بعيداً عن ضَوضاءِ الأسواق: سُنّةُ الاعتكاف في رمضان
في شَهرِ رمضانَ المُبارك، تمثل رؤية الهلال بداية طقوس روحانية مهمة لدى المسلمين في جميع أنحاء العالم، حيث يجتمعون على موائد الافطار وفي المساجد على حد سواء. ومن بين هذه الطقوس الاعتكاف، وهو خلوة روحية ذات أهمية بالغة، حيث يسعى المؤمنون إلى الاعتزالِ والتّقرب من الله تعالى. يُعتبر الاعتكاف، المتجذر في سنة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وسيلة لتعميق الإيمان، ويدعو المؤمنين إلى الانغماس في أعمال العبادة والتأمل داخل جدران المسجد المقدسة.
في شَهرِ رَمَضانَ المُبارك، عندَ تَتِمّة رُؤيةِ الهلال، تبدأُ شعائر الشهر الكريم بالحضور في زوايا منازل المسلمين ومساجدهم في جميع أنحاء العالم. أحدُ هذه التقاليد هو تقليدٌ معروفٌ باسم الاعتكاف، وهو خلوة روحية لها أهمية عميقة بالنسبة للمؤمنين الذين يسعون إلى التقرب إلى الله سبحانه وتعالى.
مع اقتراب الأيام العشرة الأخيرة والأقدس من شهر رمضان، تترقبُ المساجد و تستَعِد لاستقبال المصلين الذين يشرعون في رحلة الاعتكاف الروحية. شَرّعَ الإسلام الاعتكاف كوسيلة لتعميق اتصال المؤمن بالله تعالى، وتعزيز الجانب الروحاني للإيمان، والعودة إلى الحياة اليومية بإيمان والتزام أقوى. إنه وقت التأمل والتفاني والاستسلام، حيث يقضي المؤمنون في حرم المسجد، ساعة، أو يومًا، أو حتى أكثر، منغمسين في أعمال العبادة بعيدًا عن مُلهيات العالم الخارجي. وهم في هذا المكان المقدس يقتدون بالملائكة الذين يسبحون الله ليلا ونهارا، ولا يتوانون في طاعتهم. كما يمكنُ اعتبار الاعتكاف تدريباً للنفس على الصبر والمثابرة في مواجهة الشدائد وإيجاد العزاء في عبادة الله تعالى.
تعود أصول الاعتكاف إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الذي مارس هذه الخلوة الروحية خلال العشر الأواخر من رمضان. “عَنْ أبي هُريرةَ، رضي اللَّه عنهُ، قالَ: كانَ النبيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَعْتَكِفُ في كُلِّ رَمَضَانَ عَشَرةَ أيَّامٍ، فَلَمًا كَانَ العَامُ الَّذِي قُبًضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشرِينَ يَوْماً”.
في ممارسة الاعتكاف المقدسة، لا يُدعى المؤمنون إلى العزلة في المسجد فحسب، بل أيضًا إلى الانخراط في العبادات المفيدة التي تغذي الروح وتعمق علاقتهم بالله، ممارسات كقراءة ما استطاعوا من القرآن الكريم و اقامة صلاة النوافل و الدروس الدينية.
لكن الاعتكاف لا يقتصر على شهر رمضان المبارك وحده. ويمكن ممارسته في أي وقت من السنة، وفي أي شهر، كوسيلة للتقرب من الله. ومع ذلك، هناك جاذبية خاصة للعزلة خلال شهر رمضان، وهو الوقت الذي يقال فيه أن الحسناتِ تتدفق بكثرة.
الاعتكاف في كَنَف القدس
لعقودٍ طَويلة، كانَ المسجدُ الأًقصى، داخل أسوار القدس القديمة، ملاذاً لأولئك الذين يبحثون عن الاعتزال الروحي والعبادة. منذ عصر الإمبراطورية العثمانية إلى يومنا هذا، كان المسلمون يجتمعون داخل ساحات المسجد على مدى الثلاثون يوماً للإفطار و آداءِ صلاةِ التراويح و أخيراً الاعتكاف.
ومنذ عام 1967، اكتسبت الاعتكافُ خلال الأيام العشرة الأخيرة من رمضان أهميةً خاصة في القدس، حيث يتدفق المصلون من كل مكان للمشاركة في هذا التقليد المقدس. وتشهد الأيام الإضافية، مثل الخميس والجمعة، تدفقًا للمصلين من جميع أنحاء البلاد، حريصين على الاستمتاع بالجو الروحي للمدينة المقدسة.
صور رمضانيّة نادرة من يافا في العشرينيّات
في المقال المصوّر، عُرِضَت صور نادرة من مدينة يافا تحمل مظاهر الحياة اليومية الثقافية والاجتماعية في شهر رمضان.
المسحراتي، المدفع، المشاريب والحلويات المميزة، الأغاني والزّينة وتبادل الأطباق والتهاني، كلها عادات جميلة تكوّنت عضويًا بين الأهالي والمجتمعات على امتداد العالم العربي والعالم الإسلامي. ويمكننا بالطبع المقارنة بين هذه العادات في البلاد المختلفة. ولكن المقارنة عبر العصور أصعب قليلًا، فرمضان في القاهرة في القرن السّادس عشر للميلاد ليس مثل رمضان في القاهرة في العام 2023، وإن كان جوهر الشّهر واحد وهو فريضة الصّوم في الدّيانة الإسلاميّة.
المعلومات حول رمضان في الماضي البعيد عزيزة ولكنها موجودة، وبالرّغم من عدم توفّر تقنيات نقل الصوت والصّورة فقد دأب مؤرّخون عديدون على تدوين ملاحظات حول شهر رمضان في الزّمان الّذي عاشوا فيه، وذكروا بعض أنواع المأكولات التي ما زالت تتألق في رمضان إلى يومنا هذا، منها الكنافة والقطائف والزّلابية على سبيل المثال، وهي حلويات قديمة في المنطقة، إذ ذكرها الشّاعر الشهير في العصر المملوكي أبو الحسين بن الجزار وقال عن حلويات رمضان:
سقى الله أكناف الكنافة بالقطر وجاد عليها سكر دائم الدر
أهيم غراما كلما ذكر الحمى وليس الحمى إلا القطارة بالسعر
واشتاق ان هبت نسيم قطائف سحور سحيرًا وهي عاطرة النشر
ومع التشابه الكبير في العادات والمأكولات الرمضانية عبر العصور، إلّا أننا أيضًا نستطيع رصد بعض التغيّرات أو الإضافات بالأحرى. فعادة تزيين البيوت مثلًا تعتبر عادة حديثة لم تتّبع سابقًا لكنها اليوم أضحت ضرورة من ضرورات الاحتفال بالشهر الكريم، وتتزين بها البيوت والحارات قبل حلول الشهر بأيام ترحيبًا به، وهي مما يستمتع به الأطفال على وجه الخصوص. كذلك المشاريب الرّمضانيّة تنوّعت في السنوات الأخيرة وباتت لا تُحصى، ففي حين كان التمر الهندي المشروب الرئيسي في رمضان ومع العرق سوس، أُضيفت إليه اليوم مشروبات إضافية في القدس على سبيل المثال، منها عصير اللوز والجزر.
في صورة نادرة لمسحراتي مدينة يافا في أوائل سنوات العشرينيّات نجد المسحراتي يلبس لباسه المعتاد في ذلك الوقت، ويطرق طبلة بسيطة معتمدًا على صوته وحده، ولا نلحظ وجود زينة على البيوت التي تظهر خلفه بوضوح. في بعض المدن العربية في البلاد اليوم يرتدي المسحراتي الملابس التقليدية القديمة تمسّكًا بذكرى المسحراتي التقليدي، تأكيدًا على أن هذه الوظيفة تاريخيّة ومستمرّة، وفي بعض الأحيان يستخدم مكبرًا للصوت، ويقوم بأداء مميّز من الإنشاد والغناء فضلًا عن التسحيرة المعهودة “اصحَ يا نايم.. وحد الدايم..”.
في هذه الصّورة نجد بائع المشاريب في يافا، كما اليوم يعرض المشاريب في ساعات الصّيام ويبدو عليه التعب، يقال أنّ الصائم يشتهي كل ما يراه، ويبدو أن تبضّع المشاريب والحلويات الرمضانية من الشارع والأسواق في ساعات الصّيام عادة قديمة وإن لم يلقي لها الكثيرون بالًا. ففي هذا الشهر تزدهر أعمال صانعي هذه الحلوى وهذه المشاريب أكثر من أي وقت آخر في العام.
نختتم هذه المقالة الصّغيرة بصورة جميلة لطفل يافاوي يمشي في الشّارع حاملًا طبقًا من الطّعام مبتسمًا وممثّلا لبهجة رمضان بأفضل شكل. ما رأيكم؟ هل هذا طبق حمّص لإضافته إلى المائدة كما يفعل محبّو الحمّص في رمضان اليوم؟ أم هي العادة الاجتماعية الجميلة بإرسال الأطباق بين الجيران لتنويع المأكولات وإدخال البهجة إلى المائدة الرمضانية؟
على كلّ، التقط هذه الصّور المصوّر فرانك شولتن خلال رحلته الطويلة بين الأعوام 1920-1923 في بلدان عديدة في الشرق الاوسط، وهي من مجموعة ياد يتسحاك بن تسفي، يمكنكم الاطلاع على مجموعة رحلات شولتن الرقمية بالكامل هنا.
الأهمية الرّوحانيّة لشهر رمضان
وصلت بعض المخطوطات العربية إلى المكتبة الوطنية وقد صُنّفت في مجموعة يهودا (1877-1951) وهي عبارة عن 93 ورقة بخط اليد، وتحتوي على أحاديث نبوية صحيحة وأخرى يُختلف على مدى صحّتها في السّنة النبويّة والصحيحين لكننا من خلالها نستشّف الأهمية الرّوحانية لشهر رمضان لدى المسلمين وفضائله.
وصلت بعض المخطوطات العربية إلى المكتبة الوطنية وقد صُنّفت في مجموعة يهودا (1877-1951) وهي عبارة عن 93 ورقة بخط اليد، وتحتوي على أحاديث نبوية صحيحة وأخرى يُختلف على مدى صحّتها في السّنة النبويّة والصحيحين لكننا من خلالها نستشّف الأهمية الرّوحانية لشهر رمضان لدى المسلمين وفضائله. من خلال المقال نسلّط الضوء على بعض المخطوطات الّتي يتم الحديث فيها عن شهر رمضان المبارك.
المخطوطة الّتي وصلتنا تعود إلى القرن الثالث عشر الهجري\ التاسع عشر الميلادي من المغرب (1290 هــ – 1873م)، حيث يشيرُ الفصل في البداية بالعنوان «باب فضل شهر رمضان» إلى الأهميّة الرّوحانية للشّهر لدى المسلمين عمومًا، حيث جاء في هذا الباب ما تمّ نقله عن الرسول محمد ﷺ بنقله المتن كاملًا للحديث في البداية قائلًا: «إنّ الجنّة لتَتزيَّنُ من الحَولِ إلى الحولِ بقدومِ شهر رمضان، فإذا كان أوّل ليلةٍ من شهر رمضان، هبَّت ريحٌ من تحتِ العرش يُقالُ لها المُثيرة فيصطفقُ ورق أشجار الجنة وحلَقُ المصاريع فيسمع لها طنينٌ لم يسمع السامعين أحسنَ منهُ».
وقد ذُكر هذا الحديث في صورٍ عديدة واختلفَ فيه الرّواةُ وفي مدى صحّته، على غِرار العديد من الأحاديث الأخرى في التّاريخ الإسلامي، حيث تم الاختلاف في العديد من الروايات لكن إن تدّل هذه الاختلافات بحسب العديد من الدّراسات الإسلامية على شيء، فإنها تدّل على اختلاف التدوين وبدايته في الإسلام، حيث بدأ تدوين الأحاديث متأخرًا ممّا أدى إلى الاختلاف في مدى صحّتها. وفي حالة المخطوطة الّتي نعالجها، وعلى الرغم من عدم التأكد من مدى صحّة الأحاديث النبويّة، إلّا أن الأحاديث المذكورة، تناقش الأهميّة الروحانية للشّهر الفضيل. وقد ذُكر الحديث في مراجع أخرى بالصّيغة التالية على سبيل المثال
«إنّ الجنّة للتتزيّن من الحَوَل إلى الحوَل لشهرِ رمضان، وإنّ الحورَ ليُّزيّن من الحول إلى الحول لصوّامِ رمضان، فإذا دخل رمضان قالت الجنّة: اللّهم اجعل لي في هذا الشّهرِ من عِبادكَ. ويقولنَ الحَوَر: اللّهم اجعل لي من عِبادكَ في هذا الشَّهرِ أزواجًا، فمَن لم يقذف فيه مسلّمًا ببهتان ولم يَشرب مُسكِرًا كفَّر الله عن ذنوبه، ومن قذفَ فيه مُسلمًا، أو شربَ فيه مُسكِرًا أحبطَ الله فيه عمله لسَنتهِ، فاتّقوا شهر رمضان فإنّه شهر الله، جعلَ الله لكم أحد عشرة شهرًا تأكلون فيه وتشربون وتتلّذذون وجعل لنفسهِ شهرًا، فاتقّوا شهر رمضان فإنه شهر الله».
ويتفق الحديث الّذي ذُكر في المخطوطة المغربية مع الحديث الثاني في الأهمية الرّوحانية لهذا الشّهر، وعلى أهميّته لدى الله تعالى عند الحديث عن العِبادات، فالعِبادات هي البوابة الّتي تصِل الإنسان بربّه بحسب الدّين الإسلاميّ، وأعظم الأوقات للقيام بهذا الرابط الروحاني بين العبد وربّه يكون في هذا الشّهر.
في الحديث الثاني، كانت هناك إضافة طفيفة لكن مهمّة، وهي حول تجنّب العبد لبعض الذنوب والخطايا الّتي منعها الدّين الإسلاميّ، وذلك من أجل قبول الصّيام والعِبادات والتّوبة فيه.
وفي مخطوطةٍ أخرى، يُذكر حديثٌ آخر للنبيّ ﷺ حول فضل ليلة القدر للمسلمين وأهميتها الروحانية، حيث ذُكر في المخطوطة عن النبي ﷺ: «أريدُ أن أخبركم بليلة القدر ولكن خشيتُ أن تتكلّموا عليها وعسى أن تكون خيرًا فاطلبوها في تسع يمضين أو سبع يمضين أو خمس يمضين أو ثلاث يمضين أو في آخر ليلة، وجاء من أماراتها ليلةٌ بلحة سمحة لا حارّة ولا باردة تطلعُ الشّمس في صبيحتها ليس لها شعاع من قامها إيمانًا واحتسابًا غُفرَ له ما تقدّم من ذنبه»
وقد ذُكر هذا الحديث أيضًا في عدّة صِور منها، جاء عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إن أمارةُ ليلة القدر أنها صافية بلجةُ كأنّ فيها قمرًا ساطعًا، ساكنةٌ ضاحيةٌ لا بَرْدَ فيها ولا حرّ، ولا يحلّ لكوكبٍ أن يُرمى فيها حتى يُصبح، وإن أمارتها أنّ الشّمس صبيحتُها تخرجٌ مستويةً ليس لها شعاع، مثل القمر البدر، لا يحلُّ للشيطان أن يخرج معها يومئذٍ»
وفي كلا الحديثين بغض النّظر عن مدى صحّتهما، فإنهما يشيران إلى مدى أهمية هذه اللّيلة في العبادة والتعبّد، ويردُ في كلا الحديثين بأنها ليلةٌ تُغفر فيها الذنوب ويُمنع فيها الشيطان من النّزول إلى الأرض. وفي العديد من التفسيرات الّتي ذُكرت أيضًا في المخطوطة، فإنّ المغفرة الّتي تمّ الحديث عنها في الحديث الأوّل، هي مغفرة عن الذنوب الّتي اُرتكبَت بين العبد وربّه وليس بين العبد وبقيّة العِباد، فحقوق العِباد محفوظة لليوم الآخر. والمغفرة هذه مشروطة بمعرفة العبد بشروط الشّهر الفضيل من حفظ اللّسان، والتّحرّر من الغيبة والنميمة والحسد، وصون جوارحه والكف عن الخطأ على المسلمين وحفظ أهل بيته.
وذكر في إحدى المخطوطات، عن عائشة رضي الله عنها، زوجة الرسول محمد ﷺ، «إنه خرج في جوف اللّيل في إحدى ليالي رمضان وصلّى في المسجد وصلّا النّاس بصّلاته، وأصبح الناس يتحدّثون بذلك وكثُر النّاس في اللّيلة الثامنة وصلّوا بصلاته، فلّما كانت اللّيلة التّاسعة كثُر النّاس حتى عجز المسجد عن أهله، فلم يخرج إليهم حتى خرج لصلاة الفجر، فلمّا صلّى صلاة الفجر أقبل على النّاس وقال أنه لم يخفَ عليّ شأنكم اللّيلة ولكن خشيت أن يعزم عليكم في صلاة اللّيل فتعجزوا عن ذلك» وبعد وفاة الرسول ﷺ استمر أبو بكرٍ وعمر الخلفاء من بعده بقيام الصلاة من بعد العشاء حتى الفجر في ليالي رمضان، وصارت سُنّةً نبويّة يقتدي فيها الناس.
وتعتبر صلاة التّراويح اليوم (الصلاة من بعد العشاء حتى الفجر في ليالي رمضان) سنّةً مثبتةً خلال الشّهر حتى يومنا هذا، فيقوم المسلمون بأداء صلاة التراويح كجزء من التّقرب من الله ومن محاولة زيادة التعبّد خلال الشّهر.
استمر شهر رمضان على مدار التاريخ الإسلامي بكونه شهرًا روحانيًا وفرضًا للصيام ومفضلًا للمسلمين ينتظرون قدومه للتقرب من الله تعالى خلاله، ففيه يتم التجرّد من رغبات النفس والذنوب ويتم التركيز على التّقرب من الله وصلة الأرحام والأقارب وقراءة القرآن وإقامة الصّلاة، ليكون بذلك أكثر الشهور روحانيةً وفضلًا للمسلمين.
إنّ المخطوطات الّتي في حوزتنا طويلة وكثيرة كما ذكرنا في بداية المقال، وإن أردنا الاستطراد أثناء الحديث عنها فإننا نحتاج إلى سلسلة من المقالات، لكننا حاولنا الاختصار من خلال إدراج بعض الأحاديث الّتي يتم تداولها سنويًا للحديث عن أهمية شهر رمضان روحيًا في الدين الإسلاميّ، إنّ الأحاديث المذكورة تهتم بإبراز الجانب الروحاني من خلال إظهار كيفية تزيُّن الجنّة واستعداد الملائكة لاستقبال الشّهر.
قراءة في مخطوطة “تحقيق الرجحان بصوم يوم الشكّ من رمضان”
في هذا المقال، نعرض الرأي الفقهيّ الذي أورده العلّامة مرعي الكرميّ المقدسي (1580-1624م)في مخطوطته عن صوميوم الشكّ، الذي لا يُعرَف إن كان يوم الثلاثين من شعبان، أم الأوّل من رمضان
وُلِد العلّامة مرعي بن يوسف الكرميّ في طولكرم زمن الدولة العثمانية. كان من كبار أئمّة الحنابلة في الفقه، ومن المتحمّسين لأحمد بن حنبل، حيث قال: “لئن قلّد الناس الأئمة إنني لفي مذهب الحبر ابن حنبل راغب“. تعلّم في القدس، ثمّ في الجامع الأزهر بالقاهرة، وتولّى المشيخة بجامع السلطان حسن، حتّى توفي بالقاهرة ولم يتجاوز عمره 44 عامًا.
بعد غروب شمس يوم التاسع والعشرين من شعبان، يرصد المسلمون هلال رمضان، وهناك ثلاثة احتمالات: أن يُشاهد الهلال فيثبت رمضان، أن تكون السماء صافيةً ولا يُشاهد الهلال فيُكمَل شعبان ثلاثين يومًا، وأن تكون السماء غائمةً أو بالجوّ غبار، ما يحول دون رؤية الهلال إن كان موجودًا، فلا يُعرف على وجه اليقين إن كان اليوم التالي هو الثلاثين من شعبان أو الأوّل من رمضان، إذ يُحتَمَل الوجهان، وهذا ما يُسمّى بيوم الشكّ.
وقد اختلف الفقهاء المسلمون في صومه، سواءً كان واجبًا، أم غير واجب، أم مكروهًا، أم محرّمًا. وفي مخطوطته، يعتقد العلّامة الكرميّ بوجوب صومه “بنيّة رمضان احتياطًا” (حسب ما يروي عن أحمد بن حنبل)، مستدلًّا على ذلك بالعديد من الأدلّة النقليّة (من القرآن والأحاديث) والعقليّة المبنيّة على قواعد فقهيّة، والتي سنمرّ على أهمّها في مقالنا هذا.
يبدأ الكرميّ إيراد أدلّة مذهبه الحنبليّ مؤكّدًا أنّ الأهلّة (جمع هلال)، حسب القرآن، هي التي تحدّد بداية الشهور ونهايتها، لا العدد والحسابات الفلكيّة، ويورد حديثًا عن الرسول أخرجه البخاريّ يقول فيه: “إنّا أمّة أُمّيّة لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا، يعني مرّةً تسعة وعشرين (يومًا) ومرّةً ثلاثين”.
ثمّ يورد حديثًا آخر أخرجه أحمد برواية أيّوب بن نافع عن الصحابيّ عبد الله بن عمر عن الرسول: “إنّما الشهر تسعة وعشرون، فلا تصوموا حتّى تروه، ولا تفطروا حتّى تروه، فإن غمّ عليكم فاقدروا له”. ويفسّره بأنّ المقصود به أنّ “الشهر اللازم الدائم تسعة وعشرون (…) أمّا اليوم الزائد، فأمر جائز أن يكون في بعض الشهور، ولا يكون في بعضها”. ويضيف الكرميّ أنّ الأصل والأغلب بالشهور القمريّة أن يكون عدد أيّامها 29 يومًا، وأنّ بعض الأشهر قد تزداد يومًا إضافيَّا لتصبح 30 يومًا.
ثمّ يُكمل الكرميّ رواية نافع للحديث السابق، ويوردها دليلًا على رأيه بوجوب صوم يوم الشكّ، حيث يقول نافع بأنّ عبد الله بن عمر كان إذا رأى هلال رمضان في التاسع والعشرين من شعبان أصبح صائمًا، وإذا لم يرَه، وكان الجوّ صحوًا، أصبح مفطرًا، أمّا إذا كان في الجوّ سحابٌ أو قترٌ (غبار) أصبح صائمًا أيضًا. ويعتبر الكرميّ أنّ الصحابة (كابن عمر) هم الأعلم بتعاليم الرسول، وينبغي الرجوع إلى فهمهم لأقواله، ويورد مثلًا رأيًا فقهيًّا شائعًا مأخوذًا من ابن عمر، وهو أنّه إذا أراد تأكيد البيع وإلزام الطرف الآخر به، كان يغادر مجلس البيع، وهكذا لا يمكن التراجع عنه، فكما أُخِذ بفعله دليلًا في البيع، يجب الأخذ بصومه يوم الشكّ.
وكدليلٍ آخر على وجوب الصوم، يفسّر الكرميّ معنى “فاقدروا له” في قول الرسول المذكور سابقًا، بـِ “احكموا بطلوعه”، أي احكموا بطلوع هلال رمضان إذا غُمّ عليكم (إذا كان الجوّ غائمًا)، مستدلًّا على المعنى بآية ﴿قدرناها من الغابرين﴾، أي حكمنا بذلك.
ويقوم بفهم أحد الأحاديث الصحيحة الشهيرة التي تُستخدم عادةً كدليلٍ على عدم صوم يوم الشكّ، وعلى إكمال شعبان ثلاثين يومًا، بطريقةٍ مختلفةٍ عن العديد من الفقهاء، وهو قول الرسول: “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمّ عليكم فأكملوا العدّة”، وفي روايةٍ أخرى بنفس المعنى: “فعدّوا ثلاثين يومًا”. فيعتبر “أنّ هذه الأحاديث محمولة على الطرف الأخير، لأنّه أقرب المذكورَيْن”. وما يعنيه بذلك، أنّ جملة “إن غُمّ عليكم” تعود على هلال شوّال (هلال الفطر) لا هلال رمضان، لأنّ جملة “أفطروا لرؤيته” أقرب إليها من جملة “صوموا لرؤيته”، وهذه قاعدة معمول بها في علوم اللغة العربيّة، فكأنّ الحديث في رأيه هكذا: صوموا لرؤية هلال رمضان، وأفطروا لرؤية هلال شوّال، فإن غمّ هلال شوّال عليكم فأكملوا رمضان ثلاثين يومًا. ويستدلّ الكرميّ على فهمه بإحدى روايات هذا الحديث في صحيح مسلم، وهي: “إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمّ عليكم فصوموا ثلاثين يومًا” (لاحظوا أنّ الحمل على الطرف الأخير، لا يأخذ الكرميّ به عند تفسيره السابق لـِ “فاقدروا له” كما يفعل هنا، إذ اعتبر أنّ المقصود الحكم بطلوع هلال رمضان، لا شوّال، رغم كونه الأقرب).
ثمّ يورد عددًا من الأدلّة العقليّة والأمثلة الفقهيّة التي تدعم رأيه. أوّلها، أنّ إفطار يوم الشكّ متردّد بين احتمالَيْ الحرمة والإباحة، لأنّه إن كان الثلاثين من شعبان فإفطاره مباح، أمّا إن كان من رمضان فإفطاره حرام، فيجب حسب القواعد الفقهيّة ترجيح وقوع الحرام، والقيام بما يدفعه، وهو صوم يوم الشكّ واعتباره احتياطًا أوّل أيّام رمضان.
بعدها، يورد الكرميّ دليلًا آخر قد يبدو للوهلة الأولى دليلًا ضدّه (بسبب إكمال عدّة الشهر ثلاثين يومًا)، وهو الاتفاق على وجوب الصوم حين يغمّ الهلال في التاسع والعشرين من رمضان، لأنّ اليوم الذي يليه قد يكون الثلاثين من رمضان الواجب صومه، وقد يكون الأوّل من شوّال (عيد الفطر) الذي يحرم حسب الأحاديث النبويّة صومه، وهنا يتردّد الأمر بين الفرض والحرمة، فرض الصيام في الثلاثين من رمضان، وحرمة الصيام في الأوّل من شوّال، لكن كفّة صوم رمضان هي التي ترجح لأهمّيته، فيستنتج الكرميّ من ذلك أنّه من الأولى منطقيًّا صوم يوم الشكّ الذي يتردّد بين إباحة صوم الثلاثين من شعبان وفرض صوم الأوّل من رمضان (إذ لا وجود لاحتماليّة الحرمة هنا عند الصوم)، على صوم الثلاثين من رمضان (إذا غمّ الهلال) الذي يوجد فيه احتماليّة الحرمة.
ثمّ يأتي الكرميّ بعددٍ من الأمثلة الفقهيّة المجمع عليها في حالة الشكّ، من ضمنها: “إذا طلّق إحدى نسائه، ونسي عينها حرم الجميع”، ومعنى ذلك أنّه إذا طلّق رجلٌ إحدى زوجاته، ونسيَ أيّ واحدةٍ منهنّ تحديدًا التي طلّقها، فإنّ جميع زوجاته يُصبحن مطلّقاتٍ، ومحرّماتٍ عليه، وذلك لدفع احتماليّة الوقوع في الحرام.
تُجمِل الأمثلة والأدلّة السابقة رأي العلّامة الكرميّ كما عرضه في مخطوطته “تحقيق الرجحان بصوم يوم الشكّ من رمضان”. وخلاصة رأيه، الذي يخالف رأي العديد من الفقهاء باختلاف مذاهبهم، هو وجوب صومه بنيّة رمضان احتياطًا، لتفادي احتمال وقوع الحرام؛ أي الإفطار في يومٍ قد يكون الأوّل من رمضان.