لورنس العرب أم لورنس صهيون؟

قصة عالم الآثار الذي عمل ضابط استخبارات بريطاني: هل يعقل أن يتحوّل نصير العرب إلى نصير الصهيونية؟ ما هي المنظّمة التي ساهمت في هذا التحول؟

أودم أشور

الفترة هي الحرب العالمية الأولى، تقع أرض إسرائيل تحت حكم الدولة العثمانية الآخذة في الانهيار. في مكان غير بعيد، يتواجد البريطانيون في مصر. سنتحدّث اليوم عن ضابط بريطاني- عالم آثار اقترن اسمه بالكثير من القصص والخرافات والغموض والألغاز – شخصية تاريخية مرموقة، تم تمثيلها سينمائيًا، خلّدتها فرقة البيتلز على غلاف ألبومها ووجد وينستون تشرشل أنّ سيرتها الذاتية هي “واحدة من أفضل القصص في تاريخ الأدب الإنجليزي”.

لا بد أنّكم تعرفون الآن من تكون هذه الشخصية.

حظيت مساهمة هذه الشخصية بقدر أقل من الاهتمام في البلاد (لِمَن لم يشاهد الفيلم الهوليوودي الدرامي)، ربما لأنّ الحديث يدور حول شخصية جدلية في إسرائيل اعتبرت نصيرة للعرب. ألَم يعلّمنا خيرة المؤرّخين أنّه علينا الانحياز لطرف معين- الخير أو الشر، هم أو نحن. فمن يدعم الاستقلال العربي لا يمكنه دعم النزعة القومية اليهودية!

أتحدّث بالطبع عن توماس إدوارد لورنس، الشهير بـ “لورنس العرب”- بطل الفيلم الشهير، الظاهر على غلاف ألبوم نادي القلوب الوحيدة للرقيب بيبِر لفرقة البيتلز، ذاك المسؤول عن الثورة العربية الكبرى، أو مؤلّف السيرة الذاتية “أعمدة الحكمة السبعة” التي افتُتحت بقصيدة مُهداة لشخص كُتب اسمه بالحرفيْن S.A.

إعلان فيلم "لورنس العرب"، 1963
إعلان فيلم “لورنس العرب”، 1963

 

كان لورنس عالم آثار. في السنوات الأخيرة، صدر أيضًا كتيّب بعنوان “مذكرات رحلة إلى شمال سوريا، 1911” والذي يتعقب مذكّراته التي ألّفها في سن 23 عامًا أثناء مشاركته في حفريات أثرية في منطقة سوريا قبل الحرب العالمية الأولى. رفض الحصول على لقب الفروسية لأنّه شعر بالغدر من قبل ملك بريطانيا، ولقي حتفه في حادثة دراجة نارية بظروف غامضة وهو في الـ 46 من عمره، تاركًا خلفه سيرة غنية جدًا، مما يجعل منه حتى الآن أسطورة تتناقلها الأجيال.

من كان إذًا لورنس العرب؟

لورنس العرب
لورنس العرب

 

لنعد إلى البداية، ولد لورنس العرب، واسمه الحقيقي توماس إدوارد لورنس، في عام 1888 في ويلز، خارج إطار الزواج، لأبٍ أرستقراطي من أصول إيرلندية-بريطانية وأمٍ عملت مربية في منزل والده. هجر الأب منزل والده برفقة المربية، وتنقلت العائلة من مكان لآخر. أدرك لورنس أنّه عليه كتمان السر، تحمّل الخزي والعار والتعامل مع وضعه الجديد كشخص مرفوض اجتماعيًا. لاحقًا، نجح هذا الابن غير الشرعي في تحطيم السقف الزجاجي في بريطانيا الطبقية، ووصل إلى قصر بكنغهام.

عند بلوغه، التحق بجامعة أوكسفورد وأنهى دراسته بتفوّق. في عام 1910، وصل لأول مرة إلى الشرق الأوسط، وانضم إلى البعثة الأثرية للمتحف البريطاني للتنقيب الأثري في كركميش. التقى هناك بعالميْ الآثار ليونارد وولي (احفظوا الاسم لأننا سنعود إليه) وديفيد هوغارث الذي أعجب بشخصية الشاب. أثناء تواجده في المنطقة، تعلم لورنس اللغة والعادات والثقافة العربية. ساعدته هذه المهارات لاحقًا في حياته، وبفضلها، اكتسب الاسم الذي اقترن به تاريخيًا.

مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، تجنّد لورنس لصفوف الجيش البريطاني، حيث حصل على رتبة رائد وبدأ بالعمل كضابط استخبارات. في عام 1916، التحق بـ “المكتب العربي” في القاهرة، وهناك، التقى مجددًا بديفيد هوغارث، من كان مسؤولًا عنه في عمليات التنقيب الأثري. تولى قبله منصبه هذا ماركس سايكس، ذاك الشخص من اتفاقية سايكس-بيكو التي أُبرمت بين بريطانيا وفرنسا لتقسيم أراضي الدولة العثمانية مستقبلا.  تزامنًا مع ذلك، سعى البريطانيين لحشد الدعم العربي للجهود الحربية. محادثات الحشد والتجنيد دارت أيضًا مع الهاشميين بقيادة حسين بن علي، شريف مكة، وتم التوصل إلى تفاهم سيسطر الهاشميون بموجبه على كامل المنطقة الواقعي جنوبيّ تركيا-مملكة عربية كبرى تمتد من شبه الجزيرة العربية وحتى منطقة الشام (بما في ذلك أرض إسرائيل). هنا، يدخل لورنس إلى الصورة، فقد كان له دور رئيسي في بلورة الاتفاقية مع الهاشميين. ولكنه أقصيَ عن اتفاقية سايكس-بيكو، وعندما اكتشف وجود اتفاقية كهذه، غضب جدًا وكشف الأمر للهاشميين. كانت هذه الاتفاقية السرية للإمبراطورية البريطانية خيبة الأمل الأولى لدى لورنس تجاه الإمبراطورية التي مثّلها. خلقت التأويلات المختلفة لدى لورنس الشعور بانعدام الثقة، لأنّه اعتبر ذلك خيانة لقيم بريطانيا، من جملة أسباب أخرى.

شريف مكة، حسين بن علي، 1916
شريف مكة، حسين بن علي، 1916

كان لورنس العرب، اسم على مسمى، ضابط ارتباط مكلّف من قبل البريطانيين، أرسله الجنرال ألنبي لمساعدة العرب في الثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية. قاد لورنس، إلى جانب فيصل، ابن علي، مجموعة تضم آلاف المقاتلين المسلحين من قبل البريطانيين. المعركة التي بدأت في شبه الجزيرة العربية انتهت باحتلال دمشق مرورًا بالجانب الشرقي، ولكنّ دمشق كانت ضمن المنطقة المخصصة لفرنسا وفقًا للاتفاقية. مع أنّ لورنس كان على علم بذلك، إلا أنّ ذلك لم يمنعه من المساعدة في احتلال دمشق ودعم تتويج فيصل ملكًا لسوريا. في الواقع، حاول لورنس إفشال اتفاقية سايكس-بيكو.

ماذا سيفعل البريطانيون؟

نجحت الثورة العربية، وتمكنت القوات الهاشمية من احتلال العقبة وساعدوا البريطانيين على تسريع احتلال أرض إسرائيل. ولكن مطلب الشريف حسين بإقامة مملكة عربية كبرى من شبه الجزيرة العربية وحتى منطقة الشام-لبنان (بما في ذلك أرض إسرائيل) – والتي وعد بها من قبل البريطانيين، كما جاء أعلاه- رفضت بشكل قاطع. عاود الفرنسيون احتلال دمشق، وطردوا فيصل منها. بينما وقف البريطانيون جانبًا ولم يفعلوا شيئًا. كانت تلك الخيانة الثانية، من وجهة نظر لورنس.

وهنا، يجب ذكر منظمة نيلي الاستخباراتية والتي عملت في اليشوف العبري تزامنًا مع هذه الأحداث. كانت المنظمة على تواصل مع زميل لورنس- عالم الآثار ليونارد وولي. سعت المجموعتان لتحقيق نفس الهدف: التعاون مقابل تقديم وعد للدولة. قدّمت منظمة نيلي معلومات استخباراتية غنية ساعدت البريطانيين إلى حد كبير، ولكن هل ساهمت نيلي بطرق أخرى أيضًا؟ ماذا كان رد فعل لورنس على ذلك؟

في نهاية المطاف، فرض البريطانيون والفرنسيون سلطتهم على الجزء الأكبر من الأراضي التي وعد بها الشريف حسين، وقاموا بتقسيمها بينهم وفقًا لاتفاقيات سايكس-بيكو. ولكن لورنس وحسين أيضًا حققا نجاحًا معينًا: توّح اثنان من أبناء حسين ملوكًا- عبد الله في الأردن (العائلة المالكة حتى الآن هي من السلالة الهاشمية) وفيصل في العراق. مع ذلك، اعتبر لورنس الاتفاقية خيانة للبريطانيين، وعندما دعيَ إلى قصر الملك للحصول على لقب الفروسية في نهاية الحرب، رفض الحضور، وغضب الملك. ولكن عندما قتل لورنس في حادثة دراجة نارية في عام 1935، رثاه الشعب كله، وما زال يعتبر أسطورة من قبل العديد من البريطانيين، إلى حد وضع صورته على غلاف ألبوم لفرقة البيتلز.

 

بعد كل ذلك، هل عرفتم المنظمة؟

ربما يكون هذا الجزء مفاجئًا للعديدين، ولكن لورنس العرب لم يكن نصير العرب فقط، إنّما نصير الصهيونية أيضًا. فقد تغير موقف لورنس من اليهود، على ما يبدو بفضل محادثاته مع ويلي الذي أخبره بمساهمة اليهود في الجهود الحربية، من بينها جهود منظمة ويلي. باقتراب نهاية الحرب، كان لورنس قد بلور موقفًا مواليًا لجهات مختلفة، فقد اعتبر حكومة المملكة المتحدة خائنة لحلفائها، وبات مواليًا للهاشميين. في تلك الفترة التي أعاد خلالها التفكير في وجهة نظره، تغير أيضًا موقفه من اليهود. فبعد أن قلّل من شأنهم عشية الحرب، اعتبرهم بعد الحرب شجعانًا وأذكياء، بناءً على ما حققه أهرون أهرونسون وأصدقاؤه. ولم يتوقف التغيير عند هذا الحد. استغل لورنس قوته ونفوذه لتغيير شكل الشرق الأوسط: فهو من بادر للقاء بين حاييم وايزمان، رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، والأمير فيصل، حيث تنازل عن الضفة الغربية، وهو من جعل تشرشل يغير اتفاقيات سايكس-بيكو لكيلا تشمل أرض إسرائيل. وفي مؤتمر القاهرة في عام 1921، حيث اتفق نهائيًا على تطبيق وعد بلفور رسميًا، طالب بالاحتفاظ بمنطقة انتدابية، ومن ضمنها، وطن للشعب اليهودي. توقّع لورنس أيضًا أنه ستكون لليهود مساهمة كبرى في رفع مستوى السكان في الشرق الأوسط العربي. في مقابلة أجريت معه في صحيفة يهودية محلية في لندن بمرور عام على إعلان بلفور، قال لورنس: “باعتباري شخص غير يهودي، أعتقد أنّه من البديهي أن يحمل اليهود معهم “الخميرة الغربية” التي يحتاج إليها بلدان الشرق الأوسط. قد يجد البعض في ذلك شيئًا من العنصرية، وقد يعتبر آخرون هذه الفكرة مديحًا لـ “العبقرية اليهودية”.

في اقتباس آخر له، تحدث لورنس عن قيام الدولة اليهودية المستقبلية: “إذا قامت دولة يهودية في أرض إسرائيل، فإنّ ذلك سيتطلب استخدام قوة السلاح! ستقوم الدولة حتمًا بقوة السلاح في مواجهة مجموعة سكانية معادية، وكبيرة جدًا”. في اقتباسه هذا، يتشارك هو وأهرونسون خطًا فكريًا متشابهًا، ولكن لا يوجد ما يثبت أنهما تحدثا عن الموضوع ذات مرة.

عندما أدرك لورنس أنّ السلاح قد يكون يهوديًا وليس إنجليزيًا، أصبح تدريجيًا مناصرًا للصهيونية. في هذا المضمار، تجدر الإشارة إلى أنّ أهرون أهرونسون التقى بلورنس عندما عمل كلاهما في الاستخبارات البريطانية. في حينه، لم يرُق لورنس لأهرونسون لأنّه كان يظنه معارضًا للفكرة الصهيونية، ولم يستلطف لورنس أهرونسون أيضًا. وبعد سقوط الدولة العثمانية، توقع أهرونسون شرقًا أوسط جديدًا قائمًا على الشراكة اليهودية-الأرمنية-العربية، حيث يؤدي الأرمن دور الوسيط بين اليهود والعرب- أولى أهرونسون أهمية قصوى لوجود دولة أرمنية على ضوء الإبادة الجماعية التي تعرض لها الأرمن.  شارك سايكس بأفكاره هذه، ولا يمكننا سوى تخمين رد فعل أهرونسون على تجنّد لورنس لخدمة الفكرة الصهيونية، ففي عام 1919، قتل أهرونسون في حادثة طائرة فوق قناة المانش وهو في طريقه إلى مؤتمر السلام في باريس، ولم يعثر على جثته.

بغض النظر عن منظورنا للتاريخ، فالمؤكد هو أنّ لورنس العرب، “المرفوض اجتماعيًا” عند ولادته، كان يقدّر الشعوب المستضعفة، كان يؤمن بالنزاهة والإخلاص تجاه بني البشر على اختلاف مستوياتهم ويبغض الخيانة، آمن بالطريق التي سلكها وتجنّد لخدمة المهمشين. يرجّح أنه عايش بنفسه مشاعر الخزي والألم التي ترافق الإنسان المهمش اجتماعيًا.

لكتابة هذه المقالة، استعنا بـ “كتاب رحلة إلى شمال سوريا”، 1911، وبكتاب أليعزر ليفانا، أهرون أهرونسون- الرجل وعصره.

الطفلة آسيا فاينبيرغ متنكرة بزي لورنس العرب في عيد البوريم، صورة استوديو، من مجموعة ياد بن-تسفي
الطفلة آسيا فاينبيرغ متنكرة بزي لورنس العرب في عيد البوريم، صورة استوديو، من مجموعة ياد بن-تسفي

 

بِنو روتنبرغ مصور في جبهة الحرب

صور بِنو روتنبيرغ في معارك عام الـ 1948 ضمن مجموعات صور المكتبة الوطنية.

نقل مجموعة من السكان العرب من قرية الطنطورة إلى الأردن بإشراف الأمم المتحدة والصليب الأحمر، 1948

نقل مجموعة من السكان العرب من قرية الطنطورة إلى الأردن بإشراف الأمم المتحدة والصليب الأحمر، 1948

ثمة عشرات الصور التي يتداولها الناس اليوم حول معارك عام 1948، مشاهد الدمار والبيوت المهدمة، مشاهد اللاجئين والراحلين، ولكن ما لا يعرفه الكثيرون أن معظم هذه الصور قد التقطها مصور واحد، وهو المصور بِنو روتنبرغ والذي تجول في عشرات القرى والمدن حينها ووثّق المعارك كما لم يفعل أحد.

روتنبرغ الذي ولد في فرانكفورت في ألمانيا عام 1914 انتقل ليعيش في البلاد عام 1933 تعرف على اثنين من قيادة الحركة الصهيونية حينها، إسحاق سدي مؤسس قوات الصاعقة الصهيونية، ويجئال ألون جنرال عسكري في الهاجاناة سيصير لاحقاً قائد أركان الجيش الإسرائيلي. علاقة بنو روتنبرغ مع الاثنين ستكون مدخلاً له للتواجد في عشرات المواقع والأحداث المميزة ربما يكون الأكثر أهمية هو تواجده على الجبهات الأكثر تقدماً في معارك عام 1948.

تواجد بنو روتنبرغ على جبهة يافا وتل أبيب والتقطت عشرات الصور من القرى المحيطة كأبو كبير وغيرها، كما تواجد في الطنطورة والتقط صوراً نادرة حينها لا تزال مرجعاً للباحثين والمهتمين حتى اليوم.

نقل مجموعة من السكان العرب من قرية الطنطورة إلى الأردن بإشراف الأمم المتحدة والصليب الأحمر، 1948
نقل مجموعة من السكان العرب من قرية الطنطورة إلى الأردن بإشراف الأمم المتحدة والصليب الأحمر، 1948

 

كانت الطنطورة منطقة واحدة من بين عشرات المواقع والجبهات المهمة التي تواجد بها روتنبرغ، ففي حي أبو كبير في يافا سيلتقط عشرات الصور المهمة من لحظة المعارك، كما ستوثق عدسته الدمار الذي سيلحق بالحي لتكون صوره مادة حية حول ما حدث هناك.

سكنة أبو كبير وهي بيد العرب خلال حرب عام 1948.
سكنة أبو كبير وهي بيد العرب خلال حرب عام 1948.

ستكمل عدسة روتنبرغ التوثيق في أبو كبير، يبنا، العباسية، قرى الشمال والجنوب، قرى وادي عارة، الناصرة، حيفا، عكا، والقدس، وعشرات القرى والمدن أخرى. عشرات القضايا والملفات، سيتواجد ضمن الاتفاقيات والمعاهدات اللاحقة، كاتفاقية إخلاء قرية عراق السويدان، قضايا العرب المتبقين في البلاد، والذين سيشكلون نواة المجتمع العربي اليوم.

مجموعة من الأطفال يمتطون جملاً في وادي عارة، أيار 1949
مجموعة من الأطفال يمتطون جملاً في وادي عارة، أيار 1949

من ضمن القضايا ستكون ضمن اهتمام روتنبرغ: انتخابات الكنيست الإسرائيلية الأولى والتي شارك فيها العرب، المناسبات الثقافية والاجتماعية العربية وعشرات الصور التي توثق الحياة اليومية في البلاد. هذا لا يعني بأن روتنبرغ لم يصوّر المجتمع الإسرائيلي، روتنبرغ كان مهتمًا جداً بالآثار، بالمواقع التاريخية، وبتحوّلات البلاد خلال سنينها وعليه فإنّ توثيقه للمجتمع الإسرائيلي أيضاً لا يقل أهمية عن توثيقه للمجتمع والبلاد العربية.


طالع
/ي أيضًا: انتخابات إسرائيل في الصور والجرائد ومنشورات الدعايات الانتخابية

 

أول انتخابات للكنيست الإسرائيلية، 25 كانون الثاني 1949
أول انتخابات للكنيست الإسرائيلية، 25 كانون الثاني 1949

 

في 13 آذار 2012 توفي المصوّر الإسرائيلي بِنو روتنبرغ عن عمر يناهز 97 عاماً، مختتماً بذلك مسيرة عمل تمتد لأكثر من 60 عاماً في عالم التصوير، تاركاً لنا في ختامها إرثاً ضخماً يزيد عن 48 ألف صورة توثق عشرات المدن والقرى في بلادنا والعالم. يمكنكم الآن الاطلاع على كافة الصور في أرشيف روتنبيرغ.

طالع/ي أيضًا: مجموعات الصور في المكتبة الوطنية.

 

زلفة السعدي: فنانة تشكيلية في المجلس الإسلامي الأعلى

زلفة السعدي: فنانة تشكيلية مقدسية عرضت رسوماتها ومنتجاتها في المعرض العربي في المجلس الإسلامي الأعلى في ثلاثينيّات القرن الماضي.

صحيفة الاتحاد في 9 تشرين أول 1998

صحيفة الاتحاد في 9 تشرين أول 1998

في المعرض العربي الذي أقيم في المجلس الإسلامي الأعلى في شارع مأمن الله (ماميلا) في القدس، كانت الفنانة زلفة السعدي تعرض في جناح فلسطين رسوماتها الزيتية ومنتجاتها التطريزية، وقد ولدت الفنانة زلفة السعدي (1905-1988) في مدينة القدس في البلدة القديمة بالقرب من باب السلسلة، أحد أبواب المسجد الأقصى.

المعرض العربي في المجلس الإسلامي الأعلى

خلال الفترة الانتدابية على فلسطين، نشطت حركة المعارض الفنية بدعم من الإرساليات الأجنبية في المدارس التبشيرية، وكانت المعارض عبارة عن عرض صور لمصورين محليين، منتجات يدوية لعدد من الحرفيين والمتاجر، ولاحقًا ضُمّت اللوحات الزيتية في فن التصوير والذي عُرف بفن الأيقونغرافي، وكانت لوحات الفنانة زلفة السعدي المرسومة بالزيت قد لاقت استحسان الجمهور الفلسطيني وغير الفلسطيني؛ إذ قدّمت السعدي حينها معرضًا منفردًا في جناح فلسطين؛ وعرضت فيه لوحاتها وأعمالها اليدوية من التطريز. (بُلاطة، 2011)

فن الأيقونغرافي

قام الفنان كمال بلاطة، ابن مدينة القدس، بتحضير دراسة عن الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر بعنوان “استحضار المكان: دراسة في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر” باحثًا حول بداية وتاريخ الفن التشكيلي الفلسطيني. وقد قدّم لجمهور القراء والباحثين جانبًا فنيًّا عن الفنانة زلفة السعدي؛ إذ ورد في كتابه أنّ السعدي اعتمدت في رسماتها على محاكاة الصور، وبالتالي كانت من السبّاقات في فن اللوحات المصوّرة المعروف بالأيقونغرافي، والذي اُعتُبِر فنًّا “مستحدثًا” في التعبير وقد ساهم في تأريخ الوجه الثقافي الفلسطيني في ذلك الوقت. (بلاطة، 2011)

اقرأ/ي أيضًا: الحياة والأزياء التقليدية في مسيرة خليل رعد

بالإضافة إلى ذلك، أضافت زلفة السعدي لرسماتها صورًا لشخصيات تاريخية دينية ووطنية مثل المفكر جمال الدين الأفغاني، عمر المختار، وأحمد شوقي محاكية ظروف التصوير في تلك الفترة والتي كانت معتمدة على صور شخصيات باللباس التقليدي الديني والمجتمعي. بالرغم من أنّ المعارض الفنية كانت ضمن النشاطات الممولة من الإرساليات الأجنبية، إلا أنّ الفنانة زلفة السعدي استبدلت في لوحاتها التصويرية الأحرف اللاتينية واليونانية بأحرف اللغة العربية.

رسم شخصية أحمد شوقي، 1930، بريشة زلفة السعدي
رسم شخصية أحمد شوقي، 1930، بريشة زلفة السعدي من كتاب استحضار المكان لكمال بلاطة

 

 

رسم شخصية الملك فيصل الأول، 1930، بريشة زلفة السعدي من كتاب استحضار المكان لكمال بلاطة
رسم شخصية الملك فيصل الأول، 1930، بريشة زلفة السعدي من كتاب استحضار المكان لكمال بلاطة



“وقائع اكتشاف فنانة”

نشرت صحيفة الاتحاد في 9 تشرين أول 1998 وقائع اكتشاف الفنانة زلفة السعدي من قبل الفنان إسماعيل شمّوط. خلال بحث الفنان إسماعيل شمّوط عن الحركة الفنية التشكيلية الفلسطينية، اصطدم برسومات للفنانة زلفة السعدي عندما قام شاب وشابة بتسليمه ما تبّقى من رسوماتها، إلى جانب دفتر الزيارات الخاصة بالمعرض العربي والذي أقيم في المجلس الإسلامي الأعلى. ورد في دفتر الزيارات أن شركة المعرض العربي بفلسطين المحدودة قد رعت مجموعة من الأجنحة والأقسام لمنتجات زراعية صناعية وفنية، وقد كان هناك جناحًا للفنانة زلفة السعدي باسم “جناح فلسطين“، بالإضافة إلى ذلك، ورد في الدفتر إشادة الاقتصادي ورجل الأعمال ومدير بنك الأمة العربية آنذاك أحمد حلمي عبد الباقي، إذ كتب على الدفتر: “وإنه ليسرنا أن نرى الآنسات والسيدات العربيات في الطليعة من هذه الفئة العاملة… زرت قسم الأشغال اليدوية في المعرض العربي الأول التي تعرض فيه الآنسة زلفى ]زلفة[ السعدي صنع أناملها وآثار عبقريتها وبحثت المعروضات وأمعنت النظر فيها فملأت قلبي بهجة وحبورًا ونفسي إعجابا.” ووفقًا لما ذُكِر في هذا الدفتر، فقد مُنِحت زلفة السعدي، شهادة من الدرجة الأولى بناءً على قرار لجنة التحكيم الخاصة بالمعرض.

صحيفة الاتحاد في 9 تشرين أول 1998
صحيفة الاتحاد في 9 تشرين أول 1998

وقد وُصِفت صورها أو رسوماتها بأنّها صورًا ناطقة وذلك لشدة دقتها ووضوحها، وقد عبّر شمّوط عن ذلك بأنّه على الرغم من السعدي تتلمذت على يد نقولا الصايغ، عميد المعلمين والحرفين في القدس في الفن الأيقوني، إلا أنّ دقة رسوماتها للأشخاص والطبيعة والنباتات، تعكس وتبيّن أن الفنانة لم تكن تلميذة أو حتى هاوية بل هي فنّانة متمّرسة.

رسم شخصية أحمد شوقي، 1930، بريشة زلفة السعدي من كتاب استحضار المكان لكمال بلاطة
رسم شخصية عمر المختار، 1930، بريشة زلفة السعدي من كتاب استحضار المكان لكمال بلاطة

تزوجت زلفة السعدي عام 1938 من السيد سيف الدين الدجاني وهو فنان تشكيلي كذلك، وبعد حرب الـ 1948، هاجرت السعدي وزوجها إلى دمشق وهناك أصبحت معلمة للفنون ومديرة مدرسة اللد التابعة لوكالة الغوث (الأنوروا). غادرت زلفة السعدي مدينة القدس مع عدد قليل جدًا من لوحاتها الزيتية، وعلى ما يبدو أنّها لم تعد تمارس الرسم كمهنة بعد الحرب.

موهبة لا يمكن تقليدها: عازف القانون يوسف زعرور

كان يوسف زعرور موسيقيًا وعازفًا للقانون، عمل موسيقيًا في إذاعة أوركسترا بغداد، وقد منحته موهبته العظيمة نجاحًا في البلاد.

يوسف زعرور في المؤتمر العالمي للموسيقى العربيّة في القاهرة 1932

بقلم: راحيل جولدبيرغ

في أحد الأيام، خلال أحد التّمرينات في أوركسترا المقام العراقي في سلطة الإذاعة الإسرائيليّة، لاحظ عازف القانون يوسف زعرور عازفًا للقانون من زملائه، أفراهام سلمان، يجلس خارج الغرفة ويحاول تقليد تقنيّة زعرور المذهلة في العزف على الآلة. اقترب منه زعرور وقال مازحًا “ما الّذي تفعله؟ تقلّد عزفي؟ تقلّدني؟” أراد زعرور من المزحة أن يخفّف من حدّة التّوتر الحاصل كلّما أراد تلميذًا أن يجاري أستاذه. في النّهاية، لقد عرف زعرور سلمان منذ أيامهم في العراق، حين كان زعرور مديرًا فنّيا في أوركسترا إذاعة بغداد. كان زعرور يدعم الموسيقيين الموهوبين من الشّباب دومًا، بالذّات هؤلاء الّذين أتوا من الجالية اليهوديّة، وكان أفراهام سلمان من هؤلاء.

أوركسترا إذاعة بغداد، 1936
أوركسترا إذاعة بغداد، 1936

 

وُلد يوسف زعرور عام 1902 لعائلة ثريّة في بغداد. أظهر موهبة موسيقيّة منذ صغره، وفي سن الثامنة عشر اقتنى لنفسه قانونه الأوّل، كما عزف على الكمان والتشيللو. في العام 1932، شارك مع مجموعة من زملائه الموسيقيين العراقيين (كلهم يهود) في أول مؤتمر عالمي للموسيقى العربيّة في القاهرة. تجدون تسجيل نادر من هذا الحدث في مجموعات المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة. في المقطوعة الخامسة تسمعون عزف زعرور الجميل على القانون، وهي مقطوعة تقسيم على المقام العراقي “بنجكاه” على القانون. لشدّة تمرّسه وجمال موهبته، حصل زعرور على ميداليّة وحصد المركز الأوّل في هذا المؤتمر. لاحقًا، انضمّ زعرور إلى راديو بغداد عام 1936، وبعد خمس سنوات، عُيّن مديرًا فنّيًا في الإذاعة وبقي في هذه الوظيفة حتّى هاجر إلى البلاد عام 1951، وأثناء عمله في إذاعة بغداد، دعم زعرور العديد من الموسيقيين اليهود منهم المغنّي سليم شوات، ألبيرت الياس، أفراهام داوود، أفراهام سلمان، داوود أكرم، حقي عوفاديا، المغني صالح الشلبي وغيرهم كُثر.

أوركسترا إذاعة بغداد، 1938
أوركسترا إذاعة بغداد، 1938

لم يدفع زعرور الموسيقيين اليهود قدمًا وحسب، فحين أتى إليه المغني العراقي ناظم الغزالي إلى تجربة أداء غنّى أغنية مصريّة، فطلب منه زعرور أن يغنّي أغنيّة عراقيّة، مؤكّدًا على أن الغناء العراقي سيليق بأدائه أكثر، وبعد انتهاء تجربة الأداء أثنى زعرور على أداء الغزالي وتنبأ له بمستقبل عظيم وهو ما كان بالفعل. خلال سنوات عمله في راديو بغداد، لحّن زعرور ألحانًا مشهورة عديدة وعمل مع كبار المطربين العرب في ذلك الوقت، من الموسيقار الكبير محمّد عبدالوهاب إلى مطربة العالم العربي أم كلثوم. وبالرّغم من شدّة الطّلب عليه، إلّا أنّه كموظّف حكومي قدّم عروضًا خاصّة لعدد قليل من الشّخصيّات، منها الملك فيصل ملك العراق ورئيس الوزراء نوري السّعيد.

عازف الكمان الشّهير سامي الشّوّا عام 1931 في سينيما رويال في بغداد برفقة يوسف زعرور أما القانون وعيزرا أهارون عزّوري على العود
عازف الكمان الشّهير سامي الشّوّا عام 1931 في سينيما رويال في بغداد برفقة يوسف زعرور أما القانون وعيزرا أهارون عزّوري على العود.

أدّى مجيء زعرور إلى البلاد إلى تراجع ملحوظ في مكانته الفنّية، فتحوّل من إدارة الفنّانين والأوركسترا إلى العزف في الحفلات الخاصّة وأفراح الجالية العراقيّة اليهودية في البلاد. وبالرّغم من افتقاد الوقار الّذي تمتّع به في العراق فإنّه لم يتوقّف عن البحث عن المواهب وضمّها إليه. تقول عائلته، أنّه كلّما عُرض عليه العزف في احتفال عائليّ كان يسأل أصحاب الاحتفال عمّا إذا أرادوا عازف عود إلى جانبه، وكانوا دائمًا ما يرفضون الاقتراح لأنّهم يريدون سماع عزفه هو فقط، إلّا أنّهم تقديرًا لموهبته العظيمة كانوا يدفعون كما لو كانوا يستأجرون أوركسترا بأكملها.

 

مؤتمر الموسيقى العربيّة في القاهرة عام 1932 حين فاز زعرور بالمركز الأوّل
مؤتمر الموسيقى العربيّة في القاهرة عام 1932 حين فاز زعرور بالمركز الأوّل

جلبت له موهبته العظيمة نجاحًا مجدّدًا في البلاد وأسّس أوركسترا المقام البغدادي كجزء من الأوركسترا العربيّة في سلطة الإذاعة الإسرائيليّة، ومع ذلك كان عليه أن يقاتل للحصول على مكان بين الموسيقيين الّذين نجحوا هنا، وبعضهم كان قد قدّم دعمه لهم في السابق في العراق. العديد من تسجيلات زعرور من هذه الفترة تجدونها في مجموعات المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة.

 

يوسف زعرور في بيته عام 1966
يوسف زعرور في بيته عام 1966

إن القصّة الّتي بدأنا بها هذه المقالة تظهر التّحدّيات من أجل النّجاح ما بين المهاجرين القدامى والجدد وموهبة يوسف زعرور النّادرة. وقد حاول العديد من الموسيقيّون أن يصلوا إلى هذا المستوى من التمرّس، منهم حفيده عازف القانون دافيد ريغيف زعرور، الذي يقول أنّه يحاول أن يعزف مثل جدّه، وأنّه يتمنّى أن يتمكّن من ذلك يومًا ما.