أودم أشور
الفترة هي الحرب العالمية الأولى، تقع أرض إسرائيل تحت حكم الدولة العثمانية الآخذة في الانهيار. في مكان غير بعيد، يتواجد البريطانيون في مصر. سنتحدّث اليوم عن ضابط بريطاني- عالم آثار اقترن اسمه بالكثير من القصص والخرافات والغموض والألغاز – شخصية تاريخية مرموقة، تم تمثيلها سينمائيًا، خلّدتها فرقة البيتلز على غلاف ألبومها ووجد وينستون تشرشل أنّ سيرتها الذاتية هي “واحدة من أفضل القصص في تاريخ الأدب الإنجليزي”.
لا بد أنّكم تعرفون الآن من تكون هذه الشخصية.
حظيت مساهمة هذه الشخصية بقدر أقل من الاهتمام في البلاد (لِمَن لم يشاهد الفيلم الهوليوودي الدرامي)، ربما لأنّ الحديث يدور حول شخصية جدلية في إسرائيل اعتبرت نصيرة للعرب. ألَم يعلّمنا خيرة المؤرّخين أنّه علينا الانحياز لطرف معين- الخير أو الشر، هم أو نحن. فمن يدعم الاستقلال العربي لا يمكنه دعم النزعة القومية اليهودية!
أتحدّث بالطبع عن توماس إدوارد لورنس، الشهير بـ “لورنس العرب”- بطل الفيلم الشهير، الظاهر على غلاف ألبوم نادي القلوب الوحيدة للرقيب بيبِر لفرقة البيتلز، ذاك المسؤول عن الثورة العربية الكبرى، أو مؤلّف السيرة الذاتية “أعمدة الحكمة السبعة” التي افتُتحت بقصيدة مُهداة لشخص كُتب اسمه بالحرفيْن S.A.

كان لورنس عالم آثار. في السنوات الأخيرة، صدر أيضًا كتيّب بعنوان “مذكرات رحلة إلى شمال سوريا، 1911” والذي يتعقب مذكّراته التي ألّفها في سن 23 عامًا أثناء مشاركته في حفريات أثرية في منطقة سوريا قبل الحرب العالمية الأولى. رفض الحصول على لقب الفروسية لأنّه شعر بالغدر من قبل ملك بريطانيا، ولقي حتفه في حادثة دراجة نارية بظروف غامضة وهو في الـ 46 من عمره، تاركًا خلفه سيرة غنية جدًا، مما يجعل منه حتى الآن أسطورة تتناقلها الأجيال.
من كان إذًا لورنس العرب؟

لنعد إلى البداية، ولد لورنس العرب، واسمه الحقيقي توماس إدوارد لورنس، في عام 1888 في ويلز، خارج إطار الزواج، لأبٍ أرستقراطي من أصول إيرلندية-بريطانية وأمٍ عملت مربية في منزل والده. هجر الأب منزل والده برفقة المربية، وتنقلت العائلة من مكان لآخر. أدرك لورنس أنّه عليه كتمان السر، تحمّل الخزي والعار والتعامل مع وضعه الجديد كشخص مرفوض اجتماعيًا. لاحقًا، نجح هذا الابن غير الشرعي في تحطيم السقف الزجاجي في بريطانيا الطبقية، ووصل إلى قصر بكنغهام.
عند بلوغه، التحق بجامعة أوكسفورد وأنهى دراسته بتفوّق. في عام 1910، وصل لأول مرة إلى الشرق الأوسط، وانضم إلى البعثة الأثرية للمتحف البريطاني للتنقيب الأثري في كركميش. التقى هناك بعالميْ الآثار ليونارد وولي (احفظوا الاسم لأننا سنعود إليه) وديفيد هوغارث الذي أعجب بشخصية الشاب. أثناء تواجده في المنطقة، تعلم لورنس اللغة والعادات والثقافة العربية. ساعدته هذه المهارات لاحقًا في حياته، وبفضلها، اكتسب الاسم الذي اقترن به تاريخيًا.
مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، تجنّد لورنس لصفوف الجيش البريطاني، حيث حصل على رتبة رائد وبدأ بالعمل كضابط استخبارات. في عام 1916، التحق بـ “المكتب العربي” في القاهرة، وهناك، التقى مجددًا بديفيد هوغارث، من كان مسؤولًا عنه في عمليات التنقيب الأثري. تولى قبله منصبه هذا ماركس سايكس، ذاك الشخص من اتفاقية سايكس-بيكو التي أُبرمت بين بريطانيا وفرنسا لتقسيم أراضي الدولة العثمانية مستقبلا. تزامنًا مع ذلك، سعى البريطانيين لحشد الدعم العربي للجهود الحربية. محادثات الحشد والتجنيد دارت أيضًا مع الهاشميين بقيادة حسين بن علي، شريف مكة، وتم التوصل إلى تفاهم سيسطر الهاشميون بموجبه على كامل المنطقة الواقعي جنوبيّ تركيا-مملكة عربية كبرى تمتد من شبه الجزيرة العربية وحتى منطقة الشام (بما في ذلك أرض إسرائيل). هنا، يدخل لورنس إلى الصورة، فقد كان له دور رئيسي في بلورة الاتفاقية مع الهاشميين. ولكنه أقصيَ عن اتفاقية سايكس-بيكو، وعندما اكتشف وجود اتفاقية كهذه، غضب جدًا وكشف الأمر للهاشميين. كانت هذه الاتفاقية السرية للإمبراطورية البريطانية خيبة الأمل الأولى لدى لورنس تجاه الإمبراطورية التي مثّلها. خلقت التأويلات المختلفة لدى لورنس الشعور بانعدام الثقة، لأنّه اعتبر ذلك خيانة لقيم بريطانيا، من جملة أسباب أخرى.

كان لورنس العرب، اسم على مسمى، ضابط ارتباط مكلّف من قبل البريطانيين، أرسله الجنرال ألنبي لمساعدة العرب في الثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية. قاد لورنس، إلى جانب فيصل، ابن علي، مجموعة تضم آلاف المقاتلين المسلحين من قبل البريطانيين. المعركة التي بدأت في شبه الجزيرة العربية انتهت باحتلال دمشق مرورًا بالجانب الشرقي، ولكنّ دمشق كانت ضمن المنطقة المخصصة لفرنسا وفقًا للاتفاقية. مع أنّ لورنس كان على علم بذلك، إلا أنّ ذلك لم يمنعه من المساعدة في احتلال دمشق ودعم تتويج فيصل ملكًا لسوريا. في الواقع، حاول لورنس إفشال اتفاقية سايكس-بيكو.
ماذا سيفعل البريطانيون؟
نجحت الثورة العربية، وتمكنت القوات الهاشمية من احتلال العقبة وساعدوا البريطانيين على تسريع احتلال أرض إسرائيل. ولكن مطلب الشريف حسين بإقامة مملكة عربية كبرى من شبه الجزيرة العربية وحتى منطقة الشام-لبنان (بما في ذلك أرض إسرائيل) – والتي وعد بها من قبل البريطانيين، كما جاء أعلاه- رفضت بشكل قاطع. عاود الفرنسيون احتلال دمشق، وطردوا فيصل منها. بينما وقف البريطانيون جانبًا ولم يفعلوا شيئًا. كانت تلك الخيانة الثانية، من وجهة نظر لورنس.
وهنا، يجب ذكر منظمة نيلي الاستخباراتية والتي عملت في اليشوف العبري تزامنًا مع هذه الأحداث. كانت المنظمة على تواصل مع زميل لورنس- عالم الآثار ليونارد وولي. سعت المجموعتان لتحقيق نفس الهدف: التعاون مقابل تقديم وعد للدولة. قدّمت منظمة نيلي معلومات استخباراتية غنية ساعدت البريطانيين إلى حد كبير، ولكن هل ساهمت نيلي بطرق أخرى أيضًا؟ ماذا كان رد فعل لورنس على ذلك؟
في نهاية المطاف، فرض البريطانيون والفرنسيون سلطتهم على الجزء الأكبر من الأراضي التي وعد بها الشريف حسين، وقاموا بتقسيمها بينهم وفقًا لاتفاقيات سايكس-بيكو. ولكن لورنس وحسين أيضًا حققا نجاحًا معينًا: توّح اثنان من أبناء حسين ملوكًا- عبد الله في الأردن (العائلة المالكة حتى الآن هي من السلالة الهاشمية) وفيصل في العراق. مع ذلك، اعتبر لورنس الاتفاقية خيانة للبريطانيين، وعندما دعيَ إلى قصر الملك للحصول على لقب الفروسية في نهاية الحرب، رفض الحضور، وغضب الملك. ولكن عندما قتل لورنس في حادثة دراجة نارية في عام 1935، رثاه الشعب كله، وما زال يعتبر أسطورة من قبل العديد من البريطانيين، إلى حد وضع صورته على غلاف ألبوم لفرقة البيتلز.
بعد كل ذلك، هل عرفتم المنظمة؟
ربما يكون هذا الجزء مفاجئًا للعديدين، ولكن لورنس العرب لم يكن نصير العرب فقط، إنّما نصير الصهيونية أيضًا. فقد تغير موقف لورنس من اليهود، على ما يبدو بفضل محادثاته مع ويلي الذي أخبره بمساهمة اليهود في الجهود الحربية، من بينها جهود منظمة ويلي. باقتراب نهاية الحرب، كان لورنس قد بلور موقفًا مواليًا لجهات مختلفة، فقد اعتبر حكومة المملكة المتحدة خائنة لحلفائها، وبات مواليًا للهاشميين. في تلك الفترة التي أعاد خلالها التفكير في وجهة نظره، تغير أيضًا موقفه من اليهود. فبعد أن قلّل من شأنهم عشية الحرب، اعتبرهم بعد الحرب شجعانًا وأذكياء، بناءً على ما حققه أهرون أهرونسون وأصدقاؤه. ولم يتوقف التغيير عند هذا الحد. استغل لورنس قوته ونفوذه لتغيير شكل الشرق الأوسط: فهو من بادر للقاء بين حاييم وايزمان، رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، والأمير فيصل، حيث تنازل عن الضفة الغربية، وهو من جعل تشرشل يغير اتفاقيات سايكس-بيكو لكيلا تشمل أرض إسرائيل. وفي مؤتمر القاهرة في عام 1921، حيث اتفق نهائيًا على تطبيق وعد بلفور رسميًا، طالب بالاحتفاظ بمنطقة انتدابية، ومن ضمنها، وطن للشعب اليهودي. توقّع لورنس أيضًا أنه ستكون لليهود مساهمة كبرى في رفع مستوى السكان في الشرق الأوسط العربي. في مقابلة أجريت معه في صحيفة يهودية محلية في لندن بمرور عام على إعلان بلفور، قال لورنس: “باعتباري شخص غير يهودي، أعتقد أنّه من البديهي أن يحمل اليهود معهم “الخميرة الغربية” التي يحتاج إليها بلدان الشرق الأوسط. قد يجد البعض في ذلك شيئًا من العنصرية، وقد يعتبر آخرون هذه الفكرة مديحًا لـ “العبقرية اليهودية”.
في اقتباس آخر له، تحدث لورنس عن قيام الدولة اليهودية المستقبلية: “إذا قامت دولة يهودية في أرض إسرائيل، فإنّ ذلك سيتطلب استخدام قوة السلاح! ستقوم الدولة حتمًا بقوة السلاح في مواجهة مجموعة سكانية معادية، وكبيرة جدًا”. في اقتباسه هذا، يتشارك هو وأهرونسون خطًا فكريًا متشابهًا، ولكن لا يوجد ما يثبت أنهما تحدثا عن الموضوع ذات مرة.
عندما أدرك لورنس أنّ السلاح قد يكون يهوديًا وليس إنجليزيًا، أصبح تدريجيًا مناصرًا للصهيونية. في هذا المضمار، تجدر الإشارة إلى أنّ أهرون أهرونسون التقى بلورنس عندما عمل كلاهما في الاستخبارات البريطانية. في حينه، لم يرُق لورنس لأهرونسون لأنّه كان يظنه معارضًا للفكرة الصهيونية، ولم يستلطف لورنس أهرونسون أيضًا. وبعد سقوط الدولة العثمانية، توقع أهرونسون شرقًا أوسط جديدًا قائمًا على الشراكة اليهودية-الأرمنية-العربية، حيث يؤدي الأرمن دور الوسيط بين اليهود والعرب- أولى أهرونسون أهمية قصوى لوجود دولة أرمنية على ضوء الإبادة الجماعية التي تعرض لها الأرمن. شارك سايكس بأفكاره هذه، ولا يمكننا سوى تخمين رد فعل أهرونسون على تجنّد لورنس لخدمة الفكرة الصهيونية، ففي عام 1919، قتل أهرونسون في حادثة طائرة فوق قناة المانش وهو في طريقه إلى مؤتمر السلام في باريس، ولم يعثر على جثته.
بغض النظر عن منظورنا للتاريخ، فالمؤكد هو أنّ لورنس العرب، “المرفوض اجتماعيًا” عند ولادته، كان يقدّر الشعوب المستضعفة، كان يؤمن بالنزاهة والإخلاص تجاه بني البشر على اختلاف مستوياتهم ويبغض الخيانة، آمن بالطريق التي سلكها وتجنّد لخدمة المهمشين. يرجّح أنه عايش بنفسه مشاعر الخزي والألم التي ترافق الإنسان المهمش اجتماعيًا.
لكتابة هذه المقالة، استعنا بـ “كتاب رحلة إلى شمال سوريا”، 1911، وبكتاب أليعزر ليفانا، أهرون أهرونسون- الرجل وعصره.
