تشكل المخطوطة النادرة “سيرة الظاهر بيبرس” والمحفوظة في أرشيف المكتبة الوطنية الاسرائيلية في القدس مادة قيمة وملفتة، فهي لا توثق سيرة الظاهر بيبرس كما جاءت على لسان المؤرخين والكتاب، بل توثق جانباً من سيرته كما رواها الحكواتيين وكما أراد الناس سماعها: قصة أسطورية مليئة بالتشويق والمبالغات اللطيفة. ولكي تكون كذلك كان على الحكواتيين كتابتها بلغة الناس، ولذلك فالمخطوطة أدناه هي من المخطوطات القليلة التي كتبت باللغة العامية والتي توفر مادة غنية ومميزة حول الظاهر بيبرس وحول اللغة العامية التي استخدمت لسرد قصته.
لا شك أن الظاهر بيبرس (1223 – 1277) قد شكل أسطورة في بلاد الشام تداولها الناس لعشرات السنين، حول شخصيته حيكت الأساطير وكتبت القصص والروايات، ووصل الكثير منها حد المعجزات. كان الظاهر بيبرس قد ذاع سيطه بعد سيرة عسكرية مليئة بالنجاحات. وربما يكون أحد أشهر الحكام المسلمين بعد صلاح الدين الأيوبي، حيث قارن الناس بينهما دوماً فهو أيضاً قاتل الصليبين، وهو من أدار معركة عين جالوت القريبة من بيسان عام 1260 تحت قيادة سيف الدين قطر، حيث استطاع تحقيق انتصار ساحق على المغول وكان القائد الذي استطاع اخضاع الصليبيين وإخراجهم تماماً من البلاد لتصير عين جالوت ومعارك بيبرس الأخرى رمزًا للفرج والخلاص في الخيال الإسلامي.
أفعال الظاهر بيبرس وشخصيته شكلت مادة مهمة للباحثين والمؤرخين والكتاب على مر التاريخ، لكن قصته كانت مهمة أيضاً للناس أنفسهم والذين رأوا به شخصية بطولية حررتهم وأنقذتهم لذلك فالناس أيضاً تداولوا قصته وحولوه إلى بطل شعبي، لكن القصة في أفواه الناس ولغتهم مختلفة دوماً، فالأحداث الكبرى مُلك المؤرخين أما التفاصيل فهي ملكها تضيف إليها وتغيرها وتبدلها، بهذا الأسلوب التقط الحكواتيون هذه الحكايات وحولوها إلى قصص جميلة أضافوا إليها اللغة الشعرية، والموسيقى الصوتية مع أسلوب تمثيلي وتشويقي مميز مع استخدام العصا (عصا الحكواتي) والملابس المزركشة التي يلبسونها لإضفاء نوع من الواقعية.
أبيات شعر من مخطوط “سيرة الظاهر بيبرس” لقراءة المخطوطة
الجزء هذا من سيرة الظاهر بيبرس يوثق قصة مهاجمة المماليك في فترة الظاهر بيبرس، وفتح مدينة سيس عاصمة مملكة أرمينيا الصغرى على يدهم وتشمل بطولات الظاهر بيبرس وصديقه جمال الدين شيحة المقاتل المملوكي الشهير. وهي جزء من الروايات الشعبية، ولكل منطقة روايتها الخاصة فهناك “سيرة الظاهر بيبرس – الرواية الشامية” وهناك “الرواية المصرية” وربما تكون هذه المخطوطة هي جزء من “الرواية الفلسطينية”.
بغض النظر عن منشأ القصة هذه، لكنها تظل جزءاً من الثقافة الشعبية لسكان المنطقة، تداخل فيها الواقعي مع الخيالي والتاريخية مع الأسطوري. بحيث بات من الصعب التمييز بين الحقيقي والخيالي وهو ما دفع الكثير من المؤرخين إلى إعادة كتابة سيرة الظاهر بيبرس لتبيان الحقيقة لهم، كمحاولة المربي ضياء الدين الخطيب والذي حاول في مقالته “الملك الظاهر بيبرس” والتي نشرتها في مجلة الكلية العربية عام 1934 توضح السيرة الحقيقية لبيبرس كي لا تختلط على الناس.

سيرة الظاهر بيبرس وتفاصيلها لا تزال حتى اليوم تشكل جزءاً من ثقافة بلاد الشام، بعض هذه القصص حقيقية وبعضها قد لا نعرف يوماً مدى مصداقيتها، لكن آثار المباني والعمارة التي أنشأها تظل حقيقة تاريخية لا يمكن التشكيك بها مثل قلعة ومسجد صفد، إضافة لقلعة النمرود الذي أعاد بناءها وأضاف إليها جسراً ومنارة وجامع، ومقام النبي موسى على طريق القدس، إضافة لـ “خان الظاهر” في القدس والذي لم يعد موجوداً اليوم ولكن الفهود التي زينته، نقلت أثناء ترميم السور لتعتلي القسم العلوي من باب الأسباط حيث لا تزال تعتلي باب المدينة حتى يومنا هذا وهذه الأسود هي شعار حكم بيبرس نظراً لاسمه (بي – برس) وبرس تعني الفهد.

الصور الكثير المحفوظة في أرشيف المكتبة الوطنية الاسرائيلية توثق جانباً مهماً من عمائر الظاهر بيبرس في البلاد ومرجعاً تاريخياً إضافياً لدراسة حقبته، كإحدى الشخصيات التاريخية التي تركت أثراً ملحوظاً في البلاد، كما تزخر المكتبة بعشرات الكتب والمخطوطات التي تضيء جوانباً مختلفة من حقبته ومن شخصيته، إن قراءة جديدة لتاريخ الظاهر بيبرس “التاريخي”، وقراءته كما جاء على لسان الناس من خلال المخطوطة أعلاه معاً يشكل مدخلاً مهماً لفهم التحولات والبناء الشعبي للقصة التاريخية وهي مهمة تستحق البحث والتفكير، ولكن تظل المخطوطة المذكورة مرجعاً ملفتاً ومهماً يستحق البحث.