مصدر الصورة : من كتيّب “الأغاني الدّينيّة ليهود العراق”، مركز تراث يهود بابل، أرشيف المكتبة الوطنيّة.
لا شكّ أن دور المسحّراتي لم يولد ويتشكّل كما هو اليوم على يد شخصٍ واحدٍ أو في حقبة معيّنة يمكننا الإشارة إليها بسهولة، كما أن طبيعة الدّور تختلف بين منطقةٍ جغرافيّة وأخرى وبين حقبةٍ وأخرى.
فالمسحّراتي أحد التقاليد الكثيرة الّتي اتلفّت وتكوّنت حول العبادات والمعاني الرّوحيّة عبر مئات السّنين ومختلف المجتمعات الإسلاميّة بعفويّة، كالفانوس والزّينة والمأكولات الرّمضانيّة والحلويّات الّتي تستقرّ في ذاكرتنا ونجدها تتغيّر وتزداد غنىً وتنوّعًا عام بعد عام. وقد وجد تقليد المسحراتي طريقه كذلك إلى الرّاديو والتلفاز في سبعينيّات القرن الماضي، كما يجد طريقه إلى التطبيقات الإلكترونيّة اليوم. ولكن، هل يستبدل التّسجيل طرقة الباب وصوت المسحّراتي وهو ينادي باسم عائلتكم ويمازحكم بأغنياته؟ وهل نجح المنبّه والهاتف بتحويل المسحّراتي من شخصٍ نعرفه ونألفه إلى فكرة نحبّها ونتذكّرها بدفء؟ وماذا نفعل حين نفتقد المسحراتي؟ أو حين نعيش في مكانٍ لا مسحّراتي فيه؟
أردنا في المكتبة الوطنيّة تقفّي أثر مسحّراتيّا حُفظ صوته منذ عام 1972 بإحدى تسجيلات إذاعة “صوت إسرائيل بالعربيّة” المؤرشفة في المكتبة، على سبيل عدم تجريد المسحّراتي من كونه شخص حقيقيّ، وعلى سبيل الفضول والاستكشاف. ففي البوابة الرّقميّة حول شهر رمضان في موقع المكتبة، تجدون من بين التّسجيلات واحدًا بعنوان “مسحّراتي”. قد يشدّكم صوت المسحّراتي إذا نقرتم على التّسجيل وتجدون اسمه كما يظهر بالعبريّة في بيانات المادّة “ياعكوف مراد”، وتتسائلون كما فعلنا: هل كان المسحّراتي يهوديًا؟ هل كانت أصوله مغربيّة أم مصريّة أم عراقيّة؟ ولماذا كان يؤدّي دور “مسحراتي” على إذاعة صوت إسرائيل؟
للاستماع للتّسجيل، اضغطوا هنا.
على الطريقة التقليديّة، بدون آلات موسيقيّة سوى الطّبلة الصغيرة، تبدأ الطبلة برنّة السّحور الشّهيرة- خمس ضربات متواضعة تصمت الطّبلة بعدها لينطلق بالغناء منفردًا، فلا نسمع سوى صوت المسحّراتي، تمامًا كما يكون الحال في الأزقّة والحارات قبل آذان الفجر في رمضان. الصّوت نديّ وهادئ، العُرب منسابة والكلمات عفويّة وبسيطة، فيقول ما هو مألوف مرّة “سحورك يا صايم، قوم وحّد الدّايم”، وينادي العمّ “حسين” والسيّد “عطيّة” مرّة، كأنه معتاد على الدّور، يتنقّل بين الطّبقات بطربيّة وخفّة عالية، ينخفض بصوتٍ جهور كأنه يتلو القرآن ثمّ يرتفع كأنّه يغنّي ألحانًا غزليّة لعبدالوهاب. المؤكّد أن من يؤدّي هذا التّسجيل متمرّس في الغناء العربيّ ولا سيّما المصريّ بدرجة ملفتة.
إذا كتبتم بالعربيّة “يعقوب مراد” على محرّك البحث “جوجل” سيأخذكم مباشرة إلى يعقوب مراد الكاتب والصّحافيّ السّوريّ فتفهمون مباشرة أنّه ليس الرّجل المطلوب، وأن من تبحثون عنه ليس واسع الشّهرة. واذا استغرقتم في التّصفّح قليلًا كما فعلنا، ستجدون بعض الصّور لرجل يحمل عودًا، مستدير الوجه وممتلئ الكتفين، وكثير من الفيديوهات اليوتيوبيّة والتّسجيلات الصّوتيّة المنشورة على منتديات محبّي التّراث العراقي تحمل اسم “الموسيقار اليهوديّ يعقوب مراد العمّاري”، وغالبًا ترتبط عناوينها بأغانٍ تراثيّة عراقيّة، المقام العراقي والجالغ البغدادي، أغاني الأعراس والطّرب وأغانيات أخرى قام العمّاري بتلحينها ونظمها بنفسه. فهل يكون المسحّراتي هو نفسه يعقوب مراد العمّاري؟ أو كما سّمّي بالعبريّة بعد تركه إذاعة بغداد وهجرته للبلاد، بار-ناي (أي ابن النّاي) العمّاري؟
تنتبهون بعد وهلة أن فارق الصّوت جليًا، كما أن الأداء العراقيّ المشدود للعمّاري يبتعد كثيرًا عن الطّربيّة المصريّة المنسابة في تسجيل “المسحراتي”. وعند محاولة البحث بالعبريّة، تظهر لكم عشرات الفيديوهات لشخصٍ أسمر طويل لا يشبه العمّاري، مستطيل الوجه ويرتدي نظّارة سميكة، يغنّي جالسًا في الأعراس والحفلات وأمامه طبلة ينقرها بعصاتين صغيرتين أو يحمل دفًا، في بعض الفيديوهات يعزف الإيقاع فقط، وفي بعضها تجدونه يغنّي “يا وابور قلّي” لعبد الوهاب، و”حبيبي يسعد أوقاته” لزكريا أحمد، و”اشكي لمين” لبليغ حمدي. يتنقّل بين المقامات بسلاسة، يؤدّي بهدوء وهو مغمض العينين تارة ويعلو بصوته تارة أخرى كما في تسجيل المسحّراتي. إنه يعقوب مراد، عازف الإيقاع والمغنّي في الفرقة الموسيقيّة لإذاعة “صوت إسرائيل بالعربيّة” منذ سنوات الخمسينيّات.
لم نجد الكثير حول يعقوب مراد، فلم نجد موادًا تحمل اسمه سوى تسجيلًا إضافيًا كمسحّراتي في الإذاعة، محفوظاً في المكتبة الوطنيّة كذلك، وصورة صغيرة له إلى جانب بقيّة أعضاء الفرقة في أحد منشورات “مركز تراث يهود بابل” حين قاموا باطلاق تسجيلات لمجموعة من الأغاني الدّينيّة ليهود بابل واشترك في أدائها مراد فتم إرفاق صورته على ظهر الغلاف مع بقيّة العازفين ومنهم “صالح الكويتي”، عازف الكمان والملحّن العراقيّ الشّهير الّذي بدأ مشواره في إذاعة بغداد قبل أن يهاجر إلى البلاد.
ولد يعقوب مراد في بغداد عام 1938، كان يعاني من ضررٍ في عينيه فكانت رؤيته شديدة الضّبابية. كما يحدّثنا صديقه وعازف الكمان إلى جانبه سليم ندّاف، كان الغناء والسّمع الطّربيّ ملاذًا للكثيرين ممن يعانون من إعاقة بصريّة في ذلك الوقت، فلا يذهبون للسينما مثلًا كأبناء جيلهم. كان يجلس يعقوب الطفل على قهوة في بغداد وينتظر أغاني عبدالوهاب الّتي كان مولعًا بها حتّى حفظها كلّها، ممّا يفسّر أداءه المصريّ وابتعاده عن الغناء العراقيّ، حتّى أن صديقه ندّاف يذكر أن مراد كان يتكلّم باللهجة المصريّة في حياته اليوميّة لشدّة حبّه لها.

كان يبلغ من العمر أربعة عشر عامًا حين وصل إلى البلاد مع بعض أفراد أسرته. التحق بإذاعة صوت إسرائيل وبعض الفرق الموسيقيّة الشّرقيّة الّتي كانت تؤدّي في أعراس ومناسبات اليهود القادمين من بلدان عربيّة. توفّي يعقوب مراد في الثّامن والعشرين من شباط عام 1994، ولم يخلّف لنا سوى تسجيلات المسحّراتي، وعشرات الفيديوهات وهو يغنّي أغاني مصريّة وتحتها تعليقات بالعبريّة؛ تترحّم عليه وتلقّبه بعبد الوهاب اليهودي.