مدفع رمضان – في بعديه الروحاني والسياسي

شكّل مدفع رمضان جزءً من الثقافة العربية في البلاد؛ حيث كان له طقوسه الخاصة التي تجاوزت في الكثير من الأحيان غاياتها الدينيّة والاجتماعيّة لأهداف سياسيّة. المقال يستعرض تقاليد وطقوس مدفع رمضان في البلاد.

بغضّ النظر عن أصل منشأ مدفع رمضان الحقيقيّ وتعدّد الروايات حول ذلك، إلا أنّ المعلومات التي نملكها تشير وبشكل واضح أنّه قد استخدم بشكل منتظم منذ فترة محمد علي باشا أي قبل أكثر من مائة وخمسين عامًا، حيث كان التحول المُهم في تلك الفترة في إعلان بدء الصوم وانتهاءه، خاصة في فترة لم يكن فيها بعد كهرباء، ولا تلفاز، ولا مذياع ولا تواصل تكنولوجيّ.

مجلة المنتدى. 26 حزيران 1946

شكّل مدفع رمضان جزءً من الثقافة العربية في البلاد أيضًا، حيث كان له تقاليد وطقوسه الخاصة التي تجاوزت في الكثير من الأحيان غاياتها الدينيّة والاجتماعيّة نحو تحقيق غايات سياسيّة، قسم منها كانت مهمّة للمسلمين فيما كانت بعضها مهمة للسلطات البريطانيّة لتحقيق أهدافها وماربها عبر مدفع رمضان.

كان الأمر يجري سنويًّا وذلك من خلال تقاليد المدفع، حيث كانت السلطات البريطانية تقوم بتسليم المدفع لرئيس البلدية أو للمجلس الاسلاميّ الأعلى وسط احتفالات مهيبة تُلقى فيها الخطابات، ويُرتل القرآن، وتوزع الحلويات.

جريدة فلسطين. 6 تشرين أول 1945

قراءة سريعة التقرير أعلاه كافية لأن تعطينا صورة واضحة عن تفاصيل الحدث واجراءات التسليم، حيث يلتقي المسؤولون البريطانيّون مع القيادة الدينيّة والسياسيّة للفلسطينيّين، ثم يقوم القائد العام بتسليم المدفع لرئيس البلدية في المدن أو لرئيس المجلس الأعلى في القدس لما لها من رمزيّة دينيّة، ثم يلقى القائد البريطاني العام كلمة يرد عليه بعدها رئيس البلدية، ثم تعقبه الكلمات والخطابات ينصّب خلالها المدفع، بعدها تُتلى من القرآن الكريم ومن بعدها يودع المسؤولون البريطانيّون فيما يمضي الفلسطينيون إلى دار المجلس الاسلامي الأعلى بجوار الحرم لقضاء الوقت والأحاديث.

لكن هذا البعد الروحاني لا ينفصل بطبيعة الحال عن البعد السياسي، وكما نقرأ في الجريدة فالقائد العام في خطابه يقول: “أهدي هذا المدفع إلى المجلس الاسلاميّ الأعلى، لقد استخدم هذا المدفع ضد العدو المشترك، وانه لمن المبهج حقًّا أن يعرف أنّه سيخصّص الآن لغاية سلميّة، وكم يكون اغتباطًا عظيمًا، لو أمكن الاستفادة من كل المعدّات العسكريّة لمثل هذه الغاية”.

إن بريطانيا ورغم كل صراعاتها مع الفلسطينيّين آنذاك ورغم التاريخ الحافل إلا أنّها استخدمت عنصر “العدو المشترك” مستحضرة ذكرى العثمانيّين محاولة منها خلال الاحتفال بناء المشترك وتوطيد العلاقات وايصال رسائل سياسية واضحة للفلسطينيّين قد تحمل معها نوعًا من تعزيز العلاقات.

لم تكن احتفاليّة تسليم المدفع تجري فقط في القدس، إنّما في المدن الرئيسيّة كلّها كحيفا وعكا ويافا وغيرها،  وعادة ما كانت الاجراءات ذاتها.

جريدة الدفاع. 2 حزيران 1947

توفّر لنا جريدة الدفاع مدخلاً لمقارنة الاحتفالات في المدن المختلفة، فنرى في عكا الاجراءات ذاتها مع التأكيد على الرسالة البريطانية التي ستتكرر دومًا بضرورة أن يكون السلاح لأغراض سلميّة، ونقرأه هنا في صيغة مشابهة للصيغة التي قيلت في القدس: “… وإني أقدم لكم الآن مدفعًا بالنيابة عن الجيش البريطاني في الشرق الأوسط، وسوف لا يستعمل هذا المدفع بعد الآن للحرب، وعندما تسمعون طلقاته أن يفكر المؤمنون بالأشياء الروحانية بدلاً من ميدان المعركة”.

جريدة فلسطين. 7 حزيران 1947

في نابلس أيضًا تتكرر ذات الاجراءات، وكما في كل محفل، يبدأ خطاب القائد العام عادة بتعداد مآثر المدينة وأهميّتها، ثم يشدد على القضية المؤرقة لبريطانيا: “ان أعظم حرب عرفتها الانسانية قد انتهت، ولكنه لا يوجد جندي أو مدني أو شخص واحد يرغب في أن تعود هذه الحروب، ولذلك يسرني في هذا اليوم أن لا يرمي هذا المدفع الذي لي الشرف في اهدائه الى مدينة نابلس بمقذوفاته في الحرب بعد الآن، بل يبقى ملازماً أميناً لطقوسنا الروحية نحو اخواننا وليكن رمز العواطف، السلام والصداقة التي تقوم بين أمتينا”.
إن تركيز القائد البريطاني العام على السلاح مفهوم ضمن الرسائل السياسية، ليس فقط بسبب الإرث الطويل بين الفلسطينيين والبريطانيين بل بسبب استخدام المدفع ذاته أحيانًا لأغراض أخرى كما حدث في ثورة ال-36

جريدة الدفاع. 22 تموز 1936

رغم كل الخطابات والاحتياطات والتشديد على ضرورة استخدام المدافع لأغراض سلميّة وروحانيّة وليس لأغراض عسكريّة أو حربيّة إلا أنّ كل ذلك لن يجدي، حيث ستحمل الأطراف كلها السلاح، وستخوض حروبًا ومعارك، بعضها لا يزال مستمرًا حتى اليوم، لتخلق واقعًا جديدًا في المنطقة، واقع سيعيد تشكيل المجالات السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة كلها في المنطقة.

 

رمضان هذا العام؛مجموعة رقمية تصل الماضي بالحاضر

مبادرات رقمية من المكتبة الوطنية خاصة بشهر رمضان المبارك

لا يحتاج المرء إلى بذل الكثير من الجهد ليشعر بأن الأحداث والمناسبات جاءت علينا بشكل مختلف هذا العام، وهذا ما يدعونا إلى أن نستقبلها بشكل مغاير عما اعتدنا عليه كما في السنوات العابرة. لقد ألقت جائحة الكورونا ظلالها على استقبالنا للشهر الكريم فمنعتنا من إقامة أحد أركان هذا الشهر الفضيل، ألا وهو المجالس الجماعية؛ من مجالس الإفطار الجماعية، حلقات الذكر ومجالس الدين.

لكن، هذا لن يمنعنا من الاحتفال بالشهر الكريم؛ بوسائل رقمية تمكّن فرد، عائلة في ذات منزل أن يشاركوا بهذه المناسبة!

إمساكية رمضان الرقمية……دمج ما بين التاريخ والحداثة

إمساكية رمضان 2020 من المكتبة الوطنية الإسرائيلية

مؤخرًا، ساهمت المكتبة الوطنية في إطلاق أكثر من مبادرة رقمية خاصة بهذا الشهر الفضيل وأولى هذه المبادرات كان تصميم وإصدار النسخة الرقمية الثانية من إمساكية الشهر الفضيل، والتي تم تصميمها اعتمادًا على شعارات الصحف والمجلات العربية الفلسطينية التاريخية التي صدرت خلال العهد العثماني والانتدابي (يمكنكم تصفح موقع جرايد للاطلاع على كامل المجموعة الموجودة لدينا).

يمكنكم تنزيل الإمساكية بجودة عالية بالضغط هنا.

ملاحظة: تم اعتماد توقيت الإمساكية بحسب التوقيت المحلي لمدينة القدس وعلى المقيمين خارجه مراعاة فارق التوقيت.

أحجية رمضانية مصورة

صورة الصفحة الرئيسية للأحجية، بتصرف من مكان ديجيتال (كان عرب)

لطالما كان رمضان شهر الرفاهية والتسلية، سواء كان ذلك بمشاهدة المسلسلات والبرامج التلفزيونية أو مشاهدة العروض في البيئة الاجتماعية المحيطة. هذا العام ارتأينا بأن نقدم لكم أمرًا مختلفًا يعتمد على الدمج ما بين التسلية من جهة ومحاولة التعرف على عدد من الأماكن التاريخية من جهة أخرى. وهذا ما استطعنا تحقيقه من خلال استحداث الأحجية الرمضانية، التي هي نتاج ثمرة التعاون ما بين القسم الرقمي من المكتبة الوطنية الإسرائيلية ومكان ديجيتال (كان عرب).

صورة إحدى الأسئلة من الأحجية

تتكون الأحجية من أربع أجزاء؛ يتم نشر كل جزء بشكل أسبوعي. وتعتمد الأحجية بشكل خاص على المواد في موقع جرايد الصور التاريخية والمادة الأفيميرا المحفوظة في مجموعات المكتبة الوطنية الإسرائيلية بالقدس.

لحل الأحجية الرمضانية، اضغطوا هنا  

 

تراويح مقدسية: منصة للنشاطات الرمضانية الرقمية

موقع تراويح مقدسية

هي منصة افتراضية تسعى إلى توفير فرص متنوّعة لاستبطان معاني شهر رمضان الكريم وتسليط الضوء على الأنشطة الرمضانية المتنوّعة، وهي ثمرة جهود شاركت فيها المؤسّسات الثقافية والدينية والمبادرات والمنظمات المجتمعية المقدسية. تهدف المبادرة للتعرّف على كنوز الثقافة الإسلامية؛ والاستماع إلى تلاوة القرآن الكريم وملامسة الصلوات الإسلامية؛ الاستماع إلى محاضرين مرموقين وناشطين في حقل الثقافة؛ المشاركة في حوارات داخل بيوت الصائمين؛ الاستمتاع بالنشاطات الموسيقية؛ والمشاركة في ورش عمل مهارات الطبخ وبرامج خاصة للأطفال وغيرها.

تشارك جميع الأطراف المشاركة برؤيا تحتفي بالثقافة الإسلامية وتجعل من شهر رمضان المبارك فرصة لإثراء أنفسنا كأفراد وجماعات.

تهدف منصة “تراويح مقدسية” إلى إثراء عنصر المشاركة وتبادل المعارف حول الثقافة الإسلامية بين فئات المجتمع المختلفة من ناحية الدين، القومية والثقافة، وذلك من أجل تعميق وعينا حول الثقافة الإسلامية بشكل عام وشهر رمضان بشكل خاص، والنظرة إليها من جانب المسلمين وغير المسلمين.

في ظل انتشار جائحة كورونا المستجدة وما خلفته من تبعات على كافة مناحي الحياة البشرية جمعاء، نأمل في أن يوفر الموقع هذا العام برامج ومبادرات هادفة ومفيدة لمن لا يستطيعون المشاركة في الصلوات وحلقات الذكر الرمضانية واللقاءات العائلية والمناسبات العامة. والتي يمكن أن تشكل جزءًا من تخفيف تبعات هذه الجائحة.

نهدف خلال السنوات المقبلة إلى نشر هذه المبادرة وتوسيع رقعة الأطراف المشاركة المجتمعية فيها، والتي من الممكن أن تؤدي إلى إقامة مهرجان ثقافي على مستوى المدينة ومشاركة أكبر خلال الأيام والليالي المباركة في شهر رمضان. كما نأمل أن تحذو مدن أخرى -في أنحاء البلاد- حذو هذه المبادرة من أجل تكريس شهر رمضان المبارك كجزء من وعينا الجماعي المشترك.

لموقع تراويح مقدسية اضغطوا هنا

موقع جرايد: أرشيف مفعم بالمقالات التاريخية حول شهر رمضان الفضيل

في جرايد، أصبح هنالك ما يزيد عن 102 صحيفة ومجلة، ما بين عامي 1908-1948 (ما عدا صحيفة الاتحاد والتي توجد أعدادها بعد عام 1948)، وهذا ما يجعل موقع جرايد بمكانة أرشيف للصحف العربية خلال فترة فلسطين العثمانية والانتدابية.

في طياته، يحمل جرايد عددًا من المقالات التاريخية حول شهر رمضان الكريم، كذلك الأعداد المصورة حول الشهر الكريم.

لتصفح المواد الخاصة بشهر رمضان الفضيل اضغطوا هنا

قيادة الإسلام الأصوليّ من أحضان اليهودية

مارغريت ماركوس، فتاة يهوديّة أصبحت مفكّرة إسلاميّة مناهضة للاستعمار. كيف بدأت قصتها؟ مقال ضمن سلسلة بوبر للباحثين الزملاء، من تحرير يوني براك.

مريم جميلة مع أبنائها في باكستان، 1965، أڤراهام روبين/ بإذن من المكتبة العامّة في نيويورك

 

فيما يلي ترجمة بتصرف خاصة بموقع مدونة “أمناء المكتبة” لمقال الكاتب أڤراهام روبين- ورشة التاريخ الاجتماعي . للاطلاع على المقالة باللغة العبرية الرجاء الضغط هنا 

تدلّنا قصّة مارغريت ماركوس، فتاة يهوديّة غيّرت اسمها وأصبحت جميلة، المفكّرة الإسلاميّة المناهضة للاستعمار، على الأزمة التي تعرّض لها الكثير من اليهود الأمريكيّين في الخمسينيّات والستينيّات. مقال ضمن سلسلة بوبر للباحثين الزملاء، من تحرير يوني براك.

عرضت جميلة اعتناق الإسلام كرفض مطلق لخلفيّتها اليهوديّة – الأمريكيّة، إلّا أنّ التحوّل الذي مرّت به يشبه إلى حدّ كبير الأنماط التي ميّزت الصحوة اليهوديّة إبّان تلك السنوات.

تعتبر المفكّرة الإسلاميّة-الباكستانيّة مريم جميلة شخصيّة استثنائيّة ليس بسبب كونها إحدى النساء القليلات اللاتي تميّزن في العالَم الذكوريّ- الأبويّ للإسلام الأصوليّ في جنوبي آسيا فحسب، بل بالأساس بسبب خلفيّتها كيهوديّة أمريكيّة. وُلدت جميلة التي كان اسمها مارغريت ماركوس، عام 1934 في مقاطعة ويستتشستر في نيويورك، لعائلة ثريّة ذات صلات واهية بالدين. شعرت ماركوس خلال فترة مراهقتها بالاغتراب عن بيئتها البرجوازيّة، وتنقّلت بين الأطر الدينيّة والأيديولوجيّات بحثًا عن انتماء. قادها بحثها إلى كنيس أرثوذكسيّ، حركة شبيبة صهيونيّة، وتجربة مع الديانة البهائيّة. ولكن أيًّا من هذه البدائل لم تُشفِ غليل ماركوس التي كانت على وشك اليأس من محاولاتها لإيجاد موقعها في المجتمع.

شكّل لقاء ماركوس بالقرآن في عام 1959 نقطة التحوّل الهامّة في حياتها. شعرت ماركوس إثر قراءتها للقرآن أنّها وجدت الحقيقة السامية التي حُرمت منها في بيئتها العلمانيّة والمادّيّة. بعد مرور عامين؛ قرّرت اعتناق الإسلام وتغيير اسمها إلى مريم جميلة. حاولت الاندماج في حياة الجالية الإسلاميّة في نيويورك، لكنّ أملها خاب حينما اكتشفت أنّ أنماط حياة المسلمين هناك لا تختلف كثيرًا عن حياة اليهود الذين اندمجوا في تلك المجتمعات التي ترعرعت بين ظهرانيها. أدّى التحوّل الدينيّ عند جميلة إلى تدهور علاقاتها مع أهلها، الذين طلبوا من ابنتهم مغادرة المنزل وأن تبدأ طريقها المستقلّة. قرّرت جميلة، في أعقاب طردها من المنزل، الاستجابة لعرض الإمام الباكستانيّ الذي راسلته حيث دعاها إلى العيش مع أسرته في لاهور في الباكستان. كان أبو الأعلى المودودي (1903 – 1979) الإمام الذي قام برعاية جميلة وزعيم الجماعة الإسلاميّة – المنظّمة الدينيّة الأصوليّة التي كانت تؤيّد تطبيق الشريعة وتحويل باكستان إلى دولة تطبّق الشريعة الإسلاميّة.

شعرت ماركوس خلال سنوات مراهقتها بالاغتراب عن بيئتها البرجوازيّة وتنقّلت بين الأطر الدينيّة والأيديولوجيّات بحثًا عن الانتماء.

جميلة، حينئذ مارغريت ماركوس، في عام 1953، تصوير: أبراهام روبين/ بإذن من المكتبة العامّة في نيويورك

أصدرت جميلة منذ هجرتها في عام 1961 وحتّى وفاتها في 2012 عشرات الكتب والمقالات التي كرّستها لتعزيز الأجندة الإسلامية المناهضة للاستعمار. وتنتقد جميلة في فكرها محاولة الأئمة الإصلاحيّين في العالَم الإسلاميّ المعاصرين لها التوفيق بين الإسلام والحداثة بدعوى أنّهم يستسلمون للإملاءات الثقافيّة الأجنبيّة والإمبرياليّة. لاقت كتابات جميلة انتشارًا واسعًا وتُرجمت إلى لغات كثيرة، من بينها العربيّة، الأرديّة، الفارسيّة، والتركيّة. من أشهر كتبها، كما يبدو، كتاب سيرتها الذاتيّة “ذكريات الطفولة والشباب في أمريكا (1962-1945)” الذي تسرد فيه مشوارها منذ أن كانت تعيش في ضاحية للأثرياء في نيويورك لدى أسرة يهوديّة مندمجة، إلى حضن الإسلام الأصوليّ في باكستان.

كانت جميلة بعيدة عن الصورة اليهوديّة-الأمريكيّة المألوفة لنا من كتب فيليب روث وبرنارد مالامود أو من التمثيلات النمطيّة للجالية اليهوديّة في أمريكا في الثقافة الشعبيّة. على الرغم من ذلك، يمكن القول إنّ الشخصيّة التي تنعكس من كتاب سيرتها الذاتيّة تشكل تعبيرًا حقيقيًّا عن معضلات الهويّة لدى اليهود في أمريكا في منتصف القرن الماضي. لغرض تحديد نقطة التماس التي تربط بين جميلة والعالَم اليهوديّ-الأمريكيّ، يجب البدء من الفترة التي تلت الحرب العالميّة الثانية، العصر الذي بدأ فيه يهود الولايات المتّحدة الارتقاء في السلّم الاجتماعيّ والاقتصاديّ والانخراط في الدوائر الثقافيّة والتشغيلية التي كانت أبوابها مؤصدة في وجههم قبل ذلك.

تجلّت هذه التغيّرات في الجانب الجغرافيّ عبر الهجرة المكثّفة إلى ضواحي المدن، بموازاة ترك الأحياء المدينيّة التي وصل إليها معظم اليهود الذين هاجروا إلى الولايات المتّحدة في منتصف القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. صاحبت هذا الانتقال تغيّرات في أنماط السلوك والتماثل لدى اليهود، الذين بدأوا في تبنّي الأنماط والعادات الخاصّة بالطبقة الوسطى البيضاء-البروتستانتيّة.

لم يكن ردّ فعل يهود أمريكا على نجاحهم موحّدًا. فقد رافقت ارتفاع مكانتهم الخشية من أنّ الاندماج في الاتّجاه السائد سيؤدّي إلى فقدان الهويّة اليهوديّة. ويمكن أن نجد انعكاسًا لهذه التخبّطات في الكتابات المبكّرة لفيليب روث الذي احتوت مجموعته القصصيّة “وداعًا كولومبس” من عام 1957 على لائحة اتّهام خطيرة ضدّ اليهود قاطني الضواحي، الذين فقدوا خصوصيّتهم الإثنيّة بسبب سجودهم للنجاح المادّيّ ومحاولتهم الاندماج في بوتقة الانصهار الأمريكيّة،. في صلب انتقادات روث وآخرين كانت الفكرة التي ترى في اندماج يهود أمريكا في الضواحي أمرًا يتناقض مع “اليهوديّة الأصيلة” التي ارتبطت بتداعيات الفقر، الملاحقة، العزل الثقافيّ، والتهميش الاجتماعيّ.

قصّة جميلة تربطها بالانتقادات التي صدرت عن معاصريها، لكون اندماج اليهود في الضواحي الأمريكية يتناقض مع “اليهوديّة الأصيلة” التي ارتبطت بالفقر، الملاحقة، العزال الثقافيّ، والتهميش الاجتماعيّ.

صورة شخصيّة، 1957، تصوير: أڤراهام روبين/ بإذن من المكتبة العامّة في نيويورك

يمكننا أن نلمس بعضًا من استياء بعض الفئات من يهود أمريكا من مكانتهم المتميّزة والشعور بفقدان الأصالة في مذكّرات جميلة التي تكتب أنّه عندما أنجبت طفلها أنّها: “شعرت بأنّ الصورة الأمريكيّة-النموذجيّة للأب والأمّ كانت كاذبة. على الرغم من جميع محاولاتهم التشبّه بجيراننا المسيحيّين، فقد ظلّوا يهودًا لا ينتمون حقًّا إلى هذا العالَم.”

كانت مارغريت الطفلة منزعجة من حقيقة كون أسرتها تحتفل بعيد الميلاد والفصح ولا تحرص على الذهاب إلى الكنيس. في الرسالة التي تفتتح كتاب مذكّرات جميلة الذي ألّفته كما يبدو في سنّ الحادية عشرة، تكتب مارغريت أنّها تحلم بالانتقال إلى فلسطين و”مساعدة العرب في الحفاظ على نمط حياتهم” حتّى لا تتدهور أحوالهم كما هو الحال بالنسبة لليهود في الولايات المتّحدة، الذين يقلّدون جيرانهم المسيحيّين فحسب. يمثّل الإسلام في السيرة الذاتيّة لجميلة الهويّة الإثنيّة-المتجذّرة والشرقيّة، عكس الثقافة السائدة الأمريكيّة، وعلى النقيض من يهوديّة الضواحي-البرجوازيّة. ينطوي التوجّه إلى الإسلام على نقد لاذع للأهل الذين تنكّروا لهويّتهم كأقلّيّة دينيّة-إثنيّة بغية تحقيق الحلم الأمريكيّ، ويرمز إلى تبنّي الهويّة الأصيلة التي فُقدت في أعقاب اندماج اليهود في أمريكا في ثقافة الأكثريّة.

“يمثّل الإسلام في السيرة الذاتيّة لجميلة الهويّة الإثنيّة-المتجذّرة والشرقيّة. يتجلّى إعجاب جميلة بهذه الهويّة في لوحاتها التي رسمتها في مطلع سنوات العشرين من عمرها”.

أسرة فلّاحين عرب في منزلها”، 1957: تصوير أڤراهام روبين/ بإذن من المكتبة العامّة في نيويورك

 

في الوقت الذي تعرض فيه جميلة اعتناقها للإسلاميّ كرفض تامّ لخلفيّتها اليهوديّة-الأمريكيّة، فإنّ التحوّل الذي تتحدّث عنه يشبه إلى حدّ كبير الأنماط الثقافيّة التي ميّزت الصحوة اليهوديّة التي كانت في منتصف الستينيّات، عندما تمرّد الشباب اليهود ضدّ اليهوديّة السطحيّة والمنصهرة لأهلهم. انفجرت هذه الصحوة الدينيّة والإثنيّة إلى السطح عند صعود الثقافة المضادّة اليهوديّة التي شملت حركات من جميع ألوان الطيف السياسيّ- من ضمن ذلك عصبة الدفاع عن اليهود، الصهاينة الراديكاليّون، المجموعات الأرثوذكسية الجديدة، والمنظّمات النسويّة ومنظّمات المثليّين والمثليّات- التي ظهرت في الاحرام الجامعية في الولايات المتّحدة. على الرغم من الفروق الأيديولوجيّة بين هذه الحركات، إلّا أنّ جميعها بحثت عن تعريف هويّتها اليهوديّة كنقيض للثقافة الأمريكيّة المهيمنة، وانتقدت بشدّة اليهوديّة البرجوازيّة والمتخمة الشائعة لدى أهلهم، والتي كانت مستعبَدة لدى ثقافة الاستهلاك الأمريكيّة ولذلك فقدت صلتها بالتقاليد.

اندمجت الصحوة الدينيّة جيّدًا مع الروح المناهضة للمؤسّسة التي سادت في الستينيّات (التي تناولتها المقالات السابقة في الورشة، وغيابها في السياق المصريّ والإسرائيليّ مثلًا)، وفي أعقابها ارتبط ذلك العقد بالذاكرة الجماعيّة بصعود حركة الهيبيز، الفهود السود، ومنظّمات حقوق المثليّين والمثليّات. سعى الشباب اليهود بإلهام من اترابهم إلى التعبير عن هويّتهم الجديدة كأقلّيّة إثنيّة، وتبنّوا لغة عدائيّة نصّبوا أنفسهم من خلالها كغير منتمين إلى مجموعة ما. أشاد نشطاء الثقافة المضادّة بفترات من التاريخ اليهوديّ التي كانت تعتبر نموذجًا للأصالة التي رغبوا تقليدها. وقد وجدوا في البلدات اليهوديّة الصغيرة التي عاش فيها اليهود في أوروبّا الشرقيّة النقيض للضواحي، الحيّ الشرقيّ الأسفل في نيو يورك في عصر الهجرة الجماعيّة، ودولة إسرائيل في بداياتها. شكّلت هذه المناطق رمزًا للحياة اليهوديّة الطبيعيّة والعضويّة التي على الرغم من الظروف الماديّة القاسية، تميّزت بالتضامن المجتمعيّ، الإيثار، والثقافة اليهوديّة النابضة بالحياة. من خلال حنينهم إلى العهود اليهوديّة الخاليّة، آمن شباب الستينيّات بأنّهم يعيدون المجد إلى سابق عهده ويستعيدون الماضي التقليديّ الذي هجره أهلهم. كان تمرّدهم الهويّاتي جزءًا من النقد الأوسع الموجّه ضدّ المجتمع التكنوقراطيّ والبيروقراطيّ لأمريكا الحديثة.

الخطاب المناهض للرأسماليّة والمعادي للحداثة الذيّ ميّز العودة إلى تقاليد أبناء الستينيّات بادٍ في كتابات جميلة أيضًا. إذ تربط جميلة بين الإسلام والأصلانيّة والشرق. في اليوتوبيا الإسلاميّة التي تؤمن بها جميلة ترتدي جميع النساء الحجاب ويرتدي الرجال الزيّ التقليديّ كما في المملكة العربيّة السعوديّة. نمط الحياة كما قبل الحداثة حيث كانت الصناعة تعتمد على الأشغال اليدويّة. من وجهة نظر جميلة، فإنّ المجتمع المسلم المثاليّ هو ذلك الذي يفلح في استعادة الحياة التي كانت سائدة في عصر النبيّ محمّد. يمثّل هذا الخيال النقيض الصرف للعالم الغربيّ الصناعيّ الذي تجسّده الولايات المتّحدة.

من وجهة نظر جميلة، فإنّ المجتمع المسلم المثاليّ هو ذلك الذي يفلح في استعادة الحياة التي كانت سائدة في عصر النبيّ محمّد. يمثّل هذا الخيال النقيض الصرف للعالم الغربيّ الصناعيّ والبرجوازيّ الذي ترعرعت فيه. لوحة لجميلة من أواخر الخمسينيّات، تصوير: أڤراهام روبين/ بإذن من المكتبة العامّة في نيويورك.

اعتنقت مريم جميلة الإسلام بضع سنوات قبل الصحوة اليهوديّة في الستينيّات، إلّا أنّ حكايتها هي بمثابة  الطليعة التي بشّرت بالتغيّرات الجذريّة التي مرّت بها الجالية اليهوديّة في الولايات المتّحدة عند صعود سياسة الهويّات الأمريكيّة. مثل أبناء الستينيّات الذين قادوا الثقافة اليهوديّة المضادّة، رفضت جميلة اليهوديّة الليبراليّة من بداية الحرب الباردة وسعت لتنسب لنفسها هويّة إثنيّة أصيلة بموازاة اعتماد خطاب رومانسي معادّ للمؤسّسة. ومن المفارقات، أنّ الطريقة التي اختارتها جميلة لقطع صلاتها مع الديانة اليهوديّة والتأكيد على هويّتها الإسلاميّة انما تدلّ على علاقتها مع العالَم الذي حاولت التنكّر له. تجسّد قصّة جميلة الدور الحاسم الذي لعبته خلفيّتها اليهوديّة-الأمريكيّة في طريقة تعريفها عن نفسها كمسلمة والدلائل الرمزيّة التي عزتها للإسلام. صحيح أنّ جميلة موجودة خارج الحدود المعياريّة المتفق عليها لدى الجالية اليهوديّة في الولايات المتّحدة، لكنّ توجّهها إلى الإسلام هو نتيجة للمعضلات الهويّاتيّة ذاتها التي قادت اليهود الآخرين إلى حضن الصهيونيّة أو الأرثوذكسيّة.

 

تفنّد قصّة جميلة التحيّز الأيديولوجيّ الذي ترسّخ في الكتابات البحثيّة حول من تركوا الديانة اليهوديّة واعتنقوا ديانة أخرى ومسألة موقعهم في التاريخ اليهوديّ. وفقًا للتوجّه التاريخيّ الذي كان سائدًا في القرنين التاسع عشر والعشرين، كان من المتّبع اعتبار “المرتدّ عن الديانة اليهوديّة” كمن خرج من جماعة إسرائيل، وكشخص يفتقر إلى لمس التجربة اليهوديّة.  بالإضافة إلى ذلك، المرتدّ عن دينه يُعتبر غير ذي صلة بالتاريخ اليهوديّ، ويُشار إليه كشخص انتهازيّ بدّل دينه بدافع الاندماج في الثقافة المهيمنة والتخلّص من عبء الهويّة اليهوديّة. يمكن العثور على تجسيد حديث لهذا التصوّر في كتاب تود إندلمان، (2015) Leaving the Jewish Fold الذي يرى في اليهود الذين اعتنقوا ديانة أخرى وحدةً واحدة، وأنّ القاسم المشترك لهم جميعًا هو الرغبة في التنصّل من الهويّة الموصومة. لا يفرّق هذا التوجّه بين السياقات التاريخيّة، الثقافيّة، والجغرافيّة لاعتناق ديانة أخرى، كما أنّه لا يعزو أهمّيّة للديانة التي اعتنقها من بدّل دينه من اليهود. إنّ الافتراض الذي يرى أنّ هناك معنًى موحّدًا ومتماسكًا لمثل هذه الظاهرة ذات التنوّع الكبير لا يخطئ بحقّ التجربة الذاتيّة لمَن ترك اليهوديّة واعتنق ديانة أخرى وفي حقّ حقيقته الروحانيّة فحسب، بل إنّه يتغاضى عن العلاقة المركّبة بين الشخص الذي اعتنق ديانة أخرى ويهوديّته وبين تأثير ذلك على بلورة هويّته الدينيّة الجديدة.

تجسّد قصّة جميلة التأثير الحاسم الذي كان لخلفيّتها اليهوديّة-الأمريكيّة في الطريقة التي قدّمت بها نفسها كمسلمة والدلائل الرمزيّة التي عزتها للإسلام. جميلة بعد وصولها إلى الباكستان، 1962. تصوير: أڤراهام روبين/ بإذن من المكتبة العامّة في نيويورك.

​​رمضان في الصحافة الفلسطينية

توفر لنا الصحف الفلسطينية العديد من الإجابات حول رمضان والطقوس المرافقة له

تعد فترة الانتداب وما بعدها فترة انتقالية، تسارعت فيها التطورات التكنولوجية ووسائل التواصل، مما أدى لكثير من التغيرات في الحياة الاجتماعية، كما تغيرت الممارسات اليومية، سنسافر في هذه المقالة نحو الماضي لنرى كيف كان المسلمون يشاهدون القمر وكيف كانوا يقضون شهر رمضان، وكيف كان المؤذن يعلن موعد الافطار.

توفر لنا الصحف الفلسطينية مثلاً في هذه الحالة امكانية الاجابة على بعض هذه الأسئلة، عن رمضان كما عاشه الناس في فترة الانتداب وعن الطقوس المرافقة له.

مجلة المنتدى، 26 تموز 1946

ترقب الشهر والتحضير له:

أحد الطقوس المهمة والذي كان يسبق شهر رمضان، هو تسليم “مدفع رمضان”، فقد اعتاد المسلمون منذ الفترة العثمانية وربما قبل ذلك، على اعلان بدء شهر رمضان من خلال اطلاق المدافع، كما كان يستخدم أيضاً ايذاناً بانتهاء الصيام وامكانية تناول الطعام والافطار، ومع السنين تحول المدفع إلى جزء في الثقافة الاجتماعية، ولما كان السلطان العثماني وقائمي المقام هم من يسلمونه، مع انتهاء الحقبة العهد العثمانية، وبدء الانتداب البريطاني أكمل الانجليز هذا النهج فصار القائد البريطاني العام هو من يسلمه كل عام للقيادات الاسلامية في المدن بطقس احتفالي مهيب، توفر لنا الصحافة الفلسطينية مدخلاً لفهم تفاصيل الاحتفالات ومضامين الخطابات كما يظهر أدناه:

جريدة فلسطين 6 تشرين أول 1945

لم يعد اليوم للمدفع ذلك الحضور، فقد أثرت التكنولوجيا واختراع الكهربا ومكبرات الصوت كثيراً على موقعه، فباتت معظم المدن والقرى تعتمد على صوت المؤذن في المسجد أو على أجهز التلفاز والراديو والحاسوب لكي تدير شؤونها في ذلك، وظل بعض المدن القليلة في البلاد تستخدم المدفع.

مجلة المنتدى، 26 تموز 1946

كان تشغيل المدفع مرتبط برؤية الهلال، إذ لا يمكن استخدامه طالما لم يتبين الشهر، وكانت رؤية الهلال في الماضي أصعب، لغياب وسائل تكنولوجية تُمكن من رؤيته بدقة، ولذلك كان رجال الدين يخرجون بمكبرات صغيرة ويرقبون السماء حتى يرون الهلال.

مجلة المنتدى، 26 تموز 1946

ولما تتبين رؤيته كان حينها يُطلق المدفع ويكبر الشيوخ والمنشدون معلنين بدء شهر رمضان، فيمضي البعض إلا المساجد ويمضي آخرون للزيارات، أو للاحتفالات، وتنشر الصحف في نشراتها ذلك.

جريدة فلسطين، 25 آذار 1925

شهر الصيام:

يبدأ الصوم حيث تخفت معه الحركة صباحاً، ثم تعج المساجد في الصلاوات وخاصة في صلاة التراويح، ويمضي الكثيرون وقتهم في الصلاة وقرآءة القرآن، لكن رمضان ليس شهراً للعبادة فقط أو لفعل الخير والتقرب من الله، وإنما شهر لتعزيز العلاقات الاجتماعية والزيارات.

مجلة المنتدى، 26 تموز 1946

وفي الصيام يحتاج الناس لمعرفة مواعيد الصلاوات ومواعيد الافطار، فاعتادت الصحف والمؤسسات المختلفة على توزيع “امساكية رمضان” وهي ورقة مطبوعة كُتب عليها مواعيد الامساك عن الطعام

ولا يخلو الأمر أيضاً من المرح، فالبعض في رمضان قد يكون عصبي المزاج بسبب الجوع وأحياناً بسبب الحر فكانت فرصة للتذكير.

فلسطين، 24 حزيران 1950

ومع انتهاء الشهر الفضيل وقدوم العيد كانت تقام صلاة العيد، ثم الاحتفالات، والكشافة والمرح فرحاً بانتهاء رمضان وقدوم العيد، كما كانت فرصة للشركات والمؤسسة كي تنشر تهانيها:

مجلة المنتدى، 15 آب 1947

مجلة القافلة، 15 آب 1947