض عناصر الشّرطة.
ولذلك لم تكن نشأة حركة الفهود السّود أمر مفاجئ للمجتمع الإسرائيليّ، إلّا أن تنظّمهم وسعيهم عبر التّظاهر والحشد الجماهيري إلى المطالبة اللحوحة بحقوقهم بدت كتحذير من صعود قوّة يهوديّة شرقيّة ذات شعبيّة كبيرة، وأظهرت بوادر للعمل الجماهيري السياسي المختلف لتلك الأوساط الّتي عانت من الفقر والإهمال في كلّ من مجالات التنمية والتعليم وتمكّنت من جهة أخرى من خلق حركة احتجاجيّة ذات شعبيّة واسعة.

كان جميع مؤسسّي الحركة الأوائل من أبناء المغاربة، وتتراوح أعمارهم بين الثّامنة عشر والعشرين، حتّى أن لبعضهم كانت ملفّات جنائيّة لدى الشّرطة، وقد مُنعت مظاهراتهم الأولى من ترخيص السّلطات وأحيانًا تمّ اعتقالهم قبل بدايتها.
تشير بعض المصادر إلى أن بعض عناصر الفهود السّود أعلنوا إضرابهم عن الطّعام إلى أن وافقت رئيسة الوزراء آنذاك جولدا مئير على لقاء بعض قاداتهم في الثّالث عشر من نيسان من ذات العام بهدف الاستماع إلى مطالبهم. إلا أن اللقاء لم يسر على ما يرام، كما يصف أحد أعضاء الحركة آنذاك: استخفّت السيّدة بهم، ووصفتهم بمرتكبي الجرائم والمعربدين ولم تعترف بهم كحركة حقوقيّة.
المواجهات والجدل الجماهيريّ
فيما بعد بدأ الفهود السّود بتنظيم مظاهرات كبيرة بدون طلب ترخيص من الشّرطة. كانت أكبرها في الثّامن عشر من أيار وهي اللّيلة الّتي سمّيت لاحقًا ب”ليلة الفهود السّود” بسبب الجدل الّذي أثارته في المجتمع الإسرائيلي لاحقَا.
في ذلك اليوم حشد الفهود السّود أكثر من خمسة آلاف متظاهر وانطلقوا للسير سويًا من دوّار “دافيدكا” بالقدس باتجاه دوار “صهيون”، مطالبين بالمساواة العرقيّة وإنهاء الفقر والتمييز. تخلّلت المسيرة ساعات من الاشباكات العنيفة بين المتظاهرين والشرطة وأدت إلى اعتقال مئة من المتظاهرين وإصابة العشرات، كما قام بعض المتاظرين برمي الزجاجات الحارقة (المولوتوف) باتّجاه الشّرطة الّتي قامت بدورها برشّهم عبر مدفعيّات خاصّة بمياه مصنّعة ومصبوغة باللون الأخضر.
استمرّت المواجهات والاعتقالات طوال الليل حتى صباح اليوم التّالي. وفي الأيام التي تلت “ليلة الفهود السّود”، ظهر فرقٌ كبير بتغطية الحدث إعلاميًا بين الصّحف العبريّة والعربيّة في البلاد، وتراوحت الآراء في الشّارع الإسرائيليّ، فحتّى تلك الأصوات الّتي عبّرت عن تضامنها مع اليهود الشّرقيين وما يعانونه من ظروف لا تُحتمل، أكدّت على استنكارها للمظاهرات “العنيفة”. بينما قامت صحيفة الاتّحاد باستنكار “عنف الشّرطة” من جهة أخرى، واستنكرت اعتقالاتهم. كما قامت الكتلة الشّيوعيّة في الكنيست بالمطالبة بتحقيق حول عنف الشّرطة واعتقالات الفهود السّود وطالبت بالإفراج عنهم، مظهرة تضامنًا تحوّل بعد سنوات قليلة إلى تعاون رسميّ بين الحزب الشّيوعي الإسرائيليّ والفهود السّود ليؤسسّوا سوية “الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة” ويترشّح أعضاؤها لانتخابات الكنيست التّاسعة لأوّل مرّة جنبًا إلى جنب.

لقراءة اتّفاقيّة الفهود السّود مع الحزب الشّيوعي في جريدة الاتّحاد
أثرُ الفهود السّود
ليس هناك “فهود سود” اليوم في السّياسة أو الشّارع الإسرائيليّ. فالحركة الّتي بدأت كحراكٍ شعبويّ من الشّارع اتّخذت خيارًا بالتّحرك نحو السّياسة والانتخابات، وكان لمجموعة ذات خلفيّة مستضعفة مثلها أن تكون دائمة البحث عن تحالفات كبرى تسند وجودها في الكنيست. بدأت تحالفاتهم من الحزب الشّيوعيّ وترشّحوا فيما بعد كحزب مستقلّ عام 1990 ولكن لأسباب داخليّة تفكّك الحزب وتنقّل أعضاؤه فرادى بين أحزابٍ شتّى بين اليمين واليسار ولم يعد هناك أثرٌ مرئيٌ لهم كمجموعة واحدة في مشهد السّياسة الإسرائيليّة.
يشير ميناحم هوفنونج في كتابه “أثر تظاهرات الفهود السّود على ميزانيّات المجتمع والرّفاه” إلى أنّ تعامل الدّولة القمعي مع الفهود السّود كحركة في بداياتها كان خوفًا من تعاظم شعبيّتهم في الشّارع، مما كان ليجلب الكثير من الفوضى لأجهزة الدّولة. إلّا أنّها من جهة أخرى، وبسبب تلك التّظاهرات الضّخمة، أضحت تدرك جيّدًا ما قد يواجهها من غضب إن لم تصنع أثرًا فارقًا في ترتيب ميزانيّاتها وتأهيل أجهزتها للعناية بمجتمعات اليهود الشّرقيين بشكلٍ أفضل. بكلمات أخرى، لم تعترف الدّولة ولم تأخذ بمطالبات ومشاكل الفهود السّود كما قاموا هم بصياغتها، إلّا أنها رأت من خلال حركتهم مؤشّرًا لضرورة العمل بشكلٍ مختلف مع هذه الشّريحة في مؤسساتها.