مخطوطٌ مُقدس أم كتابٌ ملعون؟ سحر شَمس المعارف وتعاليم البوني السرّية

تعمق في هذا المقال أكثر لكشف الحقيقة وراء هذا كتاب "شمس المعارف"، حيث ينطمس الخط الرفيع بين الممارسات الروحية الموقرة والسحر والتنجيم.

جدول أسماء الملائكة و البروج، مخطوطة شمس المعارف

جدول أسماء الملائكة والبروج، مخطوطة شمس المعارف، 1679-1688

يقترن كتاب شَمس المَعارف الشهير باسم كاتبه الأَصلي أحمد البوني الذي تتوفر معلومات محدودة حول أُصوله ووجوده. تشير الروايات التاريخية إلى أن اسمه الكامل ربما كان أبو العباس أحمد بن علي بن يوسف القريشي البوني، ونشأ في بونا في الجزائر. قضى معظم حياته في شمال أفريقيا، لا سيما مصر، معاصرًا للشخصية الصوفية الشهيرة محي الدين بن عربي. أحمد البوني، الذي وُصف بالساحر في الكثير من الأحيان، كان أكثر من ذلك بكثير.

على الرغم من تسميته بالساحر، كان أحمد البوني بالأساس معلمًا في التصوف، وتأثر بتعاليم ابن عربي. إذ شكل تركيزهما على الجوهر الروحي للتصوف، خاصة القوى السحرية التي تتجلى في حروف اللغة العربية، أساس تعاليمهما.

الآن، دعونا نتحدث عن “شمس المعارف”، الكتاب الأسطوري الذي نُسب إلى البوني. هذه الموسوعة الواسعة في علوم السحر تضم تمائم لجلب الجن والحبيب والرزق وسرّ قوى حروف اللغة العربية. ولكن ها هي اللفتة الفارقة: لم يكن البوني، الصوفي في جوهره، ينظر إلى الكتاب على أنه كتاب سحر بالمعنى المعروف، بل صاغه لجمهور محدد من طلاب التصوف المبتدئين ليعلمهم تعاليمه، بل وحظر نشره للعامة.

لقد كشف هذا الكتاب، الذي يحظى بالتبجيل بسبب رؤاه الروحية ويُخشى بسبب مخاطره المفترضة، عن نسيج غني من الحكمة القديمة.

يعد “شمس المعارف الكبرى” نصًا جوهريًا ضمن علوم السحر والتنجيم، إنه يقع ضمن إطار صوفي تأملي، يستكشف علم الكون المعقد حيث كل شيء مترابط. يتناول الكتاب موضوعات متنوعة، بدءًا من قوى الحروف العربية وارتباطها بالأجرام السماوية والأبراج والملائكة وأسماء الله الحسنى غيرها.

جدول أسماء الملائكة و البروج، مخطوطة شمس المعارف،1679-1688
جدول أسماء الملائكة و البروج، مخطوطة شمس المعارف،1679-1688

 

لا يقتصر النص على تقديم الفوائد الروحية ولكنه يقدم أيضًا تعليمات عملية، بدءًا من تعويذات لجذب الحبيب إلى علاج الأمراض أو حتى تلبية النوايا الخبيثة مثل إيذاء الأعداء. وعلى الرغم من تقديم تعليمات حول كيفية تلبية هذه الرغبات، إلا أن الكاتب يُحَذِّرُ منها، ويُسَلِّط الضوء على العَواقب المحتملة لها في الحياة الآخرة. لذا فهو يعطي تعليمات ولكنه أيضًا يقول “ربما لا ينبغي عليك اتباعها”.

يتعمق المخطوط في العلاقة بين الحروف الأبجدية العربية الثمانية والعشرين ومنازل القمر الثمانية والعشرين، ويربطها بمجالات كوكبية وملائكة محددين. تلعب الأرقام دورًا مهمًا، خاصة في بناء التعويذات باستخدام “الجيماتريا”، أي ربط كل حرف بقيمة عددية معينة واستخلاص قيم للكلمات. كل حرف من الحروف الأبجدية يقابل رقمًا معينًا، فحرف الألف يقابل واحدًا والباء يقابل اثنين، الجيم يقابل ثلاثة، الدال يقابل أربعة وهكذا. وعندما تكتب كلمات باستخدام هذه الحروف، فإن الكلمة ككل لها قيمة عددية أيضًا حيث يتم جمع أرقام الحروف مما يؤدي إلى خلق تعويذات.

يمكن أن تتخذ التمائم أشكال عديدة ولكنها غالبًا ما تتضمن دائرة أو مربعًا سحريًا. على سبيل المثال، لتسخير قوة كوكب المشتري الذي يتمتع بنوع من طاقة الوقاية والحظ، يمكنك إنشاء مربع سحري لذلك، تأخذ الحرف المرتبط بكوكب المشتري دال الذي له القيمة العددية للرقم أربعة. وبذلك تقوم بعمل مربع سحري أربعة في أربعة أي ثماني مربعات ثم تكتب حرف الدال 35 مرة.

على سبيل المثال أيضا، يتم اقتراح علاجات مثل استخدام الماء الممزوج بالحبر، وكتابة كلمات معينة، وإعطاء الماء المنقوع لشخص مريض لحمايته من الحمى الناجمة عن لدغة العقرب. أو كتابة مربعات تحتوي اسم من أسماء الله الحسنى وأرقام معينة لطلب الرزق.

 

تميمة لنيل القبول، مخطوطة شمس المعارف،1688-1679
تميمة لنيل القبول، مخطوطة شمس المعارف،1679-1688

 

يمكنك أيضًا كتابة التعويذات على قطعة من الحرير الأصفر، من المفضل فعل ذلك أثناء وجود القمر في برج السرطان أو كوكب المشتري.كما يمكن حرق أي بخور ذو رائحة طيبة، إذا فعلت ذلك وحملته معك يعدك الكتاب بتحقيق كل أهدافك ومُرادك من سلطة وشهرة وستحبك النساء أيضًا.

مَع مرور السنين، حظيت تعاليم البوني بالاعترافِ والنقد على حد سواء. رغم تقديرها من قبل العلماء والفلاسفة والمتصوفة، اتُهمت تلك التعاليم في بعض الأحيان بالسحر، مما أثر على قبولها في الفكر الإسلامي التقليدي. لكن كتاباته استمرت في التأثير، وشكّلت تقليدًا سحريًا يتجاوز الزمن يُمارسُ الى الآن.

صورة الأرض للشّريف الإدريسيّ

تُعتبر خرائط الإدريسيّ التي ظهرت بكتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" من أهمّ المصادر التي اعتمدها العالم في العصور الوسطى.

صورة الأرض ‏ل‏لشريف الإدريسي، نسخة 1951، مجموعة عيران لئور للخرائط، المكتبة الوطنية

صورة الأرض ‏ل‏لشريف الإدريسي، نسخة 1951، مجموعة عيران لئور للخرائط، المكتبة الوطنية

إيمان الأنصاري

لقب بالصّقليّ لأنّه اتّخذ جزيرة صقلية موطناً له بعد سقوط الدّولة الإسلاميّة. ولقب بسطرابون العرب نسبة للجغرافيّ الإغريقيّ الكبير سطرابون. هل عرفتم من هو؟ إنّه أطلس العرب، العالم المسلم الجغرافيّ الكبير “أبو عَبد الله مُحَمَّدٌ بن مُحَمَّدٌ الإِدْرِيسي الْهَاشِمِيّ الْقُرَشِيّ“. يا تُرى لماذا ننسبه إلى الغرب؟ وهو الرّائد في مجاله؟ لماذا ننسبه إلى صقلية وهو ابن المغرب؟ لماذا نلقبه بسطرابون العرب وهو أوّل من رسم خرائط دقيقة، وقام بإعادة تحديد خطوط الطّول والعرض، وهو من مؤسسي علم الجغرافيا الحديثة وأوّل من صمّم مجسم الكرة الأرضيّة ورسم خارطة العالم. بصراحة القائمة بوصفه تطول، وتأثيره حتى يومنا هذا يجول، هل تودون معرفة المزيد عنه؟

فلنتحدث بداية عن نسبه، لُقب بالشّريف الإدريسيّ نسبة إلى سلالة الأسرة الإدريسيّة العربيّة المغربيّة التي ينتهي نسبها إلى النبي محمد ﷺ، وقد حكمت المغرب ما بين 788 م – 974 م. وُلد الشّريف الإدريسيّ عام 1100 م في سبتة (المغرب سابقًا) واليوم هي تحت حكم إسبانيا وتُوفي عام 1165 م. بالإضافة لكونه جغرافيًّا، كتب في الأدب والشّعر والنّبات ودرس الفلسفة والطّب والنّجوم في قرطبة لذلك لُقب أيضا بالقرطبيّ. اشتهر بكتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” الذي ألفه بناءً على طلب الملك النّورمانيّ روجر الثّاني ملك صقلية، لذلك سُمي أيضا ب “كتاب روجر”، ويُعتبر أحد أهم الأعمال الجغرافيّة في العصور الوسطى. حيث قام الإدريسيّ بجمع كل المعلومات التي عرفها واكتسبها في رحلاته في هذا العمل، ويحتوي أيضًا على عدّة خرائط لكل العالم، ومعلومات عن المدن الرئيسيّة، وقد بقي مرجعًا لعلماء أوروبا لمدة تزيد عن 300 سنة.

في فترة الملك النورمانيّ كانت العلاقات الإسلاميّة والمسيحيّة في أوجها، وُلد روجر الثّاني عام 1095 م، وكان مهتمًا بعلوم الجغرافيا، ولم يكن راضيًّا وقتها عن الأوصاف للأرض في وقته، فقد كانت لديه خريطة مستمدة من أهم اثني عشر عملًا موجودة في وقته والتي أظهرت أنها تناقض بعضها البعض في كل مكان تقريبًا. فقرر أن يبدأ مشروعًا به وصف مفصّل للأرض والمعالم الجغرافيّة في ذلك الوقت، لذلك استعان بأفضل جغرافيّ كان في زمانه وهو الشّريف الإدريسيّ.

بعد سقوط دولة المرابطين الإسلاميّة، اختار الإدريسيّ الانتقال إلى صقلية بعد سقوط الحكومة الإسلاميّة، لأن الملك النورمانيّ في ذلك الوقت «روجر الثّاني» كان مُحبًّا للمعرفة، فدعاه للبقاء معه مشيرًا إلى أنّه ينحدر من عائلة الخلفاء السّابقة، وسيشعر الخليفة الجديد بالرّيبة بسبب بقاءه في البلاد، ووعده بالاعتناء به. فكانت له مكانة كبيرة عند الملك روجر الثّاني، حتى أنّه كان يقوم لتحيّته بإجلال عند لقاءه. فعمل الادريسيّ على مشروع استجواب الرّحالة بشكل فرديّ أو جماعيّ بمساعدة المترجمين الفوريين للمسائل الجغرافيّة المختلفة لمدة 15 عامًا بدون انقطاع، فمثلًا سأل الرّحالة عن المسافات بين مواقع الأماكن وفقًا لخطوط الطّول والعرض. والأجوبة التي تمّ الاتّفاق عليها قد ثبتت في عمله، والمعلومات التي عليها خلاف ذلك تمّ استثنائها.

تُعتبر خرائط الإدريسيّ التي ظهرت بكتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” من أهمّ المصادر التي اعتمدها العالم لمدّة تزيد عن 300 سنة في العصور الوسطى. حيث جمع به كل المعلومات التي عرفها واكتسبها في رحلاته، ووصف المدن ورسم خرائط دقيقة أظهرت كافة التضاريس من بحار، وأنهار، وجبال بدقة، ورسم كذلك خطوط الطّول والعرض. ويلاحظ أن الخريطة مقلوبة، لأن الجغرافيين المسلمين لم يرغبوا بوضع العالم الإسلاميّ أسفل العالم النّصراني. وقد رسمها بناء على طلب ملك صقلية روجر الثّاني الذي كان مهتمًّا بالعلم والمعرفة. في الكتاب هناك أيضا معلومات تاريخيّة، وثقافيّة، ودينيّة مهمّة. بفضل الإدريسيّ وخارطته أصبحت صقلية وجهة جذابة للدّراسة والاستكشاف. جمع أجزاء الخارطة المتفرقة المستشرق الألمانيّ كونراد ميلر باللغة اللاتينية في سنة (1926-1931) م. يمكنكم الاطلاع عليها هنا في فهارس المكتبة الوطنية، وأعادها إلى أصلها العربيّ الأستاذ محمد بهجة والدّكتور جواد علي عضوا المجمع العلميّ العراقيّ، ويمكنكم الإطّلاع عليها هنا.

على الرّغم من أنّ عمر الخارطة يتجاوز ال 800 عامًا، وهي خارطة ثريّة بحيث تحتوي على 2064 اسم مدينة، (في أفريقيا 365، في أوروبا 740، في آسيا 959 اسم مدينة)، من بينها تقريبًا جميع المدن المزدهرة والمكتظة بالسّكاّن في أفريقيا، لا يزال من الممكن التّعرف على الكثير من المدن وتحديدها حتّى اليوم بالرّغم من اندثار العديد منها. لم تنجو الخريطة كخريطة كليّة، ولكن يمكن العثور عليها في أجزاء من الكتب، حيث تتكوّن من 70 ورقة فرديّة. تتكون الخارطة في الأصل من 7 طبقات أفقيّة، تسمى الأقاليم السّبعة (أي الأماكن التي تقع على نفس خطّ العرض الجغرافيّ)، وقسّم كل إقليم إلى عشرة أقسام متساوية، ورسم لكل قسم خريطة، وبذلك تنقسم الخريطة بأكملها إلى 70 قسمًا.

 

صورة الأرض للشّريف الإدريسيّ
صورة الأرض للشّريف الإدريسيّ

أما في هذه الصّورة أعلاه تمّ رسم هذه الخارطة بالمقلوب! أي أنّ اتّجاه الجنوب هو في الأعلى والشّمال إلى الأسفل، رسمها الشّريف الإدريسيّ القرشيّ إلى ملك صقلية روجر الثّاني. وفي هذا المقطع من الخارطة يظهر العالم العربيّ والشرق الأوسط. يلاحظ أنّ الخريطة مقلوبة، لأن الجغرافيين المسلمين لم يرغبوا بوضع العالم الإسلاميّ أسفل العالم النصرانّي. في هذا القسم من الخارطة، تظهر شبه الجزيرة العربيّة بشكل واضح، وأيضًا بإمكاننا أن نرى بلاد الشّام، وفلسطين، والقدس، وممكن بوضوح رؤية بحيرة طبرية، والبحر الميت، ونهر الأردن.

بعدما تعلمنا عن الادريسيّ، وفهمنا دوره الكبير في تطوير علم الجغرافيا؛ إذ كان للعرب إنجازات وإسهامات في تطوّر العلوم والمعرفة، فلولاها لما وصل العالم إلى ما هو عليه اليوم من التطوّر العلميّ والتكنولوجيّ. لن ننسى دور الإدريسيّ في الجغرافيا، ودور الخوارزميّ في الرياضيات، ودور ابن الهيثم في العلوم، وغيرهم من العلماء العرب والمسلمين. وبطبيعة الحال، كان هناك دورًا للأمم السّابقة في بناء الحضارات، فالحضارة الإنسانيّة عبارة عن سلسلة، كل أمّة من الأمم تُضيف حلقة في هذه السّلسة، فالاكتشافات والاختراعات الحديثة لا تُجيّر إلى الحضارة الغربيّة المعاصرة، لأنها بنت علومها على علوم الأمم السّابقة.

قائمة المراجع:

Erläuterungen zu der von K. Miller, Stuttgart, 1928 zum erstenmal herausgegebenen grossen farbigen Weltkarte des Idrisi.

Miller, Konrad. Mappae Arabicae – arabische Welt-und Länderkarten.  Band I/II. Die Weltkarte des Idrisi vom Jahr 1154. Stuttgart : Selbstverlag, 1926.

Idrisi map – German – w 106 – 990025938860205171
Idrisi map – Arabic – w 106.1 – 990043688830205171

السبت: يوم مبارك ومقدّس ويوم عطلة

السبت هو يوم مبارك ومقدّس ويوم استراحة وعطلة من جميع الأعمال في الديانة اليهودية، ويرمز إلى عقيدة الخلق في ستة أيام.

مخطوط لكتاب موسى بن ميمون، جملة أحكام الشريعة وإعمالها – القرنان 16-17م، صفحة من صدر الكتاب

مخطوط لكتاب موسى بن ميمون، جملة أحكام الشريعة وإعمالها – القرنان 16-17م، صفحة من صدر الكتاب.

يعتبر يوم السبت يومًا مميزًا في اليهودية على ثلاثة مستويات، فهو اليوم الوحيد في التوراة الذي باركه الرّب وقدّسه وفرضه كيوم عطلة. نقرأ في التوراة: “وبارك الله اليوم السابع وقدّسه” (التكوين 2: 3، وكذلك نقرأ في سفر الخروج 20: 11). أما على المستوى الثالث، فقد أمر الرّب عطلة في يوم السبت، بمعنى أنه يوم يتمتّع بحرمة، مثلما نقرأ: “وأما اليوم السابع فهو “سبت للرّب إلهك، لا تصنع فيه عملًا ما” (الخروج 20: 8-9)؛ وقد أكّد الفقهاء اليهود على طول العصور على ذلك ووضعوا الأنظمة والصلوات والتسابيح التي تؤكّد على ذلك.

توراتيًا، تعتبر فريضة الحفاظ على حرمة السبت وقدسيته إحدى أهم الشرائع المفروضة على كل يهودي (وعددها 613 فريضة) كما نقرأ في أسفار التوراة وأدب الفقهاء السلف. وردت هذه الفريضة بداية ضمن قائمة الوصايا العشر (الخروج 20)، وذكرت مرات عديدة في بقية الأسفار. ولكن متى يبدأ وينتهي اليوم في اليهودية؟ وفق تقسيم اليوم فقهيًا، ينتهي النهار ويبدأ اليوم الجديد فترة قصيرة بعد غروب الشمس عند الشفق، وهو أول ظلمة الليل بعد الغروب، ويبدأ الليل عند الغسق وهو أول ظلمته، وكل هذا يعود إلى قصة خلق آدم المخلوق في فترة زمنية يطلق عليها الفقهاء تعبير “بين الشموس”، والمقصود بها الفترة التي تفصل بين الشفق والغسق، وهو بداية اليوم. فالسبت يبدأ إذًا منذ لحظة الغسق وينتهي في الشفق بعد غروب الشمس بعد النهار التالي.

على سبيل المثال، نقرأ في سفر الخروج: “اذكر يوم السبت لتقدّسه. ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك، وأما اليوم السابع ففيه سبت للرّب إلهك. لا تصنع فيه عملًا ما” (20: 8-9)؛ “سبوتي تحفظونها … فتحفظون السبت ستة أيام يصنع عمل، وأما اليوم السابع ففيه سبت عطلة مقدّس للرّب … فيحفظ بنو إسرائيل السبت” (31: 13- 16)؛ “ستة أيام يعمل عمل، وأما اليوم السابع ففيه يكون لكم سبت عطلة مقدّس للرّب … لا تشعلوا نارًا في جميع مساكنكم يوم السبت” (35: 2- 3).

مخطوط لكتاب موسى بن ميمون، جملة أحكام الشريعة وإعمالها – 1914، اليمن
مخطوط لكتاب موسى بن ميمون، جملة أحكام الشريعة وإعمالها – 1914، اليمن

 

كتاب المشنا (ترجمة متن التلمود)
كتاب المشنا (ترجمة متن التلمود)

ولكن، لا تكتفي أسفار التوراة بذكر الفرض فقط، بل تزيد وتشير إلى علّته وسببه والفائدة منه والحكم المفروض على كل يهودي ينتهكه. نقرأ في سفر التكوين أن قدسية يوم السبت نابعة من حقيقة أن الرّب قد “استراح”، أو أنهى عملية الخلق، في اليوم السابع (السبت): “وبارك الله اليوم السابع وقدّسه، لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالقًا (التكوين 2: 3). كما ونقرأ في سفر الخروج كذلك أن حرمة السبت وقدسيته نابعة من عدة أسباب وعلل أخرى. الأول، أنه علامة بين الرّب وبني إسرائيل تفيد “إني أنا الرّب الذي يقدّسكم” (الخروج 31: 13)، بمعنى أن الرّب قد جعل السبت علامة لتقديس الرّب لبني إسرائيل؛ ويضيف في الثاني والثالث سببين إضافيّين غير مرتبطين بقدسية بني إسرائيل ويفيدان الإطلاق، الثاني: لأنه يوم “مقدّس لكم” (31: 13)، والثالث لأنه “مقدّس للرّب” (35: 2)، بمعنى “إنه سبت للرّب” (اللاويّين 23: 3؛ التثنية 5: 14)، كما ونقرأ في سفر النبي إشعياء اصطلاحين يفيدان نفس هذا المعنى: “يوم قُدسيومقدّس الرب” (إشعياء 58: 13). أما السبب الرابع، وهو السبب الأول المذكور في التكوين، فيفيد معنى آخر مختلفًا تمامًا: “اذكر يوم السبت لتقدّسه … لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، واستراح في اليوم السابع، لذلك بارك الرب يوم السبت وقدّسه” (الخروج 20: 8- 11)، وكذلك: “لأنه في ستة أيام صنع الرّب السماء والأرض، وفي اليوم السابع استراح وتنفّس” (الخروج 31: 17). ونقرأ في موضع آخر إضافة سبب خامس مفاجئ يختلف كليًا عن جميع الأسباب السابقة ومفاده أن فرض الحفاظ على قدسية السبت نابع من تحرير أبناء إسرائيل من عبودية مصر بقوة شديدة: “احفظ يوم السبت لتقدّسه كما أوصاك الرّب إلهك … واذكر أنك كنت عبدًا في أرض مصر، فأخرجك الرب إلهك من هناك بيد شديدة وذراع ممدودة، لأجل ذلك أوصاك الرّب إلهك أن تحفظ يوم السبت” (التثنية 5: 12- 15).

 

تتجسّد قدسية السبت وحرمته في الامتناع عن ممارسة بعض الأعمال، وعددها 39 عملًا، وهي الأعمال المقابلة لتلك الأعمال التي نفّذت في بناء هيكل سليمان (الخروج 31)، ويطلق عليها السلف تعبير “أمّهات الأعمال” ومنها تتولّد أعمال إضافية. وتشمل هذه الأعمال جميع أنواع العمل المعتمدة في الزراعة، من غرس وزرع وحصاد وقطف للثمار وتقليم للأشجار وحرث للأرض ودرس للحبوب وتنقيتها وغيرها الكثير؛ والأعمال المخصّصة لصناعة الملابس والأقمشة بجميع تفاصيلها؛ وكذلك الصيد والذبح وكل الأعمال المرافقة لذلك من سلخ وتنظيف وغيرها؛ وإشعال النار وإخمادها؛ والطبخ وكل ما يتخلّله؛ والسفر؛ والخروج من حيّز المدينة، كما تخبرنا مجاميع الأحكام (المشناه، السبت 7ب؛ موسى بن ميمون، جملة أحكام الشريعة وإعمالها (سفر همتسڤوت)، الفريضة رقم 329، وهي الفريضة 24 بحسب ترتيبها في التوراة).

أما العقوبة التوراتية المفروضة على منتهك حرمة السبت وقدسيته فهي القتل بصورة صريحة: “فتحفظون السبت لأنه مقدّس لكم، من دنَّسه يقتل قتلًا. إن كل من صنع فيه عملًا تقطع تلك النفس من بين شعبها … كل من صنع عملًا في يوم السبت يقتل قتلًا” (الخروج 31: 14- 15). أما الحاخامات السلف فقد بدّلوه بعقاب تقديم الأضاحي للتكفير عن هذا الاثم (المشناه، السبت 7أ؛ بن ميمون، جملة أحكام الشريعة وإعمالها، الفريضة رقم 320، وهي الفريضة 32 بحسب ترتيبها في التوراة)، وذلك لأنهم اعتبروا أن انتهاك حرمة السبت يتم “سهوًا” لا “قصدًا”.

لاهوتيًا، تتعقّد مسألة تقديس السبت بعض الشيء، ولطالما بدأ النقاش بالتساؤل الأساسي حول تقسيم الأفعال: فمنها فعل عبث الذي لا يُقصد منه أي غاية؛ وفعل اللعب هو ذلك الفعل الذي لا يُقصد به أمرًا ضروريًا أو مفيدًا؛ والفعل الباطل هو الفعل الذي يقصد به فاعله غاية ما ولكنها لا تتحقّق؛ أما الفعل الأخير فهو “الفعل الجيد الحسن”، وهو “الفعل الذي يفعله فاعله لقصد غاية شريفة، أعني ضرورية أو نافعة، وتحصل تلك الغاية”، كما جاء عند بن ميمون. ويخبرنا بن ميمون كذلك قائلًا: “إنه لا يتّسع لذي عقل أن يقول إن شيئًا من أفعال الله باطل أو عبث أو لعب”، ويضيف أن المؤمنين بشريعة موسى يرون أن جميع أفعال الرّب “كلّها جيدة حسنة جدًا، [فقد] قال: “ورأى الله جميع ما صنعه فإذا هو حسن جدًا” (التكوين 1: 31). فكل ما فعله تعالى من أجل شيء، فإن ذلك الفعل ضروري في وجود ذلك الشيء المقصود أو مفيد جدًا … وهكذا هو أيضًا الرأي الفلسفي أن ليس في الأمور الطبيعية كلّها شيء على جهة العبث” (موسى بن ميمون، دلالة الحائرين، طبعة حسين آتاي، الجزء الثالث، الفصل 25، ص 565- 567). وينتهي بن ميمون، وهو يعكس توجّه التفسير الذي يرد في تراث السلف والمتأخرين على حد سواء، إلى أن الشرائع الإلهية جميعها تبتغي غاية ما وهي حسنة وجيدة: “إن كل أمر ونهي منها تابع لحكمة أو المقصود به غاية ما؛ وأن الشرائع كلّها معلّلة، ومن أجل فائدة ما شرع بها؛ أما كونها كلّها لها علّة ونحن نجهل علل بعضها، ولا نعلم وجه الحكمة فيه، فهو مذهبنا كلّنا الجمهور والخواص”. أما غاية الشريعة جميعها فهي صلاح نفس الإنسان وصلاح جسمه (المرجع السابق، الفصل 26، ص 570- 571؛ الفصل 27، ص 575).

بخلاف الرأي الخاطئ الشائع بين العامة الذي يعاين السبت من خلال اصطلاحات الجهد المبذول، أي أن السبت مقدّس بمعنى أنه يحرم على المؤمن اليهود أن يبذل أي جهد، والحقيقة أنه يمكن أن نستشفّ ذلك من خلال السياقات التي تذكر قدسية السبت في التوراة، فإن جوهر التحريم سببه، وفق التراث الطويل من التفسيرات وتعليقات الفقهاء على مدار مئات السنين، أن يكون المؤمن سببًا في إحداث تغيير ما طيلة يوم السبت. على سبيل المثال، لماذا يحرّم إشعال أو إخماد النار، أو تشغيل الكهرباء، أو الطبخ، أو فتح قارورة كانت محكمة الإغلاق في السبت؟ لا بسبب ضرورة بذل جهود معينة لتنفيذها، بل لأن أي من هذه الأفعال يتسبّب في إحداث تغيير وبداية سيرورة، كذلك الأمر بخصوص الطبخ والزراعة والعمل بالقماش وغيرها. وبمفهوم معين، فإن هذا التحريم يفرض مشابهة بين فعل الإنسان وفعل الرّب عند خلقه الكون، فكما أن الرّب عمل وأبدع طيلة ستة أيام وفي اليوم السابع “استراح”، بمعنى التوقّف عن الخلق، لا بمعنى الراحة الجسدية الصادرة عن بذل جهد، كذلك يجب على اليهودي أن يفعل. ومن خلال “عطلة” أو “استراحة” المؤمن في السبت، فإنه يعود بذلك على قصة الخلق مرة تلو الأخرى، كما ويعود ويؤكّد كل أسبوع من جديد على أن الرّب خلق الدنيا في ستة أيام وأنه لم يكن فكان من لا شيء قبله. فالسبت تذكرنا من هو خالق العالم. وقد عبّر النبي سليمان عن هذا “التذكير” حين قال “إنْ وُجد شيء يقال عنه: انظر، هذا جديد!، فهو منذ زمان كان في الدهور التي كانت قبلنا” (سفر الجامعة 1: 10). فكل ما “يكتشفه” الإنسان إنما كان قائمًا منذ الخلق، ولكن الإنسان يعثر عليه ليس إلّا. فقوة الكهرباء وموجات الراديو وقوة الجاذبية وكذلك الإنترنت وأشعة الليزر كانت قائمة في الخليقة، ولكن ما يفعله الإنسان أنه يعثر عليها فقط. فكل شيء قد خُلق في ستة أيام الخليقة. وحين يعمل الإنسان على مدار ستة أيام ويستريح يوم السبت فهو إنما يتشبّه بالخالق ويصبح بمثابة “خالق” صغير، كما وأنه حين يتوقّف عن عمله يوم السبت فإنما يؤكّد بذلك على أنه ليس “سيّد” العالم بل هو منصاع إلى سلطان الكون.

الفقه اليهودي: مصادر سلطته | طابون عخناي (فرن الأفعى)

الفقهاء اليهود هم السلطة الحصرية لمناقشة التشريعات الدينية ولا مكان للتدخّل السماوي في المسائل الفقهية. للمزيد في المقال.

كتاب الأحكام الشرعية

كتاب الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية للإسرائيليين

تعتبر مسألة مصادر سلطة مناقشة المسائل الفقهية وتحديد الشرائع غير التوراتية من المسائل المفاجئة، لا سيما للجمهور المسلم، لأن السلف اليهودي قد فرض أنه يتعيّن على الفقهاء أن لا يعتمدوا على الوحي أو الأحلام أو الإلهام في مناقشاتهم للمسائل الفقهية، بل عليهم أن يلتزموا بالعقل البشري واجتهاد الفقهاء حصرًا للبت في المسائل الفقهية. وأما بداية هذا النقاش، وفق التراث اليهودي، فقد ظهر في الحقبة الفاصلة بين خراب الهيكل الثاني وفشل ترّد بار كوخبا (70-136م)، ويطلق على فقهاء هذه الحقبة تعبير “الثنويون” (تنائيم – من لغة التلقين وقراءة وفحص النص على الدوام مرة بعد الأخرى).

ترد في إحدى صفحات التلمود البابلي (الباب الأوسط 59ب) قصة تعالج خلافًا فقهيًا ظهر بين هؤلاء الفقهاء، ودار هذا الخلاف حول مسألة فقهية محدّدة مرتبطة بالطّهارة والنّجاسة.

ولكن قبل الوقوف عند خلاصتها، نتوقف عند معنى الاسم “طابون عخناي”. عخناي، أو حخناي، هو تصحيف كلمة “أكيدنا” السريانية والمأخوذة من اليونانية وتعني أفعى، وهناك اعتقاد يقول إنَّ عخناي هو اسم علم كان يعمل في بناء الطوابين في حينه. أما “طابون” فهو فرن الطهي والخبيز، ويتشكّل من الطّوب بحيث تلتصق الطوب بعضها ببعض عن طريق وضع الرمل بين الواحدة والأخرى. أما “طابون عخناي” فهو ذلك الطابون الذي يتخذ شكل الأفعى حين تلتف حول نفسها. وهناك مجازًا تلموديًا يقول “هكيفوهو كتنورو شل عخناي” (أحاطوا به كطابون عخناي) ومعناه مجازًا: أحاطوا بالشيء من كلّ جانب. ويتلخّص السؤال المطروح أمام الفقهاء في كيفية التعامل مع هذا الطابون، هل يجب اعتباره أداة واحدة قائمة بذاتها، لا سيما وأنَّ الطين يوضع على الطوب من الخارج، أم كأداة مكسورة أو أداة ترابية، ووفق الفقيه شلومو يتسحاقي (فرنسا ت. 1105م) فقد اعتبر الفقيه إليعازر هذا الطابون شأنه كشأن عمارة البيت، وبهذا يحكم عليه كالحكم على عناصره المكوّنة له، ألا وهو التراب الذي يعتبر طاهرًا ولا تلحقه نجاسة بحسب الشريعة اليهودية التقليدية. فإذا قمنا بتفكيك هذا الطابون إلى عناصره المكوّنة له وأعدنا بناءه من جديد بواسطة لصق أجزاء الطّوب بواسطة الطين، هل يعتبر في هذه الحالة أداة لا تقبل النجاسة، لأن عناصره لا تقبل النجاسة (لأنه من التراب بالأصل)، أم لا، كما اعتقدت غالبية الفقهاء في حينه لأنه أداة واحدة متكاملة، والعديد من الأدوات المستخدمة في الطهي تقبل النجاسة، بصرف النظر عن العناصر المكوّنة له؟

تحوّل هذا النقاش الفقهي إلى خلاف مبدئي بشأن مكانة الوحي في مختلف درجاته ومراتبه والمعجزات و”هاتف من السّماء” (بت قول) في المسائل الفقهية. وتجدر الإشارة إلى أن رجال الدين في اليهودية يتمتّعون بدرجات قداسة معينة تؤهّلهم التواصل مع الوحي. بعبارات أخرى، فقد تحوّل النقاش إلى خلاف بشأن مصادر سلطة البت في المسائل الفقهية، هل يمكن الاعتماد على رسائل إلهية في تحديد الشرائع فقهيًا والبت عمومًا في مسائل فقهية، أم لا؟ فيمكن أن يأتي أحد الفقهاء في سياق مناقشة مسألة فقهية معينة ويدّعي استنادًا إلى عبارة توراتية معينة، أو القول إنه جاءه وحي من السّماء في الحلم أو اليقظة ليخبره بالشرع “السليم” الذي يجب التوصّل إليه في المسألة الفقهية المطروحة؛ بينما يأتي فقيه آخر فيدّعي مثله ولكن وحيه أخبره بشرع “سليم” آخر يجب اعتماده. ما هو العمل في مثل هذه الحالة؟ الحل الذي توصّل إليه الفقهاء حقبة “الثنويّين” عبر مناقشة مسألة “طابون عخناي”، هو أنَّ المسائل الفقهية مرتبطة حصرًا بالفقهاء أنفسهم والحجج التي يطروحنها واعتماد رأي الأغلبية في نهاية المطاف، استنادًا إلى العبارة التوراتية “وراءَ الأكثر فَمِلْ” (الخروج 23: 2- ترجمة سعيد الفيومي)، والتي تحوّلت إلى إحدى وصايا التوراة الـ613 المفروضة على اليهود جماعة وأفرادًا. ولكن تجدر الإشارة إلى أن الجملة التوراتية الكاملة التي أخذت منها هذه العبارة ترد بصياغة سلبية: “لا تَتْبَعِ الكثيرينَ إلى فِعْلِ الشَّرِّ، ولا تُجِبْ في دعوى مائلًا وراءَ الكثيرينَ للتَّحريفِ” (ترجمة فاندايك)، أيّ توصي هذه الجملة التوراتية عدم اتّباع رأي الأكثرية إذا كان يميل إلى الشرور وعدم الاستقامة، ولكنها لا تقول صراحة إنه يجب اعتماد رأي الأغلبية في الأمور الفقهية وأمور أخرى.

كتاب في فقه الذبيحة مقاصدها لأحد رجال الدين القرائيّين، غير معروف مؤلفها ولا زمان كتابته وربما في مصر.
كتاب في فقه الذبيحة مقاصدها لأحد رجال الدين القرائيّين، غير معروف مؤلفها ولا زمان كتابته وربما في مصر.

 

حاول الراب إليعازر بن هوركنيس، ممثّل التيار التقليدي في الفقه، أن يدعم الرأي الأول القائل إنَّ مسألة قبول أو عدم قبول الأداة النجاسة مرتبطة بقبول أو عدم قبول العناصر المكوّنة له النجاسة، من خلال الاستعانة بمعجزات والوحي. رفض طرف الأغلبية، وعلى رأسهم الراب يهوشع، جميع هذه الأسانيد والمعجزات وقول الوحي، وتعلّقوا بطرح مبدئي مفاده أنه لا مكان للتدخّل السماوي في المسائل الفقهية، استنادًا إلى عبارة توراتية “ليست هي بالسّماء” (التثنية 30: 12)، بل ترتبط هذه المسائل بصورة حصرية بالفقهاء أنفسهم، ويجب اعتماد رأي أغلبية الفقهاء في إصدار الأحكام بشأنها. وتجدر الإشارة إلى أنَّ هذا الطرح المبدئي استُخدم كذلك في تفسير التوراة ودراسة آثار الفقهاء السلف، فالتوراة بعد أن نزلت على موسى أصبحت بين يدي البشر، وهم المخوّلون حصرًا للبتّ فيها وتفسيرها، ولا دخل للرّب ولا للوحي في هذه الأمور.

ومن الهام بمكان الإشارة إلى أنَّ هذا النقاش يرتبط بصورة كبيرة بالثورة الدينية التي أحدثها الراب يوحنان بن زكايّ في أعقاب خراب الهيكل الثاني (70م)، والذي كان يعتبر حتى تلك الفترة مركز العبادة الحصري، وكانت العبادة تتمحور بالأساس حول تقديم القرابين والتقدمات. وعلى إثر خراب الهيكل، كان لزامًا على رجال الدين إدخال تغييرات كبيرة، فاستبدلت العبادة القديمة بفعل غياب الهيكل، بطقوس وممارسات بديلة، كالصلاة وقراءة التوراة ودراسته والبحث في آثار الفقهاء السلف وبناء الكنس. ولفعل ذلك كان يجب إعادة بناء المجمع الفقهي الأعلى (أو المحكمة العليا/السنهدرين) لطرح هذه الطقوس والممارسات البديلة والتصديق عليها.

الصلاة اليهودية بمختلف أنواعها ومواسمها وأزمانها

التلمود البابلي، الباب الأوسط 59ب: ترجمة

والتالي هو ما يعرف باسم طابون/فرن عخنايّ. تساءل (الفقهاء): ما معنى عخنايّ (أفعى) ولماذا أطلق عليه هذا الاسم؟ أجاب الراب يهودا عن صموئيل: لقد أحاط الفقهاء بالمسألة من كل جانب، كالأفعى التي تلتف حول نفسها، فنجّسوها. وردّد (الفقهاء) القول: في ذلك اليوم حين ناقش الفقهاء المسألة، طرح الراب إليعازر جميع الحجج الممكنة من أجل تعزيز رأيه، ولكنهم لم يقتنعوا بكل ذلك.

خاطبهم إليعازر قائلًا: إذا كان فقه الشريعة يتوافق مع رأيي، ستثبت شجرة الخروب هذه ذلك، فانتقلت شجرة الخروب من مكانها مسافة مائة ذراع، ويقول البعض بل أربعمائة ذراع. أجابه الفقهاء: لا نأخذ الدليل الشرعي من شجرة خروب. ثم قال لهم الفقيه إليعازر: إذا كان فقه الشريعة يتوافق مع رأيي، ستثبت قناة المياه ذلك، فتحوّل اتجاه الماء في القناة إلى الخلف. أجابه (الفقهاء): لا نأخذ الدليل الشرعي من قناة مياه. ثم قال لهم الفقيه إليعازر: إذا كان فقه الشريعة يتوافق مع رأيي، ستثبت جدران قاعة المجلس الفقهي ذلك، فمالت جدران القاعة إلى الداخل وكانت على وشك السقوط. وجّه الفقيه يهوشع صرخة باتجاه الجدران قائلًا لها: إذا كان فقهاء التوراة يتناقشون فيما بينهم في أمور فقه الشريعة، ما علاقتك بهذا النقاش؟ لم تسقط الجدران احترامًا للفقيه يهوشع، ولكنها لم تستقم احترامًا للفقيه إليعازر، وما زالت مائلة. عاد الفقيه إليعازر وقال لهم: إذا كان فقه الشريعة يتوافق مع رأيي، ستثبت السّماء ذلك. خرج هاتف من السّماء (بت قول) قائلًا: لماذا تخالفون الفقيه إليعازر، فإنَّ فقه الشريعة يتوافق مع رأيه في كل مسألة؟

وقف الراب يهوشع على رجليه وقال: “ليست هي بالسّماء” (التثنية 30: 12). يتساءل الفقهاء: ما علاقة عبارة “ليست هي بالسّماء” في هذا النقاش؟ أجاب الراب إرميا: بما أنَّ التوراة أعطيت في طور سيناء، فإننا لا نأخذ برأي الهاتف من السّماء، كما جاء في التوراة في طور سيناء: “مائلًا وراءَ الكثيرينَ” (الخروج 23: 2)، وبما أنَّ رأي غالبية الفقهاء خالف رأي الفقيه إليعازر، ففقه الشريعة لا يأخذ برأيه (بل ملتزم برأي الأغلبية). ويروي الفقهاء أنه بعد سنوات، التقى الفقيه ناتان بإيليا النبي وقال له: ماذا فعل القدوس تبارك اسمه في ذلك الوقت (عندما أصدر الفقيه يهوشع الحكم)؟ قال له إيليا: ابتسم القدوس تبارك اسمه وقال: لقد انتصر أبنائي عليّ، انتصر أبنائي عليّ.

يوسيف هكوهن بن شموئيل هليفي (عاش في القرن الـ14 أو الـ15)، كتاب في معاني شروط الذبيحة وتلخيص مقاصدها יוסף הכהן בן שמואל הלוי

يوسيف هكوهن بن شموئيل هليفي (عاش في القرن الـ14 أو الـ15)، كتاب في معاني شروط الذبيحة وتلخيص مقاصدها יוסף הכהן בן שמואל הלוי

 

قال الفقهاء: في ذلك اليوم، أحضروا جميع المأكولات التي أجازها الفقيه إليعازر بصفتها طاهرة وقذفوها في النار (لحرقها في الطابون/الفرن لأنها بحكم النجسة)، واتفق الفقهاء على هذا الحكم في ذلك ونبذوه (الفقيه إليعازر). وقال الفقهاء: من يذهب ليخبره بقرار نبذه؟ قال لهم الراب عكيفا (التلميذ المحبّب عليه): أنا أذهب لئلَّا يذهب آخر غير لائق فيبلغه بطريقة مهينة فيدمّر بالتالي العالم بأسره.