لمفهوم السّفر مكانة خاصّة في التّصوّف الإسلامي. يترك الإنسان كل ما هو مألوف وثابت ويمضي بجسده إلى المجهول، ويرجو من خلال هذا التزهّد أن تتكشّف له الحقائق عن الوجود وعن الخلق وعن نفسِه وأن يرتقي بروحه مع الله. كما أنّه اتّباع حرفيّ للعديد من الآيات القرآنيّة الّتي تحثّ على “السير في الأرض” والتأمّل بها، حتّى أن بعض المتصوّفة اعتبروا في ذلك اقتداء لسنّة الرّسول في هجرته واستلهامًا لسنوات شبابه حين كان يسافر في تجارته ويتأمّل وحيدًا. وعبر القرون شاع وصف الكثيرين ممّن سلكوا هذا المسعى بالـ “دراويش”؛ والدرويش من يطوف ويعبر المدن والمجتمعات ولا يمكث بها، لكنّه يترك بها ذكرى تزهّده وبساطته في الحياة.
سيرة ابن عربي رغم تفرّد فلسفته وإرثه الأدبي ليست استثناء أيضًا. فقد أمضى ابن عربي سنوات نضوجه كلّها في السّفر والكتابة. من مرسية الأندلسيّة الّتي وُلد فيها عام 1165م، بدأ ابن عربي مسيرته حين كان يتجوّل بين المدن الأندلسيّة وعلمائها ومن ثم في شمال إفريقيا وفلسطين ومن هناك إلى مكّة والعراق والأناضول إلى أن استقرّ في دمشق الّتي أحبّها بشكلٍ خاص، وتوفّي فيها عام 1240م. وعلى امتداد رحلته هذه، أنتج مئات المؤلّفات الّتي نجي منها الكثير الى اليوم، ونستطيع من خلالها اليوم جمع مشاهد ومحطات في حياته لنتخيّل مسارها بين مرسية ودمشق.
لم تكن نشأة ابن عربي تتنبأ بأن يكون من شيوخ الصّوفيّة، فقد وُلد لعائلة ميسورة في مرسية في الأندلس، حيث كان والده من رجال بلاط الحاكم في مرسية حينها وبقي كذلك حتّى فرّ مع عائلته هربًا من حكم الموحّدين إلى إشبيلية. وخلال تلك السّنين، تلقّى ابن عربي الصّبي تعليمًا متنوّعًا في مختلف علوم الدّين الإسلاميّ ودرس كافّة توجّهات شيوخ الأندلس في حينها. إلّا أنه لم يكن ميالًا في بادئ الأمر للتصّوف والزّهد، بل كان يشغل نفسه بالآداب ورحلات الصّيد الّتي رافقه بها خدم أبيه، كما نال وظيفة كاتب في بلاط حاكم إشبيلية وتزوّج. إلا أنّه في تلك السّنوات كانت دائمًا ما تراوده رؤى وتظهر له إشارات عديدة تدعوه لشيء لم يفهمه، ممّا سبّب له أزمة روحيّة لم يدر كيف يتعامل معها. ويرجّح بعض الباحثين أن وفاة أبيه كانت عاملٌ رئيسيّ بحسم تلك الأزمة واتّجاهه نحو “طريق الكشف”.
كانت قرى الأندلس ومدنها “المسرح الأول لتجوال ابن عربي” بوصف أسين بلاثيوس، أحد المستشرقين الّذين كتبوا سيرة ابن عربي، ففي إشبيلية تعلّم مختلف العلوم والآداب وتزوّج واطّلع على الطّرق الصّوفية، ومنها بدأ تجواله في الأندلس بين القرى والمدن ليتعلّم ويعلّم ويناقش مّما أذاع سيطه في الأندلس. حتّى أنّ ابن عربي يذكر أنّه في إحدى زياراته إلى قرطبة وحين كان لا يزال في أول شبابه، التقى بابن رشد وقد كان قاضي المدينة حينها، وقد استقبله بلهفة لما سمعه عنه وسأله إذا ما كان طريق “الكشف” قد أفضى به إلى ما وصل إليه طريق “النظر” أي طريق ابن رشد في الفلسفة والمنطق.
في ذلك الوقت كان يعلم ابن عربي أنّه سلك طريق “الروح”، وكان يبلغ قرابة الحادية والعشرين عامًا كما أشار في مؤّلفه العظيم “الفتوحات المكّية” لاحقًا. وهذه المكانة والشّهرة وضعته ككلّ رجل علم ذو سيط في ذلك الزّمان أمام تحدّي التّعامل مع السّلطة الّتي لم يرغب بالتّقرب منها. كما أنّه كان دائم الشّعور بأن عليه الابتعاد والسّفر، وهو الأمر الذّي شجّعته عليه الرؤى التّي كانت تشجّعه ليزور مكّة، وتعده بأنّ رفيقًا ينتظره في فاس.
خلال تنقلاته، مكث في مكّة ثلاث سنوات وهناك وصلت حكمته ومعرفته الرّوحيّة لأوجها وباتت رؤاه أكثر وضوحًا، فشرع بتأليف الفتوحات المكّية الّذي استمرّ في كتابته سنين طوال، ودوّن فيه يومياته الرّوحيّة كلّها، بالإضافة إلى قصائد الحب في ديوانه “ترجمان الأشواق”.
خلال رحلاته العديدة، تتلمذ ابن عربي على يد الكثيرين كما درّس الكثيرين، ومن رسائلة في المكتبة الوطنيّة “روح القدس في مناصحة النّفس” وقد أرسلها أثناء مكوثه في مكّة إلى أبي محمّد بن أبي بكر القرشيّ في تونس والّذي وصفه بالصّديق.
إلّا أنّه لاقى كذلك العداوة في الطريق، فكان هنالك من كفّره أو أنكر طريقه واتّهمه بالفساد أو حتّى حرّض عليه، أما المكان الّذي وجد به السّكينة واستقرّ فيه فهي مدينة دمشق، حيث كانت حاضرة علميّة هامّة في حينها، كما أنه وجد بها الاحترام والظّروف المناسبة ليقضي سنواته الأخيرة ليختتم كتابه “الفتوحات المكّية” ويضع مئات المؤلّفات الإضافيّة كذلك.
توفّي ابن عربي عام 1240م في دمشق ودُفن في الصّالحيّة حيث مقامه ومسجده إلى اليوم. وقيل على لسانه في السّفر :”المؤمن في سفرٍ دائم، والوجود كلّه سفرٌ في سفر”.
للاطلاع على كامل أعمال ابن عربي، تصفحوا بوابة ابن عربي المعرفية على موقع المكتبة.