بغضّ النظر عن أصل منشأ مدفع رمضان الحقيقيّ وتعدّد الروايات حول ذلك، إلا أنّ المعلومات التي نملكها تشير وبشكل واضح أنّه قد استخدم بشكل منتظم منذ فترة محمد علي باشا أي قبل أكثر من مائة وخمسين عامًا، حيث كان التحول المُهم في تلك الفترة في إعلان بدء الصوم وانتهاءه، خاصة في فترة لم يكن فيها بعد كهرباء، ولا تلفاز، ولا مذياع ولا تواصل تكنولوجيّ.

شكّل مدفع رمضان جزءً من الثقافة العربية في البلاد أيضًا، حيث كان له تقاليد وطقوسه الخاصة التي تجاوزت في الكثير من الأحيان غاياتها الدينيّة والاجتماعيّة نحو تحقيق غايات سياسيّة، قسم منها كانت مهمّة للمسلمين فيما كانت بعضها مهمة للسلطات البريطانيّة لتحقيق أهدافها وماربها عبر مدفع رمضان.
كان الأمر يجري سنويًّا وذلك من خلال تقاليد المدفع، حيث كانت السلطات البريطانية تقوم بتسليم المدفع لرئيس البلدية أو للمجلس الاسلاميّ الأعلى وسط احتفالات مهيبة تُلقى فيها الخطابات، ويُرتل القرآن، وتوزع الحلويات.

قراءة سريعة التقرير أعلاه كافية لأن تعطينا صورة واضحة عن تفاصيل الحدث واجراءات التسليم، حيث يلتقي المسؤولون البريطانيّون مع القيادة الدينيّة والسياسيّة للفلسطينيّين، ثم يقوم القائد العام بتسليم المدفع لرئيس البلدية في المدن أو لرئيس المجلس الأعلى في القدس لما لها من رمزيّة دينيّة، ثم يلقى القائد البريطاني العام كلمة يرد عليه بعدها رئيس البلدية، ثم تعقبه الكلمات والخطابات ينصّب خلالها المدفع، بعدها تُتلى من القرآن الكريم ومن بعدها يودع المسؤولون البريطانيّون فيما يمضي الفلسطينيون إلى دار المجلس الاسلامي الأعلى بجوار الحرم لقضاء الوقت والأحاديث.
لكن هذا البعد الروحاني لا ينفصل بطبيعة الحال عن البعد السياسي، وكما نقرأ في الجريدة فالقائد العام في خطابه يقول: “أهدي هذا المدفع إلى المجلس الاسلاميّ الأعلى، لقد استخدم هذا المدفع ضد العدو المشترك، وانه لمن المبهج حقًّا أن يعرف أنّه سيخصّص الآن لغاية سلميّة، وكم يكون اغتباطًا عظيمًا، لو أمكن الاستفادة من كل المعدّات العسكريّة لمثل هذه الغاية”.
إن بريطانيا ورغم كل صراعاتها مع الفلسطينيّين آنذاك ورغم التاريخ الحافل إلا أنّها استخدمت عنصر “العدو المشترك” مستحضرة ذكرى العثمانيّين محاولة منها خلال الاحتفال بناء المشترك وتوطيد العلاقات وايصال رسائل سياسية واضحة للفلسطينيّين قد تحمل معها نوعًا من تعزيز العلاقات.
لم تكن احتفاليّة تسليم المدفع تجري فقط في القدس، إنّما في المدن الرئيسيّة كلّها كحيفا وعكا ويافا وغيرها، وعادة ما كانت الاجراءات ذاتها.

توفّر لنا جريدة الدفاع مدخلاً لمقارنة الاحتفالات في المدن المختلفة، فنرى في عكا الاجراءات ذاتها مع التأكيد على الرسالة البريطانية التي ستتكرر دومًا بضرورة أن يكون السلاح لأغراض سلميّة، ونقرأه هنا في صيغة مشابهة للصيغة التي قيلت في القدس: “… وإني أقدم لكم الآن مدفعًا بالنيابة عن الجيش البريطاني في الشرق الأوسط، وسوف لا يستعمل هذا المدفع بعد الآن للحرب، وعندما تسمعون طلقاته أن يفكر المؤمنون بالأشياء الروحانية بدلاً من ميدان المعركة”.

في نابلس أيضًا تتكرر ذات الاجراءات، وكما في كل محفل، يبدأ خطاب القائد العام عادة بتعداد مآثر المدينة وأهميّتها، ثم يشدد على القضية المؤرقة لبريطانيا: “ان أعظم حرب عرفتها الانسانية قد انتهت، ولكنه لا يوجد جندي أو مدني أو شخص واحد يرغب في أن تعود هذه الحروب، ولذلك يسرني في هذا اليوم أن لا يرمي هذا المدفع الذي لي الشرف في اهدائه الى مدينة نابلس بمقذوفاته في الحرب بعد الآن، بل يبقى ملازماً أميناً لطقوسنا الروحية نحو اخواننا وليكن رمز العواطف، السلام والصداقة التي تقوم بين أمتينا”.
إن تركيز القائد البريطاني العام على السلاح مفهوم ضمن الرسائل السياسية، ليس فقط بسبب الإرث الطويل بين الفلسطينيين والبريطانيين بل بسبب استخدام المدفع ذاته أحيانًا لأغراض أخرى كما حدث في ثورة ال-36

رغم كل الخطابات والاحتياطات والتشديد على ضرورة استخدام المدافع لأغراض سلميّة وروحانيّة وليس لأغراض عسكريّة أو حربيّة إلا أنّ كل ذلك لن يجدي، حيث ستحمل الأطراف كلها السلاح، وستخوض حروبًا ومعارك، بعضها لا يزال مستمرًا حتى اليوم، لتخلق واقعًا جديدًا في المنطقة، واقع سيعيد تشكيل المجالات السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة كلها في المنطقة.