من منّا لم يسمع بأَحَدِ أكثر الشخصيات شهرة في القرن التاسع عشر، الأميرُ القائد عَبد القادِر الجزائري، لكنّ القليل منّا يعلم بأنه لم يكن مجرد محارب وقف في وجه الاعتداء الفرنسي على بلاده، بل كان أيضًا يتمتع بروحٍ روحيةٍ عميقة، ساعَدتهُ هذهِ الازدواجية الجميلة بأَن يَحظى بالاحترام ليس في وَطَنِه فحسب، بل في جميع أنحاء أوروبا، وحتى أنه يتم إحياء ذكراه في الولايات المتحدة إلى الآن.
صحيفة الإتحاد:21 كانون الأول 1995
تبدأُ رِحلَةُ عبد القادر في عام 1808 في قرية القيطنة، شمال غرب الجزائر، حيث ولد لسلالةٍ من عُلَماءِ الدين والمتصوفين المرموقين، والتي يقال أنها تعود إلى النبي محمد نفسه. كان والده محيي الدين يحظى باحترام كبير باعتباره مرابطًا، وهو لقب يدل على السلطة الدينية في الأوساط الصوفية، وخاصة داخل الطريقة القادرية الصوفية، السائدة في الجزائر آنذاك.
نشأ عبد القادر في أحضان محفل والده الصوفي، ولم يكتف بتعاليم القرآن وأحاديث النبي فحسب، بل غاص أيضًا في أعماق الروحانية الصوفية. لم يشمل تعليمه الدراسات اللاهوتية فحسب، بل شمل أيضًا مجموعة واسعة من المعرفة الدنيوية، من الفلسفة إلى الرياضيات، كما أمضى الكثير من وقته في التدريب الصارم على مهارات الفروسية، الضرورية لأسلوب الحياة البدوي السائد في عصره.
طالعوا أيضًا: من تاريخ التصوف
على الرغم من إعداده لحياة مليئة بالمساعي العلمية، إلا أن مصير عبد القادر اتخذ منعطفًا مفاجئًا عندما وجد نفسه مدفوعًا إلى ساحة الصراع المسلح. ومع ذلك، فإن نشأته في الصحراء منحته مهارات البقاء على قيد الحياة التي لا تقدر بثمن والقدرة على الصمود العميق التي ستشكل مصيره كقائد عسكري.
مُجاهدُ النفس
عِند وُصولهِ إلى مدينة دِمَشق عام 1855، قام عبد القادر بخطوة مهمة، إذ استقر في منزل ابن عربي الذي كان مَثَلَهُ الأعلى في التربية الصوفية . كان طلبه الأول عند وصوله يعكس شوقَهُ الروحي العميق والذي تَمَثّلَ بزيارة ضريح ابن عربي في دمشق، انتقل عبد القادر بسلاسة إلى دورِ الحكيم الصوفي، ومنارة المعرفة الدينية، ورجل الدين المخلص، وقد حظيت تعاليمه اليومية في المسجد بإشادة واسعة النطاق، مما رفعه إلى مكانة عالم محترم في المجتمع.
ورُغمَ أَنَّ ابن عربي نَفسه لم يُؤسس طريقةً صوفية، إلا أن تأثيرهُ العميق تَرَدَّدَ صداه في أروقة محاضرات عبد القادر. من خلال التعمق في الآيات القرآنية والأحاديث وتأملاته الخاصة، صاغ عبد القادر بدقة رائعة عمله بعنوانِ ” المَواقِفِ الّروحية والفيوضات السبوحية “، ويُعَدّ هذا الكتاب خلاصةً لكتاب “الفتوحات المكية” للشيخ محيي الدين بن عربي، الذي كان خاتم الأولياء في عصره. يتكون الكتاب من تنبيهات روحية وتوجيهات متجلية بمعارف إلهية وأسرار غيبية، تتجاوز حدود الاكتساب العادي والتأمل العقلاني.
في قلبِ تَعاليمه تَكمُن الرحلة التنويرية نحوَ الاتّحاد الإلهي – الفناء – أي انحلال الذات حتى يبقى جوهر الله فقط، وشرح عبد القادر هذا المفهوم مردداً قول النبي محمد: “اعرِف نَفسك تعرف ربك”. وفي تَأَمّل هذه الوِحدة الإلهية، رأى جميعَ المخلوقات مجردَ انعكاسٍ للحقيقة الإلهيةِ نفسها، حيث تتلاشى الفروق، وتبقى الحقيقة الواحدة فقط.
كما أكد الأمير الجزائري بأن حُضورَ الله يتخلل كلَّ رُكنٍ مِن أَركانِ الوجود، ومع ذلك يَظّلُ جَوهره خارجَ نِطاقِ فهم البشر. هذه المفاهيم لا تؤيد الوثنية أو أشكال العبادة البديلة؛ بل إنها تعكس المذاهب الميتافيزيقية العميقة لابن عربي والمدرسة الأكبرية. حيثُ يتعمقون في تعقيدات أنظمة المعتقدات وطرق العبادة المتنوعة، ويقدمون منظورًا دقيقًا حول تعدد المسارات الروحية. هذا المنظور الذي قد يدفع بشكل إيجابي نحو احترام كافة أشكال العبادات والتسامح الديني.
من مخطوطة ” المواقف الروحية والفيوضات السبوحية” متوفرة في المكتبة الوطنية
بينما نختَتِم هذا الاستكشاف لإرثِ عَبدِ القادرِ مُتَعَدِّدِ الأَوجه، لا يسعنى إلا أن نرى قصته كأكثرَ من مجرد سردٍ تاريخي – إنها شهادة خالدة على قوةِ الروحانية والمرونة والفهم الثقافي. من خلال مقاومته الثابتة ضد القمع الاستعماري والتزامه الذي لا يتزعزع بالتنوير الروحي، تجاوز عبد القادر حدود عصره، تاركًا وراءه إرثًا نحن بأمس الحاجة إليه اليوم.