يعتبر يوم السبت يومًا مميزًا في اليهودية على ثلاثة مستويات، فهو اليوم الوحيد في التوراة الذي باركه الرّب وقدّسه وفرضه كيوم عطلة. نقرأ في التوراة: “وبارك الله اليوم السابع وقدّسه” (التكوين 2: 3، وكذلك نقرأ في سفر الخروج 20: 11). أما على المستوى الثالث، فقد أمر الرّب عطلة في يوم السبت، بمعنى أنه يوم يتمتّع بحرمة، مثلما نقرأ: “وأما اليوم السابع فهو “سبت للرّب إلهك، لا تصنع فيه عملًا ما” (الخروج 20: 8-9)؛ وقد أكّد الفقهاء اليهود على طول العصور على ذلك ووضعوا الأنظمة والصلوات والتسابيح التي تؤكّد على ذلك.
توراتيًا، تعتبر فريضة الحفاظ على حرمة السبت وقدسيته إحدى أهم الشرائع المفروضة على كل يهودي (وعددها 613 فريضة) كما نقرأ في أسفار التوراة وأدب الفقهاء السلف. وردت هذه الفريضة بداية ضمن قائمة الوصايا العشر (الخروج 20)، وذكرت مرات عديدة في بقية الأسفار. ولكن متى يبدأ وينتهي اليوم في اليهودية؟ وفق تقسيم اليوم فقهيًا، ينتهي النهار ويبدأ اليوم الجديد فترة قصيرة بعد غروب الشمس عند الشفق، وهو أول ظلمة الليل بعد الغروب، ويبدأ الليل عند الغسق وهو أول ظلمته، وكل هذا يعود إلى قصة خلق آدم المخلوق في فترة زمنية يطلق عليها الفقهاء تعبير “بين الشموس”، والمقصود بها الفترة التي تفصل بين الشفق والغسق، وهو بداية اليوم. فالسبت يبدأ إذًا منذ لحظة الغسق وينتهي في الشفق بعد غروب الشمس بعد النهار التالي.
على سبيل المثال، نقرأ في سفر الخروج: “اذكر يوم السبت لتقدّسه. ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك، وأما اليوم السابع ففيه سبت للرّب إلهك. لا تصنع فيه عملًا ما” (20: 8-9)؛ “سبوتي تحفظونها … فتحفظون السبت … ستة أيام يصنع عمل، وأما اليوم السابع ففيه سبت عطلة مقدّس للرّب … فيحفظ بنو إسرائيل السبت” (31: 13- 16)؛ “ستة أيام يعمل عمل، وأما اليوم السابع ففيه يكون لكم سبت عطلة مقدّس للرّب … لا تشعلوا نارًا في جميع مساكنكم يوم السبت” (35: 2- 3).
ولكن، لا تكتفي أسفار التوراة بذكر الفرض فقط، بل تزيد وتشير إلى علّته وسببه والفائدة منه والحكم المفروض على كل يهودي ينتهكه. نقرأ في سفر التكوين أن قدسية يوم السبت نابعة من حقيقة أن الرّب قد “استراح”، أو أنهى عملية الخلق، في اليوم السابع (السبت): “وبارك الله اليوم السابع وقدّسه، لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالقًا (التكوين 2: 3). كما ونقرأ في سفر الخروج كذلك أن حرمة السبت وقدسيته نابعة من عدة أسباب وعلل أخرى. الأول، أنه علامة بين الرّب وبني إسرائيل تفيد “إني أنا الرّب الذي يقدّسكم” (الخروج 31: 13)، بمعنى أن الرّب قد جعل السبت علامة لتقديس الرّب لبني إسرائيل؛ ويضيف في الثاني والثالث سببين إضافيّين غير مرتبطين بقدسية بني إسرائيل ويفيدان الإطلاق، الثاني: لأنه يوم “مقدّس لكم” (31: 13)، والثالث لأنه “مقدّس للرّب” (35: 2)، بمعنى “إنه سبت للرّب” (اللاويّين 23: 3؛ التثنية 5: 14)، كما ونقرأ في سفر النبي إشعياء اصطلاحين يفيدان نفس هذا المعنى: “يوم قُدسي … ومقدّس الرب” (إشعياء 58: 13). أما السبب الرابع، وهو السبب الأول المذكور في التكوين، فيفيد معنى آخر مختلفًا تمامًا: “اذكر يوم السبت لتقدّسه … لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، واستراح في اليوم السابع، لذلك بارك الرب يوم السبت وقدّسه” (الخروج 20: 8- 11)، وكذلك: “لأنه في ستة أيام صنع الرّب السماء والأرض، وفي اليوم السابع استراح وتنفّس” (الخروج 31: 17). ونقرأ في موضع آخر إضافة سبب خامس مفاجئ يختلف كليًا عن جميع الأسباب السابقة ومفاده أن فرض الحفاظ على قدسية السبت نابع من تحرير أبناء إسرائيل من عبودية مصر بقوة شديدة: “احفظ يوم السبت لتقدّسه كما أوصاك الرّب إلهك … واذكر أنك كنت عبدًا في أرض مصر، فأخرجك الرب إلهك من هناك بيد شديدة وذراع ممدودة، لأجل ذلك أوصاك الرّب إلهك أن تحفظ يوم السبت” (التثنية 5: 12- 15).
تتجسّد قدسية السبت وحرمته في الامتناع عن ممارسة بعض الأعمال، وعددها 39 عملًا، وهي الأعمال المقابلة لتلك الأعمال التي نفّذت في بناء هيكل سليمان (الخروج 31)، ويطلق عليها السلف تعبير “أمّهات الأعمال” ومنها تتولّد أعمال إضافية. وتشمل هذه الأعمال جميع أنواع العمل المعتمدة في الزراعة، من غرس وزرع وحصاد وقطف للثمار وتقليم للأشجار وحرث للأرض ودرس للحبوب وتنقيتها وغيرها الكثير؛ والأعمال المخصّصة لصناعة الملابس والأقمشة بجميع تفاصيلها؛ وكذلك الصيد والذبح وكل الأعمال المرافقة لذلك من سلخ وتنظيف وغيرها؛ وإشعال النار وإخمادها؛ والطبخ وكل ما يتخلّله؛ والسفر؛ والخروج من حيّز المدينة، كما تخبرنا مجاميع الأحكام (المشناه، السبت 7ب؛ موسى بن ميمون، جملة أحكام الشريعة وإعمالها (سفر همتسڤوت)، الفريضة رقم 329، وهي الفريضة 24 بحسب ترتيبها في التوراة).
أما العقوبة التوراتية المفروضة على منتهك حرمة السبت وقدسيته فهي القتل بصورة صريحة: “فتحفظون السبت لأنه مقدّس لكم، من دنَّسه يقتل قتلًا. إن كل من صنع فيه عملًا تقطع تلك النفس من بين شعبها … كل من صنع عملًا في يوم السبت يقتل قتلًا” (الخروج 31: 14- 15). أما الحاخامات السلف فقد بدّلوه بعقاب تقديم الأضاحي للتكفير عن هذا الاثم (المشناه، السبت 7أ؛ بن ميمون، جملة أحكام الشريعة وإعمالها، الفريضة رقم 320، وهي الفريضة 32 بحسب ترتيبها في التوراة)، وذلك لأنهم اعتبروا أن انتهاك حرمة السبت يتم “سهوًا” لا “قصدًا”.
لاهوتيًا، تتعقّد مسألة تقديس السبت بعض الشيء، ولطالما بدأ النقاش بالتساؤل الأساسي حول تقسيم الأفعال: فمنها فعل عبث الذي لا يُقصد منه أي غاية؛ وفعل اللعب هو ذلك الفعل الذي لا يُقصد به أمرًا ضروريًا أو مفيدًا؛ والفعل الباطل هو الفعل الذي يقصد به فاعله غاية ما ولكنها لا تتحقّق؛ أما الفعل الأخير فهو “الفعل الجيد الحسن”، وهو “الفعل الذي يفعله فاعله لقصد غاية شريفة، أعني ضرورية أو نافعة، وتحصل تلك الغاية”، كما جاء عند بن ميمون. ويخبرنا بن ميمون كذلك قائلًا: “إنه لا يتّسع لذي عقل أن يقول إن شيئًا من أفعال الله باطل أو عبث أو لعب”، ويضيف أن المؤمنين بشريعة موسى يرون أن جميع أفعال الرّب “كلّها جيدة حسنة جدًا، [فقد] قال: “ورأى الله جميع ما صنعه فإذا هو حسن جدًا” (التكوين 1: 31). فكل ما فعله تعالى من أجل شيء، فإن ذلك الفعل ضروري في وجود ذلك الشيء المقصود أو مفيد جدًا … وهكذا هو أيضًا الرأي الفلسفي أن ليس في الأمور الطبيعية كلّها شيء على جهة العبث” (موسى بن ميمون، دلالة الحائرين، طبعة حسين آتاي، الجزء الثالث، الفصل 25، ص 565- 567). وينتهي بن ميمون، وهو يعكس توجّه التفسير الذي يرد في تراث السلف والمتأخرين على حد سواء، إلى أن الشرائع الإلهية جميعها تبتغي غاية ما وهي حسنة وجيدة: “إن كل أمر ونهي منها تابع لحكمة أو المقصود به غاية ما؛ وأن الشرائع كلّها معلّلة، ومن أجل فائدة ما شرع بها؛ أما كونها كلّها لها علّة ونحن نجهل علل بعضها، ولا نعلم وجه الحكمة فيه، فهو مذهبنا كلّنا الجمهور والخواص”. أما غاية الشريعة جميعها فهي صلاح نفس الإنسان وصلاح جسمه (المرجع السابق، الفصل 26، ص 570- 571؛ الفصل 27، ص 575).
بخلاف الرأي الخاطئ الشائع بين العامة الذي يعاين السبت من خلال اصطلاحات الجهد المبذول، أي أن السبت مقدّس بمعنى أنه يحرم على المؤمن اليهود أن يبذل أي جهد، والحقيقة أنه يمكن أن نستشفّ ذلك من خلال السياقات التي تذكر قدسية السبت في التوراة، فإن جوهر التحريم سببه، وفق التراث الطويل من التفسيرات وتعليقات الفقهاء على مدار مئات السنين، أن يكون المؤمن سببًا في إحداث تغيير ما طيلة يوم السبت. على سبيل المثال، لماذا يحرّم إشعال أو إخماد النار، أو تشغيل الكهرباء، أو الطبخ، أو فتح قارورة كانت محكمة الإغلاق في السبت؟ لا بسبب ضرورة بذل جهود معينة لتنفيذها، بل لأن أي من هذه الأفعال يتسبّب في إحداث تغيير وبداية سيرورة، كذلك الأمر بخصوص الطبخ والزراعة والعمل بالقماش وغيرها. وبمفهوم معين، فإن هذا التحريم يفرض مشابهة بين فعل الإنسان وفعل الرّب عند خلقه الكون، فكما أن الرّب عمل وأبدع طيلة ستة أيام وفي اليوم السابع “استراح”، بمعنى التوقّف عن الخلق، لا بمعنى الراحة الجسدية الصادرة عن بذل جهد، كذلك يجب على اليهودي أن يفعل. ومن خلال “عطلة” أو “استراحة” المؤمن في السبت، فإنه يعود بذلك على قصة الخلق مرة تلو الأخرى، كما ويعود ويؤكّد كل أسبوع من جديد على أن الرّب خلق الدنيا في ستة أيام وأنه لم يكن فكان من لا شيء قبله. فالسبت تذكرنا من هو خالق العالم. وقد عبّر النبي سليمان عن هذا “التذكير” حين قال “إنْ وُجد شيء يقال عنه: انظر، هذا جديد!، فهو منذ زمان كان في الدهور التي كانت قبلنا” (سفر الجامعة 1: 10). فكل ما “يكتشفه” الإنسان إنما كان قائمًا منذ الخلق، ولكن الإنسان يعثر عليه ليس إلّا. فقوة الكهرباء وموجات الراديو وقوة الجاذبية وكذلك الإنترنت وأشعة الليزر كانت قائمة في الخليقة، ولكن ما يفعله الإنسان أنه يعثر عليها فقط. فكل شيء قد خُلق في ستة أيام الخليقة. وحين يعمل الإنسان على مدار ستة أيام ويستريح يوم السبت فهو إنما يتشبّه بالخالق ويصبح بمثابة “خالق” صغير، كما وأنه حين يتوقّف عن عمله يوم السبت فإنما يؤكّد بذلك على أنه ليس “سيّد” العالم بل هو منصاع إلى سلطان الكون.