الأهمية الرّوحانيّة لشهر رمضان

وصلت بعض المخطوطات العربية إلى المكتبة الوطنية وقد صُنّفت في مجموعة يهودا (1877-1951) وهي عبارة عن 93 ورقة بخط اليد، وتحتوي على أحاديث نبوية صحيحة وأخرى يُختلف على مدى صحّتها في السّنة النبويّة والصحيحين لكننا من خلالها نستشّف الأهمية الرّوحانية لشهر رمضان لدى المسلمين وفضائله.

832 629

مخطوطة مغربية، 1873-1882، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنية

وصلت بعض المخطوطات العربية إلى المكتبة الوطنية وقد صُنّفت في مجموعة يهودا (1877-1951) وهي عبارة عن 93 ورقة بخط اليد، وتحتوي على أحاديث نبوية صحيحة وأخرى يُختلف على مدى صحّتها في السّنة النبويّة والصحيحين لكننا من خلالها نستشّف الأهمية الرّوحانية لشهر رمضان لدى المسلمين وفضائله. من خلال المقال نسلّط الضوء على بعض المخطوطات الّتي يتم الحديث فيها عن شهر رمضان المبارك.

 المخطوطة الّتي وصلتنا تعود إلى القرن الثالث عشر الهجري\ التاسع عشر الميلادي من المغرب (1290 هــ – 1873م)، حيث يشيرُ الفصل في البداية بالعنوان «باب فضل شهر رمضان» إلى الأهميّة الرّوحانية للشّهر لدى المسلمين عمومًا، حيث جاء في هذا الباب ما تمّ نقله عن الرسول محمد ﷺ بنقله المتن كاملًا للحديث في البداية قائلًا: «إنّ الجنّة لتَتزيَّنُ من الحَولِ إلى الحولِ بقدومِ شهر رمضان، فإذا كان أوّل ليلةٍ من شهر رمضان، هبَّت ريحٌ من تحتِ العرش يُقالُ لها المُثيرة فيصطفقُ ورق أشجار الجنة وحلَقُ المصاريع فيسمع لها طنينٌ لم يسمع السامعين أحسنَ منهُ».

Dedupmrg760662917 Ie160153398 Fl160153976
مخطوطة مغربية، 1873-1882، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنية

وقد ذُكر هذا الحديث في صورٍ عديدة واختلفَ فيه الرّواةُ وفي مدى صحّته، على غِرار العديد من الأحاديث الأخرى في التّاريخ الإسلامي، حيث تم الاختلاف في العديد من الروايات لكن إن تدّل هذه الاختلافات بحسب العديد من الدّراسات الإسلامية على شيء، فإنها تدّل على اختلاف التدوين وبدايته في الإسلام، حيث بدأ تدوين الأحاديث متأخرًا ممّا أدى إلى الاختلاف في مدى صحّتها. وفي حالة المخطوطة الّتي نعالجها، وعلى الرغم من عدم التأكد من مدى صحّة الأحاديث النبويّة، إلّا أن الأحاديث المذكورة، تناقش الأهميّة الروحانية للشّهر الفضيل. وقد ذُكر الحديث في مراجع أخرى بالصّيغة التالية على سبيل المثال

«إنّ الجنّة للتتزيّن من الحَوَل إلى الحوَل لشهرِ رمضان، وإنّ الحورَ ليُّزيّن من الحول إلى الحول لصوّامِ رمضان، فإذا دخل رمضان قالت الجنّة: اللّهم اجعل لي في هذا الشّهرِ من عِبادكَ. ويقولنَ الحَوَر: اللّهم اجعل لي من عِبادكَ في هذا الشَّهرِ أزواجًا، فمَن لم يقذف فيه مسلّمًا ببهتان ولم يَشرب مُسكِرًا كفَّر الله عن ذنوبه، ومن قذفَ فيه مُسلمًا، أو شربَ فيه مُسكِرًا أحبطَ الله فيه عمله لسَنتهِ، فاتّقوا شهر رمضان فإنّه شهر الله، جعلَ الله لكم أحد عشرة شهرًا تأكلون فيه وتشربون وتتلّذذون وجعل لنفسهِ شهرًا، فاتقّوا شهر رمضان فإنه شهر الله».

ويتفق الحديث الّذي ذُكر في المخطوطة المغربية مع الحديث الثاني في الأهمية الرّوحانية لهذا الشّهر، وعلى أهميّته لدى الله تعالى عند الحديث عن العِبادات، فالعِبادات هي البوابة الّتي تصِل الإنسان بربّه بحسب الدّين الإسلاميّ، وأعظم الأوقات للقيام بهذا الرابط الروحاني بين العبد وربّه يكون في هذا الشّهر.

في الحديث الثاني، كانت هناك إضافة طفيفة لكن مهمّة، وهي حول تجنّب العبد لبعض الذنوب والخطايا الّتي منعها الدّين الإسلاميّ، وذلك من أجل قبول الصّيام والعِبادات والتّوبة فيه.

اطلعوا على بوابة شهر رمضان الرقمية في موقع المكتبة الوطنية.


وفي مخطوطةٍ أخرى، يُذكر حديثٌ آخر للنبيّ ﷺ حول فضل ليلة القدر للمسلمين وأهميتها الروحانية، حيث ذُكر في المخطوطة عن النبي ﷺ: «أريدُ أن أخبركم بليلة القدر ولكن خشيتُ أن تتكلّموا عليها وعسى أن تكون خيرًا فاطلبوها في تسع يمضين أو سبع يمضين أو خمس يمضين أو ثلاث يمضين أو في آخر ليلة، وجاء من أماراتها ليلةٌ بلحة سمحة لا حارّة ولا باردة تطلعُ الشّمس في صبيحتها ليس لها شعاع من قامها إيمانًا واحتسابًا غُفرَ له ما تقدّم من ذنبه»

وقد ذُكر هذا الحديث أيضًا في عدّة صِور منها، جاء عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إن أمارةُ ليلة القدر أنها صافية بلجةُ كأنّ فيها قمرًا ساطعًا، ساكنةٌ ضاحيةٌ لا بَرْدَ فيها ولا حرّ، ولا يحلّ لكوكبٍ أن يُرمى فيها حتى يُصبح، وإن أمارتها أنّ الشّمس صبيحتُها تخرجٌ مستويةً ليس لها شعاع، مثل القمر البدر، لا يحلُّ للشيطان أن يخرج معها يومئذٍ»

وفي كلا الحديثين بغض النّظر عن مدى صحّتهما، فإنهما يشيران إلى مدى أهمية هذه اللّيلة في العبادة والتعبّد، ويردُ في  كلا الحديثين بأنها ليلةٌ تُغفر فيها الذنوب ويُمنع فيها الشيطان من النّزول إلى الأرض. وفي العديد من التفسيرات الّتي ذُكرت أيضًا في المخطوطة، فإنّ المغفرة الّتي تمّ الحديث عنها في الحديث الأوّل، هي مغفرة عن الذنوب الّتي اُرتكبَت بين العبد وربّه وليس بين العبد وبقيّة العِباد، فحقوق العِباد محفوظة لليوم الآخر. والمغفرة هذه مشروطة بمعرفة العبد بشروط الشّهر الفضيل من حفظ اللّسان، والتّحرّر من الغيبة والنميمة والحسد، وصون جوارحه والكف عن الخطأ على المسلمين وحفظ أهل بيته.

Dedupmrg760662917 Ie160153398 Fl160153979 3

وذكر في إحدى المخطوطات، عن عائشة رضي الله عنها، زوجة الرسول محمد ﷺ، «إنه خرج في جوف اللّيل في إحدى ليالي رمضان وصلّى في المسجد وصلّا النّاس بصّلاته، وأصبح الناس يتحدّثون بذلك وكثُر النّاس في اللّيلة الثامنة وصلّوا بصلاته، فلّما كانت اللّيلة التّاسعة كثُر النّاس حتى عجز المسجد عن أهله، فلم يخرج إليهم حتى خرج لصلاة الفجر، فلمّا صلّى صلاة الفجر أقبل على النّاس وقال أنه لم يخفَ عليّ شأنكم اللّيلة ولكن خشيت أن يعزم عليكم في صلاة اللّيل فتعجزوا عن ذلك» وبعد وفاة الرسول ﷺ استمر أبو بكرٍ وعمر الخلفاء من بعده بقيام الصلاة من بعد العشاء حتى الفجر في ليالي رمضان، وصارت سُنّةً نبويّة يقتدي فيها الناس.

Dedupmrg760662917 Ie160153398 Fl160153979 2

وتعتبر صلاة التّراويح اليوم (الصلاة من بعد العشاء حتى الفجر في ليالي رمضان) سنّةً مثبتةً خلال الشّهر حتى يومنا هذا، فيقوم المسلمون بأداء صلاة التراويح كجزء من التّقرب من الله ومن محاولة زيادة التعبّد خلال الشّهر.

استمر شهر رمضان على مدار التاريخ الإسلامي بكونه شهرًا روحانيًا وفرضًا للصيام ومفضلًا للمسلمين ينتظرون قدومه للتقرب من الله تعالى خلاله، ففيه يتم التجرّد من رغبات النفس والذنوب ويتم التركيز على التّقرب من الله وصلة الأرحام والأقارب وقراءة القرآن وإقامة الصّلاة، ليكون بذلك أكثر الشهور روحانيةً وفضلًا للمسلمين.

إنّ المخطوطات الّتي في حوزتنا طويلة وكثيرة كما ذكرنا في بداية المقال، وإن أردنا الاستطراد أثناء الحديث عنها فإننا نحتاج إلى سلسلة من المقالات، لكننا حاولنا الاختصار من خلال إدراج بعض الأحاديث الّتي يتم تداولها سنويًا للحديث عن أهمية شهر رمضان روحيًا في الدين الإسلاميّ، إنّ الأحاديث المذكورة تهتم بإبراز الجانب الروحاني من خلال إظهار كيفية تزيُّن الجنّة واستعداد الملائكة لاستقبال الشّهر.

مراحل فرض الصيام في الإسلام: من عاشوراء إلى رمضان

مرّ الصيام في الإسلام بعدّة مراحل قبل أن يصل شكله النهائيّ المتمثّل في صيام رمضان كما يعرفه المسلمون حول العالم، فما هي تلك المراحل؟

مصحف بهاري هندي – من مجموعات المكتبة الوطنية

مصحف بهاري، نسخة هندية، القرن الـ 15، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنية

مثل العديد من التشريعات الإسلاميّة، لم يُفرض صيام رمضان مرّةً واحدة، ولا في بدايات الإسلام؛ إذ شُرع على مراحل – بعد الهجرة – في المدينة. وهدف ذلك، التأكّد من استقرار الدين الجديد في قلوب المؤمنين به، واتّباع مبدأ التدريج، كي يتعوّد المسلمون على الفرائض الجديدة، خاصّة الشاقّة منها، كالامتناع عن الطعام والشراب لشهرٍ كاملٍ في أجواءٍ حارّةٍ كالتي تسود شبه الجزيرة العربيّة. يقول ابن القيم في كتابه زاد المعاد: “لما كان فطم النفوس عن مألوفاتها وشهواتها من أشق الأمور وأصعبها، تأخر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة، لما توطّنت النفوس على التوحيد والصلاة، وألفت أوامر القرآن، فنقلت إليه بالتدريج. وكان فرضه في السنة الثانية من الهجرة، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صام تسع رمضانات“.

ونستطيع أن نقسّم مراحل فرض الصيام إلى أربعة مراحل، المرحلة الأولى كانت في فرض أيّام للصوم غير شهر رمضان، والمراحل الثلاثة التالية تتعلّق بتغيّر أحكام شهر رمضان حتّى وصولها إلى شكلها النهائيّ.


صيام عاشوراء ثمّ ثلاثة أيّام من كلّ شهر

أوّل يومٍ أمر الإسلام بصومه كان يوم عاشوراء (العاشر من محرّم)، حيث كانت قريش تصومه في مكّة، حتّى نُسِخَ (لُغِيَ) فرض صيامه حين فُرِض رمضان، وغدا صيام هذا اليوم من النوافل المستحبّة. تقول عائشة في حديثٍ رواه البخاريّ: “إنّ قريشًا كانت تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية، ثمّ أمر رسول الله بصيامه حتى فرض رمضان، فقال رسول الله من شاء فليصمه ومن شاء أفطره“. وفي روايةٍ أخرى كان صوم عاشوراء في المدينة لا مكّة، عندما شاهد الرسولُ اليهودَ يصومونه، ففي حديثٍ عن عبد الله بن عباس أخرجه البخاري في باب صوم عاشوراء، قال: “قدم النبي المدينة فرأى اليهود تصوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يومٌ صالح نجّى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوّهم فصامه، وقال: أنا أحقّ بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه“.

وتشير عددٌ من الروايات أنّ الرسول أمر بعد عاشوراء وقبل رمضان بصيام ثلاثة أيام من كلّ شهر، ففي سنن البيهقي وأبي داود عن ابن أبي ليلى يقول: “حدّثنا أصحابنا أن رسول الله لما قدم المدينة أمرهم بصيام ثلاثة أيام ثمّ أنزل رمضان وكانوا قومًا لم يتعودوا الصيام وكان الصيام عليهم شديدًا“.


التخيير بين صوم رمضان أو الإفطار مع دفع فدية

في هذه المرحلة الأولى من تشريع رمضان، كان للمسلم القادر على الصيام خيارٌ بين أن يصوم شهر رمضان، وهو الأفضل، وبين أن يُفطر (رغم قدرته على الصوم) مقابل دفع فدية على كلّ يومٍ يُفطِره وهي إطعام مسكين، فعن سلمة بن الأكوع قال: “لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 184]، كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ، حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا” (رواه البخاري). والآية المقصودة بعدها التي لغت التخيير، وجعلت صوم الشهر فرضًا على البالغ غير المريض أو المسافر هي: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 185].

ولابن عبّاس كما يروي عنه البخاري رأيٌ آخر في آية: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾، إذ يقول: “ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فليطعما مكان كلّ يوم مسكينًا”، وكأنّه بذلك لا يعتبر حكمها ملغي بالكامل، بل أنّ مجال التخيير قُلّص ليشمل فقط الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، عوضًا عن الجميع.

"على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" – مصحف غربي إفريقي
“على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين” – مصحف غربي إفريقي


وجوب صيام شهر رمضان والإفطار بعد الغروب بشرط عدم النوم

في هذه المرحلة، فُرِض صيام رمضان على المسلم البالغ العاقل، المقيم وغير المريض، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وبعد الغروب، يستطيع الأكل والشرب بشرط عدم النوم، وفي حالة نومه، يحرّم عليه الطعام والشراب (حتّى لو استيقظ قبل الفجر) إلى غروب شمس اليوم التالي. وقد كانت هذه المرحلة صعبة على المسلمين، وسبّبت لبعضهم مشاقًا بالغة، مثل قيس بن صرمة الذي نام بسبب تعبه من العمل قبل أن يفطر، فظلّ بلا طعامٍ حتّى اليوم التالي حيث أُغمِيَ عليه، ففي حديث البراء بن عازب، قال: “كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا فَحَضَرَ الْإِفْطَارُ فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ، لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ، فَقَالَ لَهَا: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ، قَالَتْ: خَيْبَةً لَكَ، فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ [البقرة: 187]، فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا، وَنَزَلَتْ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: 187] ” (رواه البخاري).

مصحف بغدادي من القرن الخامس الهجري-من مجموعات المكتبة
مصحف بغدادي، القرن الحادي عشر، مجموعة يهودا، المكتبة الوطنية

وجوب الصيام على الحالة الحاليّة بعد رفع الشرط السابق

في المرحلة الأخيرة، رُفِع شرط عدم النوم كما ورد في حديث البراء بن عازب عندما نزلت الآية 187 من سورة البقرة، وصار بإمكان المسلمين الأكل والشرب من غروب الشمس حتّى طلوع الفجر، سواءً ناموا بين الوقتين أم لا، مع الاحتفاظ بالرخص الشرعيّة للإفطار المتعلّقة بالمسافر أو المريض، ويُضيف إليها الفقهاء رخصًا أخرى، كإمكانيّة أن يفطر كبار السنّ ممّن يشقّ عليهم الصوم، مقابل إطعام مسكين عن كلّ يومِ يفطرونه.

كتاب الصوم من مخطوط ملتقى الأبحر في فروع الحنفية
كتاب الصوم من مخطوط ملتقى الأبحر في فروع الحنفية

من الظُلُماتِ إلى النور: الإضاءة الفلسفية لشهاب الدّين السهروردي

في هذا المقال، نسلّط الضوء على فكر المتصوف شهاب الدين السهروردي الذي رأى الكون كنسيج من النور وكلَّفَه حياته في نهاية المطاف.

شهاب الدين السهروردي

شهاب الدين السهروردي

لا يخلو تاريخُ الدين والفلسفة من الشخصيات المؤثرة الذين نجحوا في فتح آفاق تفكير مغايرة للسائد وأسرت خيالَ الكثيرين. ومن بينِ هؤلاءِ الأفراد الاستثنائيين، شخصية برزت في العالم الإسلامي في العصور الوسطى: شهاب الدين السهروردي، المعروف أيضًا باسم شيخ الإشراق أو سيّد التنوير. أنشأَ السهروردي مدرسة فلسفية جديدة والتي أصبحت تُعرف باسم المدرسة الإشراقية وكان لها تأثير كبير على التقاليد الفكرية الإسلامية الشرقية، إذ جَمَعَ فكرهُ بينَ تَعاليمِ الإسلام، وأفلاطون، والهرمسية، والزرادشتية، وغيرها الكثير لخلق شكل فريد وشاعري من الفلسفة الصوفية.

في أوائلِ العشرينيات من عمره دخل السهروردي إلى مسرح التاريخ عندما وصل إلى حلب السورية، إيذاناً ببدء رحلة بحثه عن المعرفة. خطى بقدم في عالم الفلسفة والأخرى في عالم التصوف، وتميّزت حياته بخيارات مثيرة للاهتمام. إذ يُحكى أنه أتى حلب بملابس رثة حتى ظنّوا أنه سائق حمار، وسرعان ما أدرك مدير المدرسة المحلية، وهي مدرسة للتعليم الإسلامي، أن السهروردي رجل مثقف وأرسلَ لهُ ملابس مع ابنه الصغير طالباً منه بلباقةٍ أن يُحَسّنَ مَظهَره ليَرقى لمستواه الفكري، لم يُبدِ السهروردي انزعاجه من هذه الإيماءة، لكنه أَخرجَ جَوهَرَةً كَبيرة وأمرَ الصّبي بأخذِها إلى السّوق لتّسعيرِها. عند عودته، أخبر الصبي السهروردي أن الأمير الحاكم، وهو الابن المراهق لصلاح الدين الأيوبي، عرض مبلغًا مذهلاً قدره 30 ألف دِرهم مقابل الجوهرة.

لإظهار مدى قلة تقديره للممتلكات المادية، حَطَّمَ السهروردي الجوهرة الثمينة على حجر، قائلاً إنه كانَ بإِمكانه بسهولة شِراءَ مَلابسَ أَفضل إذا أراد ذلك.

لم تكن تصرفات سهروردي مجرَّدَ إظهارٍ للامبالاة؛ بل عَكَسَت التزامهُ العَميق بأسلوبِ حياةِ الزهد. لقد تجنب بوعي أي شكل من أشكالِ التعلق. إذ تُروى قصصٌ عن ارتدائهِ لملابسَ بائسة في يوم وملابس مَلَكية في يومٍ آخر، وذلك لتجنبِ رَبطه بصور نمطية معينة عن الفلاسفة الزُّهاد.

أكدَّ رفض السهروردي الامتثال للتوقعات واحتضانه للمفارقة فهمه العميق للطبيعة البشرية والطريق الروحي. لقد كان صوفياً حقيقيًا، فيلسوفًا عاش تعاليمه إلى جانب التنظيرِ بها.

مع مرور الوقت، اجتذب السهروردي مجموعة من التلاميذ، وشاركهم ممارساته الصوفية ورؤاه الفلسفية. وكان للسهروردي علاقة وثيقة مع ابن صلاح الدين الأيوبي الملك الظاهر. ومع ذلك، فإن هذه الشعبية المتزايدة، إلى جانب علاقاته بالسلطة السياسية، جعلت علماء الدين قلقين من أفكاره المخالفة للدين برأيهم.

ومع نمو أفكاره وتأثيره، راوَدَ صلاحُ الدين الشعور بعدمِ الرّاحة بشكلٍ متزايدٍ من علاقة السهروردي الوثيقة بابنه، وبتحريضٍ من رجال الدين آنذاك أمرَ صلاحُ الدين بتنفيذِ حُكم الإعدام الذي أودى بحياة السهروردي ومثّل نهاية فصل فكري رائع في التاريخ الإسلامي. ولكن ما هي أفكار سيّد التنوير التي كلفته حياته؟

 

نورُ الأنوار

لم يُطلَق على السهروردي لقَب سيّدِ الإشراقِ منَ العَدَم، فقد آمن الفيلسوفُ الصوفيّ بأنَّ كلَّ شيءٍ في العالم مصدرهُ الضوءُ والظّلام. والضوء لدى السهروردي ليس ضوءًا ماديًا نراه، بل هو جوهرُ الكون غير المادي. ترسمُ فلسفة السهروردي صورة ساحرة للكون على أنه نسيج مترابط من الضوء، حيث ينبعث كل مستوى من المستوى السابق، مما يشكل رقصة كونية من الخلق والتجلي. إنها رؤية تدعونا إلى إدراك الكون ليس كمجموعة من الأجسام المنفصلة ولكن ككل موحد، مضاء بالجوهر المتألق للوجود نفسه.

تَخيل شلالًا كونيًا من الضوء، يتساقط من مصدرٍ متألقٍ أعلى الكون، هكذا صوّر لنا السهروردي خَلق الله للكون. كان يعتقد أن الله، في جوهره الأنقى، نورٌ يُبعثُ باستمرار ويَلِد أشكالًا أقل من الضوء، تمامًا مثلَ أشعة الشمس التي تضيءُ كلَّ ما تلمسه.

وللضوءِ دَرجات وأنواع تبدأُ بالضّوء المطلق، أو “نورُ الأَنوار”، الذي يمثلُ الله -سبحانه وتعالى-، الذي يتجلى دائمًا ويخلق أضواءً أخرى تنبثق منه – أي كل المخلوقات – وهذه الأضواء متمايزة ومترابطة كالبشر، كما يختلف جوهر الشمس عن أشعتها. فالأشعة المنبثقة تحتاج للشمس لوجودها ودونها يَعُمُّ الظّلام، وهكذا هي علاقة المخلوق بالخالق سبحانه، والعَكسُ غير صحيح، فالنورُ دائمُ الاشعاع، وكذلك الله في وجوده وخلوده دون الحاجة للبشر، لكنهم خُلقو والدنيا ليعكسوا قدرة الله اللامتناهية.

هذا الضوءُ غير المادي، هو شريانُ الحياةِ والوجود؛ إنها الشرارة التي تُشعل الوعي، وتمكننا من التعرف على أنفسنا وما يحيط بنا. كُلُّ ما ينبِضُ بالحياة في العالم المادي يستفيد من هذه القوة المضيئة، كالأرواح التي تُحيي البشر.

تدعونا فلسفةُ السهروردي إلى إدراك الواقع من خلال عدسة الضوء، والاعتراف بالترابط بين الوعي أو الله والإمكانات الكامنة للتنوير داخل جميع الكائنات. تقدم تعاليمه استكشافًا عميقًا لطبيعة الوجود، وتوجهنا نحو فهم أعمق لمكاننا في السيمفونية الكونية.

من كتاب "هياكل النور"، 1916، المكتبة الوطنية
من كتاب “هياكل النور”، 1916، المكتبة الوطنية

 

تظل فلسفة السهروردي مهمة ومؤثرة حتى اليوم، إذ يعد واحدًا من أكثر الفلاسفة تفردًا وإثارة في التاريخ، وقد ترك بصمة عميقة على الفلسفة الإسلامية وعلى الصوفيين والمفكرين حتى الآن. قد يطلق عليه لقب “الشيخ المقتول”، إلا أن أفكار السهروردي المثيرة ما زالت حية ومؤثرة حتى يومنا هذا.

جدل تكريم القبور: موقف ابن تيمية

كان ابن تيمية محط جدل واسع النطاق؛ إذ كان مع الفقهاء الذي حاربوا التصوّف وتبجيل الأولياء. في هذا المقال، نسلّط الضوء على بعض رسائله.

مخطوطة ثلاث رسائل،1327،متوفرة في المكتبة الوطنية

مخطوطة ثلاث رسائل لابن تيمية،1327،مجموعة يهودا، المكتبة الوطنية

على الرُّغمِ مِن أَنَّ حَرَكَةَ السّلفية مرتبطة في الوعي الشائع بمفاهيم الأصولية وفي بعض الأحيان بالمفهوم المُرَكّب للجهاد، إلا أنها تحتل موقعًا جذابًا في تحفة الإسلام المعاصر. في جوهرها، تتمثل السلفية في رغبة حارقة في العودة إلى أُصول الدين، التي جَسّدَها النّبي محمد – عليه الصّلاة والسلام- وسَلَفه من الخلفاء المبشرين. السلفيون، أتباع هذه الحركة، مدفوعون بمسعى لا هوادة فيه: تنقية الإسلام من خلال مواءمة ممارساتهم مع الأفكار الإسلامية التقليدية، والتي يدعمها التركيز على التفسير الحرفي للقرآن الكريم والحديث الشريف.

تعود جذور السلفية إلى فترة تاريخية بعيدة، حيث وجدت جذورها في أعمال شخصيات بارزة مثل ابن تيمية. وكانت مساعيه الحماسية تهدف إلى تطهير الإسلام من الانحرافات المتصورة، مما مهد الطريق لحركات مثل الوهابية، التي ظهرت خلال السنوات التكوينية للمملكة العربية السعودية.

تقيّ الدين ابن تيمية، كان فقيهًا حنبليًّا بارزًا في القرن الرابع عشر. تركزت دراسته على علوم القرآن والحديث والفقه والتفسير. أسس لأفكار مثيرة للجدل وانتقد بشدة بعض المعتقدات والعادات في زمانه، معتبرًا أن ضعف المسلمين في وجه الغزو المغولي نابع من ضعف العقيدة والدولة المملوكية. عُتقل عدة مرات بسبب إصلاحاته الدينية، فرأى أن القرآن والحديث هما المصادر الأساسية للإسلام. أثرت أفكاره على العلماء لاحقًا وعلى ظهور التيارات الفكرية مثل السلفية والإسلام الحركي.

للمزيد من مواد الإسلام الرقمية في المكتبة الوطنية

عاش ابن تيمية في دمشق في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، و تزامنت سنة ولادته، 1263، مع فترة من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية الهائلة. لقد كانت فترة أعقبت مباشرة السقوط الوحشي لبغداد في أيدي المغول، وكانت بمثابة علامة على زوال الخلافة العباسية وضربة قاصمة للسلطة والثقافة الإسلامية – وهي الحضارة التي كانت ذات يوم بمثابة منارة عالمية. لقد ظهر ابن تيمية في عالم هزته هذه الأحداث المذهلة، وعاش في عصر من الاضطراب وعدم اليقين الذي لم يشكل حياته فحسب، بل وجهات نظره أيضًا.

لم يكن ابن تيمية مجرد عالم دين تقليدي، بل كان يتحدى بجرأة الممارسات المعتمدة داخل المجتمع الإسلامي آنذاك، الذي كان ميالاً للتصوف والتشيع، معتبراً إياها تحريفاً للدين الحقيقي. لم يكتف ابن تيمية بالنقد فقط؛ بل شارك بحماس في المناظرات، وكتب أعمالاً موجزة وحادة تسلط الضوء على مخاوفه من حال الأمور في العالم الإسلامي.

لم يَتَساهل ابن تيمية مطلقًا فيما يتعلق بأي نوع من أنواع البِدَع (أي الشريعة المُبتَدَعة)، كانت معتقداته واضحة: إذا لم تكن فكرة أو ممارسة مرصودة من النبي محمد (عليه الصلاة السلام) أو الصحابة (السلف)، فليس لها مكان في الإسلام. هذا الموقف كان بعيدًا عن وجهة النظر السائدة في زمانه. فعلى الرغم من حذر الناس من إدخال تعديلات جديدة في الدين، كان الكثير من الابتكارات تُنظر إليها بصورة إيجابية وحتى يتم الترحيب بها.

أَدّى هذا المَوقف الصارم لابن تيمية ضد الممارسات التي اعتبرها بدعًا في الدين، وخاصة في الصوفية، إلى سجنه. كانت آراؤه حول الشريعة الإسلامية ومعارضته الثابتة لأي شكل من أشكال الابتكار فريدة من نوعها في عصره. وتعكس كتاباته تصنيفه الصارم للشريعة الإسلامية. فما هذه الممارسات التي اعتبرها ابن تيمية مُبتَدَعة في الإسلام؟

من تاريخ التصوّف


مسيلة القبور والاستنجاد بالمقبور

امتد انتقاد ابن تيمية إلى ممارسات صوفية محددة. فقد انتقد بشدة ممارسات مثل الذكر (ترديد متكرر لأسماء الله) والسما (التأمل الروحي الذي يتضمن الموسيقى)، إلى جانب مفاهيم مثل الفناء (إبادة الذات) المرتبطة بالتصوف. كان الأمر المثير للجدل بشكل خاص هو معارضته القوية لممارسة واسعة النطاق تتمثل في زيارة قبور الأولياء، وهي ممارسة راسخة في التاريخ الإسلامي وغالبًا ما ترتبط بالصوفية. لقد أدان هذا بشدة، خوفًا من أن يكون قريبًا جدًا من الشرك أو عبادة الأصنام.

مسيلة القبور والاستنجاد بالمقبور، 1750،متوفرة بالمكتبة الوطنية
مسيلة القبور والاستنجاد بالمقبور، 1750،متوفرة بالمكتبة الوطنية

 

وفقًا لابن تيمية، لم تكن هناك أماكن مقدسة بطبيعتها، وطلب المساعدة لا يمكن أن يكون إلا من الله مباشرة، رافضًا مفهوم الشفاعة من الميت. كان موقفه آنذاك مثيرًا للجدل إلى حد كبير، خاصة وأن الصوفية كانت الشكل السائد للإسلام في ذلك الوقت. ونهى عن الحج إلى هذه القبور والأضرحة إلا في حالة الزيارة العارضة أثناء السفر لغرض آخر، دون طلب فضل أو بركات من الأولياء والأنبياء. 

وعلى الرغم من أنه كان مرتبطًا تقنيًا بالمذهب الحنبلي، فإن ابن تيمية لم يكن خائفًا من كسر القالب. كان ينحرف كثيرًا عن وجهات نظرهم، وكان يثير الجدل في كثير من الأحيان بآرائه التي تعارض الأعراف المُعتمدة. ومع ذلك، أصبح أسلوبه الذي اتخذه أساسًا للسلفية، مما أثر بشكل كبير على التفكير الإسلامي المعاصر.