السبت: يوم مبارك ومقدّس ويوم عطلة

السبت هو يوم مبارك ومقدّس ويوم استراحة وعطلة من جميع الأعمال في الديانة اليهودية، ويرمز إلى عقيدة الخلق في ستة أيام.

مخطوط لكتاب موسى بن ميمون، جملة أحكام الشريعة وإعمالها – القرنان 16-17م، صفحة من صدر الكتاب

مخطوط لكتاب موسى بن ميمون، جملة أحكام الشريعة وإعمالها – القرنان 16-17م، صفحة من صدر الكتاب.

يعتبر يوم السبت يومًا مميزًا في اليهودية على ثلاثة مستويات، فهو اليوم الوحيد في التوراة الذي باركه الرّب وقدّسه وفرضه كيوم عطلة. نقرأ في التوراة: “وبارك الله اليوم السابع وقدّسه” (التكوين 2: 3، وكذلك نقرأ في سفر الخروج 20: 11). أما على المستوى الثالث، فقد أمر الرّب عطلة في يوم السبت، بمعنى أنه يوم يتمتّع بحرمة، مثلما نقرأ: “وأما اليوم السابع فهو “سبت للرّب إلهك، لا تصنع فيه عملًا ما” (الخروج 20: 8-9)؛ وقد أكّد الفقهاء اليهود على طول العصور على ذلك ووضعوا الأنظمة والصلوات والتسابيح التي تؤكّد على ذلك.

توراتيًا، تعتبر فريضة الحفاظ على حرمة السبت وقدسيته إحدى أهم الشرائع المفروضة على كل يهودي (وعددها 613 فريضة) كما نقرأ في أسفار التوراة وأدب الفقهاء السلف. وردت هذه الفريضة بداية ضمن قائمة الوصايا العشر (الخروج 20)، وذكرت مرات عديدة في بقية الأسفار. ولكن متى يبدأ وينتهي اليوم في اليهودية؟ وفق تقسيم اليوم فقهيًا، ينتهي النهار ويبدأ اليوم الجديد فترة قصيرة بعد غروب الشمس عند الشفق، وهو أول ظلمة الليل بعد الغروب، ويبدأ الليل عند الغسق وهو أول ظلمته، وكل هذا يعود إلى قصة خلق آدم المخلوق في فترة زمنية يطلق عليها الفقهاء تعبير “بين الشموس”، والمقصود بها الفترة التي تفصل بين الشفق والغسق، وهو بداية اليوم. فالسبت يبدأ إذًا منذ لحظة الغسق وينتهي في الشفق بعد غروب الشمس بعد النهار التالي.

على سبيل المثال، نقرأ في سفر الخروج: “اذكر يوم السبت لتقدّسه. ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك، وأما اليوم السابع ففيه سبت للرّب إلهك. لا تصنع فيه عملًا ما” (20: 8-9)؛ “سبوتي تحفظونها … فتحفظون السبت ستة أيام يصنع عمل، وأما اليوم السابع ففيه سبت عطلة مقدّس للرّب … فيحفظ بنو إسرائيل السبت” (31: 13- 16)؛ “ستة أيام يعمل عمل، وأما اليوم السابع ففيه يكون لكم سبت عطلة مقدّس للرّب … لا تشعلوا نارًا في جميع مساكنكم يوم السبت” (35: 2- 3).

مخطوط لكتاب موسى بن ميمون، جملة أحكام الشريعة وإعمالها – 1914، اليمن
مخطوط لكتاب موسى بن ميمون، جملة أحكام الشريعة وإعمالها – 1914، اليمن

 

كتاب المشنا (ترجمة متن التلمود)
كتاب المشنا (ترجمة متن التلمود)

ولكن، لا تكتفي أسفار التوراة بذكر الفرض فقط، بل تزيد وتشير إلى علّته وسببه والفائدة منه والحكم المفروض على كل يهودي ينتهكه. نقرأ في سفر التكوين أن قدسية يوم السبت نابعة من حقيقة أن الرّب قد “استراح”، أو أنهى عملية الخلق، في اليوم السابع (السبت): “وبارك الله اليوم السابع وقدّسه، لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالقًا (التكوين 2: 3). كما ونقرأ في سفر الخروج كذلك أن حرمة السبت وقدسيته نابعة من عدة أسباب وعلل أخرى. الأول، أنه علامة بين الرّب وبني إسرائيل تفيد “إني أنا الرّب الذي يقدّسكم” (الخروج 31: 13)، بمعنى أن الرّب قد جعل السبت علامة لتقديس الرّب لبني إسرائيل؛ ويضيف في الثاني والثالث سببين إضافيّين غير مرتبطين بقدسية بني إسرائيل ويفيدان الإطلاق، الثاني: لأنه يوم “مقدّس لكم” (31: 13)، والثالث لأنه “مقدّس للرّب” (35: 2)، بمعنى “إنه سبت للرّب” (اللاويّين 23: 3؛ التثنية 5: 14)، كما ونقرأ في سفر النبي إشعياء اصطلاحين يفيدان نفس هذا المعنى: “يوم قُدسيومقدّس الرب” (إشعياء 58: 13). أما السبب الرابع، وهو السبب الأول المذكور في التكوين، فيفيد معنى آخر مختلفًا تمامًا: “اذكر يوم السبت لتقدّسه … لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، واستراح في اليوم السابع، لذلك بارك الرب يوم السبت وقدّسه” (الخروج 20: 8- 11)، وكذلك: “لأنه في ستة أيام صنع الرّب السماء والأرض، وفي اليوم السابع استراح وتنفّس” (الخروج 31: 17). ونقرأ في موضع آخر إضافة سبب خامس مفاجئ يختلف كليًا عن جميع الأسباب السابقة ومفاده أن فرض الحفاظ على قدسية السبت نابع من تحرير أبناء إسرائيل من عبودية مصر بقوة شديدة: “احفظ يوم السبت لتقدّسه كما أوصاك الرّب إلهك … واذكر أنك كنت عبدًا في أرض مصر، فأخرجك الرب إلهك من هناك بيد شديدة وذراع ممدودة، لأجل ذلك أوصاك الرّب إلهك أن تحفظ يوم السبت” (التثنية 5: 12- 15).

 

تتجسّد قدسية السبت وحرمته في الامتناع عن ممارسة بعض الأعمال، وعددها 39 عملًا، وهي الأعمال المقابلة لتلك الأعمال التي نفّذت في بناء هيكل سليمان (الخروج 31)، ويطلق عليها السلف تعبير “أمّهات الأعمال” ومنها تتولّد أعمال إضافية. وتشمل هذه الأعمال جميع أنواع العمل المعتمدة في الزراعة، من غرس وزرع وحصاد وقطف للثمار وتقليم للأشجار وحرث للأرض ودرس للحبوب وتنقيتها وغيرها الكثير؛ والأعمال المخصّصة لصناعة الملابس والأقمشة بجميع تفاصيلها؛ وكذلك الصيد والذبح وكل الأعمال المرافقة لذلك من سلخ وتنظيف وغيرها؛ وإشعال النار وإخمادها؛ والطبخ وكل ما يتخلّله؛ والسفر؛ والخروج من حيّز المدينة، كما تخبرنا مجاميع الأحكام (المشناه، السبت 7ب؛ موسى بن ميمون، جملة أحكام الشريعة وإعمالها (سفر همتسڤوت)، الفريضة رقم 329، وهي الفريضة 24 بحسب ترتيبها في التوراة).

أما العقوبة التوراتية المفروضة على منتهك حرمة السبت وقدسيته فهي القتل بصورة صريحة: “فتحفظون السبت لأنه مقدّس لكم، من دنَّسه يقتل قتلًا. إن كل من صنع فيه عملًا تقطع تلك النفس من بين شعبها … كل من صنع عملًا في يوم السبت يقتل قتلًا” (الخروج 31: 14- 15). أما الحاخامات السلف فقد بدّلوه بعقاب تقديم الأضاحي للتكفير عن هذا الاثم (المشناه، السبت 7أ؛ بن ميمون، جملة أحكام الشريعة وإعمالها، الفريضة رقم 320، وهي الفريضة 32 بحسب ترتيبها في التوراة)، وذلك لأنهم اعتبروا أن انتهاك حرمة السبت يتم “سهوًا” لا “قصدًا”.

لاهوتيًا، تتعقّد مسألة تقديس السبت بعض الشيء، ولطالما بدأ النقاش بالتساؤل الأساسي حول تقسيم الأفعال: فمنها فعل عبث الذي لا يُقصد منه أي غاية؛ وفعل اللعب هو ذلك الفعل الذي لا يُقصد به أمرًا ضروريًا أو مفيدًا؛ والفعل الباطل هو الفعل الذي يقصد به فاعله غاية ما ولكنها لا تتحقّق؛ أما الفعل الأخير فهو “الفعل الجيد الحسن”، وهو “الفعل الذي يفعله فاعله لقصد غاية شريفة، أعني ضرورية أو نافعة، وتحصل تلك الغاية”، كما جاء عند بن ميمون. ويخبرنا بن ميمون كذلك قائلًا: “إنه لا يتّسع لذي عقل أن يقول إن شيئًا من أفعال الله باطل أو عبث أو لعب”، ويضيف أن المؤمنين بشريعة موسى يرون أن جميع أفعال الرّب “كلّها جيدة حسنة جدًا، [فقد] قال: “ورأى الله جميع ما صنعه فإذا هو حسن جدًا” (التكوين 1: 31). فكل ما فعله تعالى من أجل شيء، فإن ذلك الفعل ضروري في وجود ذلك الشيء المقصود أو مفيد جدًا … وهكذا هو أيضًا الرأي الفلسفي أن ليس في الأمور الطبيعية كلّها شيء على جهة العبث” (موسى بن ميمون، دلالة الحائرين، طبعة حسين آتاي، الجزء الثالث، الفصل 25، ص 565- 567). وينتهي بن ميمون، وهو يعكس توجّه التفسير الذي يرد في تراث السلف والمتأخرين على حد سواء، إلى أن الشرائع الإلهية جميعها تبتغي غاية ما وهي حسنة وجيدة: “إن كل أمر ونهي منها تابع لحكمة أو المقصود به غاية ما؛ وأن الشرائع كلّها معلّلة، ومن أجل فائدة ما شرع بها؛ أما كونها كلّها لها علّة ونحن نجهل علل بعضها، ولا نعلم وجه الحكمة فيه، فهو مذهبنا كلّنا الجمهور والخواص”. أما غاية الشريعة جميعها فهي صلاح نفس الإنسان وصلاح جسمه (المرجع السابق، الفصل 26، ص 570- 571؛ الفصل 27، ص 575).

بخلاف الرأي الخاطئ الشائع بين العامة الذي يعاين السبت من خلال اصطلاحات الجهد المبذول، أي أن السبت مقدّس بمعنى أنه يحرم على المؤمن اليهود أن يبذل أي جهد، والحقيقة أنه يمكن أن نستشفّ ذلك من خلال السياقات التي تذكر قدسية السبت في التوراة، فإن جوهر التحريم سببه، وفق التراث الطويل من التفسيرات وتعليقات الفقهاء على مدار مئات السنين، أن يكون المؤمن سببًا في إحداث تغيير ما طيلة يوم السبت. على سبيل المثال، لماذا يحرّم إشعال أو إخماد النار، أو تشغيل الكهرباء، أو الطبخ، أو فتح قارورة كانت محكمة الإغلاق في السبت؟ لا بسبب ضرورة بذل جهود معينة لتنفيذها، بل لأن أي من هذه الأفعال يتسبّب في إحداث تغيير وبداية سيرورة، كذلك الأمر بخصوص الطبخ والزراعة والعمل بالقماش وغيرها. وبمفهوم معين، فإن هذا التحريم يفرض مشابهة بين فعل الإنسان وفعل الرّب عند خلقه الكون، فكما أن الرّب عمل وأبدع طيلة ستة أيام وفي اليوم السابع “استراح”، بمعنى التوقّف عن الخلق، لا بمعنى الراحة الجسدية الصادرة عن بذل جهد، كذلك يجب على اليهودي أن يفعل. ومن خلال “عطلة” أو “استراحة” المؤمن في السبت، فإنه يعود بذلك على قصة الخلق مرة تلو الأخرى، كما ويعود ويؤكّد كل أسبوع من جديد على أن الرّب خلق الدنيا في ستة أيام وأنه لم يكن فكان من لا شيء قبله. فالسبت تذكرنا من هو خالق العالم. وقد عبّر النبي سليمان عن هذا “التذكير” حين قال “إنْ وُجد شيء يقال عنه: انظر، هذا جديد!، فهو منذ زمان كان في الدهور التي كانت قبلنا” (سفر الجامعة 1: 10). فكل ما “يكتشفه” الإنسان إنما كان قائمًا منذ الخلق، ولكن الإنسان يعثر عليه ليس إلّا. فقوة الكهرباء وموجات الراديو وقوة الجاذبية وكذلك الإنترنت وأشعة الليزر كانت قائمة في الخليقة، ولكن ما يفعله الإنسان أنه يعثر عليها فقط. فكل شيء قد خُلق في ستة أيام الخليقة. وحين يعمل الإنسان على مدار ستة أيام ويستريح يوم السبت فهو إنما يتشبّه بالخالق ويصبح بمثابة “خالق” صغير، كما وأنه حين يتوقّف عن عمله يوم السبت فإنما يؤكّد بذلك على أنه ليس “سيّد” العالم بل هو منصاع إلى سلطان الكون.

حينما يَنطِقُ الطير: لوحة العطار السردية

قصيدة فريد الدين العطار السردية "منطق الطير" ووصفه رحلة الصوفي حتى اتحاده مع وجود الله في داخله. فكيف سخّر الشعر لسرد قصته؟

منمنمة فارسية للرسام حبيب الله بعنوان "منطق الطير" موجودة في متحف الميتروبوليتان في نيويورك

على الرّغمِ من أنَّ التجاربَ الصّوفيةِ لا يمكنُ أبدًا التعبيرَ الكاملَ عنها باستخدام اللغة، حاولَ الصّوفيّونُ مراراً عبر التاريخ نقل تجاربهم بالموسيقى و الفنون البصّريةِ والأدب.

إنَّ أحدَ أكثرِ أعمالِ الشعرِ الصوفيِّ احترامًا وأهمية في التاريخ هو العملُ الضخم المسمّى ب”مَنطِقِ الطّير”، وهو مجموعةُ منَ القصائدِ للشاعرِ الفارسيِّ فريد الدين العطار والتي تعود للقرن الثالث عشر.

وُلد العطار في مدينةِ نيسابور في ما يُعرف اليوم بشمالِ شرق إيران وقضى معظم حياته في تلك المدينة. سنة ميلاده غير مؤكدة ولكن يبدو أنه بدأ حياته في وقت ما في أوائل منتصف القرن الثاني عشر و عاش حتى العقود الأولى من القرن الثالث عشر،اسمه الأصلي محمد و لقبه العطار، اذ يُرجح أنه انحدر من عائلة من العطارين أو الصيادلة.

هناك بشكل أساسي سبعة أعمال تنسب  إلى العطار ، أحدها هو عمل نثري يسمى تذكرة الأولياء وهو عبارة عن سلسلة من روايات السيرة الذاتية للصوفيين الأوائل. أما بقية أعماله فهي شعرية بمعظمها تشمل  ديوان،وهي مجموعة قصائدية متنوعة ،و كتاب أسرار نامه و كتاب مختار نامه. أما أشهر أعماله  والتي ستتناولها المقال القصيدة الطويلة بعنوان منطق الطير.

نُبين في هذا المقال كيف استعمل العطار كلماته لرسم صورة ممتعة عن رحلة الصوفيّ مستعينين بالنسخة العربية من الكتاب من ترجمة و دراسة الدكتور بديع جمعة.

 

نسخة ل”منطق الطير” للخطاط سلطان علي المشهدي،عام 1600م ، موجودة في متحف الميتروبوليتان في نيويورك (صورة توضيحية)

 

منطق الطّير

منطق الطير -أي حديث الطير- هو مصطلح مأخوذّ على الأرجحٍ من القرآن الكريم من سورة النمل ” وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ”1

تصّورُ كلماتِ القصيدةِ المفاهيم الصوفية من خلال سرد حكاية عن رحلة للطيور.تحكي القصيدة قصة اجتماع جميع طيور العالم لمناقشة من ينبغي عليهم تعيينهُ ملكًا لهم وبعد استصعابهم الامر يبدأ الهدهد، وهو أكثر الطيور حكمةً، في التحدث  مشيراً الى أن هناكَ طائرًا عظيمًا وأسطوريًا يُدعى سيمرغ يعيشُ في أرضٍ بعيدةٍ وأن عليهم الذهابَ للعثورِ عليه لمقابلة ملكهم الحقيقي، ولكن الطريق إلى هناك ستكون صعبة ومليئة بالعديد من المخاطرِ والعقبات.

يرفضُ قسمٌ من الطيور الذهاب مع الهدد متعللاً كلٌ منهم بعذرٍ مختلف، هنا يُمثِّلُ كلُّ طائرٍ جانبًا من النفس أو الأنا التي تتشبث بالأمور الدنيوية، فطائرٌ متعلقٌ بممتلكاتهِ وآخرٌ بسمعته.

يَرُدُّ الهدهد بدحضِ حُجَجِهم عن طريقِ سردِ حكاياتِ مأخوذة من أساطير شعبية أو من حياة الصوفيينَ السابقين، وكلها لها دلالةَ واضحة تنتقد ميلَ الإنسانِ إلى الانشغالِ بالنفس والدنيا. وبهذا يتمكّن الهدهدُ من إقناعِ عددٍ كبيرٍ من الطيور بالذهاب معهُ في هذه الرحلة الشاقة.

 

الرحلة

يمرُّ الطيورُ في رحلتهم  بسبعةِ أوديةٍ، لكل وادٍ اسمٌ خاص به ذو دلالة. هذه الأودية هي وادي الطلب الذي هو بداية الرحلة، فيها يبدأُ سالكُ الطريقِ (أي الصوفي) بالتخلي عن متعلقاته الدنيويةِ و يسعى لطلب “الحقيقة” ،مروراً بوادي العشق حيث تتخلّى الطيورُعن عقلها وتعتنق الحب الذي يدفعها لتحمل مشاق الطريق للوصول للمحبوب ( أي الله سبحانه و تعالى).

أما الوادي الثالث فهو وادي المعرفة الذي فيه يصبح كل فردٍ مبصراً قدرَ استاطعته، ثم يجد صدره في الحقيقة، وعندما يشرق سر ذاته عليه، يصبح موقدُ حَمامِ الدنيا روضةً لديه، ويرى لبَّه في دخيلته لا في جسده، كما لن يرى نفسه لحظة، حيث يرى الحبيب وحده، ومهما يرى، فسيرى وجهه على الدوام”. والرابع هو وادي الإستغناء وهو دلالة على تخلّي الصوفي عن الذات أو الأنا. أما الوادي الخامس فهو وادي التوحيد الذي فيهِ يُدرك الصّوفي اتحاده مع الله.

وصولا ً للوادي السادس، وادي الحيرة، الذي يمثلُ محطةً مهمةً على الطريق حيث يشعر الصوفيُ ( متمثلا بالطيور بالقصيدة) فجأةَ بشعورٍ من عدم اليقين والشك بايمانه ومعتقداته.

و أخيراً تصلُ الطيورُ الوادي الأخير وهو وادي الفقر والفناء، والفناء هنا بالمعنى الإيجابي، فالفناءُ بشيءٍ يعني البقاء بغيره، أي فناءُ الفردِ بدنيوته و بقاء الله.

 

 

نسخة تيمورية لاحقة من كتاب منطق الطير لفريد الدين العطار ( ١٢٣٠م)، المكتبة البريطانية (صورة توضيحية)

 

لقاء السيمرغ

بعد اجتيازِ الطريقِ الطويلةِ و الشاقةِ تصلُ القصيدةُ إلى ذروتها التي جعلتها واحدة من أشهر القصائد في التاريخ. اذ يصلُ ثلاثون طيرا فقط من أصل المئات الذين بدأوا الرحلة، ويظهر نوع من الوصي لاستقبالهم وبعد استجوابهم يرى أنهم مستعدون بالفعل للقاء السيمرغ، لذلك يقودهم إلى البوابةِ التي خلفها يكمنُ الجواب على كل أسئلتهم. ولكن عندما يصلون إلى تلك النقطةِ الأخيرةِ المنتظرة يتفاجؤونَ بأنفسهم يحدّقونَ بانعكاسهم بدلاً من لقاء ملكهم الذي وُعِدوا.

هنا يَكشِفُ العطّارُعن السرِّالعظيمِ الذي يكمُنُ في قلبِ القصةِ بأكملها، والمخبئ بالكلمة الفارسية” سيمرغ”.

“سي-مرغ ” تعني حرفيًا ثلاثين طائرًا . تبين أن الهدف من سعي الطيور لم يكن طائرًا قويًا كبيرًا أو شيئًا من هذا القبيل، بل كان الجوهرالأعمق لوجودهم.  بمعنى أن رحلتهم للبحثِ عن ملكهم ( أي الله سبحانه وتعالى ) لم تكن الا رحلةً للبحث عن نفسهم، و ليست الأولى بنقيض للثانية، بل على العكس، اذ يحاول ُالعطار بالقالب القصصي الممتع هذا تبيانَ الاعتقاد الصوفي بأن الله ليس شيئًا يمكنُ العثورُعليهِ في مكان ٍما ولكن في قلب المرء باعتباره جوهر كيانه.

 وعندما نظر الثلاثون طائرا على عجل ، رأوا أن السيمرغ هو الثلاثون طائرا . فوقعوا جميعا في الحيرة والاضطراب ، ولم يعرفوا هذا من ذاك،… فكلما نظروا صوبَ السيمرغ ، كان هو نفسه الثلاثين طائرا في ذلك المكان ، وكلما نظروا إلى أنفسهم ، كان الثلاثون طائرا هم ذلك الشيء الآخر. فهذا هو ذاك ، وذاك هو هذا ، وما سمع أحد قط في العالم بمثل هذا “

 

ما وراء القصة

إن الصور التي ينسجها العطار تحمِلُ بعضاً من أعمقِ الأفكار والمفاهيمِ الصوفيةِ وتنقلُ القارئَ إلى عالم مختلف. تمثِّلُ جميعُ أجزاءِ الحكاية جانبًا من جوانب الصوفية، أي أن الطيور تمثلنا نحن البشر والرغبات والارتباطات المختلفة لدينا تجاه العالم.

ويمثل الهدهد الشيخ الصوفي الذي يقود تلميذه على الطريق الروحي إلى الله، ويمثل هذا الطريق الرحلة التي تسيرها الطيور وتمثل الوديان السبعة المراحل أو المحطات التي سيمر بها الصوفي في هذه العملية لتنقية روحه في سبيل الاتحاد مع الله بحسب العطار.

أما السيمرغ فيمثل الله ،أي الحقيقة المطلقة، الذي تَبيَّنَ في النهايةِ حضوره في كلِّ ما حولنا في الواقع وأننا مجرد انعكاس لكيانه اللامتناهي.

هذه القصيدة شكّلت  تطوّرا للفن الصوفي، اذ استلهم العديد من الكتاب و الشعراء الصوفيين و غيرهم  الطريقة التي يعبر بها عن الجوانب العملية والفلسفية للصوفية من خلال القصص السردية والشعر الجميل. وهذا لم يَغب عن شخصيات مثل الرومي. في الواقع، الرومي هو مجرد مثال واحد لشخصيةِ اعتبرت العطارَ أحدَ مصدرِ إلهامٍ لها، اذ يُرجّح بأنَّ أحد أشهر كتبه ” المثنوي” اعتمدت أسلوب العطار الشعري ذاته2.

الى جانب الرومي، استخدم العديد من المفكرين اللاحقين الكثير من الصور التي ابتكرها العطار في هذه القصيدة وأسلوب التعبير حتى من خارج الإسلام والصوفية. فبهاء الله، مؤسس العقيدة البهائية، كتب عملاً بعنوان “الوديان السبعة” المستوحى بشكل واضح من قصة منطق الطير.

اليوم لا تزال القصيدة تُلهم أعمال ثقافية مختلفة منها  ألبومات موسيقية تحمل اسم روايات ترويها القصيدة، لذا يظل العطار أحد أشهر الأسماء في الصوفية وفي الشعر الفارسي ليومنا هذا.

روبرت لخمان: باحث في جذور الموسيقى العربية في الجامعة العبرية

يمكن القول إن لاخمان يعتبر الأب الروحي للأرشيف الصوتي التابع للمكتبة الوطنية، واستمرت أجيال من الباحثين في الموسيقى على طريقه.

روبرت لخمان مع مساعدته، القدس، 1936، أرشيف لخمان في الجامعة العبرية.

بدأ روبرت لاخمان، الموسيقي اليهودي الألماني، رحلة بحثه عن الموسيقى في سنٍ مبكّر، حيث ولد في برلين والتحق للدراسة في جامعتها وجامعة لندن مع التركيز على اللغتين الفرنسية والعربية. خلال الحرب العالمية الأولى، عمل كمترجم فوري في معسكر الاعتقال Wunsdrof لأسرى الحرب الّذي كان يسكنه أسرى من شمال إفريقيا والهند.

في هذا المعسكر، تعرّف لاخمان للمرة الأولى على الموسيقى والفلوكلور غير الغربي، وبدأ على العمل على تدوين ونسخ أغاني السجناء، تجربته في هذا المكان، زرعت البذور الأولى لبحث الدكتوراه الخاص به حول موسيقى شمال إفريقيا.

تسجيل الموسيقى الشرقية

بعد الحرب بدأ لاخمان دراسة علم الموسيقى في جامعة برلين، تحت إشراف يوهانس وولف وكارل شتومبف، ثم حصل على الدكتوراه عام 1922 بأطروحة حول الموسيقى الحضرية في تونس، استنادًا إلى تسجيلاته الميدانية خلال عدة رحلات بحثية في المنطقة. وفي السنوات الّتي تلت ذلك، قام لاخمان بعدد من الرحلات البحثية الإضافية إلى شمال إفريقيا، حيث قام بتسجيل وتوثيق الممارسات الموسيقية للمجتمعات في طرابلس وتونس والمغرب.

في عام 1929 أثناء إحدى جولاته في جزيرة جربة التونسية، سجّل لاخمان التقاليد الموسيقية الليتورجية وشبه الطقسية للمجتمع اليهودي المحلي، وهي المادة الّتي تعتبر نقطة الانطلاق لعمله الأساسي الترنيمة اليهودية والأغنية في جزيرة جربة (1940). كان انكشافه الأول للموسيقى الليتورجية الشرقية حدث أثناء دراسته للجالية اليهودية في جربة، وهو المجال الّذي تابع دراسته وتدريسه لاحقًا في القدس.

عمل لاخمان بين الأعوام 1927-1933 أمينًا لمكتبة قسم الموسيقى بمكتبة بلدية برلين، حيث ترأس مشروعًا لترجمة العديد من المقالات الموسيقية الهامة في العصور الوسطى. وفي عام 1930 أسس مع أساتذته في الجامعة جمعية أبحاث الموسيقى الشرقية، حيث تم تعيينه لاحقًا محررًا لمجلتهم الفصلية، والّتي كانت مطبوعة لمدة ثلاث سنوات، حتى أدت الضغوط المتزايدة إلى إغلاق المركز عام 1935.

في عام 1932 تم تعيين لاخمان رئيسًا للجنة التسجيلات الصوتية لمؤتمر الموسيقى العربية في القاهرة، حيث كان مسؤولًا عن تسجيل عروض الفنانين والفرق المدعوة إلى المؤتمر. وفي 1935 تم طرده من منصبه في مكتبة بلدية برلين من قبل المسؤولين النازيين، فهاجر في العام نفسه إلى القدس بناءً على دعوة من جي إل ماغنيس لتأسيس أرشيف الموسيقى الشرقية في الجامعة العبرية بالقدس.

أمضى لاخمان حوالي ثلاث سنوات قبل هجرته النهائية إلى فلسطين الانتدابية في تجهيز مكتبته وأرشيفه تحسبًا لانتقاله من ألمانيا، وحتى بعد هجرته، سافر إلى برلين عدة مرات وقام بنسخ التسجيلات على أسطوانات الشمع، بما في ذلك تسجيلات أبراهام زيفي إديلسون والّتي وصلت منها نسخ إلى برلين قادمة من فيينا. يمكن الاستماع لها هنا.

بعد هجرته إلى فلسطين، وقبل وصول النازيين إلى الحكم، قدّم لاخمان بحثه عن الموسيقى العربية في المؤتمر العالمي للموسيقى العربية في القاهرة عام 1932. التقى هناك العديد من الموسيقيين اليهود، بما في ذلك الموسيقار والملحّن اليهودي العراقي عزرا أهارون، الّذي مثّل موسيقى بلاده نيابةً عن حاكم العراق آنذاك. هاجر عزرا ابراهيم إلى فلسطين عام 1934 وأصبح أحد موضوعات بحث لاخمان الرئيسية، وشخصية رئيسية في دوائر الموسيقى الشرقية في القدس وبقية البلاد. افتتح راديو فلسطين بثه لاحقًا عام 1936 بعزف مقطوعة موسيقية من عزرا أهارون. لم يتوقع أهارون أن انتقاله إلى فلسطين ذلك العام سيمنعه من العودة إلى العراق، لكن التطورات السياسية والعسكرية لاحقًا منعته من العودة إلى بلاده.

تأسيس أرشيف الموسيقى في القدس

قبل مغادرة لاخمان لبرلين، كان يبحث عن طريقة لتأسيس مركز أبحاث حول الموسيقى الشرقية، وقام بالتواصل مع ممثلي الجامعة العبرية، وتلقى ردًا من رئيس الجامعة الدكتور يهودا ليب ماغنيس الّذي دعاه عام 1935 لإنشاء أرشيف للموسيقى الشرقية. وكان الهدف هو إنشاء أرشيف صوتي يقوم بتسجيل وتحليل التسجيلات مع استوديو ومعدات تسجيل وفني صوت.

لذلك، في عام 1936 وصل لاخمان إلى فلسطين بتصريح من الحكومة البريطانية الانتدابية، حاملًا معه نسخًا من التسجيلات الّتي تم تسجيلها في تونس والتي تم تخزينها في الأرشيف الصوتي في برلين. كانت هذه تسجيلات قد قام بها أبراهام زيفي أديلسون “أب الموسيقى اليهودية” الّذي أقام في القدس من عام 1907 حتى 1929. كما أحضر معه نسخًا من تسجيلاته الأخرى وسجلات الموسيقى الشرقية من الشرقين الأدنى والأقصى، بالإضافة إلى التمويل الّذي حصل عليه ليعمل معه فني الصوت والتر شور.

استمر عمل لاخمان في الأرشيف سنوات ثلاث، وقد واجهت الجامعة صعوبة في فهم أهدافه وأبحاثه، وأبلغوه عام 1938 بقطع التمويل عن مشروعه.

أدار لاخمان الأرشيف بمساعدة والتر شور فنيّ الصوت، خلال السنوات الأربع التي سبقت وفاته عام 1939 تمكّن من تسجيل 1000 مادة جديدة، معظمها مقاطع صوتية للموسيقى اللتورجية الشرقية. كان الهدف الرئيسي للاخمان في البحث عن موسيقى المجتمعات اليهودية الشرقية، هو وضع تقاليدها في السياق الأوسع للممارسات الموسيقية في الشرق الأدنى، وبالتالي خلق نموذج تاريخي ومقارن لمُجمل الموسيقى الشرقية والآسيوية.

وقد كانت المواضيع الّتي اهتم بها لاخمان كما سمّاها: الموسيقى السامرية – 233 تسجيلًا، الموسيقى اليهودية: الأكراد – 12 تسجيلًا، اليمنيون – 75 تسجيلًا، الغربية – 51 تسجيلًا، المجتمعات الأخرى – 25 تسجيلًا، الموسيقى الشعبية المعاصرة – 34 تسجيلًا، الموسيقى العربية: البدو – 23 تسجيلًا. وغيرها عشرات الموضوعات الأخرى.

روبرت لخمان خلال التسجيل

 

إعادة الإحياء للأرشيف

منذ عدة سنوات قامت تلميذة لاخمان الباحثة إديث جيرسون – كيوي بإحياء وأرشقة الأرشيف الموسيقي لأستاذها، فواصلت عمله وحافظت على مجموعة الموسيقى الشرقية حتى إنشاء الأرشيف الصوتي الوطني على يد البروفيسور إسرائيل أدلر، كجزء من المكتبة الوطنية الإسرائيلية عام 1965. لسنوات رفضت كيوي تسليم الأرشيف الخاص بلاخمان للمكتبة الوطنية، وفي الثمانينيّات سلّمت الأرشيف مع أرشيفها الخاص الّذي يحتوي على كتابات وملاحظات ورسائل لاخمان.

يمكن القول إن لاخمان يعتبر الأب الروحي للأرشيف الصوتي التابع للمكتبة الوطنية، واستمرت أجيال من الباحثين في الموسيقى على طريقه، وآخرين اختاروا مواضيع بحثه في الموسيقى الشرقية ليكملوها ويطوّروها ويستمروا بها.

كلب الست أمّ كلثوم: إنت فين والكلب فين؟

لا شكّ أن أمّ كلثوم شكّلت حالةً فريدةً في تاريخ الغناء العربيّ، بموهبتها التي لا تنضب، وقدرتها الفذّة على التجدّد، وجمعها بين النقائض.

أم كلثوم

وفي أحد الأيّام، وبينما كان إسماعيل، الطالب الفقير في المعهد الفنّيّ، يمشي سارحًا في الزمالك، أحد أرقى أحياء القاهرة المشيّد على جزيرةٍ في النيل، مرّ لسوء حظّه ببيت أمّ كلثوم، المولودة في قريةٍ ريفيّةٍ، فهاجمه كلبها “فوكس” في الطريق العام، وعضّه في رجله حتّى سال دمه. وبعد أن اشتكى على الكلب، أمر وكيل النيابة بحفظ التحقيق، لأنّ الخدمات التي أدّتها أمّ كلثوم للدولة كفيلة أن تعفيها و”كلبها” من المسؤوليّة الجنائيّة.

مقال عن صوت أم كلثوم في صحيفة الإتحاد 11 شباط 1975

في لقاءٍ تلفزيونيّ مع أحمد فؤاد نجم، أحد أبرز شعراء العاميّة في مصر، والذي كان قد حُبِسَ في عهدَي عبد الناصر والسادات، بتّهمٍ غريبةٍ كالسخرية، يروي القصّة السابقة أثناء تبريره كتابته قصيدة “كلب الست”، رغم كونه “كلثوميًّا” كما يصف نفسه، ومن “دراويش الست”، لكنّه أصبح وقتها، وفي “عزّ” زمنٍ  يدّعي “الاشتراكيّة والقوميّة العربيّة ومجتمع العدالة”، أمام خيارَيْن: “حبّه للفن، وشرفه”.

موهبة لا يمكن تقليدها: عازف القانون يوسف زعرور

 

أمّ كلثوم بين الواقعيّ والمتخيّل: صحيفة الإتحاد 11 شباط 2000

فأمام الجمال الصوفيّ الذي يجسّده صوت أمّ كلثوم في كثيرٍ من قصائدها المغنّاة، تزداد فجاجة الواقع. ففي إحدى مدائحها النبويّة، تُعيد، لأكثر من ربع ساعةٍ، غناء هذا البيت لأحمد شوقي الذي يصف رحلة المعراج: “حَتّى بَلَغتَ سَماءً لا يُطارُ لَها * عَلى جَناحٍ وَلا يُسْعَى عَلى قَدَمِ”، تكرّره بلمسةٍ مختلفةٍ كلّ مرّةٍ، كأنّها تكتبه من جديدٍ بمداد بحرٍ لا ينتهي، حتّى يصاب المستمع بدوارٍ سماويّ من النشوة. لكنّه، حين يعود إلى الواقع، يعضّه كلبٌ أرضيٌّ أمام قصرها، الذي لا تدخله الملائكة (رمز الرحمة)، كما ورد في حديثٍ منسوبٍ للنبيّ عن البيوت التي يربّي أصحابها كلابًا.

قصيدة للشاعر أحمد فؤاد نجم في صحيفة الإتحاد 15 نيسان 1977
قصيدة للشاعر أحمد فؤاد نجم في صحيفة الإتحاد 15 نيسان 1977

 

يبدأ “شاعر الغلابة”، كما كان يوصف من محبّيه، قصيدته، التي يحرّكها التناقض قبل لحظة الكتابة، بهذه السطور التي تكثّف التناقض:
في الزمالك من سنين/ وفي حِمى النيل القديم/ قصر من عصر اليمين/ ملك واحدة من الحريم/ صيتها أكتر من الآدان/ يسمعوه المسلمين/ والتتر والتركمان والهنود والمنبوذين/ ست فاقت على الرجال/ في المقام والاحترام/ صيت وشهرة/ وتل مال/ يعني في غاية التمام/ قُصره يعني هيّ كلمة/ ليها كلمة في الحكومة/ بس ربّك لأجل حكمة/ قام حرمها من الأمومة/ والأمومة طبع ثابت جوّا حوّا من زمان/ تعمل إيه الست؟/ جابت “فوكس” رومي وله ودان.

يوحي أسلوب القصّ بزمنٍ خرافيّ، زمن الملوك ومُلْكِ اليمين، رغم أنّه عصر الثورة على الملكيّة والرجعيّة. كذلك، فإنّ السيّدة “أمّ” كلثوم محرومةٌ من الأمومة، رغم التصاقها باسمها، فلأنّ الأسماء في ذلك الزمن كانت تائهةً عن معانيها، يمكن أن تغدو الأمّ البشريّة أُمًّا لكلبٍ، لا للمسكين إسماعيل، الذي لا يسعنا ونحن نسمع اسمه، إلّا أن نتذكّر الطفل إسماعيل، كما وردت قصّته في النصوص الإسلاميّة، الذي كاد أن يذبحه والده إبراهيم أضحيةً بشريّةً للربّ. ويذكّرنا المشهد بأكمله بدولة الثورة في عهد عبد الناصر، التي لم تفرش رحمها للشعب، بل أطلقتْ كلابها عليهم في كلّ درب، كما في قصيدةٍ أخرى لنجم:
شيّد قصورك عالمزارع / … / واطلق كلابك في الشوارع.

عن لقاء أم كلثوم وعبد الناصر: صحيفة الإتحاد 14 كانون الثاني 2000
عن لقاء أم كلثوم وعبد الناصر: صحيفة الإتحاد 14 كانون الثاني 2000

 

تكمل القصيدة رحلتها مع إسماعيل إلى الحجز والنيابة. هناك، يدرك أنّ كلماتٍ سمعها كثيرًا في المذياع، مثل “العدالة” و”الاشتراكية” تشير في الحقيقة إلى ضدّ المعاني التي كان يظنّها، فتعمل من أجل أغراضٍ أخرى لم توجد لأجلها، مثل منديل أمّ كلثوم، الذي كانت تشدّ عليه على المسرح، ولم تمسح به دم رِجل إسماعيل التي عضّها كلبها المحميّ بواسطة نظام “العدالة”.

لذلك، أمام وكيل النيابة، وكمن يحاول النجاة من كلبٍ يطارده، ومن العبث الذي يحيط به من كلّ جانب، تخبرنا القصيدة أنّ إسماعيل يتّهم نفسه بأنّه المذنب في تسميم كلب الستّ حين عضّه. فكما أنّ قصور الزمالك وحتّى شوارعها العامة ليست لجميع الناس، كذلك هو القانون.

بعد ذلك، يغنّي شاويش الشرطة لإسماعيل الأعرج أو “اسماعين”، في حفلة النيابة هذه، مؤكّدًا بغنائه على التناقض، حين يضع “الكلب” مكان “الحبّ” في أغنية أمّ كلثوم “إنت فين والحبّ فين”:

أنت فين والكلب فين؟/ أنت قدّه يا اسماعين؟/ طب ده كلب الست يا ابني/ وأنت تطلع ابن مين؟

ورغم حبّ أحمد فؤاد نجم لجمال عبد الناصر، ورغم رثائه إيّاه بقصيدةٍ عذبةٍ ذات نفحةٍ صوفيّةٍ، يصفه فيها بالحسين وصلاح الدين والنبيّ، إلّا أنّه يختم قصيدته متوجّهًا إلى الكلب، ساخرًا من مقام الرئيس، رأس هرم النظام:

هيص يا كلب الستّ هيص/ لك مقامك في البوليس/ بكرا تتألّف وزارة للكلاب/ ياخدوك رئيس.

قصيدة في الذكرى السادسة والعشرين لوفاة جمال عبد الناصر: صحية الإتحاد 30 أيلول 1996
قصيدة في الذكرى السادسة والعشرين لوفاة جمال عبد الناصر: صحية الإتحاد 30 أيلول 1996