من مرسية إلى دمشق: رحلة ابن عربي

خلال رحلاته العديدة، تتلمذ ابن عربي على يد الكثيرين كما درّس الكثيرين، ومن رسائلة في المكتبة الوطنيّة “روح القدس في مناصحة النّفس”.

روح القدس في مناصحة النفس

لمفهوم السّفر مكانة خاصّة في التّصوّف الإسلامي. يترك الإنسان كل ما هو مألوف وثابت ويمضي بجسده إلى المجهول، ويرجو من خلال هذا التزهّد أن تتكشّف له الحقائق عن الوجود وعن الخلق وعن نفسِه وأن يرتقي بروحه مع الله. كما أنّه اتّباع حرفيّ للعديد من الآيات القرآنيّة الّتي تحثّ على “السير في الأرض” والتأمّل بها، حتّى أن بعض المتصوّفة اعتبروا في ذلك اقتداء لسنّة الرّسول في هجرته واستلهامًا لسنوات شبابه حين كان يسافر في تجارته ويتأمّل وحيدًا. وعبر القرون شاع وصف الكثيرين ممّن سلكوا هذا المسعى بالـ “دراويش”؛ والدرويش من يطوف ويعبر المدن والمجتمعات ولا يمكث بها، لكنّه يترك بها ذكرى تزهّده وبساطته في الحياة.

سيرة ابن عربي رغم تفرّد فلسفته وإرثه الأدبي ليست استثناء أيضًا. فقد أمضى ابن عربي سنوات نضوجه كلّها في السّفر والكتابة. من مرسية الأندلسيّة الّتي وُلد فيها عام 1165م، بدأ ابن عربي مسيرته حين كان يتجوّل بين المدن الأندلسيّة وعلمائها ومن ثم في شمال إفريقيا وفلسطين ومن هناك إلى مكّة والعراق والأناضول إلى أن استقرّ في دمشق الّتي أحبّها بشكلٍ خاص، وتوفّي فيها عام 1240م. وعلى امتداد رحلته هذه، أنتج مئات المؤلّفات الّتي نجي منها الكثير الى اليوم، ونستطيع من خلالها اليوم جمع مشاهد ومحطات في حياته لنتخيّل مسارها بين مرسية ودمشق.

لم تكن نشأة ابن عربي تتنبأ بأن يكون من شيوخ الصّوفيّة، فقد وُلد لعائلة ميسورة في مرسية في الأندلس، حيث كان والده من رجال بلاط الحاكم في مرسية حينها وبقي كذلك حتّى فرّ مع عائلته هربًا من حكم الموحّدين إلى إشبيلية. وخلال تلك السّنين، تلقّى ابن عربي الصّبي تعليمًا متنوّعًا في مختلف علوم الدّين الإسلاميّ ودرس كافّة توجّهات شيوخ الأندلس في حينها. إلّا أنه لم يكن ميالًا في بادئ الأمر للتصّوف والزّهد، بل كان يشغل نفسه بالآداب ورحلات الصّيد الّتي رافقه بها خدم أبيه، كما نال وظيفة كاتب في بلاط حاكم إشبيلية وتزوّج. إلا أنّه في تلك السّنوات كانت دائمًا ما تراوده رؤى وتظهر له إشارات عديدة تدعوه لشيء لم يفهمه، ممّا سبّب له أزمة روحيّة لم يدر كيف يتعامل معها. ويرجّح بعض الباحثين أن وفاة أبيه كانت عاملٌ رئيسيّ بحسم تلك الأزمة واتّجاهه نحو “طريق الكشف”.

كانت قرى الأندلس ومدنها “المسرح الأول لتجوال ابن عربي” بوصف أسين بلاثيوس، أحد المستشرقين الّذين كتبوا سيرة ابن عربي، ففي إشبيلية تعلّم مختلف العلوم والآداب وتزوّج واطّلع على الطّرق الصّوفية، ومنها بدأ تجواله في الأندلس بين القرى والمدن ليتعلّم ويعلّم ويناقش مّما أذاع سيطه في الأندلس. حتّى أنّ ابن عربي يذكر أنّه في إحدى زياراته إلى قرطبة وحين كان لا يزال في أول شبابه، التقى بابن رشد وقد كان قاضي المدينة حينها، وقد استقبله بلهفة لما سمعه عنه وسأله إذا ما كان طريق “الكشف” قد أفضى به إلى ما وصل إليه طريق “النظر” أي طريق ابن رشد في الفلسفة والمنطق.

في ذلك الوقت كان يعلم ابن عربي أنّه سلك طريق “الروح”، وكان يبلغ قرابة الحادية والعشرين عامًا كما أشار في مؤّلفه العظيم “الفتوحات المكّية” لاحقًا. وهذه المكانة والشّهرة وضعته ككلّ رجل علم ذو سيط في ذلك الزّمان أمام تحدّي التّعامل مع السّلطة الّتي لم يرغب بالتّقرب منها. كما أنّه كان دائم الشّعور بأن عليه الابتعاد والسّفر، وهو الأمر الذّي شجّعته عليه الرؤى التّي كانت تشجّعه ليزور مكّة، وتعده بأنّ رفيقًا ينتظره في فاس.

خلال تنقلاته، مكث في مكّة ثلاث سنوات وهناك وصلت حكمته ومعرفته الرّوحيّة لأوجها وباتت رؤاه أكثر وضوحًا، فشرع بتأليف الفتوحات المكّية الّذي استمرّ في كتابته سنين طوال، ودوّن فيه يومياته الرّوحيّة كلّها، بالإضافة إلى قصائد الحب في ديوانه “ترجمان الأشواق”.

خلال رحلاته العديدة، تتلمذ ابن عربي على يد الكثيرين كما درّس الكثيرين، ومن رسائلة في المكتبة الوطنيّة “روح القدس في مناصحة النّفس” وقد أرسلها أثناء مكوثه في مكّة إلى أبي محمّد بن أبي بكر القرشيّ في تونس والّذي وصفه بالصّديق.

"روح القدس في مناصحة النّفس"
“روح القدس في مناصحة النّفس”

 

إلّا أنّه لاقى كذلك العداوة في الطريق، فكان هنالك من كفّره أو أنكر طريقه واتّهمه بالفساد أو حتّى حرّض عليه، أما المكان الّذي وجد به السّكينة واستقرّ فيه فهي مدينة دمشق، حيث كانت حاضرة علميّة هامّة في حينها، كما أنه وجد بها الاحترام والظّروف المناسبة ليقضي سنواته الأخيرة ليختتم كتابه “الفتوحات المكّية” ويضع مئات المؤلّفات الإضافيّة كذلك.

توفّي ابن عربي عام 1240م في دمشق ودُفن في الصّالحيّة حيث مقامه ومسجده إلى اليوم. وقيل على لسانه في السّفر :”المؤمن في سفرٍ دائم، والوجود كلّه سفرٌ في سفر”.

للاطلاع على كامل أعمال ابن عربي، تصفحوا بوابة ابن عربي المعرفية على موقع المكتبة. 

الظاهر بيبرس والرواية الشامية

المخطوطة النادرة "سيرة الظاهر بيبرس": مادة قيمة وملفتة توثق سيرة الظاهر بيبرس من سيرته كما رواها الحكواتيين وكما أراد الناس سماعها؛ قصة أسطورية مليئة بالتشويق والمبالغات اللطيفة

تشكل المخطوطة النادرة “سيرة الظاهر بيبرس” والمحفوظة في أرشيف المكتبة الوطنية الاسرائيلية في القدس مادة قيمة وملفتة، فهي لا توثق سيرة الظاهر بيبرس كما جاءت على لسان المؤرخين والكتاب، بل توثق جانباً من سيرته كما رواها الحكواتيين وكما أراد الناس سماعها: قصة أسطورية مليئة بالتشويق والمبالغات اللطيفة. ولكي تكون كذلك كان على الحكواتيين كتابتها بلغة الناس، ولذلك فالمخطوطة أدناه هي من المخطوطات القليلة التي كتبت باللغة العامية والتي توفر مادة غنية ومميزة حول الظاهر بيبرس وحول اللغة العامية التي استخدمت لسرد قصته.

                                                                                                                                           لقراءة المخطوطة

لا شك أن الظاهر بيبرس (1223 – 1277) قد شكل أسطورة في بلاد الشام تداولها الناس لعشرات السنين، حول شخصيته حيكت الأساطير وكتبت القصص والروايات، ووصل الكثير منها حد المعجزات. كان الظاهر بيبرس قد ذاع سيطه بعد سيرة عسكرية مليئة بالنجاحات. وربما يكون أحد أشهر الحكام المسلمين بعد صلاح الدين الأيوبي، حيث قارن الناس بينهما دوماً فهو أيضاً قاتل الصليبين، وهو من أدار معركة عين جالوت القريبة من بيسان عام 1260 تحت قيادة سيف الدين قطر، حيث استطاع تحقيق انتصار ساحق على المغول وكان القائد الذي استطاع اخضاع الصليبيين وإخراجهم تماماً من البلاد لتصير عين جالوت ومعارك بيبرس الأخرى رمزًا للفرج والخلاص في الخيال الإسلامي.

 

أفعال الظاهر بيبرس وشخصيته شكلت مادة مهمة للباحثين والمؤرخين والكتاب على مر التاريخ، لكن قصته كانت مهمة أيضاً للناس أنفسهم والذين رأوا به شخصية بطولية حررتهم وأنقذتهم لذلك فالناس أيضاً تداولوا قصته وحولوه إلى بطل شعبي، لكن القصة في أفواه الناس ولغتهم مختلفة دوماً، فالأحداث الكبرى مُلك المؤرخين أما التفاصيل فهي ملكها تضيف إليها وتغيرها وتبدلها، بهذا الأسلوب التقط الحكواتيون هذه الحكايات وحولوها إلى قصص جميلة أضافوا إليها اللغة الشعرية، والموسيقى الصوتية مع أسلوب تمثيلي وتشويقي مميز مع استخدام العصا (عصا الحكواتي) والملابس المزركشة التي يلبسونها لإضفاء نوع من الواقعية.


                                       أبيات شعر من مخطوط “سيرة الظاهر بيبرس” لقراءة المخطوطة

الجزء هذا من سيرة الظاهر بيبرس يوثق  قصة مهاجمة المماليك في فترة الظاهر بيبرس، وفتح مدينة سيس عاصمة مملكة أرمينيا الصغرى على يدهم وتشمل بطولات الظاهر بيبرس وصديقه جمال الدين شيحة  المقاتل المملوكي الشهير. وهي جزء من الروايات الشعبية، ولكل منطقة روايتها الخاصة فهناك “سيرة الظاهر بيبرس – الرواية الشامية” وهناك “الرواية المصرية” وربما تكون هذه المخطوطة هي جزء من “الرواية الفلسطينية”.

بغض النظر عن منشأ القصة هذه، لكنها تظل جزءاً من الثقافة الشعبية لسكان المنطقة، تداخل فيها الواقعي مع الخيالي والتاريخية مع الأسطوري.  بحيث بات من الصعب التمييز بين الحقيقي والخيالي وهو ما دفع الكثير من المؤرخين إلى إعادة كتابة سيرة الظاهر بيبرس لتبيان الحقيقة لهم، كمحاولة المربي ضياء الدين الخطيب والذي حاول في مقالته “الملك الظاهر بيبرس” والتي نشرتها في مجلة الكلية العربية عام 1934 توضح السيرة الحقيقية لبيبرس كي لا تختلط على الناس.

 

 

الخطيب، ضياء الدين. الملك الظاهر بيبرس. مجلة الكلية العربية، العدد الثاني، 28 شباط 1934. ص 132
الخطيب، ضياء الدين. الملك الظاهر بيبرس. مجلة الكلية العربية، العدد الثاني، 28 شباط 1934. ص 132

 

لقراء المجلة كاملة

سيرة الظاهر بيبرس وتفاصيلها لا تزال حتى اليوم تشكل جزءاً من ثقافة بلاد الشام، بعض هذه القصص حقيقية وبعضها قد لا نعرف يوماً مدى مصداقيتها، لكن آثار المباني والعمارة التي أنشأها تظل حقيقة تاريخية لا يمكن التشكيك بها مثل قلعة ومسجد صفد، إضافة لقلعة النمرود الذي أعاد بناءها وأضاف إليها جسراً ومنارة وجامع، ومقام النبي موسى على طريق القدس، إضافة لـ “خان الظاهر” في القدس والذي لم يعد موجوداً اليوم ولكن الفهود التي زينته، نقلت أثناء ترميم السور لتعتلي القسم العلوي من باب الأسباط حيث لا تزال تعتلي باب المدينة حتى يومنا هذا وهذه الأسود هي شعار حكم بيبرس نظراً لاسمه (بي – برس) وبرس تعني الفهد.

باب الأسباط، بداية القرن العشرين، أرشيف تروتر ريد. المكتبة الوطنية الاسرائيلية
باب الأسباط، بداية القرن العشرين، أرشيف تروتر ريد. المكتبة الوطنية الاسرائيلية

 

الصور الكثير المحفوظة في أرشيف المكتبة الوطنية الاسرائيلية توثق جانباً مهماً من عمائر الظاهر بيبرس في البلاد ومرجعاً تاريخياً إضافياً لدراسة حقبته، كإحدى الشخصيات التاريخية التي تركت أثراً ملحوظاً في البلاد، كما تزخر المكتبة بعشرات الكتب والمخطوطات التي تضيء جوانباً مختلفة من حقبته ومن شخصيته، إن قراءة جديدة لتاريخ الظاهر بيبرس “التاريخي”، وقراءته كما جاء على لسان الناس من خلال المخطوطة أعلاه معاً يشكل مدخلاً مهماً لفهم التحولات والبناء الشعبي للقصة التاريخية وهي مهمة تستحق البحث والتفكير، ولكن تظل المخطوطة المذكورة مرجعاً ملفتاً ومهماً يستحق البحث.

البحث عن المسحّراتي يعقوب مراد

تعرفوا على شخصية المسحراتي اليهودي الذي تغنى بحب التقاليد والعادات العربية والإسلامية بشهر رمضان الفضيل ضمن مجموعة الموسيقيين في راديو إذاعة صوت إسرائيل

يعقوب مراد يعزف الرّق ويغنّي، على يساره صديقه وزميله في فرقة "الكروان" سليم ندّاف، أرشيف سليم ندّاف.

 

 

         مصدر الصورة : من كتيّب “الأغاني الدّينيّة ليهود العراق”، مركز تراث يهود بابل، أرشيف المكتبة الوطنيّة.

لا شكّ أن دور المسحّراتي لم يولد ويتشكّل كما هو اليوم على يد شخصٍ واحدٍ أو في حقبة معيّنة يمكننا الإشارة إليها بسهولة، كما أن طبيعة الدّور تختلف بين منطقةٍ جغرافيّة وأخرى وبين حقبةٍ وأخرى.

فالمسحّراتي أحد التقاليد الكثيرة الّتي اتلفّت وتكوّنت حول العبادات والمعاني الرّوحيّة عبر مئات السّنين ومختلف المجتمعات الإسلاميّة بعفويّة، كالفانوس والزّينة والمأكولات الرّمضانيّة والحلويّات الّتي تستقرّ في ذاكرتنا ونجدها تتغيّر وتزداد غنىً وتنوّعًا عام بعد عام. وقد وجد تقليد المسحراتي طريقه كذلك إلى الرّاديو والتلفاز في سبعينيّات القرن الماضي، كما يجد طريقه إلى التطبيقات الإلكترونيّة اليوم. ولكن، هل يستبدل التّسجيل طرقة الباب وصوت المسحّراتي وهو ينادي باسم عائلتكم ويمازحكم بأغنياته؟ وهل نجح المنبّه والهاتف بتحويل المسحّراتي من شخصٍ نعرفه ونألفه إلى فكرة نحبّها ونتذكّرها بدفء؟ وماذا نفعل حين نفتقد المسحراتي؟ أو حين نعيش في مكانٍ لا مسحّراتي فيه؟

أردنا في المكتبة الوطنيّة تقفّي أثر مسحّراتيّا حُفظ صوته منذ عام 1972 بإحدى تسجيلات إذاعة “صوت إسرائيل بالعربيّة” المؤرشفة في المكتبة، على سبيل عدم تجريد المسحّراتي من كونه شخص حقيقيّ، وعلى سبيل الفضول والاستكشاف.  ففي البوابة الرّقميّة حول شهر رمضان في موقع المكتبة، تجدون من بين التّسجيلات واحدًا بعنوان “مسحّراتي”. قد يشدّكم صوت المسحّراتي إذا نقرتم على التّسجيل وتجدون اسمه كما يظهر بالعبريّة في بيانات المادّة “ياعكوف مراد”، وتتسائلون كما فعلنا: هل كان المسحّراتي يهوديًا؟ هل كانت أصوله مغربيّة أم مصريّة أم عراقيّة؟ ولماذا كان يؤدّي دور “مسحراتي” على إذاعة صوت إسرائيل؟

للاستماع للتّسجيل، اضغطوا هنا.

على الطريقة التقليديّة، بدون آلات موسيقيّة سوى الطّبلة الصغيرة، تبدأ الطبلة برنّة السّحور الشّهيرة- خمس ضربات متواضعة تصمت الطّبلة بعدها لينطلق بالغناء منفردًا، فلا نسمع سوى صوت المسحّراتي، تمامًا كما يكون الحال في الأزقّة والحارات قبل آذان الفجر في رمضان. الصّوت نديّ وهادئ، العُرب منسابة والكلمات عفويّة وبسيطة، فيقول ما هو مألوف مرّة “سحورك يا صايم، قوم وحّد الدّايم”، وينادي العمّ “حسين” والسيّد “عطيّة” مرّة، كأنه معتاد على الدّور، يتنقّل بين الطّبقات بطربيّة وخفّة عالية، ينخفض بصوتٍ جهور كأنه يتلو القرآن ثمّ يرتفع كأنّه يغنّي ألحانًا غزليّة لعبدالوهاب. المؤكّد أن من يؤدّي هذا التّسجيل متمرّس في الغناء العربيّ ولا سيّما المصريّ بدرجة ملفتة.

إذا كتبتم بالعربيّة “يعقوب مراد” على محرّك البحث “جوجل” سيأخذكم مباشرة إلى يعقوب مراد الكاتب والصّحافيّ السّوريّ فتفهمون مباشرة أنّه ليس الرّجل المطلوب، وأن من تبحثون عنه ليس واسع الشّهرة. واذا استغرقتم في التّصفّح قليلًا كما فعلنا، ستجدون بعض الصّور لرجل يحمل عودًا، مستدير الوجه وممتلئ الكتفين، وكثير من الفيديوهات اليوتيوبيّة والتّسجيلات الصّوتيّة المنشورة على منتديات محبّي التّراث العراقي تحمل اسم “الموسيقار اليهوديّ يعقوب مراد العمّاري”، وغالبًا ترتبط عناوينها بأغانٍ تراثيّة عراقيّة، المقام العراقي والجالغ البغدادي، أغاني الأعراس والطّرب وأغانيات أخرى قام العمّاري بتلحينها ونظمها بنفسه. فهل يكون المسحّراتي هو نفسه يعقوب مراد العمّاري؟ أو كما سّمّي بالعبريّة بعد تركه إذاعة بغداد وهجرته للبلاد، بار-ناي (أي ابن النّاي) العمّاري؟

تنتبهون بعد وهلة أن فارق الصّوت جليًا، كما أن الأداء العراقيّ المشدود للعمّاري يبتعد كثيرًا عن الطّربيّة المصريّة المنسابة في تسجيل “المسحراتي”. وعند محاولة البحث بالعبريّة، تظهر لكم عشرات الفيديوهات لشخصٍ أسمر طويل لا يشبه العمّاري، مستطيل الوجه ويرتدي نظّارة سميكة، يغنّي جالسًا في الأعراس والحفلات وأمامه طبلة ينقرها بعصاتين صغيرتين أو يحمل دفًا، في بعض الفيديوهات يعزف الإيقاع فقط، وفي بعضها تجدونه يغنّي “يا وابور قلّي” لعبد الوهاب، و”حبيبي يسعد أوقاته” لزكريا أحمد، و”اشكي لمين” لبليغ حمدي. يتنقّل بين المقامات بسلاسة، يؤدّي بهدوء وهو مغمض العينين تارة ويعلو بصوته تارة أخرى كما في تسجيل المسحّراتي. إنه يعقوب مراد، عازف الإيقاع والمغنّي في الفرقة الموسيقيّة لإذاعة “صوت إسرائيل بالعربيّة” منذ سنوات الخمسينيّات.

لم نجد الكثير حول يعقوب مراد، فلم نجد موادًا تحمل اسمه سوى تسجيلًا إضافيًا كمسحّراتي في الإذاعة، محفوظاً في المكتبة الوطنيّة كذلك، وصورة صغيرة له إلى جانب بقيّة أعضاء الفرقة في أحد منشورات “مركز تراث يهود بابل” حين قاموا باطلاق تسجيلات لمجموعة من الأغاني الدّينيّة ليهود بابل واشترك في أدائها مراد فتم إرفاق صورته على ظهر الغلاف مع بقيّة العازفين ومنهم “صالح الكويتي”، عازف الكمان والملحّن العراقيّ الشّهير الّذي بدأ مشواره في إذاعة بغداد قبل أن يهاجر إلى البلاد.

ولد يعقوب مراد في بغداد عام 1938، كان يعاني من ضررٍ في عينيه فكانت رؤيته شديدة الضّبابية. كما يحدّثنا صديقه وعازف الكمان إلى جانبه سليم ندّاف، كان الغناء والسّمع الطّربيّ ملاذًا للكثيرين ممن يعانون من إعاقة بصريّة في ذلك الوقت، فلا يذهبون للسينما مثلًا كأبناء جيلهم. كان يجلس يعقوب الطفل على قهوة في بغداد وينتظر أغاني عبدالوهاب الّتي كان مولعًا بها حتّى حفظها كلّها، ممّا يفسّر أداءه المصريّ وابتعاده عن الغناء العراقيّ، حتّى أن صديقه ندّاف يذكر أن مراد كان يتكلّم باللهجة المصريّة في حياته اليوميّة لشدّة حبّه لها.

يعقوب مراد يعزف الرّق ويغنّي، على يساره صديقه وزميله في فرقة "الكروان" سليم ندّاف، أرشيف سليم ندّاف.
يعقوب مراد يعزف الرّق ويغنّي، على يساره صديقه وزميله في فرقة “ليالي زمان” سليم ندّاف، أرشيف سليم ندّاف.

كان يبلغ من العمر أربعة عشر عامًا حين وصل إلى البلاد مع بعض أفراد أسرته. التحق بإذاعة صوت إسرائيل وبعض الفرق الموسيقيّة الشّرقيّة الّتي كانت تؤدّي في أعراس ومناسبات اليهود القادمين من بلدان عربيّة. توفّي يعقوب مراد في الثّامن والعشرين من شباط عام 1994، ولم يخلّف لنا سوى تسجيلات المسحّراتي، وعشرات الفيديوهات وهو يغنّي أغاني مصريّة وتحتها تعليقات بالعبريّة؛ تترحّم عليه وتلقّبه بعبد الوهاب اليهودي.

مدفع رمضان – في بعديه الروحاني والسياسي

شكّل مدفع رمضان جزءً من الثقافة العربية في البلاد؛ حيث كان له طقوسه الخاصة التي تجاوزت في الكثير من الأحيان غاياتها الدينيّة والاجتماعيّة لأهداف سياسيّة. المقال يستعرض تقاليد وطقوس مدفع رمضان في البلاد.

بغضّ النظر عن أصل منشأ مدفع رمضان الحقيقيّ وتعدّد الروايات حول ذلك، إلا أنّ المعلومات التي نملكها تشير وبشكل واضح أنّه قد استخدم بشكل منتظم منذ فترة محمد علي باشا أي قبل أكثر من مائة وخمسين عامًا، حيث كان التحول المُهم في تلك الفترة في إعلان بدء الصوم وانتهاءه، خاصة في فترة لم يكن فيها بعد كهرباء، ولا تلفاز، ولا مذياع ولا تواصل تكنولوجيّ.

مجلة المنتدى. 26 حزيران 1946

شكّل مدفع رمضان جزءً من الثقافة العربية في البلاد أيضًا، حيث كان له تقاليد وطقوسه الخاصة التي تجاوزت في الكثير من الأحيان غاياتها الدينيّة والاجتماعيّة نحو تحقيق غايات سياسيّة، قسم منها كانت مهمّة للمسلمين فيما كانت بعضها مهمة للسلطات البريطانيّة لتحقيق أهدافها وماربها عبر مدفع رمضان.

كان الأمر يجري سنويًّا وذلك من خلال تقاليد المدفع، حيث كانت السلطات البريطانية تقوم بتسليم المدفع لرئيس البلدية أو للمجلس الاسلاميّ الأعلى وسط احتفالات مهيبة تُلقى فيها الخطابات، ويُرتل القرآن، وتوزع الحلويات.

جريدة فلسطين. 6 تشرين أول 1945

قراءة سريعة التقرير أعلاه كافية لأن تعطينا صورة واضحة عن تفاصيل الحدث واجراءات التسليم، حيث يلتقي المسؤولون البريطانيّون مع القيادة الدينيّة والسياسيّة للفلسطينيّين، ثم يقوم القائد العام بتسليم المدفع لرئيس البلدية في المدن أو لرئيس المجلس الأعلى في القدس لما لها من رمزيّة دينيّة، ثم يلقى القائد البريطاني العام كلمة يرد عليه بعدها رئيس البلدية، ثم تعقبه الكلمات والخطابات ينصّب خلالها المدفع، بعدها تُتلى من القرآن الكريم ومن بعدها يودع المسؤولون البريطانيّون فيما يمضي الفلسطينيون إلى دار المجلس الاسلامي الأعلى بجوار الحرم لقضاء الوقت والأحاديث.

لكن هذا البعد الروحاني لا ينفصل بطبيعة الحال عن البعد السياسي، وكما نقرأ في الجريدة فالقائد العام في خطابه يقول: “أهدي هذا المدفع إلى المجلس الاسلاميّ الأعلى، لقد استخدم هذا المدفع ضد العدو المشترك، وانه لمن المبهج حقًّا أن يعرف أنّه سيخصّص الآن لغاية سلميّة، وكم يكون اغتباطًا عظيمًا، لو أمكن الاستفادة من كل المعدّات العسكريّة لمثل هذه الغاية”.

إن بريطانيا ورغم كل صراعاتها مع الفلسطينيّين آنذاك ورغم التاريخ الحافل إلا أنّها استخدمت عنصر “العدو المشترك” مستحضرة ذكرى العثمانيّين محاولة منها خلال الاحتفال بناء المشترك وتوطيد العلاقات وايصال رسائل سياسية واضحة للفلسطينيّين قد تحمل معها نوعًا من تعزيز العلاقات.

لم تكن احتفاليّة تسليم المدفع تجري فقط في القدس، إنّما في المدن الرئيسيّة كلّها كحيفا وعكا ويافا وغيرها،  وعادة ما كانت الاجراءات ذاتها.

جريدة الدفاع. 2 حزيران 1947

توفّر لنا جريدة الدفاع مدخلاً لمقارنة الاحتفالات في المدن المختلفة، فنرى في عكا الاجراءات ذاتها مع التأكيد على الرسالة البريطانية التي ستتكرر دومًا بضرورة أن يكون السلاح لأغراض سلميّة، ونقرأه هنا في صيغة مشابهة للصيغة التي قيلت في القدس: “… وإني أقدم لكم الآن مدفعًا بالنيابة عن الجيش البريطاني في الشرق الأوسط، وسوف لا يستعمل هذا المدفع بعد الآن للحرب، وعندما تسمعون طلقاته أن يفكر المؤمنون بالأشياء الروحانية بدلاً من ميدان المعركة”.

جريدة فلسطين. 7 حزيران 1947

في نابلس أيضًا تتكرر ذات الاجراءات، وكما في كل محفل، يبدأ خطاب القائد العام عادة بتعداد مآثر المدينة وأهميّتها، ثم يشدد على القضية المؤرقة لبريطانيا: “ان أعظم حرب عرفتها الانسانية قد انتهت، ولكنه لا يوجد جندي أو مدني أو شخص واحد يرغب في أن تعود هذه الحروب، ولذلك يسرني في هذا اليوم أن لا يرمي هذا المدفع الذي لي الشرف في اهدائه الى مدينة نابلس بمقذوفاته في الحرب بعد الآن، بل يبقى ملازماً أميناً لطقوسنا الروحية نحو اخواننا وليكن رمز العواطف، السلام والصداقة التي تقوم بين أمتينا”.
إن تركيز القائد البريطاني العام على السلاح مفهوم ضمن الرسائل السياسية، ليس فقط بسبب الإرث الطويل بين الفلسطينيين والبريطانيين بل بسبب استخدام المدفع ذاته أحيانًا لأغراض أخرى كما حدث في ثورة ال-36

جريدة الدفاع. 22 تموز 1936

رغم كل الخطابات والاحتياطات والتشديد على ضرورة استخدام المدافع لأغراض سلميّة وروحانيّة وليس لأغراض عسكريّة أو حربيّة إلا أنّ كل ذلك لن يجدي، حيث ستحمل الأطراف كلها السلاح، وستخوض حروبًا ومعارك، بعضها لا يزال مستمرًا حتى اليوم، لتخلق واقعًا جديدًا في المنطقة، واقع سيعيد تشكيل المجالات السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة كلها في المنطقة.