أحداث ولادة النبيّ محمّد من مخطوطة “عرف التعريف بالمولد الشريف”

نقدّم لكم في هذا المقال الأحداث التي رافقت حمل والدة النبيّ محمّد ﷺ به وولادته، كما وردت في كتاب "عرف التعريف بالمولد الشريف" للعلّامة ابن الجزريّ (1350-1429 م).

من مخطوطة عرف التعريف بالمولد الشريف، 1723، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنيّة

من مخطوطة عرف التعريف بالمولد الشريف، 1723، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنيّة

مخطوطة عرف التعريف بالمولد الشريف للعلّامة وشيخ القرّاء شمس الدين محمدّ بن محمّد المعروف بابن الجزريّ، هي من الكتب الهامّة التي نقل الكثير من الأئمّة كالحافظ السيوطي من ما ورد فيها (تُرجمت إلى الفارسيّة كذلك)، وتروي تفاصيل من سيرة النبيّ محمد تدلّ على عظمته ومكانته النوريّة الرفيعة، وبشكلٍ خاصٍّ أحداث ولادته. وكان هذا الكتاب يُقرأ في المسجد الحرام، وكذلك أمام أعدادٍ غفيرة من المحتفلين بذكرى مولد النبيّ في منطقة الشِّعب في مكّة حيث وُلِد الرسول.

وكما يروي ابن الجزريّ في كتابه، كان حمل والدة النبيّ به خفيفًا لم تشعر به، ولا وجدت له ثقلًا كما تجد النساء عادةً. وقد روت أنّ “آتٍ” جاءها وهي بين النوم واليقظة، دون أن تحدّد طبيعة هذا الذي أتاها، وسألها: “هل شعرتِ أنّك حَملتِ؟”، فقالت بأنّها لا تدري، فقال لها إنّها حملت بسيّد هذه الأمّة ونبيّها. وحين اقترب موعد ولادتها، جاءها مجدّدًا، وأخبرها أن تسمّيه محمّدًا، وآية (علامة) كونه محمودًا بخصاله وأفعاله (مثلما يعني اسمه) هو خروج نور عند ولادته يملأ قصور بصرى في الشام، أو في روايةٍ أخرى ما بين المشرق والمغرب (دليل على امتداد رسالة الإسلام إلى هناك).

 ويروي ابن الجزريّ أيضًا أنّ الله حين أراد خلق نبيّه في بطن أمّه، أمر رضوان خازن الجنّة بفتح أبواب الفردوس، وهذا يدلّ بالطبع على أنّ الرسول رحمةٌ للناس يدخلون الجنّة باتّباعه. ونودي تلك الليلة أيضًا أنّ النور المكنون (المكنون عادةً وصفٌ للؤلؤ، فكأنّ النبيّ لؤلؤة بالرحم) يكون مع النبيّ في بطن أمّه أثناء خلقه، ولا شكّ أنّ النور دلالة على رسالته التي تُخرِجُ الناس من ظلماتهم، وربّما ذلك ما يفسّر خفّة الحمل على والدته، إذ كانت تحمل في داخلها نورًا.

من مخطوطة عرف التعريف بالمولد الشريف، 1723، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنيّة
من مخطوطة عرف التعريف بالمولد الشريف، 1723، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنيّة

 

كذلك، تروي أمّه أنّها ولدته نظيفًا طيّبًا لا كما يولد الأطفال، وأنّه نزل على الأرض معتمدًا على يديه، وجثا على ركبتيه، رافعًا رأسه إلى السماء. وروت إحدى النساء التي حضرت ولادته كيف امتلأ البيت بالنور، وكيف اقتربت النجوم تلك الليلة حتّى شعرت بأنّها ستقع عليها، فكأنّ قولها يوحي بأنّ النجوم التي يستدلّ بها  المسافر في الظلمات على الطريق الصحيح اقتربت لتنال قبسًا من نوره.

ومن العلامات العجيبة يوم مولده أنّه وُلِدَ مختونًا وبحبلٍ سرّيٍّ مقطوع، وربّما يرمز ذلك إلى أنّ ارتباط الرسول ليس بأمّه وبالعرب (اللغة الأمّ) وحدهم، بل بكلّ البشر عبر رسالته، وربّما يُشعرنا ما رآه جدّه عبد المطلب في المنام بمعقوليّة تفسيرنا، حيث شاهد أنّ سلسلةً فضّيّةً خرجت من ظهره (أي من صلبه ونسله) لها 4 أطراف (نهايات)، طرفٌ متّصلٌ بالسماء، وآخرٌ بالأرض، وثالثٌ بالشرق، ورابعٌ بالغرب، ثمّ تحوّلت هذه السلسلة إلى شجرة على كلّ ورقة منها نور، يتعلّق بها أهل المشرق والمغرب. فكأنّ الرسول مرتبطٌ بروابط متينة (سلسلة فضّيّة) بالسماء التي تغذّيه بنورها، كي ينقله إلى الأرض وأهلها في جهاتها كلّها، دون الاقتصار على مكانٍ واحد.

ويورد ابن الجزريّ أنّ رجلًا شاهد نورًا يخرج من بئر زمزم، وهذا النور جعله يشاهد من مكانه “البسر في نخيل يثرب”، أي التمر الذي يحمله نخل المدينة المنوّرة. وربّما يجدر بنا هنا ذكر حادثةٍ لم يوردها الكاتب في مخطوطته، تتكرّر فيها صدق الرؤيا، وهي أنّ بئر زمزم اختفى مرّةً، ولم يعرفوا مكانه، فحلم جدّ الرسول بمن يدلّه على مكان البئر، وحين استيقظ حفر في المكان الذي رآه في منامه فتحقّقت رؤياه. فيبدو أنّ هناك ارتباط بين رسالة النبيّ التي نصرها أهل المدينة وبين حفر بئر زمزم، حيث جلب كلاهما الحياة للناس، ألم يقل الله بالقرآن: “وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ”، وقال عن رسالة الإسلام: “أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا “.

طالعوا أيضًا: في مدح النبي محمد

ومن كرامات مولده أيضًا، كما يورد ابن الجزريّ، أنّ أمّه وضعته بعد ولادته تحت برمة (قدر) ليكون جدّه أوّل من يراه، وأنّ البرمة قد انفلقت (شقّت) عنه، وظهر الرسول ينظر إلى السماء، وهذه علامةٌ أنّ لا شيء يستطيع حجب رسالته السماويّة. وقد أخذه جدّه المسرور به بعد هذه الحادثة إلى داخل الكعبة، وشكر الله على عطائه، وقال شعرًا مشهورًا بحفيده.

من مخطوطة عرف التعريف بالمولد الشريف، 1723، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنيّة
من مخطوطة عرف التعريف بالمولد الشريف، 1723، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنيّة


وحين علم عمّه أبو لهب من جاريته بمولد ابن أخيه، أعتقها من الفرح، وجعلها تُرضعه أيّامًا بعد ولادته. ويقول ابن الجزريّ أنّ أبا لهب (الذي كان يؤذي الرسول بعد بعثه) شوهد بعد موته في النوم، فسئل عن حاله، فقال بأنّه في النار، لكن يخفّف عنه كلّ ليلة اثنين (يوم الاثنين يوم ولادة الرسول) بقليل من الماء لأنّه أعتق جاريته حين بُشّر بولادة النبيّ وجعلها ترضعه. ويعتبر ابن الجزريّ ذلك دليلًا على أهمّيّة فرح المسلمين واحتفالهم بالمولد النبويّ، حيث جوزي “أبو لهب الكافر” المذموم في القرآن وهو في النار لأنّه فرح ليلة مولد النبيّ، “فكيف بالمسلم (…) الذي يُسرّ بمولده ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبّته عليه السلام؟ لعمري إنّما يكون جزاؤه من الله أن يدخله بفضله جنّات النعيم”.

ومن آيات وعلامات مولده التي رواها ابن الجزريّ أيضًا، والتي نترك لكم التفكير بدلالاتها، انشقاق إيوان كسرى (هو بناء جميل ذو مساحة واسعة يكون مفتوحًا من جهته الأماميّة يجلس فيه كبار القوم) وسقوط أجزاءٍ منه، وخمود نار فارس التي ظلّت مشتعلة ألف عام، وجفاف بحيرة ساوة العظيمة في مملكة عراق العجم، وحلم أحد علماء الفرس بأنّ الإبل الكبيرة تقود الخيل العربيّة وتقطع نهر دجلة منتشرةً في بلادهم، ورمي الجنّ بالشهب ومنعهم من استراق السمع إلى السماء، ورنين الشيطان (الصياح عند البكاء)، وظهور “نجم أحمد”.