ذمُّ شره الطعام وتعظيم الجوع: حمية الإمام الغزالي الروحيّة

نقدّم لكم في هذا المقال عرضًا لرأي الإمام الغزالي في شره الطعام، والسرّ لديه في أهمّيّة الجوع، ونصائحه في التقليل من الأكل، كما ورد في أحد أقسام كتابه "الأربعين في أصول الدين".

832 629

كتاب الأربعين في أصول الدين، 1793، مجموعة الـ AP ضمن مجموعة المخطوطات، المكتبة الوطنية

ألّف الإمام أبي حامد الغزالي (1058-1111 م) كتابه الأربعين في أصول الدين في فترة عزلته واعتكافه التي امتدّت تقريبًا عشرة أعوام، قضاها في القدس ودمشق. قسّم كتابه إلى عدّة أقسام، منها ما هو في العقائد، وفي الأعمال الظاهرة، ومنها ما هو في تزكية القلب عن الأخلاق المذمومة، وقد وضّح رأيه في الطعام والجوع في هذا القسم، ونلمح في آرائه صدىً للأفكار الصوفيّة عن قهر الجسد وشهواته، وتأثيرًا لعزلته، إذ هي كالجوع تركٌ لملذّات الدنيا.

في شره الطعام

يعتبر الغزالي أنّ شره الطعام من أمّهات (أصل) الأخلاق السيّئة، فالمعدة بالنسبة إليه ينبوع الشهوات، فعندما تنتصر شهوة الطعام على الإنسان، يصبح أسيرًا لها، وينتج عنها شره المال، لأنّ المال هو الذي يجعل الإنسان قادرًا على الحصول على الأطعمة التي تشتهيها نفسه. ومن شهوة المال، تنبع الرغبة في الجاه، أي علوّ المكانة والمنزلة، لأنّه هو الذي يُسهّل كسب المال. وعندما يحصل الإنسان على المال والجاه ويسعى في طلبهما، ينتج عن ذلك آفاتٌ إضافيّة في أخلاقه، فيصيبه التكبّر والرياء (عمل الصالحات أمام الناس لتزداد المكانة) والحسد على من يملكون والحقد والعداوة وغيرها. ومنبع كلّ ذلك حسب الغزالي هو البطن، فكأنّه يريد أن يقول إنّ الرغبة الشرهة في الطعام هي أمٌّ تلد سلسةً من السلوكيّات المذمومة، ورحم هذه الأمّ هو البطن أو المعدة.

ولا يكتفي الإمام الغزالي بنقد شره الطعام بهذه السلسلة المنطقيّة من السبب والنتيجة (ربّما نتذكّر هنا أنّ الغزالي درس الفلسفة في فترة من حياته)، بل يورد أحاديثًا نبويّة، ليدعم رأيه لا بالعقل وحده، بل بالنقل عن الرسول كذلك، فيبدأ بحديثٍ يُعَظِّم الجوع (نقيض الشره): “ما من عمل أحبّ إلى الله من الجوع والعطش”، ثمّ “لا يدخل ملكوت السماء من ملأ بطنه”. ويورد حديثًا آخر توحي صياغته بضعف نسبته إلى الرسول: “الفكر نصف العبادة، وقلّة الطعام هي العبادة”، وحديثًا آخر يمدح التفكّر ويربطه بالجوع، ويذمّ كثرة الأكل (صيغة المبالغة أكول) ويربطها بالكسل (النؤوم): “أفضلكم عند الله أطولكم جوعًا وتفكرًا، وأبغضكم إلى الله كلّ أكول شروب نؤوم”. وقبل أن ينهي الغزالي حديثه عن شره الطعام، يورد عدّة أحاديث أخرى تدعم رأيه، أشهرها حديثٌ صحيحٌ يذمّ التخمة، ويحثّ -من يقدر على ذلك- على “حميةٍ روحيّةٍ” قائمةٍ على أكل اللقيمات (اللقم الصغيرة) لإمداده بالقوّة اللازمة على القيام بأعماله، وإذا كان ذلك صعبًا فليقسّم الشخص معدته 3 أقسام، واحد للطعام والثاني للشراب والثالث للهواء (أي فارغ):

 “ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطنه، حسب ابن آدم لقيماتٍ يُقمن صُلبه، وإن كان لا محالة (أي لا بدّ من الزيادة في الطعام) فثلثٌ لطعامه وثلثٌ لشرابه وثلثٌ لنفَسِه”.

Dedupmrg765329080 Ie144661144 Fl144661329 660

شره الطعام من مخطوطة الأربعين في أصول الدين- المكتبة الوطنيّة


السرّ في تعظيم الجوع

بالإضافة لأهمّيّة الجوع في القضاء على شره الطعام، يورد الغزالي فوائد كثيرة أخرى له، تجعله مناسبًا لمن يطلب الآخرة. فهو يؤدّي إلى صفاء القلب ونفاذ البصيرة (قوّة الإدراك والذكاء)، ما يسهّل تحصيل المعرفة المؤدّية إلى السعادة، عكس الشبع الذي يسبّب البلادة الفكريّة. والجوع أيضًا يجعل القلب رقيقًا، فيتأثّر بذكر الله وعبادته ولذّة مناجاته، ويقتبس الغزالي قولًا تعجبيًّا للصوفيّ الزاهد أبو القاسم الجنيد يقول فيه: “يجعل أحدكم بينه وبين قلبه مخلاة من الطعام ويريد أن يجد حلاوة المناجاة!”، ومعنى هذا القول أنّ الطعام الكثير المكنّى عنه بطريقة سلبيّة بالمخلاة (الكيس المعلّق على رقبة الدابّة يوضع فيه علفها) حاجزٌ بين الإنسان وذاته الحقيقيّة (قلبه) التي تتذوّق حلاوة العبادات.

 كذلك، يؤدّي الجوع -حسب الغزالي- إلى ذلّ النفس وزوال البطر والطغيان، فيمتنع الإنسان عن التكبّر، الذي هو في رأيه سبب الغفلة عن الله، والباب المؤدّي إلى الجحيم. والجوع أيضًا بابٌ من أبواب الجنّة، لأنّه بلاءٌ للنفس، وعندما يعذّب الإنسان نفسه بالجوع يتذكّر عذاب الآخرة، فيزيد خوفه من الله، وإقباله على طاعته. وهو يكسر كافّة الشهوات التي هي منابع المعاصي، ويسيطر على النفس الأمّارة بالسوء، ويقتبس الغزالي من صوفيٍّ آخر هو ذي النون قوله بأنّه عندما يشبع يعصي الله أو يرغب في المعاصي، وقول عائشة بأنّ الشبع يجعل النفس تجمح نحو الدنيا (الجموح عندما يتمرّد الحصان على راكبه، أو لا يقدر البحّارة على ضبط سفينتهم).

وآخر فائدتين يوردهما الغزالي للجوع تتعلّقان بالخفّة، خفّةِ الجسد (نشاطه) اللازمة للتهجد (صلاة الليل) والعبادة وزوال ثقل النعاس، وخفّة المؤنة، أي النفقات القليلة التي تجعل الإنسان يرضى بالقليل من الدنيا، فمن تخلّص من شره الطعام لا يرغب في المال الكثير لشرائه، ويزول عنه ثقل الهموم المتعلّقة بالحصول عليه.

التدرّج في التقليل من الطعام

ردًّا على سؤال “كيف أترك الشبع والإكثار في الطعام وقد أصبحا عادة عندي؟”، يجيب الغزالي أنّ الحلّ في التدريج، لتسهيل الأمر على النفس، فيُنقص الإنسان كلّ يومٍ من طعامه لقمة، وينتج عن ذلك أن يقلّ ما يأكله “رغيفًا في شهر”، وهكذا يتعوّد رويدًا رويدًا على الكمّيّات القليلة. وبعد المداومة على التقليل، يختار الإنسان حسب طاقته كمّيّة الطعام من ثلاث درجات يوضّحها الغزالي:

-أعلى درجة هي درجة الصدّيقين (أعلى المراتب بعد مرتبة النبوّة)، وكمّيّة الطعام في اليوم هنا على قدر القوام، أي قوت الطعام الذي يقيم الإنسان ويبقيه على قيد الحياة ولا يجعل عقله ضعيفًا، وبمعنى آخر الحدّ الأدنى من الطعام الذي إذا نقص يتشكّل خطرٌ على الحياة والعقل.

-الدرجة الثانية هي نصف المُدّ كلّ يوم (قيمة المدّ عند بعض الفقهاء المعاصرين تقريبًا 544 غرام)، وهذه كانت عادة جماعة من الصحابة كعمر بن الخطاب.

-الدرجة الثالثة هي المُدّ الواحد كلّ يوم، دون زيادة. لكن يؤكّد الغزالي أنّ هذه الحسابات تقريبيّة، ويؤثّر فيها اختلاف الأشخاص وأحوالهم. وهو يفضّل أن يأكل الإنسان عند الجوع الكبير، وأن يتوقّف عن الطعام وهو لا يزال يشتهيه. ودليل الجوع الصادق لديه هو الوصول إلى الحالة التي يصبح فيها راغبًا بأيّ نوعٍ من الخبز، حتّى لو كان يابسًا (من غير إدام أو مرق).

Dedupmrg765329080 Ie144661144 Fl144661330 660

من مخطوطة الأربعين في أصول الدين- المكتبة الوطنيّة 

كذلك، يعتبر الغزالي أنّ على الإنسان التقليل من خبز البُرّ (القمح) مع الإدام (المرق أو الدسم)، وأن يحاول الاقتصار على خبز الشعير بلا إدام. وينصح أيضًا بالتدرّج في مدّة الامتناع عن الطعام، فيمتنع في البداية عن الأكل في اليوم الواحد أكثر من مرّةٍ واحدة، ثمّ يمتنع عن الأكل ليومين متواصلين، ويستمرّ بالتدريج حتّى يصل أيّامًا عديدة بلا طعام، ككبار سالكي الطريق من الصوفيّين.

هكذا كانت حمية الغزالي الروحيّة، وإذا أعجبتكم، ننصحكم بعدم تجريبها، قبل أن تستشيروا طبيبكم!

الأهمية الرّوحانيّة لشهر رمضان

وصلت بعض المخطوطات العربية إلى المكتبة الوطنية وقد صُنّفت في مجموعة يهودا (1877-1951) وهي عبارة عن 93 ورقة بخط اليد، وتحتوي على أحاديث نبوية صحيحة وأخرى يُختلف على مدى صحّتها في السّنة النبويّة والصحيحين لكننا من خلالها نستشّف الأهمية الرّوحانية لشهر رمضان لدى المسلمين وفضائله.

832 629

مخطوطة مغربية، 1873-1882، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنية

وصلت بعض المخطوطات العربية إلى المكتبة الوطنية وقد صُنّفت في مجموعة يهودا (1877-1951) وهي عبارة عن 93 ورقة بخط اليد، وتحتوي على أحاديث نبوية صحيحة وأخرى يُختلف على مدى صحّتها في السّنة النبويّة والصحيحين لكننا من خلالها نستشّف الأهمية الرّوحانية لشهر رمضان لدى المسلمين وفضائله. من خلال المقال نسلّط الضوء على بعض المخطوطات الّتي يتم الحديث فيها عن شهر رمضان المبارك.

 المخطوطة الّتي وصلتنا تعود إلى القرن الثالث عشر الهجري\ التاسع عشر الميلادي من المغرب (1290 هــ – 1873م)، حيث يشيرُ الفصل في البداية بالعنوان «باب فضل شهر رمضان» إلى الأهميّة الرّوحانية للشّهر لدى المسلمين عمومًا، حيث جاء في هذا الباب ما تمّ نقله عن الرسول محمد ﷺ بنقله المتن كاملًا للحديث في البداية قائلًا: «إنّ الجنّة لتَتزيَّنُ من الحَولِ إلى الحولِ بقدومِ شهر رمضان، فإذا كان أوّل ليلةٍ من شهر رمضان، هبَّت ريحٌ من تحتِ العرش يُقالُ لها المُثيرة فيصطفقُ ورق أشجار الجنة وحلَقُ المصاريع فيسمع لها طنينٌ لم يسمع السامعين أحسنَ منهُ».

Dedupmrg760662917 Ie160153398 Fl160153976
مخطوطة مغربية، 1873-1882، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنية

وقد ذُكر هذا الحديث في صورٍ عديدة واختلفَ فيه الرّواةُ وفي مدى صحّته، على غِرار العديد من الأحاديث الأخرى في التّاريخ الإسلامي، حيث تم الاختلاف في العديد من الروايات لكن إن تدّل هذه الاختلافات بحسب العديد من الدّراسات الإسلامية على شيء، فإنها تدّل على اختلاف التدوين وبدايته في الإسلام، حيث بدأ تدوين الأحاديث متأخرًا ممّا أدى إلى الاختلاف في مدى صحّتها. وفي حالة المخطوطة الّتي نعالجها، وعلى الرغم من عدم التأكد من مدى صحّة الأحاديث النبويّة، إلّا أن الأحاديث المذكورة، تناقش الأهميّة الروحانية للشّهر الفضيل. وقد ذُكر الحديث في مراجع أخرى بالصّيغة التالية على سبيل المثال

«إنّ الجنّة للتتزيّن من الحَوَل إلى الحوَل لشهرِ رمضان، وإنّ الحورَ ليُّزيّن من الحول إلى الحول لصوّامِ رمضان، فإذا دخل رمضان قالت الجنّة: اللّهم اجعل لي في هذا الشّهرِ من عِبادكَ. ويقولنَ الحَوَر: اللّهم اجعل لي من عِبادكَ في هذا الشَّهرِ أزواجًا، فمَن لم يقذف فيه مسلّمًا ببهتان ولم يَشرب مُسكِرًا كفَّر الله عن ذنوبه، ومن قذفَ فيه مُسلمًا، أو شربَ فيه مُسكِرًا أحبطَ الله فيه عمله لسَنتهِ، فاتّقوا شهر رمضان فإنّه شهر الله، جعلَ الله لكم أحد عشرة شهرًا تأكلون فيه وتشربون وتتلّذذون وجعل لنفسهِ شهرًا، فاتقّوا شهر رمضان فإنه شهر الله».

ويتفق الحديث الّذي ذُكر في المخطوطة المغربية مع الحديث الثاني في الأهمية الرّوحانية لهذا الشّهر، وعلى أهميّته لدى الله تعالى عند الحديث عن العِبادات، فالعِبادات هي البوابة الّتي تصِل الإنسان بربّه بحسب الدّين الإسلاميّ، وأعظم الأوقات للقيام بهذا الرابط الروحاني بين العبد وربّه يكون في هذا الشّهر.

في الحديث الثاني، كانت هناك إضافة طفيفة لكن مهمّة، وهي حول تجنّب العبد لبعض الذنوب والخطايا الّتي منعها الدّين الإسلاميّ، وذلك من أجل قبول الصّيام والعِبادات والتّوبة فيه.

اطلعوا على بوابة شهر رمضان الرقمية في موقع المكتبة الوطنية.


وفي مخطوطةٍ أخرى، يُذكر حديثٌ آخر للنبيّ ﷺ حول فضل ليلة القدر للمسلمين وأهميتها الروحانية، حيث ذُكر في المخطوطة عن النبي ﷺ: «أريدُ أن أخبركم بليلة القدر ولكن خشيتُ أن تتكلّموا عليها وعسى أن تكون خيرًا فاطلبوها في تسع يمضين أو سبع يمضين أو خمس يمضين أو ثلاث يمضين أو في آخر ليلة، وجاء من أماراتها ليلةٌ بلحة سمحة لا حارّة ولا باردة تطلعُ الشّمس في صبيحتها ليس لها شعاع من قامها إيمانًا واحتسابًا غُفرَ له ما تقدّم من ذنبه»

وقد ذُكر هذا الحديث أيضًا في عدّة صِور منها، جاء عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إن أمارةُ ليلة القدر أنها صافية بلجةُ كأنّ فيها قمرًا ساطعًا، ساكنةٌ ضاحيةٌ لا بَرْدَ فيها ولا حرّ، ولا يحلّ لكوكبٍ أن يُرمى فيها حتى يُصبح، وإن أمارتها أنّ الشّمس صبيحتُها تخرجٌ مستويةً ليس لها شعاع، مثل القمر البدر، لا يحلُّ للشيطان أن يخرج معها يومئذٍ»

وفي كلا الحديثين بغض النّظر عن مدى صحّتهما، فإنهما يشيران إلى مدى أهمية هذه اللّيلة في العبادة والتعبّد، ويردُ في  كلا الحديثين بأنها ليلةٌ تُغفر فيها الذنوب ويُمنع فيها الشيطان من النّزول إلى الأرض. وفي العديد من التفسيرات الّتي ذُكرت أيضًا في المخطوطة، فإنّ المغفرة الّتي تمّ الحديث عنها في الحديث الأوّل، هي مغفرة عن الذنوب الّتي اُرتكبَت بين العبد وربّه وليس بين العبد وبقيّة العِباد، فحقوق العِباد محفوظة لليوم الآخر. والمغفرة هذه مشروطة بمعرفة العبد بشروط الشّهر الفضيل من حفظ اللّسان، والتّحرّر من الغيبة والنميمة والحسد، وصون جوارحه والكف عن الخطأ على المسلمين وحفظ أهل بيته.

Dedupmrg760662917 Ie160153398 Fl160153979 3

وذكر في إحدى المخطوطات، عن عائشة رضي الله عنها، زوجة الرسول محمد ﷺ، «إنه خرج في جوف اللّيل في إحدى ليالي رمضان وصلّى في المسجد وصلّا النّاس بصّلاته، وأصبح الناس يتحدّثون بذلك وكثُر النّاس في اللّيلة الثامنة وصلّوا بصلاته، فلّما كانت اللّيلة التّاسعة كثُر النّاس حتى عجز المسجد عن أهله، فلم يخرج إليهم حتى خرج لصلاة الفجر، فلمّا صلّى صلاة الفجر أقبل على النّاس وقال أنه لم يخفَ عليّ شأنكم اللّيلة ولكن خشيت أن يعزم عليكم في صلاة اللّيل فتعجزوا عن ذلك» وبعد وفاة الرسول ﷺ استمر أبو بكرٍ وعمر الخلفاء من بعده بقيام الصلاة من بعد العشاء حتى الفجر في ليالي رمضان، وصارت سُنّةً نبويّة يقتدي فيها الناس.

Dedupmrg760662917 Ie160153398 Fl160153979 2

وتعتبر صلاة التّراويح اليوم (الصلاة من بعد العشاء حتى الفجر في ليالي رمضان) سنّةً مثبتةً خلال الشّهر حتى يومنا هذا، فيقوم المسلمون بأداء صلاة التراويح كجزء من التّقرب من الله ومن محاولة زيادة التعبّد خلال الشّهر.

استمر شهر رمضان على مدار التاريخ الإسلامي بكونه شهرًا روحانيًا وفرضًا للصيام ومفضلًا للمسلمين ينتظرون قدومه للتقرب من الله تعالى خلاله، ففيه يتم التجرّد من رغبات النفس والذنوب ويتم التركيز على التّقرب من الله وصلة الأرحام والأقارب وقراءة القرآن وإقامة الصّلاة، ليكون بذلك أكثر الشهور روحانيةً وفضلًا للمسلمين.

إنّ المخطوطات الّتي في حوزتنا طويلة وكثيرة كما ذكرنا في بداية المقال، وإن أردنا الاستطراد أثناء الحديث عنها فإننا نحتاج إلى سلسلة من المقالات، لكننا حاولنا الاختصار من خلال إدراج بعض الأحاديث الّتي يتم تداولها سنويًا للحديث عن أهمية شهر رمضان روحيًا في الدين الإسلاميّ، إنّ الأحاديث المذكورة تهتم بإبراز الجانب الروحاني من خلال إظهار كيفية تزيُّن الجنّة واستعداد الملائكة لاستقبال الشّهر.

قراءة في مخطوطة “تحقيق الرجحان بصوم يوم الشكّ من رمضان”

في هذا المقال، نعرض الرأي الفقهيّ الذي أورده العلّامة مرعي الكرميّ المقدسي (1580-1624م)في مخطوطته عن صوميوم الشكّ، الذي لا يُعرَف إن كان يوم الثلاثين من شعبان، أم الأوّل من رمضان

مخطوطة تحقيق الرجحان – من مجموعات المكتبة الوطنية

مخطوطة تحقيق الرجحان – من مجموعات المكتبة الوطنية

وُلِد العلّامة مرعي بن يوسف الكرميّ في طولكرم زمن الدولة العثمانية. كان من كبار أئمّة الحنابلة في الفقه، ومن المتحمّسين لأحمد بن حنبل، حيث قال: “لئن قلّد الناس الأئمة إنني لفي مذهب الحبر ابن حنبل راغب“. تعلّم في القدس، ثمّ في الجامع الأزهر بالقاهرة، وتولّى المشيخة بجامع السلطان حسن، حتّى توفي بالقاهرة ولم يتجاوز عمره 44 عامًا.

بعد غروب شمس يوم التاسع والعشرين من شعبان، يرصد المسلمون هلال رمضان، وهناك ثلاثة احتمالات: أن يُشاهد الهلال فيثبت رمضان، أن تكون السماء صافيةً ولا يُشاهد الهلال فيُكمَل شعبان ثلاثين يومًا، وأن تكون السماء غائمةً أو بالجوّ غبار، ما يحول دون رؤية الهلال إن كان موجودًا، فلا يُعرف على وجه اليقين إن كان اليوم التالي هو الثلاثين من شعبان أو الأوّل من رمضان، إذ يُحتَمَل الوجهان، وهذا ما يُسمّى بيوم الشكّ.

وقد اختلف الفقهاء المسلمون في صومه، سواءً كان واجبًا، أم غير واجب، أم مكروهًا، أم محرّمًا. وفي مخطوطته، يعتقد العلّامة الكرميّ بوجوب صومه “بنيّة رمضان احتياطًا” (حسب ما يروي عن أحمد بن حنبل)، مستدلًّا على ذلك بالعديد من الأدلّة النقليّة (من القرآن والأحاديث) والعقليّة المبنيّة على قواعد فقهيّة، والتي سنمرّ على أهمّها في مقالنا هذا.

يبدأ الكرميّ إيراد أدلّة مذهبه الحنبليّ مؤكّدًا أنّ الأهلّة (جمع هلال)، حسب القرآن، هي التي تحدّد بداية الشهور ونهايتها، لا العدد والحسابات الفلكيّة، ويورد حديثًا عن الرسول أخرجه البخاريّ يقول فيه: “إنّا أمّة أُمّيّة لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا، يعني مرّةً تسعة وعشرين (يومًا) ومرّةً ثلاثين”.

ثمّ يورد حديثًا آخر أخرجه أحمد برواية أيّوب بن نافع عن الصحابيّ عبد الله بن عمر عن الرسول: “إنّما الشهر تسعة وعشرون، فلا تصوموا حتّى تروه، ولا تفطروا حتّى تروه، فإن غمّ عليكم فاقدروا له”. ويفسّره بأنّ المقصود به أنّ “الشهر اللازم الدائم تسعة وعشرون (…) أمّا اليوم الزائد، فأمر جائز أن يكون في بعض الشهور، ولا يكون في بعضها”. ويضيف الكرميّ أنّ الأصل والأغلب بالشهور القمريّة أن يكون عدد أيّامها 29 يومًا، وأنّ بعض الأشهر قد تزداد يومًا إضافيَّا لتصبح 30 يومًا.

ثمّ يُكمل الكرميّ رواية نافع للحديث السابق، ويوردها دليلًا على رأيه بوجوب صوم يوم الشكّ، حيث يقول نافع بأنّ عبد الله بن عمر كان إذا رأى هلال رمضان في التاسع والعشرين من شعبان أصبح صائمًا، وإذا لم يرَه، وكان الجوّ صحوًا، أصبح مفطرًا، أمّا إذا كان في الجوّ سحابٌ أو قترٌ (غبار) أصبح صائمًا أيضًا. ويعتبر الكرميّ أنّ الصحابة (كابن عمر) هم الأعلم بتعاليم الرسول، وينبغي الرجوع إلى فهمهم لأقواله، ويورد مثلًا رأيًا فقهيًّا شائعًا مأخوذًا من ابن عمر، وهو أنّه إذا أراد تأكيد البيع وإلزام الطرف الآخر به، كان يغادر مجلس البيع، وهكذا لا يمكن التراجع عنه، فكما أُخِذ بفعله دليلًا في البيع، يجب الأخذ بصومه يوم الشكّ.

وكدليلٍ آخر على وجوب الصوم، يفسّر الكرميّ معنى “فاقدروا له” في قول الرسول المذكور سابقًا، بـِ “احكموا بطلوعه”، أي احكموا بطلوع هلال رمضان إذا غُمّ عليكم (إذا كان الجوّ غائمًا)، مستدلًّا على المعنى بآية ﴿قدرناها من الغابرين﴾، أي حكمنا بذلك.



من مخطوطة تحقيق الرجحان

من مخطوطة تحقيق الرجحان
من مخطوطة تحقيق الرجحان

 ويقوم بفهم أحد الأحاديث الصحيحة الشهيرة التي تُستخدم عادةً كدليلٍ على عدم صوم يوم الشكّ، وعلى إكمال شعبان ثلاثين يومًا، بطريقةٍ مختلفةٍ عن العديد من الفقهاء، وهو قول الرسول: “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمّ عليكم فأكملوا العدّة”، وفي روايةٍ أخرى بنفس المعنى: “فعدّوا ثلاثين يومًا”. فيعتبر “أنّ هذه الأحاديث محمولة على الطرف الأخير، لأنّه أقرب المذكورَيْن”. وما يعنيه بذلك، أنّ جملة “إن غُمّ عليكم” تعود على هلال شوّال (هلال الفطر) لا هلال رمضان، لأنّ جملة “أفطروا لرؤيته” أقرب إليها من جملة “صوموا لرؤيته”، وهذه قاعدة معمول بها في علوم اللغة العربيّة، فكأنّ الحديث في رأيه هكذا: صوموا لرؤية هلال رمضان، وأفطروا لرؤية هلال شوّال، فإن غمّ هلال شوّال عليكم فأكملوا رمضان ثلاثين يومًا. ويستدلّ الكرميّ على فهمه بإحدى روايات هذا الحديث في صحيح مسلم، وهي: “إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمّ عليكم فصوموا ثلاثين يومًا” (لاحظوا أنّ الحمل على الطرف الأخير، لا يأخذ الكرميّ به عند تفسيره السابق لـِ “فاقدروا له” كما يفعل هنا، إذ اعتبر أنّ المقصود الحكم بطلوع هلال رمضان، لا شوّال، رغم كونه الأقرب).

ثمّ يورد عددًا من الأدلّة العقليّة والأمثلة الفقهيّة التي تدعم رأيه. أوّلها، أنّ إفطار يوم الشكّ متردّد بين احتمالَيْ الحرمة والإباحة، لأنّه إن كان الثلاثين من شعبان فإفطاره مباح، أمّا إن كان من رمضان فإفطاره حرام، فيجب حسب القواعد الفقهيّة ترجيح وقوع الحرام، والقيام بما يدفعه، وهو صوم يوم الشكّ واعتباره احتياطًا أوّل أيّام رمضان.

بعدها، يورد الكرميّ دليلًا آخر قد يبدو للوهلة الأولى دليلًا ضدّه (بسبب إكمال عدّة الشهر ثلاثين يومًا)، وهو الاتفاق على وجوب الصوم حين يغمّ الهلال في التاسع والعشرين من رمضان، لأنّ اليوم الذي يليه قد يكون الثلاثين من رمضان الواجب صومه، وقد يكون الأوّل من شوّال (عيد الفطر) الذي يحرم حسب الأحاديث النبويّة صومه، وهنا يتردّد الأمر بين الفرض والحرمة، فرض الصيام في الثلاثين من رمضان، وحرمة الصيام في الأوّل من شوّال، لكن كفّة صوم رمضان هي التي ترجح لأهمّيته، فيستنتج الكرميّ من ذلك أنّه من الأولى منطقيًّا صوم يوم الشكّ الذي يتردّد بين إباحة صوم الثلاثين من شعبان وفرض صوم الأوّل من رمضان (إذ لا وجود لاحتماليّة الحرمة هنا عند الصوم)، على صوم الثلاثين من رمضان (إذا غمّ الهلال) الذي يوجد فيه احتماليّة الحرمة.

ثمّ يأتي الكرميّ بعددٍ من الأمثلة الفقهيّة المجمع عليها في حالة الشكّ، من ضمنها: “إذا طلّق إحدى نسائه، ونسي عينها حرم الجميع”، ومعنى ذلك أنّه إذا طلّق رجلٌ إحدى زوجاته، ونسيَ أيّ واحدةٍ منهنّ تحديدًا التي طلّقها، فإنّ جميع زوجاته يُصبحن مطلّقاتٍ، ومحرّماتٍ عليه، وذلك لدفع احتماليّة الوقوع في الحرام.

تُجمِل الأمثلة والأدلّة السابقة رأي العلّامة الكرميّ كما عرضه في مخطوطته “تحقيق الرجحان بصوم يوم الشكّ من رمضان”. وخلاصة رأيه، الذي يخالف رأي العديد من الفقهاء باختلاف مذاهبهم، هو وجوب صومه بنيّة رمضان احتياطًا، لتفادي احتمال وقوع الحرام؛ أي الإفطار في يومٍ قد يكون الأوّل من رمضان.

من مخطوطة تحقيق الرجحان
من مخطوطة تحقيق الرجحان

مراحل فرض الصيام في الإسلام: من عاشوراء إلى رمضان

مرّ الصيام في الإسلام بعدّة مراحل قبل أن يصل شكله النهائيّ المتمثّل في صيام رمضان كما يعرفه المسلمون حول العالم، فما هي تلك المراحل؟

مصحف بهاري هندي – من مجموعات المكتبة الوطنية

مصحف بهاري، نسخة هندية، القرن الـ 15، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنية

مثل العديد من التشريعات الإسلاميّة، لم يُفرض صيام رمضان مرّةً واحدة، ولا في بدايات الإسلام؛ إذ شُرع على مراحل – بعد الهجرة – في المدينة. وهدف ذلك، التأكّد من استقرار الدين الجديد في قلوب المؤمنين به، واتّباع مبدأ التدريج، كي يتعوّد المسلمون على الفرائض الجديدة، خاصّة الشاقّة منها، كالامتناع عن الطعام والشراب لشهرٍ كاملٍ في أجواءٍ حارّةٍ كالتي تسود شبه الجزيرة العربيّة. يقول ابن القيم في كتابه زاد المعاد: “لما كان فطم النفوس عن مألوفاتها وشهواتها من أشق الأمور وأصعبها، تأخر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة، لما توطّنت النفوس على التوحيد والصلاة، وألفت أوامر القرآن، فنقلت إليه بالتدريج. وكان فرضه في السنة الثانية من الهجرة، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صام تسع رمضانات“.

ونستطيع أن نقسّم مراحل فرض الصيام إلى أربعة مراحل، المرحلة الأولى كانت في فرض أيّام للصوم غير شهر رمضان، والمراحل الثلاثة التالية تتعلّق بتغيّر أحكام شهر رمضان حتّى وصولها إلى شكلها النهائيّ.


صيام عاشوراء ثمّ ثلاثة أيّام من كلّ شهر

أوّل يومٍ أمر الإسلام بصومه كان يوم عاشوراء (العاشر من محرّم)، حيث كانت قريش تصومه في مكّة، حتّى نُسِخَ (لُغِيَ) فرض صيامه حين فُرِض رمضان، وغدا صيام هذا اليوم من النوافل المستحبّة. تقول عائشة في حديثٍ رواه البخاريّ: “إنّ قريشًا كانت تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية، ثمّ أمر رسول الله بصيامه حتى فرض رمضان، فقال رسول الله من شاء فليصمه ومن شاء أفطره“. وفي روايةٍ أخرى كان صوم عاشوراء في المدينة لا مكّة، عندما شاهد الرسولُ اليهودَ يصومونه، ففي حديثٍ عن عبد الله بن عباس أخرجه البخاري في باب صوم عاشوراء، قال: “قدم النبي المدينة فرأى اليهود تصوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يومٌ صالح نجّى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوّهم فصامه، وقال: أنا أحقّ بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه“.

وتشير عددٌ من الروايات أنّ الرسول أمر بعد عاشوراء وقبل رمضان بصيام ثلاثة أيام من كلّ شهر، ففي سنن البيهقي وأبي داود عن ابن أبي ليلى يقول: “حدّثنا أصحابنا أن رسول الله لما قدم المدينة أمرهم بصيام ثلاثة أيام ثمّ أنزل رمضان وكانوا قومًا لم يتعودوا الصيام وكان الصيام عليهم شديدًا“.


التخيير بين صوم رمضان أو الإفطار مع دفع فدية

في هذه المرحلة الأولى من تشريع رمضان، كان للمسلم القادر على الصيام خيارٌ بين أن يصوم شهر رمضان، وهو الأفضل، وبين أن يُفطر (رغم قدرته على الصوم) مقابل دفع فدية على كلّ يومٍ يُفطِره وهي إطعام مسكين، فعن سلمة بن الأكوع قال: “لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 184]، كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ، حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا” (رواه البخاري). والآية المقصودة بعدها التي لغت التخيير، وجعلت صوم الشهر فرضًا على البالغ غير المريض أو المسافر هي: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 185].

ولابن عبّاس كما يروي عنه البخاري رأيٌ آخر في آية: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾، إذ يقول: “ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فليطعما مكان كلّ يوم مسكينًا”، وكأنّه بذلك لا يعتبر حكمها ملغي بالكامل، بل أنّ مجال التخيير قُلّص ليشمل فقط الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، عوضًا عن الجميع.

"على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" – مصحف غربي إفريقي
“على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين” – مصحف غربي إفريقي


وجوب صيام شهر رمضان والإفطار بعد الغروب بشرط عدم النوم

في هذه المرحلة، فُرِض صيام رمضان على المسلم البالغ العاقل، المقيم وغير المريض، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وبعد الغروب، يستطيع الأكل والشرب بشرط عدم النوم، وفي حالة نومه، يحرّم عليه الطعام والشراب (حتّى لو استيقظ قبل الفجر) إلى غروب شمس اليوم التالي. وقد كانت هذه المرحلة صعبة على المسلمين، وسبّبت لبعضهم مشاقًا بالغة، مثل قيس بن صرمة الذي نام بسبب تعبه من العمل قبل أن يفطر، فظلّ بلا طعامٍ حتّى اليوم التالي حيث أُغمِيَ عليه، ففي حديث البراء بن عازب، قال: “كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا فَحَضَرَ الْإِفْطَارُ فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ، لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ، فَقَالَ لَهَا: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ، قَالَتْ: خَيْبَةً لَكَ، فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ [البقرة: 187]، فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا، وَنَزَلَتْ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: 187] ” (رواه البخاري).

مصحف بغدادي من القرن الخامس الهجري-من مجموعات المكتبة
مصحف بغدادي، القرن الحادي عشر، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنية

وجوب الصيام على الحالة الحاليّة بعد رفع الشرط السابق

في المرحلة الأخيرة، رُفِع شرط عدم النوم كما ورد في حديث البراء بن عازب عندما نزلت الآية 187 من سورة البقرة، وصار بإمكان المسلمين الأكل والشرب من غروب الشمس حتّى طلوع الفجر، سواءً ناموا بين الوقتين أم لا، مع الاحتفاظ بالرخص الشرعيّة للإفطار المتعلّقة بالمسافر أو المريض، ويُضيف إليها الفقهاء رخصًا أخرى، كإمكانيّة أن يفطر كبار السنّ ممّن يشقّ عليهم الصوم، مقابل إطعام مسكين عن كلّ يومِ يفطرونه.

كتاب الصوم من مخطوط ملتقى الأبحر في فروع الحنفية
كتاب الصوم من مخطوط ملتقى الأبحر في فروع الحنفية