ألّف الإمام أبي حامد الغزالي (1058-1111 م) كتابه الأربعين في أصول الدين في فترة عزلته واعتكافه التي امتدّت تقريبًا عشرة أعوام، قضاها في القدس ودمشق. قسّم كتابه إلى عدّة أقسام، منها ما هو في العقائد، وفي الأعمال الظاهرة، ومنها ما هو في تزكية القلب عن الأخلاق المذمومة، وقد وضّح رأيه في الطعام والجوع في هذا القسم، ونلمح في آرائه صدىً للأفكار الصوفيّة عن قهر الجسد وشهواته، وتأثيرًا لعزلته، إذ هي كالجوع تركٌ لملذّات الدنيا.
في شره الطعام
يعتبر الغزالي أنّ شره الطعام من أمّهات (أصل) الأخلاق السيّئة، فالمعدة بالنسبة إليه ينبوع الشهوات، فعندما تنتصر شهوة الطعام على الإنسان، يصبح أسيرًا لها، وينتج عنها شره المال، لأنّ المال هو الذي يجعل الإنسان قادرًا على الحصول على الأطعمة التي تشتهيها نفسه. ومن شهوة المال، تنبع الرغبة في الجاه، أي علوّ المكانة والمنزلة، لأنّه هو الذي يُسهّل كسب المال. وعندما يحصل الإنسان على المال والجاه ويسعى في طلبهما، ينتج عن ذلك آفاتٌ إضافيّة في أخلاقه، فيصيبه التكبّر والرياء (عمل الصالحات أمام الناس لتزداد المكانة) والحسد على من يملكون والحقد والعداوة وغيرها. ومنبع كلّ ذلك حسب الغزالي هو البطن، فكأنّه يريد أن يقول إنّ الرغبة الشرهة في الطعام هي أمٌّ تلد سلسةً من السلوكيّات المذمومة، ورحم هذه الأمّ هو البطن أو المعدة.
ولا يكتفي الإمام الغزالي بنقد شره الطعام بهذه السلسلة المنطقيّة من السبب والنتيجة (ربّما نتذكّر هنا أنّ الغزالي درس الفلسفة في فترة من حياته)، بل يورد أحاديثًا نبويّة، ليدعم رأيه لا بالعقل وحده، بل بالنقل عن الرسول كذلك، فيبدأ بحديثٍ يُعَظِّم الجوع (نقيض الشره): “ما من عمل أحبّ إلى الله من الجوع والعطش”، ثمّ “لا يدخل ملكوت السماء من ملأ بطنه”. ويورد حديثًا آخر توحي صياغته بضعف نسبته إلى الرسول: “الفكر نصف العبادة، وقلّة الطعام هي العبادة”، وحديثًا آخر يمدح التفكّر ويربطه بالجوع، ويذمّ كثرة الأكل (صيغة المبالغة أكول) ويربطها بالكسل (النؤوم): “أفضلكم عند الله أطولكم جوعًا وتفكرًا، وأبغضكم إلى الله كلّ أكول شروب نؤوم”. وقبل أن ينهي الغزالي حديثه عن شره الطعام، يورد عدّة أحاديث أخرى تدعم رأيه، أشهرها حديثٌ صحيحٌ يذمّ التخمة، ويحثّ -من يقدر على ذلك- على “حميةٍ روحيّةٍ” قائمةٍ على أكل اللقيمات (اللقم الصغيرة) لإمداده بالقوّة اللازمة على القيام بأعماله، وإذا كان ذلك صعبًا فليقسّم الشخص معدته 3 أقسام، واحد للطعام والثاني للشراب والثالث للهواء (أي فارغ):
“ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطنه، حسب ابن آدم لقيماتٍ يُقمن صُلبه، وإن كان لا محالة (أي لا بدّ من الزيادة في الطعام) فثلثٌ لطعامه وثلثٌ لشرابه وثلثٌ لنفَسِه”.
شره الطعام من مخطوطة الأربعين في أصول الدين- المكتبة الوطنيّة
السرّ في تعظيم الجوع
بالإضافة لأهمّيّة الجوع في القضاء على شره الطعام، يورد الغزالي فوائد كثيرة أخرى له، تجعله مناسبًا لمن يطلب الآخرة. فهو يؤدّي إلى صفاء القلب ونفاذ البصيرة (قوّة الإدراك والذكاء)، ما يسهّل تحصيل المعرفة المؤدّية إلى السعادة، عكس الشبع الذي يسبّب البلادة الفكريّة. والجوع أيضًا يجعل القلب رقيقًا، فيتأثّر بذكر الله وعبادته ولذّة مناجاته، ويقتبس الغزالي قولًا تعجبيًّا للصوفيّ الزاهد أبو القاسم الجنيد يقول فيه: “يجعل أحدكم بينه وبين قلبه مخلاة من الطعام ويريد أن يجد حلاوة المناجاة!”، ومعنى هذا القول أنّ الطعام الكثير المكنّى عنه بطريقة سلبيّة بالمخلاة (الكيس المعلّق على رقبة الدابّة يوضع فيه علفها) حاجزٌ بين الإنسان وذاته الحقيقيّة (قلبه) التي تتذوّق حلاوة العبادات.
كذلك، يؤدّي الجوع -حسب الغزالي- إلى ذلّ النفس وزوال البطر والطغيان، فيمتنع الإنسان عن التكبّر، الذي هو في رأيه سبب الغفلة عن الله، والباب المؤدّي إلى الجحيم. والجوع أيضًا بابٌ من أبواب الجنّة، لأنّه بلاءٌ للنفس، وعندما يعذّب الإنسان نفسه بالجوع يتذكّر عذاب الآخرة، فيزيد خوفه من الله، وإقباله على طاعته. وهو يكسر كافّة الشهوات التي هي منابع المعاصي، ويسيطر على النفس الأمّارة بالسوء، ويقتبس الغزالي من صوفيٍّ آخر هو ذي النون قوله بأنّه عندما يشبع يعصي الله أو يرغب في المعاصي، وقول عائشة بأنّ الشبع يجعل النفس تجمح نحو الدنيا (الجموح عندما يتمرّد الحصان على راكبه، أو لا يقدر البحّارة على ضبط سفينتهم).
وآخر فائدتين يوردهما الغزالي للجوع تتعلّقان بالخفّة، خفّةِ الجسد (نشاطه) اللازمة للتهجد (صلاة الليل) والعبادة وزوال ثقل النعاس، وخفّة المؤنة، أي النفقات القليلة التي تجعل الإنسان يرضى بالقليل من الدنيا، فمن تخلّص من شره الطعام لا يرغب في المال الكثير لشرائه، ويزول عنه ثقل الهموم المتعلّقة بالحصول عليه.
التدرّج في التقليل من الطعام
ردًّا على سؤال “كيف أترك الشبع والإكثار في الطعام وقد أصبحا عادة عندي؟”، يجيب الغزالي أنّ الحلّ في التدريج، لتسهيل الأمر على النفس، فيُنقص الإنسان كلّ يومٍ من طعامه لقمة، وينتج عن ذلك أن يقلّ ما يأكله “رغيفًا في شهر”، وهكذا يتعوّد رويدًا رويدًا على الكمّيّات القليلة. وبعد المداومة على التقليل، يختار الإنسان حسب طاقته كمّيّة الطعام من ثلاث درجات يوضّحها الغزالي:
-أعلى درجة هي درجة الصدّيقين (أعلى المراتب بعد مرتبة النبوّة)، وكمّيّة الطعام في اليوم هنا على قدر القوام، أي قوت الطعام الذي يقيم الإنسان ويبقيه على قيد الحياة ولا يجعل عقله ضعيفًا، وبمعنى آخر الحدّ الأدنى من الطعام الذي إذا نقص يتشكّل خطرٌ على الحياة والعقل.
-الدرجة الثانية هي نصف المُدّ كلّ يوم (قيمة المدّ عند بعض الفقهاء المعاصرين تقريبًا 544 غرام)، وهذه كانت عادة جماعة من الصحابة كعمر بن الخطاب.
-الدرجة الثالثة هي المُدّ الواحد كلّ يوم، دون زيادة. لكن يؤكّد الغزالي أنّ هذه الحسابات تقريبيّة، ويؤثّر فيها اختلاف الأشخاص وأحوالهم. وهو يفضّل أن يأكل الإنسان عند الجوع الكبير، وأن يتوقّف عن الطعام وهو لا يزال يشتهيه. ودليل الجوع الصادق لديه هو الوصول إلى الحالة التي يصبح فيها راغبًا بأيّ نوعٍ من الخبز، حتّى لو كان يابسًا (من غير إدام أو مرق).
من مخطوطة الأربعين في أصول الدين- المكتبة الوطنيّة
كذلك، يعتبر الغزالي أنّ على الإنسان التقليل من خبز البُرّ (القمح) مع الإدام (المرق أو الدسم)، وأن يحاول الاقتصار على خبز الشعير بلا إدام. وينصح أيضًا بالتدرّج في مدّة الامتناع عن الطعام، فيمتنع في البداية عن الأكل في اليوم الواحد أكثر من مرّةٍ واحدة، ثمّ يمتنع عن الأكل ليومين متواصلين، ويستمرّ بالتدريج حتّى يصل أيّامًا عديدة بلا طعام، ككبار سالكي الطريق من الصوفيّين.
هكذا كانت حمية الغزالي الروحيّة، وإذا أعجبتكم، ننصحكم بعدم تجريبها، قبل أن تستشيروا طبيبكم!