وُلِد العلّامة مرعي بن يوسف الكرميّ في طولكرم زمن الدولة العثمانية. كان من كبار أئمّة الحنابلة في الفقه، ومن المتحمّسين لأحمد بن حنبل، حيث قال: “لئن قلّد الناس الأئمة إنني لفي مذهب الحبر ابن حنبل راغب“. تعلّم في القدس، ثمّ في الجامع الأزهر بالقاهرة، وتولّى المشيخة بجامع السلطان حسن، حتّى توفي بالقاهرة ولم يتجاوز عمره 44 عامًا.
بعد غروب شمس يوم التاسع والعشرين من شعبان، يرصد المسلمون هلال رمضان، وهناك ثلاثة احتمالات: أن يُشاهد الهلال فيثبت رمضان، أن تكون السماء صافيةً ولا يُشاهد الهلال فيُكمَل شعبان ثلاثين يومًا، وأن تكون السماء غائمةً أو بالجوّ غبار، ما يحول دون رؤية الهلال إن كان موجودًا، فلا يُعرف على وجه اليقين إن كان اليوم التالي هو الثلاثين من شعبان أو الأوّل من رمضان، إذ يُحتَمَل الوجهان، وهذا ما يُسمّى بيوم الشكّ.
وقد اختلف الفقهاء المسلمون في صومه، سواءً كان واجبًا، أم غير واجب، أم مكروهًا، أم محرّمًا. وفي مخطوطته، يعتقد العلّامة الكرميّ بوجوب صومه “بنيّة رمضان احتياطًا” (حسب ما يروي عن أحمد بن حنبل)، مستدلًّا على ذلك بالعديد من الأدلّة النقليّة (من القرآن والأحاديث) والعقليّة المبنيّة على قواعد فقهيّة، والتي سنمرّ على أهمّها في مقالنا هذا.
يبدأ الكرميّ إيراد أدلّة مذهبه الحنبليّ مؤكّدًا أنّ الأهلّة (جمع هلال)، حسب القرآن، هي التي تحدّد بداية الشهور ونهايتها، لا العدد والحسابات الفلكيّة، ويورد حديثًا عن الرسول أخرجه البخاريّ يقول فيه: “إنّا أمّة أُمّيّة لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا، يعني مرّةً تسعة وعشرين (يومًا) ومرّةً ثلاثين”.
ثمّ يورد حديثًا آخر أخرجه أحمد برواية أيّوب بن نافع عن الصحابيّ عبد الله بن عمر عن الرسول: “إنّما الشهر تسعة وعشرون، فلا تصوموا حتّى تروه، ولا تفطروا حتّى تروه، فإن غمّ عليكم فاقدروا له”. ويفسّره بأنّ المقصود به أنّ “الشهر اللازم الدائم تسعة وعشرون (…) أمّا اليوم الزائد، فأمر جائز أن يكون في بعض الشهور، ولا يكون في بعضها”. ويضيف الكرميّ أنّ الأصل والأغلب بالشهور القمريّة أن يكون عدد أيّامها 29 يومًا، وأنّ بعض الأشهر قد تزداد يومًا إضافيَّا لتصبح 30 يومًا.
ثمّ يُكمل الكرميّ رواية نافع للحديث السابق، ويوردها دليلًا على رأيه بوجوب صوم يوم الشكّ، حيث يقول نافع بأنّ عبد الله بن عمر كان إذا رأى هلال رمضان في التاسع والعشرين من شعبان أصبح صائمًا، وإذا لم يرَه، وكان الجوّ صحوًا، أصبح مفطرًا، أمّا إذا كان في الجوّ سحابٌ أو قترٌ (غبار) أصبح صائمًا أيضًا. ويعتبر الكرميّ أنّ الصحابة (كابن عمر) هم الأعلم بتعاليم الرسول، وينبغي الرجوع إلى فهمهم لأقواله، ويورد مثلًا رأيًا فقهيًّا شائعًا مأخوذًا من ابن عمر، وهو أنّه إذا أراد تأكيد البيع وإلزام الطرف الآخر به، كان يغادر مجلس البيع، وهكذا لا يمكن التراجع عنه، فكما أُخِذ بفعله دليلًا في البيع، يجب الأخذ بصومه يوم الشكّ.
وكدليلٍ آخر على وجوب الصوم، يفسّر الكرميّ معنى “فاقدروا له” في قول الرسول المذكور سابقًا، بـِ “احكموا بطلوعه”، أي احكموا بطلوع هلال رمضان إذا غُمّ عليكم (إذا كان الجوّ غائمًا)، مستدلًّا على المعنى بآية ﴿قدرناها من الغابرين﴾، أي حكمنا بذلك.
من مخطوطة تحقيق الرجحان
ويقوم بفهم أحد الأحاديث الصحيحة الشهيرة التي تُستخدم عادةً كدليلٍ على عدم صوم يوم الشكّ، وعلى إكمال شعبان ثلاثين يومًا، بطريقةٍ مختلفةٍ عن العديد من الفقهاء، وهو قول الرسول: “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمّ عليكم فأكملوا العدّة”، وفي روايةٍ أخرى بنفس المعنى: “فعدّوا ثلاثين يومًا”. فيعتبر “أنّ هذه الأحاديث محمولة على الطرف الأخير، لأنّه أقرب المذكورَيْن”. وما يعنيه بذلك، أنّ جملة “إن غُمّ عليكم” تعود على هلال شوّال (هلال الفطر) لا هلال رمضان، لأنّ جملة “أفطروا لرؤيته” أقرب إليها من جملة “صوموا لرؤيته”، وهذه قاعدة معمول بها في علوم اللغة العربيّة، فكأنّ الحديث في رأيه هكذا: صوموا لرؤية هلال رمضان، وأفطروا لرؤية هلال شوّال، فإن غمّ هلال شوّال عليكم فأكملوا رمضان ثلاثين يومًا. ويستدلّ الكرميّ على فهمه بإحدى روايات هذا الحديث في صحيح مسلم، وهي: “إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمّ عليكم فصوموا ثلاثين يومًا” (لاحظوا أنّ الحمل على الطرف الأخير، لا يأخذ الكرميّ به عند تفسيره السابق لـِ “فاقدروا له” كما يفعل هنا، إذ اعتبر أنّ المقصود الحكم بطلوع هلال رمضان، لا شوّال، رغم كونه الأقرب).
ثمّ يورد عددًا من الأدلّة العقليّة والأمثلة الفقهيّة التي تدعم رأيه. أوّلها، أنّ إفطار يوم الشكّ متردّد بين احتمالَيْ الحرمة والإباحة، لأنّه إن كان الثلاثين من شعبان فإفطاره مباح، أمّا إن كان من رمضان فإفطاره حرام، فيجب حسب القواعد الفقهيّة ترجيح وقوع الحرام، والقيام بما يدفعه، وهو صوم يوم الشكّ واعتباره احتياطًا أوّل أيّام رمضان.
بعدها، يورد الكرميّ دليلًا آخر قد يبدو للوهلة الأولى دليلًا ضدّه (بسبب إكمال عدّة الشهر ثلاثين يومًا)، وهو الاتفاق على وجوب الصوم حين يغمّ الهلال في التاسع والعشرين من رمضان، لأنّ اليوم الذي يليه قد يكون الثلاثين من رمضان الواجب صومه، وقد يكون الأوّل من شوّال (عيد الفطر) الذي يحرم حسب الأحاديث النبويّة صومه، وهنا يتردّد الأمر بين الفرض والحرمة، فرض الصيام في الثلاثين من رمضان، وحرمة الصيام في الأوّل من شوّال، لكن كفّة صوم رمضان هي التي ترجح لأهمّيته، فيستنتج الكرميّ من ذلك أنّه من الأولى منطقيًّا صوم يوم الشكّ الذي يتردّد بين إباحة صوم الثلاثين من شعبان وفرض صوم الأوّل من رمضان (إذ لا وجود لاحتماليّة الحرمة هنا عند الصوم)، على صوم الثلاثين من رمضان (إذا غمّ الهلال) الذي يوجد فيه احتماليّة الحرمة.
ثمّ يأتي الكرميّ بعددٍ من الأمثلة الفقهيّة المجمع عليها في حالة الشكّ، من ضمنها: “إذا طلّق إحدى نسائه، ونسي عينها حرم الجميع”، ومعنى ذلك أنّه إذا طلّق رجلٌ إحدى زوجاته، ونسيَ أيّ واحدةٍ منهنّ تحديدًا التي طلّقها، فإنّ جميع زوجاته يُصبحن مطلّقاتٍ، ومحرّماتٍ عليه، وذلك لدفع احتماليّة الوقوع في الحرام.
تُجمِل الأمثلة والأدلّة السابقة رأي العلّامة الكرميّ كما عرضه في مخطوطته “تحقيق الرجحان بصوم يوم الشكّ من رمضان”. وخلاصة رأيه، الذي يخالف رأي العديد من الفقهاء باختلاف مذاهبهم، هو وجوب صومه بنيّة رمضان احتياطًا، لتفادي احتمال وقوع الحرام؛ أي الإفطار في يومٍ قد يكون الأوّل من رمضان.