قراءة في مخطوطة “تحقيق الرجحان بصوم يوم الشكّ من رمضان”

في هذا المقال، نعرض الرأي الفقهيّ الذي أورده العلّامة مرعي الكرميّ المقدسي (1580-1624م)في مخطوطته عن صوميوم الشكّ، الذي لا يُعرَف إن كان يوم الثلاثين من شعبان، أم الأوّل من رمضان

مخطوطة تحقيق الرجحان – من مجموعات المكتبة الوطنية

مخطوطة تحقيق الرجحان – من مجموعات المكتبة الوطنية

وُلِد العلّامة مرعي بن يوسف الكرميّ في طولكرم زمن الدولة العثمانية. كان من كبار أئمّة الحنابلة في الفقه، ومن المتحمّسين لأحمد بن حنبل، حيث قال: “لئن قلّد الناس الأئمة إنني لفي مذهب الحبر ابن حنبل راغب“. تعلّم في القدس، ثمّ في الجامع الأزهر بالقاهرة، وتولّى المشيخة بجامع السلطان حسن، حتّى توفي بالقاهرة ولم يتجاوز عمره 44 عامًا.

بعد غروب شمس يوم التاسع والعشرين من شعبان، يرصد المسلمون هلال رمضان، وهناك ثلاثة احتمالات: أن يُشاهد الهلال فيثبت رمضان، أن تكون السماء صافيةً ولا يُشاهد الهلال فيُكمَل شعبان ثلاثين يومًا، وأن تكون السماء غائمةً أو بالجوّ غبار، ما يحول دون رؤية الهلال إن كان موجودًا، فلا يُعرف على وجه اليقين إن كان اليوم التالي هو الثلاثين من شعبان أو الأوّل من رمضان، إذ يُحتَمَل الوجهان، وهذا ما يُسمّى بيوم الشكّ.

وقد اختلف الفقهاء المسلمون في صومه، سواءً كان واجبًا، أم غير واجب، أم مكروهًا، أم محرّمًا. وفي مخطوطته، يعتقد العلّامة الكرميّ بوجوب صومه “بنيّة رمضان احتياطًا” (حسب ما يروي عن أحمد بن حنبل)، مستدلًّا على ذلك بالعديد من الأدلّة النقليّة (من القرآن والأحاديث) والعقليّة المبنيّة على قواعد فقهيّة، والتي سنمرّ على أهمّها في مقالنا هذا.

يبدأ الكرميّ إيراد أدلّة مذهبه الحنبليّ مؤكّدًا أنّ الأهلّة (جمع هلال)، حسب القرآن، هي التي تحدّد بداية الشهور ونهايتها، لا العدد والحسابات الفلكيّة، ويورد حديثًا عن الرسول أخرجه البخاريّ يقول فيه: “إنّا أمّة أُمّيّة لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا، يعني مرّةً تسعة وعشرين (يومًا) ومرّةً ثلاثين”.

ثمّ يورد حديثًا آخر أخرجه أحمد برواية أيّوب بن نافع عن الصحابيّ عبد الله بن عمر عن الرسول: “إنّما الشهر تسعة وعشرون، فلا تصوموا حتّى تروه، ولا تفطروا حتّى تروه، فإن غمّ عليكم فاقدروا له”. ويفسّره بأنّ المقصود به أنّ “الشهر اللازم الدائم تسعة وعشرون (…) أمّا اليوم الزائد، فأمر جائز أن يكون في بعض الشهور، ولا يكون في بعضها”. ويضيف الكرميّ أنّ الأصل والأغلب بالشهور القمريّة أن يكون عدد أيّامها 29 يومًا، وأنّ بعض الأشهر قد تزداد يومًا إضافيَّا لتصبح 30 يومًا.

ثمّ يُكمل الكرميّ رواية نافع للحديث السابق، ويوردها دليلًا على رأيه بوجوب صوم يوم الشكّ، حيث يقول نافع بأنّ عبد الله بن عمر كان إذا رأى هلال رمضان في التاسع والعشرين من شعبان أصبح صائمًا، وإذا لم يرَه، وكان الجوّ صحوًا، أصبح مفطرًا، أمّا إذا كان في الجوّ سحابٌ أو قترٌ (غبار) أصبح صائمًا أيضًا. ويعتبر الكرميّ أنّ الصحابة (كابن عمر) هم الأعلم بتعاليم الرسول، وينبغي الرجوع إلى فهمهم لأقواله، ويورد مثلًا رأيًا فقهيًّا شائعًا مأخوذًا من ابن عمر، وهو أنّه إذا أراد تأكيد البيع وإلزام الطرف الآخر به، كان يغادر مجلس البيع، وهكذا لا يمكن التراجع عنه، فكما أُخِذ بفعله دليلًا في البيع، يجب الأخذ بصومه يوم الشكّ.

وكدليلٍ آخر على وجوب الصوم، يفسّر الكرميّ معنى “فاقدروا له” في قول الرسول المذكور سابقًا، بـِ “احكموا بطلوعه”، أي احكموا بطلوع هلال رمضان إذا غُمّ عليكم (إذا كان الجوّ غائمًا)، مستدلًّا على المعنى بآية ﴿قدرناها من الغابرين﴾، أي حكمنا بذلك.



من مخطوطة تحقيق الرجحان

من مخطوطة تحقيق الرجحان
من مخطوطة تحقيق الرجحان

 ويقوم بفهم أحد الأحاديث الصحيحة الشهيرة التي تُستخدم عادةً كدليلٍ على عدم صوم يوم الشكّ، وعلى إكمال شعبان ثلاثين يومًا، بطريقةٍ مختلفةٍ عن العديد من الفقهاء، وهو قول الرسول: “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمّ عليكم فأكملوا العدّة”، وفي روايةٍ أخرى بنفس المعنى: “فعدّوا ثلاثين يومًا”. فيعتبر “أنّ هذه الأحاديث محمولة على الطرف الأخير، لأنّه أقرب المذكورَيْن”. وما يعنيه بذلك، أنّ جملة “إن غُمّ عليكم” تعود على هلال شوّال (هلال الفطر) لا هلال رمضان، لأنّ جملة “أفطروا لرؤيته” أقرب إليها من جملة “صوموا لرؤيته”، وهذه قاعدة معمول بها في علوم اللغة العربيّة، فكأنّ الحديث في رأيه هكذا: صوموا لرؤية هلال رمضان، وأفطروا لرؤية هلال شوّال، فإن غمّ هلال شوّال عليكم فأكملوا رمضان ثلاثين يومًا. ويستدلّ الكرميّ على فهمه بإحدى روايات هذا الحديث في صحيح مسلم، وهي: “إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمّ عليكم فصوموا ثلاثين يومًا” (لاحظوا أنّ الحمل على الطرف الأخير، لا يأخذ الكرميّ به عند تفسيره السابق لـِ “فاقدروا له” كما يفعل هنا، إذ اعتبر أنّ المقصود الحكم بطلوع هلال رمضان، لا شوّال، رغم كونه الأقرب).

ثمّ يورد عددًا من الأدلّة العقليّة والأمثلة الفقهيّة التي تدعم رأيه. أوّلها، أنّ إفطار يوم الشكّ متردّد بين احتمالَيْ الحرمة والإباحة، لأنّه إن كان الثلاثين من شعبان فإفطاره مباح، أمّا إن كان من رمضان فإفطاره حرام، فيجب حسب القواعد الفقهيّة ترجيح وقوع الحرام، والقيام بما يدفعه، وهو صوم يوم الشكّ واعتباره احتياطًا أوّل أيّام رمضان.

بعدها، يورد الكرميّ دليلًا آخر قد يبدو للوهلة الأولى دليلًا ضدّه (بسبب إكمال عدّة الشهر ثلاثين يومًا)، وهو الاتفاق على وجوب الصوم حين يغمّ الهلال في التاسع والعشرين من رمضان، لأنّ اليوم الذي يليه قد يكون الثلاثين من رمضان الواجب صومه، وقد يكون الأوّل من شوّال (عيد الفطر) الذي يحرم حسب الأحاديث النبويّة صومه، وهنا يتردّد الأمر بين الفرض والحرمة، فرض الصيام في الثلاثين من رمضان، وحرمة الصيام في الأوّل من شوّال، لكن كفّة صوم رمضان هي التي ترجح لأهمّيته، فيستنتج الكرميّ من ذلك أنّه من الأولى منطقيًّا صوم يوم الشكّ الذي يتردّد بين إباحة صوم الثلاثين من شعبان وفرض صوم الأوّل من رمضان (إذ لا وجود لاحتماليّة الحرمة هنا عند الصوم)، على صوم الثلاثين من رمضان (إذا غمّ الهلال) الذي يوجد فيه احتماليّة الحرمة.

ثمّ يأتي الكرميّ بعددٍ من الأمثلة الفقهيّة المجمع عليها في حالة الشكّ، من ضمنها: “إذا طلّق إحدى نسائه، ونسي عينها حرم الجميع”، ومعنى ذلك أنّه إذا طلّق رجلٌ إحدى زوجاته، ونسيَ أيّ واحدةٍ منهنّ تحديدًا التي طلّقها، فإنّ جميع زوجاته يُصبحن مطلّقاتٍ، ومحرّماتٍ عليه، وذلك لدفع احتماليّة الوقوع في الحرام.

تُجمِل الأمثلة والأدلّة السابقة رأي العلّامة الكرميّ كما عرضه في مخطوطته “تحقيق الرجحان بصوم يوم الشكّ من رمضان”. وخلاصة رأيه، الذي يخالف رأي العديد من الفقهاء باختلاف مذاهبهم، هو وجوب صومه بنيّة رمضان احتياطًا، لتفادي احتمال وقوع الحرام؛ أي الإفطار في يومٍ قد يكون الأوّل من رمضان.

من مخطوطة تحقيق الرجحان
من مخطوطة تحقيق الرجحان

من الظُلُماتِ إلى النور: الإضاءة الفلسفية لشهاب الدّين السهروردي

في هذا المقال، نسلّط الضوء على فكر المتصوف شهاب الدين السهروردي الذي رأى الكون كنسيج من النور وكلَّفَه حياته في نهاية المطاف.

شهاب الدين السهروردي

شهاب الدين السهروردي

لا يخلو تاريخُ الدين والفلسفة من الشخصيات المؤثرة الذين نجحوا في فتح آفاق تفكير مغايرة للسائد وأسرت خيالَ الكثيرين. ومن بينِ هؤلاءِ الأفراد الاستثنائيين، شخصية برزت في العالم الإسلامي في العصور الوسطى: شهاب الدين السهروردي، المعروف أيضًا باسم شيخ الإشراق أو سيّد التنوير. أنشأَ السهروردي مدرسة فلسفية جديدة والتي أصبحت تُعرف باسم المدرسة الإشراقية وكان لها تأثير كبير على التقاليد الفكرية الإسلامية الشرقية، إذ جَمَعَ فكرهُ بينَ تَعاليمِ الإسلام، وأفلاطون، والهرمسية، والزرادشتية، وغيرها الكثير لخلق شكل فريد وشاعري من الفلسفة الصوفية.

في أوائلِ العشرينيات من عمره دخل السهروردي إلى مسرح التاريخ عندما وصل إلى حلب السورية، إيذاناً ببدء رحلة بحثه عن المعرفة. خطى بقدم في عالم الفلسفة والأخرى في عالم التصوف، وتميّزت حياته بخيارات مثيرة للاهتمام. إذ يُحكى أنه أتى حلب بملابس رثة حتى ظنّوا أنه سائق حمار، وسرعان ما أدرك مدير المدرسة المحلية، وهي مدرسة للتعليم الإسلامي، أن السهروردي رجل مثقف وأرسلَ لهُ ملابس مع ابنه الصغير طالباً منه بلباقةٍ أن يُحَسّنَ مَظهَره ليَرقى لمستواه الفكري، لم يُبدِ السهروردي انزعاجه من هذه الإيماءة، لكنه أَخرجَ جَوهَرَةً كَبيرة وأمرَ الصّبي بأخذِها إلى السّوق لتّسعيرِها. عند عودته، أخبر الصبي السهروردي أن الأمير الحاكم، وهو الابن المراهق لصلاح الدين الأيوبي، عرض مبلغًا مذهلاً قدره 30 ألف دِرهم مقابل الجوهرة.

لإظهار مدى قلة تقديره للممتلكات المادية، حَطَّمَ السهروردي الجوهرة الثمينة على حجر، قائلاً إنه كانَ بإِمكانه بسهولة شِراءَ مَلابسَ أَفضل إذا أراد ذلك.

لم تكن تصرفات سهروردي مجرَّدَ إظهارٍ للامبالاة؛ بل عَكَسَت التزامهُ العَميق بأسلوبِ حياةِ الزهد. لقد تجنب بوعي أي شكل من أشكالِ التعلق. إذ تُروى قصصٌ عن ارتدائهِ لملابسَ بائسة في يوم وملابس مَلَكية في يومٍ آخر، وذلك لتجنبِ رَبطه بصور نمطية معينة عن الفلاسفة الزُّهاد.

أكدَّ رفض السهروردي الامتثال للتوقعات واحتضانه للمفارقة فهمه العميق للطبيعة البشرية والطريق الروحي. لقد كان صوفياً حقيقيًا، فيلسوفًا عاش تعاليمه إلى جانب التنظيرِ بها.

مع مرور الوقت، اجتذب السهروردي مجموعة من التلاميذ، وشاركهم ممارساته الصوفية ورؤاه الفلسفية. وكان للسهروردي علاقة وثيقة مع ابن صلاح الدين الأيوبي الملك الظاهر. ومع ذلك، فإن هذه الشعبية المتزايدة، إلى جانب علاقاته بالسلطة السياسية، جعلت علماء الدين قلقين من أفكاره المخالفة للدين برأيهم.

ومع نمو أفكاره وتأثيره، راوَدَ صلاحُ الدين الشعور بعدمِ الرّاحة بشكلٍ متزايدٍ من علاقة السهروردي الوثيقة بابنه، وبتحريضٍ من رجال الدين آنذاك أمرَ صلاحُ الدين بتنفيذِ حُكم الإعدام الذي أودى بحياة السهروردي ومثّل نهاية فصل فكري رائع في التاريخ الإسلامي. ولكن ما هي أفكار سيّد التنوير التي كلفته حياته؟

 

نورُ الأنوار

لم يُطلَق على السهروردي لقَب سيّدِ الإشراقِ منَ العَدَم، فقد آمن الفيلسوفُ الصوفيّ بأنَّ كلَّ شيءٍ في العالم مصدرهُ الضوءُ والظّلام. والضوء لدى السهروردي ليس ضوءًا ماديًا نراه، بل هو جوهرُ الكون غير المادي. ترسمُ فلسفة السهروردي صورة ساحرة للكون على أنه نسيج مترابط من الضوء، حيث ينبعث كل مستوى من المستوى السابق، مما يشكل رقصة كونية من الخلق والتجلي. إنها رؤية تدعونا إلى إدراك الكون ليس كمجموعة من الأجسام المنفصلة ولكن ككل موحد، مضاء بالجوهر المتألق للوجود نفسه.

تَخيل شلالًا كونيًا من الضوء، يتساقط من مصدرٍ متألقٍ أعلى الكون، هكذا صوّر لنا السهروردي خَلق الله للكون. كان يعتقد أن الله، في جوهره الأنقى، نورٌ يُبعثُ باستمرار ويَلِد أشكالًا أقل من الضوء، تمامًا مثلَ أشعة الشمس التي تضيءُ كلَّ ما تلمسه.

وللضوءِ دَرجات وأنواع تبدأُ بالضّوء المطلق، أو “نورُ الأَنوار”، الذي يمثلُ الله -سبحانه وتعالى-، الذي يتجلى دائمًا ويخلق أضواءً أخرى تنبثق منه – أي كل المخلوقات – وهذه الأضواء متمايزة ومترابطة كالبشر، كما يختلف جوهر الشمس عن أشعتها. فالأشعة المنبثقة تحتاج للشمس لوجودها ودونها يَعُمُّ الظّلام، وهكذا هي علاقة المخلوق بالخالق سبحانه، والعَكسُ غير صحيح، فالنورُ دائمُ الاشعاع، وكذلك الله في وجوده وخلوده دون الحاجة للبشر، لكنهم خُلقو والدنيا ليعكسوا قدرة الله اللامتناهية.

هذا الضوءُ غير المادي، هو شريانُ الحياةِ والوجود؛ إنها الشرارة التي تُشعل الوعي، وتمكننا من التعرف على أنفسنا وما يحيط بنا. كُلُّ ما ينبِضُ بالحياة في العالم المادي يستفيد من هذه القوة المضيئة، كالأرواح التي تُحيي البشر.

تدعونا فلسفةُ السهروردي إلى إدراك الواقع من خلال عدسة الضوء، والاعتراف بالترابط بين الوعي أو الله والإمكانات الكامنة للتنوير داخل جميع الكائنات. تقدم تعاليمه استكشافًا عميقًا لطبيعة الوجود، وتوجهنا نحو فهم أعمق لمكاننا في السيمفونية الكونية.

من كتاب "هياكل النور"، 1916، المكتبة الوطنية
من كتاب “هياكل النور”، 1916، المكتبة الوطنية

 

تظل فلسفة السهروردي مهمة ومؤثرة حتى اليوم، إذ يعد واحدًا من أكثر الفلاسفة تفردًا وإثارة في التاريخ، وقد ترك بصمة عميقة على الفلسفة الإسلامية وعلى الصوفيين والمفكرين حتى الآن. قد يطلق عليه لقب “الشيخ المقتول”، إلا أن أفكار السهروردي المثيرة ما زالت حية ومؤثرة حتى يومنا هذا.

جدل تكريم القبور: موقف ابن تيمية

كان ابن تيمية محط جدل واسع النطاق؛ إذ كان مع الفقهاء الذي حاربوا التصوّف وتبجيل الأولياء. في هذا المقال، نسلّط الضوء على بعض رسائله.

مخطوطة ثلاث رسائل،1327،متوفرة في المكتبة الوطنية

مخطوطة ثلاث رسائل لابن تيمية،1327،مجموعة يهودا، المكتبة الوطنية

على الرُّغمِ مِن أَنَّ حَرَكَةَ السّلفية مرتبطة في الوعي الشائع بمفاهيم الأصولية وفي بعض الأحيان بالمفهوم المُرَكّب للجهاد، إلا أنها تحتل موقعًا جذابًا في تحفة الإسلام المعاصر. في جوهرها، تتمثل السلفية في رغبة حارقة في العودة إلى أُصول الدين، التي جَسّدَها النّبي محمد – عليه الصّلاة والسلام- وسَلَفه من الخلفاء المبشرين. السلفيون، أتباع هذه الحركة، مدفوعون بمسعى لا هوادة فيه: تنقية الإسلام من خلال مواءمة ممارساتهم مع الأفكار الإسلامية التقليدية، والتي يدعمها التركيز على التفسير الحرفي للقرآن الكريم والحديث الشريف.

تعود جذور السلفية إلى فترة تاريخية بعيدة، حيث وجدت جذورها في أعمال شخصيات بارزة مثل ابن تيمية. وكانت مساعيه الحماسية تهدف إلى تطهير الإسلام من الانحرافات المتصورة، مما مهد الطريق لحركات مثل الوهابية، التي ظهرت خلال السنوات التكوينية للمملكة العربية السعودية.

تقيّ الدين ابن تيمية، كان فقيهًا حنبليًّا بارزًا في القرن الرابع عشر. تركزت دراسته على علوم القرآن والحديث والفقه والتفسير. أسس لأفكار مثيرة للجدل وانتقد بشدة بعض المعتقدات والعادات في زمانه، معتبرًا أن ضعف المسلمين في وجه الغزو المغولي نابع من ضعف العقيدة والدولة المملوكية. عُتقل عدة مرات بسبب إصلاحاته الدينية، فرأى أن القرآن والحديث هما المصادر الأساسية للإسلام. أثرت أفكاره على العلماء لاحقًا وعلى ظهور التيارات الفكرية مثل السلفية والإسلام الحركي.

للمزيد من مواد الإسلام الرقمية في المكتبة الوطنية

عاش ابن تيمية في دمشق في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، و تزامنت سنة ولادته، 1263، مع فترة من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية الهائلة. لقد كانت فترة أعقبت مباشرة السقوط الوحشي لبغداد في أيدي المغول، وكانت بمثابة علامة على زوال الخلافة العباسية وضربة قاصمة للسلطة والثقافة الإسلامية – وهي الحضارة التي كانت ذات يوم بمثابة منارة عالمية. لقد ظهر ابن تيمية في عالم هزته هذه الأحداث المذهلة، وعاش في عصر من الاضطراب وعدم اليقين الذي لم يشكل حياته فحسب، بل وجهات نظره أيضًا.

لم يكن ابن تيمية مجرد عالم دين تقليدي، بل كان يتحدى بجرأة الممارسات المعتمدة داخل المجتمع الإسلامي آنذاك، الذي كان ميالاً للتصوف والتشيع، معتبراً إياها تحريفاً للدين الحقيقي. لم يكتف ابن تيمية بالنقد فقط؛ بل شارك بحماس في المناظرات، وكتب أعمالاً موجزة وحادة تسلط الضوء على مخاوفه من حال الأمور في العالم الإسلامي.

لم يَتَساهل ابن تيمية مطلقًا فيما يتعلق بأي نوع من أنواع البِدَع (أي الشريعة المُبتَدَعة)، كانت معتقداته واضحة: إذا لم تكن فكرة أو ممارسة مرصودة من النبي محمد (عليه الصلاة السلام) أو الصحابة (السلف)، فليس لها مكان في الإسلام. هذا الموقف كان بعيدًا عن وجهة النظر السائدة في زمانه. فعلى الرغم من حذر الناس من إدخال تعديلات جديدة في الدين، كان الكثير من الابتكارات تُنظر إليها بصورة إيجابية وحتى يتم الترحيب بها.

أَدّى هذا المَوقف الصارم لابن تيمية ضد الممارسات التي اعتبرها بدعًا في الدين، وخاصة في الصوفية، إلى سجنه. كانت آراؤه حول الشريعة الإسلامية ومعارضته الثابتة لأي شكل من أشكال الابتكار فريدة من نوعها في عصره. وتعكس كتاباته تصنيفه الصارم للشريعة الإسلامية. فما هذه الممارسات التي اعتبرها ابن تيمية مُبتَدَعة في الإسلام؟

من تاريخ التصوّف


مسيلة القبور والاستنجاد بالمقبور

امتد انتقاد ابن تيمية إلى ممارسات صوفية محددة. فقد انتقد بشدة ممارسات مثل الذكر (ترديد متكرر لأسماء الله) والسما (التأمل الروحي الذي يتضمن الموسيقى)، إلى جانب مفاهيم مثل الفناء (إبادة الذات) المرتبطة بالتصوف. كان الأمر المثير للجدل بشكل خاص هو معارضته القوية لممارسة واسعة النطاق تتمثل في زيارة قبور الأولياء، وهي ممارسة راسخة في التاريخ الإسلامي وغالبًا ما ترتبط بالصوفية. لقد أدان هذا بشدة، خوفًا من أن يكون قريبًا جدًا من الشرك أو عبادة الأصنام.

مسيلة القبور والاستنجاد بالمقبور، 1750،متوفرة بالمكتبة الوطنية
مسيلة القبور والاستنجاد بالمقبور، 1750،متوفرة بالمكتبة الوطنية

 

وفقًا لابن تيمية، لم تكن هناك أماكن مقدسة بطبيعتها، وطلب المساعدة لا يمكن أن يكون إلا من الله مباشرة، رافضًا مفهوم الشفاعة من الميت. كان موقفه آنذاك مثيرًا للجدل إلى حد كبير، خاصة وأن الصوفية كانت الشكل السائد للإسلام في ذلك الوقت. ونهى عن الحج إلى هذه القبور والأضرحة إلا في حالة الزيارة العارضة أثناء السفر لغرض آخر، دون طلب فضل أو بركات من الأولياء والأنبياء. 

وعلى الرغم من أنه كان مرتبطًا تقنيًا بالمذهب الحنبلي، فإن ابن تيمية لم يكن خائفًا من كسر القالب. كان ينحرف كثيرًا عن وجهات نظرهم، وكان يثير الجدل في كثير من الأحيان بآرائه التي تعارض الأعراف المُعتمدة. ومع ذلك، أصبح أسلوبه الذي اتخذه أساسًا للسلفية، مما أثر بشكل كبير على التفكير الإسلامي المعاصر.

شعر ابن الفارض: سيمفونية الحب الصوفية

في هذا المقال، نكشف عن أبيات ابن الفارض التي تتجاوز الحدود الزمنية والثقافية، وتَكشف جوهر سعي الصوفية إلى الحب والوحدة مع الله.

مخطوطة "ديوان ابن الفارض"،نسخة من عام1665 ميلادي، متوفرة بالمكتبة الوطنية

مخطوطة "ديوان ابن الفارض"،نسخة من عام1665 ميلادي،متوفرة بالمكتبة الوطنية

يزخرُعالم ُالتّصوفِ دونَ شكٍ بالتنوع والجمال، ويحاولُ الصّوفيون، مع الحفاظِ على جوهرِ هذا التقليد، استلهام تعبيراتهم الفنّية من أشكال محلّية من الموسيقى والشعر متعدد اللغات، فتارة يستحضرون الطير وتارة أخرى الخمر والمحبوب، للتعبيرعن أعمقِ تجاربهم الرّوحية.

وضمنَ هذه اللوحةِ الصوفية، يبرزُ نجمٌ لامعٌ، قد يكون أهمَ وأشهرَ شاعرِ صوفيِّ عربيِّ في تاريخ الشعر الصوفي، وهو عمر بن أبي حسن المعروف بابن الفارض والملقب بـ “سلطان العاشقين”، الذي أبدع في قصائده بأسلوب ثوري يتجلى فيه جمال الوحدة والحب بطرق لم تجارِ بها الأقلام الأخرى قلَمَه. ولاتزال قصائده ُتحظى بشعبية ٍكبيرةِ حتى اليوم، خاصةً في وطنهِ مصر، حيث يتم غناءها في الجلسات الصوفية الرسميةِ وفي المجالس الشعبية.

 

صحيفة الإتحاد: 5 شباط 1991
صحيفة الإتحاد: 5 شباط 1991

 

التائية الكبرى

لم يسمى ابن الفارض بمحض الصدفة بـ “سلطان العاشقين”؛ إذ شَكّلُ الحُب القلبَ النابضَ لإبداعاته، وتكرر هذا المفهوم مجازياً وبشكلٍ مباشر في أشعاره. إذ تناولَ في العديد من أبياته موضوعَ العاشقِ والمحبوب، والرغبة الشغوفة للعاشق في الاقتراب والاتحاد مع المحبوب، أي الله سبحانه.

بينما تَحظى كلُّ إبداعاته بتقدير عالٍ، تُعتبر قصديته بعنوان ‘التائية الكبرى من أعماله الأكثر شهرة ، المعروفة أيضًا ب ‘نظم السلوك’1، أو قصيدة ُالطّريقِ الصّوفي. تعتبرهذه القصيدةُ أطول قصيدة صوفية في اللغة العربية، حيث تحتوي على 761 بيتًا. ولكن شهرتها ليست مرتبطة بطولها فقط، بل أيضًا لكونها واحدةً من أعظمِ التعبيراتِ عن الطريق الصوفي والوحدة الإلهية.

تبدأُ القصيدةُ كالعديدِ من قصائدِ الحبِ الأخرى، راسمةً مشهدًا يستحضرُ صورة النبيذ المُسكر والشوق العميق الذي يشعر به الشاعر نحو الحبيب. استخدم ابن الفارض في قصيدته، أسلوب شعري فريد ليعبر عن تجربته العميقة، حيث أدى حبه للمحبوب – الله سبحانه وتعالى – إلى حالة الثمالة .

 

سَقَتني حُمَيَّا الحُبَّ راحَةَ مُقلَتي   وَكَأسي مُحَيَّا مَن عَنِ الحُسنِ جَلَّتِ

وبالحَدَقِ استغنَيتُ عن قَدَحي ومِن   شَمائِلِها لا من شَموليَ نَشوَتي

ففي حانِ سُكري حانَ شُكري لِفِتيَةٍ    بِهِم تَمَّ لي كَتمُ الهَوَى مَعَ شُهرَتي

 

مخطوطة "ديوان ابن الفارض"، نسخة من عام1665 ميلادي
مخطوطة “ديوان ابن الفارض”، نسخة من عام1665ميلادي

في القسمِ الأولِ من القصيدة، يتوقُ الشاعرُ بشغفٍ للاتحاد مع المحبوب، الذي يُمثل الله. ما يثيرُ الاهتمام هو أن الله، المحبوب، يُشار إليه بالضمير المؤنث على مرالقصيدة، كما يُشار إلى الثمالة كتشبيه لنشوة الحب، حيث تنسجم مجازية العاشق والمحبوب في السرد بشكل جميل.

في البيت الخامس والثمانون، تأخذ القصة منعطفا دراماتيكياً؛ إذ ترفضُ المحبوبةُ الشاعرَ دون سابقِ إنذار. تباهى الشاعر في بدايةِ القصيدة بحبهِ الشديد وتفانيه المخلص وتحمّله للصعابِ وحتى عثورَهُ على متعةٍ فيها سعيًا للاتحاد مع الحبيبة. لكن أصبح من الواضح أن هذا الاحتفاء بالنفس كان مبنياً على الكِبْر وأنَّ حب الشاعر موجه في الأساس نحوه لا نحو المحبوب.

 

يوضح الحبيب بأن الشاعر يسعى للحب، بالتأكيد، ولكن من أجله، ليس من أجل المحبوب، ويشرح الحبيب أن الشاعر احتفظ بجزء من ذاته، وأنه لن يحب حقًا حتى يفقد نفسه بالكامل داخل الحبيب:

حليف غرام أنت لكن بنفسه   وإبقاك وصفا منك بعض أدلتي

فلم تهوني ما لم تكن في فانيا   ولم تفن ما لم تجتلي فيك صورتي

بعدَ هذا الرفض الجارح، يحدث تحول عميق في الشاعر؛ إذ تتواضع نفسُه و ُيدركُ خطأه و يصل إلى حالة تسليم كاملة، حيث يدرك أن السبيل الوحيد لتحقيق رغبة الحبيب هو إلغاء إرادته الشخصية تمامًا، لكي لا يبقى في قلبه شيء سوى الحبيب. عندها فقط يحقق الشاعر ما كان يبحث عنه طويلًا.

يكتب ابن الفارض في مخطوطته المنشورة عام 1665.

لها صلواتي بالمقامِ أُقيمها   وأشهَدُ فيها أنّها ليَ صَلّتِ
كِلانَا مُصَلٍّ واحِدٌ، ساجِدٌ إلى   حقيقَتِهِ، بالجمعِ، في كلّ سجدَة
وما كان لي صَلّى سِواي، ولم تكن     صلاتي لغيري في اذا كلِّ ركعة

مخطوطة "ديوان ابن الفارض"، نسخة من عام1665 ميلادي
مخطوطة “ديوان ابن الفارض”، نسخة من عام1665 ميلادي

تروي القصيدةُ قصةَ رحلة نحو الوحدانية مع الله، وتأخذنا عبر مراحل مختلفة من فهم الذات؛ إذ للقاء المحبوب -أي الله- يختبر الشاعرُ إلغاء النفس، لينصَهِرَ تمامًا مع الذات الإلهية، حيث تختفي جميع إشارات التعدد. وهذا ما يطلقُ عليه الصوفيون بـ “الفناء”.

ولكن بعد الفناء تأتي مرحلة “البقاء” في الله. عندها، يعود المتصوف من حالة النشوة إلى نوع آخر من الوضوح. يعود إلى ذاته في العالم الواقعي، لكنّ رؤيته للعالم تغيّرت. لم يعد ينظر إلى نفسه ككيان مستقل، وإنما كإظهار لذات الله. لم يعد وجوده محدودًا ومنفصلًا، بل أصبح واحدًا مع الواقع الذي يضم كل شيء في وحدته.

 

الحبُ الأبدي

تُعبرُ “التائية الكبرى” بجماليتها عن رحلة عميقة نحو المفاهيم الصوفية. يبرزُ الحَبّ كموضوع جوهريّ في القصيدة، إنه الحب الذي يدفع المحبوب للتخلي عن ذاته والانصهار مع ذات المحبوب ليشكلا ذاتاً واحدة. هذا الحب الذي يملأ قلب الصوفي الزاهد المستنير. من هذا المنظار، يكتشف الصوفي العالم بأكمله كنسيج محبوكٍ من الحب، والحب الذي يتحقق يمتد ليشمل جميع خلق الله. إنه حب لا نهائي في جوهره يتسع ليشمل الطبيعة وجميع كائنات العالم. إن هذا الحب، بكل ما يتضمنه من أهمية عميقة، يشكل نبض الواقع.

يقول الحديثُ القُدسي: “كُنتُ كنزاً مَخفياً فأحببتُ أن أُعْرَف فخَلَقتُ الخَلْقَ لكي أُعرف”