حينما يَنطِقُ الطير: لوحة العطار السردية

قصيدة فريد الدين العطار السردية "منطق الطير" ووصفه رحلة الصوفي حتى اتحاده مع وجود الله في داخله. فكيف سخّر الشعر لسرد قصته؟

منمنمة فارسية للرسام حبيب الله بعنوان "منطق الطير" موجودة في متحف الميتروبوليتان في نيويورك

على الرّغمِ من أنَّ التجاربَ الصّوفيةِ لا يمكنُ أبدًا التعبيرَ الكاملَ عنها باستخدام اللغة، حاولَ الصّوفيّونُ مراراً عبر التاريخ نقل تجاربهم بالموسيقى و الفنون البصّريةِ والأدب.

إنَّ أحدَ أكثرِ أعمالِ الشعرِ الصوفيِّ احترامًا وأهمية في التاريخ هو العملُ الضخم المسمّى ب”مَنطِقِ الطّير”، وهو مجموعةُ منَ القصائدِ للشاعرِ الفارسيِّ فريد الدين العطار والتي تعود للقرن الثالث عشر.

وُلد العطار في مدينةِ نيسابور في ما يُعرف اليوم بشمالِ شرق إيران وقضى معظم حياته في تلك المدينة. سنة ميلاده غير مؤكدة ولكن يبدو أنه بدأ حياته في وقت ما في أوائل منتصف القرن الثاني عشر و عاش حتى العقود الأولى من القرن الثالث عشر،اسمه الأصلي محمد و لقبه العطار، اذ يُرجح أنه انحدر من عائلة من العطارين أو الصيادلة.

هناك بشكل أساسي سبعة أعمال تنسب  إلى العطار ، أحدها هو عمل نثري يسمى تذكرة الأولياء وهو عبارة عن سلسلة من روايات السيرة الذاتية للصوفيين الأوائل. أما بقية أعماله فهي شعرية بمعظمها تشمل  ديوان،وهي مجموعة قصائدية متنوعة ،و كتاب أسرار نامه و كتاب مختار نامه. أما أشهر أعماله  والتي ستتناولها المقال القصيدة الطويلة بعنوان منطق الطير.

نُبين في هذا المقال كيف استعمل العطار كلماته لرسم صورة ممتعة عن رحلة الصوفيّ مستعينين بالنسخة العربية من الكتاب من ترجمة و دراسة الدكتور بديع جمعة.

 

نسخة ل”منطق الطير” للخطاط سلطان علي المشهدي،عام 1600م ، موجودة في متحف الميتروبوليتان في نيويورك (صورة توضيحية)

 

منطق الطّير

منطق الطير -أي حديث الطير- هو مصطلح مأخوذّ على الأرجحٍ من القرآن الكريم من سورة النمل ” وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ”1

تصّورُ كلماتِ القصيدةِ المفاهيم الصوفية من خلال سرد حكاية عن رحلة للطيور.تحكي القصيدة قصة اجتماع جميع طيور العالم لمناقشة من ينبغي عليهم تعيينهُ ملكًا لهم وبعد استصعابهم الامر يبدأ الهدهد، وهو أكثر الطيور حكمةً، في التحدث  مشيراً الى أن هناكَ طائرًا عظيمًا وأسطوريًا يُدعى سيمرغ يعيشُ في أرضٍ بعيدةٍ وأن عليهم الذهابَ للعثورِ عليه لمقابلة ملكهم الحقيقي، ولكن الطريق إلى هناك ستكون صعبة ومليئة بالعديد من المخاطرِ والعقبات.

يرفضُ قسمٌ من الطيور الذهاب مع الهدد متعللاً كلٌ منهم بعذرٍ مختلف، هنا يُمثِّلُ كلُّ طائرٍ جانبًا من النفس أو الأنا التي تتشبث بالأمور الدنيوية، فطائرٌ متعلقٌ بممتلكاتهِ وآخرٌ بسمعته.

يَرُدُّ الهدهد بدحضِ حُجَجِهم عن طريقِ سردِ حكاياتِ مأخوذة من أساطير شعبية أو من حياة الصوفيينَ السابقين، وكلها لها دلالةَ واضحة تنتقد ميلَ الإنسانِ إلى الانشغالِ بالنفس والدنيا. وبهذا يتمكّن الهدهدُ من إقناعِ عددٍ كبيرٍ من الطيور بالذهاب معهُ في هذه الرحلة الشاقة.

 

الرحلة

يمرُّ الطيورُ في رحلتهم  بسبعةِ أوديةٍ، لكل وادٍ اسمٌ خاص به ذو دلالة. هذه الأودية هي وادي الطلب الذي هو بداية الرحلة، فيها يبدأُ سالكُ الطريقِ (أي الصوفي) بالتخلي عن متعلقاته الدنيويةِ و يسعى لطلب “الحقيقة” ،مروراً بوادي العشق حيث تتخلّى الطيورُعن عقلها وتعتنق الحب الذي يدفعها لتحمل مشاق الطريق للوصول للمحبوب ( أي الله سبحانه و تعالى).

أما الوادي الثالث فهو وادي المعرفة الذي فيه يصبح كل فردٍ مبصراً قدرَ استاطعته، ثم يجد صدره في الحقيقة، وعندما يشرق سر ذاته عليه، يصبح موقدُ حَمامِ الدنيا روضةً لديه، ويرى لبَّه في دخيلته لا في جسده، كما لن يرى نفسه لحظة، حيث يرى الحبيب وحده، ومهما يرى، فسيرى وجهه على الدوام”. والرابع هو وادي الإستغناء وهو دلالة على تخلّي الصوفي عن الذات أو الأنا. أما الوادي الخامس فهو وادي التوحيد الذي فيهِ يُدرك الصّوفي اتحاده مع الله.

وصولا ً للوادي السادس، وادي الحيرة، الذي يمثلُ محطةً مهمةً على الطريق حيث يشعر الصوفيُ ( متمثلا بالطيور بالقصيدة) فجأةَ بشعورٍ من عدم اليقين والشك بايمانه ومعتقداته.

و أخيراً تصلُ الطيورُ الوادي الأخير وهو وادي الفقر والفناء، والفناء هنا بالمعنى الإيجابي، فالفناءُ بشيءٍ يعني البقاء بغيره، أي فناءُ الفردِ بدنيوته و بقاء الله.

 

 

نسخة تيمورية لاحقة من كتاب منطق الطير لفريد الدين العطار ( ١٢٣٠م)، المكتبة البريطانية (صورة توضيحية)

 

لقاء السيمرغ

بعد اجتيازِ الطريقِ الطويلةِ و الشاقةِ تصلُ القصيدةُ إلى ذروتها التي جعلتها واحدة من أشهر القصائد في التاريخ. اذ يصلُ ثلاثون طيرا فقط من أصل المئات الذين بدأوا الرحلة، ويظهر نوع من الوصي لاستقبالهم وبعد استجوابهم يرى أنهم مستعدون بالفعل للقاء السيمرغ، لذلك يقودهم إلى البوابةِ التي خلفها يكمنُ الجواب على كل أسئلتهم. ولكن عندما يصلون إلى تلك النقطةِ الأخيرةِ المنتظرة يتفاجؤونَ بأنفسهم يحدّقونَ بانعكاسهم بدلاً من لقاء ملكهم الذي وُعِدوا.

هنا يَكشِفُ العطّارُعن السرِّالعظيمِ الذي يكمُنُ في قلبِ القصةِ بأكملها، والمخبئ بالكلمة الفارسية” سيمرغ”.

“سي-مرغ ” تعني حرفيًا ثلاثين طائرًا . تبين أن الهدف من سعي الطيور لم يكن طائرًا قويًا كبيرًا أو شيئًا من هذا القبيل، بل كان الجوهرالأعمق لوجودهم.  بمعنى أن رحلتهم للبحثِ عن ملكهم ( أي الله سبحانه وتعالى ) لم تكن الا رحلةً للبحث عن نفسهم، و ليست الأولى بنقيض للثانية، بل على العكس، اذ يحاول ُالعطار بالقالب القصصي الممتع هذا تبيانَ الاعتقاد الصوفي بأن الله ليس شيئًا يمكنُ العثورُعليهِ في مكان ٍما ولكن في قلب المرء باعتباره جوهر كيانه.

 وعندما نظر الثلاثون طائرا على عجل ، رأوا أن السيمرغ هو الثلاثون طائرا . فوقعوا جميعا في الحيرة والاضطراب ، ولم يعرفوا هذا من ذاك،… فكلما نظروا صوبَ السيمرغ ، كان هو نفسه الثلاثين طائرا في ذلك المكان ، وكلما نظروا إلى أنفسهم ، كان الثلاثون طائرا هم ذلك الشيء الآخر. فهذا هو ذاك ، وذاك هو هذا ، وما سمع أحد قط في العالم بمثل هذا “

 

ما وراء القصة

إن الصور التي ينسجها العطار تحمِلُ بعضاً من أعمقِ الأفكار والمفاهيمِ الصوفيةِ وتنقلُ القارئَ إلى عالم مختلف. تمثِّلُ جميعُ أجزاءِ الحكاية جانبًا من جوانب الصوفية، أي أن الطيور تمثلنا نحن البشر والرغبات والارتباطات المختلفة لدينا تجاه العالم.

ويمثل الهدهد الشيخ الصوفي الذي يقود تلميذه على الطريق الروحي إلى الله، ويمثل هذا الطريق الرحلة التي تسيرها الطيور وتمثل الوديان السبعة المراحل أو المحطات التي سيمر بها الصوفي في هذه العملية لتنقية روحه في سبيل الاتحاد مع الله بحسب العطار.

أما السيمرغ فيمثل الله ،أي الحقيقة المطلقة، الذي تَبيَّنَ في النهايةِ حضوره في كلِّ ما حولنا في الواقع وأننا مجرد انعكاس لكيانه اللامتناهي.

هذه القصيدة شكّلت  تطوّرا للفن الصوفي، اذ استلهم العديد من الكتاب و الشعراء الصوفيين و غيرهم  الطريقة التي يعبر بها عن الجوانب العملية والفلسفية للصوفية من خلال القصص السردية والشعر الجميل. وهذا لم يَغب عن شخصيات مثل الرومي. في الواقع، الرومي هو مجرد مثال واحد لشخصيةِ اعتبرت العطارَ أحدَ مصدرِ إلهامٍ لها، اذ يُرجّح بأنَّ أحد أشهر كتبه ” المثنوي” اعتمدت أسلوب العطار الشعري ذاته2.

الى جانب الرومي، استخدم العديد من المفكرين اللاحقين الكثير من الصور التي ابتكرها العطار في هذه القصيدة وأسلوب التعبير حتى من خارج الإسلام والصوفية. فبهاء الله، مؤسس العقيدة البهائية، كتب عملاً بعنوان “الوديان السبعة” المستوحى بشكل واضح من قصة منطق الطير.

اليوم لا تزال القصيدة تُلهم أعمال ثقافية مختلفة منها  ألبومات موسيقية تحمل اسم روايات ترويها القصيدة، لذا يظل العطار أحد أشهر الأسماء في الصوفية وفي الشعر الفارسي ليومنا هذا.

كلب الست أمّ كلثوم: إنت فين والكلب فين؟

لا شكّ أن أمّ كلثوم شكّلت حالةً فريدةً في تاريخ الغناء العربيّ، بموهبتها التي لا تنضب، وقدرتها الفذّة على التجدّد، وجمعها بين النقائض.

أم كلثوم

وفي أحد الأيّام، وبينما كان إسماعيل، الطالب الفقير في المعهد الفنّيّ، يمشي سارحًا في الزمالك، أحد أرقى أحياء القاهرة المشيّد على جزيرةٍ في النيل، مرّ لسوء حظّه ببيت أمّ كلثوم، المولودة في قريةٍ ريفيّةٍ، فهاجمه كلبها “فوكس” في الطريق العام، وعضّه في رجله حتّى سال دمه. وبعد أن اشتكى على الكلب، أمر وكيل النيابة بحفظ التحقيق، لأنّ الخدمات التي أدّتها أمّ كلثوم للدولة كفيلة أن تعفيها و”كلبها” من المسؤوليّة الجنائيّة.

مقال عن صوت أم كلثوم في صحيفة الإتحاد 11 شباط 1975

في لقاءٍ تلفزيونيّ مع أحمد فؤاد نجم، أحد أبرز شعراء العاميّة في مصر، والذي كان قد حُبِسَ في عهدَي عبد الناصر والسادات، بتّهمٍ غريبةٍ كالسخرية، يروي القصّة السابقة أثناء تبريره كتابته قصيدة “كلب الست”، رغم كونه “كلثوميًّا” كما يصف نفسه، ومن “دراويش الست”، لكنّه أصبح وقتها، وفي “عزّ” زمنٍ  يدّعي “الاشتراكيّة والقوميّة العربيّة ومجتمع العدالة”، أمام خيارَيْن: “حبّه للفن، وشرفه”.

موهبة لا يمكن تقليدها: عازف القانون يوسف زعرور

 

أمّ كلثوم بين الواقعيّ والمتخيّل: صحيفة الإتحاد 11 شباط 2000

فأمام الجمال الصوفيّ الذي يجسّده صوت أمّ كلثوم في كثيرٍ من قصائدها المغنّاة، تزداد فجاجة الواقع. ففي إحدى مدائحها النبويّة، تُعيد، لأكثر من ربع ساعةٍ، غناء هذا البيت لأحمد شوقي الذي يصف رحلة المعراج: “حَتّى بَلَغتَ سَماءً لا يُطارُ لَها * عَلى جَناحٍ وَلا يُسْعَى عَلى قَدَمِ”، تكرّره بلمسةٍ مختلفةٍ كلّ مرّةٍ، كأنّها تكتبه من جديدٍ بمداد بحرٍ لا ينتهي، حتّى يصاب المستمع بدوارٍ سماويّ من النشوة. لكنّه، حين يعود إلى الواقع، يعضّه كلبٌ أرضيٌّ أمام قصرها، الذي لا تدخله الملائكة (رمز الرحمة)، كما ورد في حديثٍ منسوبٍ للنبيّ عن البيوت التي يربّي أصحابها كلابًا.

قصيدة للشاعر أحمد فؤاد نجم في صحيفة الإتحاد 15 نيسان 1977
قصيدة للشاعر أحمد فؤاد نجم في صحيفة الإتحاد 15 نيسان 1977

 

يبدأ “شاعر الغلابة”، كما كان يوصف من محبّيه، قصيدته، التي يحرّكها التناقض قبل لحظة الكتابة، بهذه السطور التي تكثّف التناقض:
في الزمالك من سنين/ وفي حِمى النيل القديم/ قصر من عصر اليمين/ ملك واحدة من الحريم/ صيتها أكتر من الآدان/ يسمعوه المسلمين/ والتتر والتركمان والهنود والمنبوذين/ ست فاقت على الرجال/ في المقام والاحترام/ صيت وشهرة/ وتل مال/ يعني في غاية التمام/ قُصره يعني هيّ كلمة/ ليها كلمة في الحكومة/ بس ربّك لأجل حكمة/ قام حرمها من الأمومة/ والأمومة طبع ثابت جوّا حوّا من زمان/ تعمل إيه الست؟/ جابت “فوكس” رومي وله ودان.

يوحي أسلوب القصّ بزمنٍ خرافيّ، زمن الملوك ومُلْكِ اليمين، رغم أنّه عصر الثورة على الملكيّة والرجعيّة. كذلك، فإنّ السيّدة “أمّ” كلثوم محرومةٌ من الأمومة، رغم التصاقها باسمها، فلأنّ الأسماء في ذلك الزمن كانت تائهةً عن معانيها، يمكن أن تغدو الأمّ البشريّة أُمًّا لكلبٍ، لا للمسكين إسماعيل، الذي لا يسعنا ونحن نسمع اسمه، إلّا أن نتذكّر الطفل إسماعيل، كما وردت قصّته في النصوص الإسلاميّة، الذي كاد أن يذبحه والده إبراهيم أضحيةً بشريّةً للربّ. ويذكّرنا المشهد بأكمله بدولة الثورة في عهد عبد الناصر، التي لم تفرش رحمها للشعب، بل أطلقتْ كلابها عليهم في كلّ درب، كما في قصيدةٍ أخرى لنجم:
شيّد قصورك عالمزارع / … / واطلق كلابك في الشوارع.

عن لقاء أم كلثوم وعبد الناصر: صحيفة الإتحاد 14 كانون الثاني 2000
عن لقاء أم كلثوم وعبد الناصر: صحيفة الإتحاد 14 كانون الثاني 2000

 

تكمل القصيدة رحلتها مع إسماعيل إلى الحجز والنيابة. هناك، يدرك أنّ كلماتٍ سمعها كثيرًا في المذياع، مثل “العدالة” و”الاشتراكية” تشير في الحقيقة إلى ضدّ المعاني التي كان يظنّها، فتعمل من أجل أغراضٍ أخرى لم توجد لأجلها، مثل منديل أمّ كلثوم، الذي كانت تشدّ عليه على المسرح، ولم تمسح به دم رِجل إسماعيل التي عضّها كلبها المحميّ بواسطة نظام “العدالة”.

لذلك، أمام وكيل النيابة، وكمن يحاول النجاة من كلبٍ يطارده، ومن العبث الذي يحيط به من كلّ جانب، تخبرنا القصيدة أنّ إسماعيل يتّهم نفسه بأنّه المذنب في تسميم كلب الستّ حين عضّه. فكما أنّ قصور الزمالك وحتّى شوارعها العامة ليست لجميع الناس، كذلك هو القانون.

بعد ذلك، يغنّي شاويش الشرطة لإسماعيل الأعرج أو “اسماعين”، في حفلة النيابة هذه، مؤكّدًا بغنائه على التناقض، حين يضع “الكلب” مكان “الحبّ” في أغنية أمّ كلثوم “إنت فين والحبّ فين”:

أنت فين والكلب فين؟/ أنت قدّه يا اسماعين؟/ طب ده كلب الست يا ابني/ وأنت تطلع ابن مين؟

ورغم حبّ أحمد فؤاد نجم لجمال عبد الناصر، ورغم رثائه إيّاه بقصيدةٍ عذبةٍ ذات نفحةٍ صوفيّةٍ، يصفه فيها بالحسين وصلاح الدين والنبيّ، إلّا أنّه يختم قصيدته متوجّهًا إلى الكلب، ساخرًا من مقام الرئيس، رأس هرم النظام:

هيص يا كلب الستّ هيص/ لك مقامك في البوليس/ بكرا تتألّف وزارة للكلاب/ ياخدوك رئيس.

قصيدة في الذكرى السادسة والعشرين لوفاة جمال عبد الناصر: صحية الإتحاد 30 أيلول 1996
قصيدة في الذكرى السادسة والعشرين لوفاة جمال عبد الناصر: صحية الإتحاد 30 أيلول 1996

شرائع ذرية نوح السبع

"شرائع ذرية نوح السبع"، هي شرائع أشار إليها الفقهاء السلف اليهود كونها فرضت على الشعوب غير اليهودية، في مقابل الشرائع المفروضة على اليهود.

بطاقة بريدية لحالة الطوفان وسفينة نوح

“شرائع ذرية نوح السبع”، هي شرائع أشار إليها الفقهاء السلف اليهود كونها فرضت على الشعوب غير اليهودية، في مقابل الشرائع الـ613 المفروضة على اليهود. بعد انتهاء الطوفان وخروج نوح والحاشية المرافقة له من السفينة، ظهر قوس قزح في السماء، وقام الرَّب بمخاطبة نوح وجاء في معرضها منح المخلوقات وليس الإنسان فقط الأمان بحيث أنه لن يبعث بالطوفان مرة أخرى فتهلك المخلوقات (التكوين 9: 8-17)، وجعل قوس قزح هذا علامة على العهد الذي يتضمّن سبع شرائع يؤدّيها نوح وذريته أيضًا (التكوين 9: 1-7).

فيما يلي قائمة هذه الشرائع السبع: 1. تحريم عبادة الأصنام والأوثان؛ 2. تحريم سفك الدماء؛ 3. تحريم السرقة؛ 4. تحريم سفاح القُربى؛ 5. تسبيح اسم الربّ (وتحريم التجديف على الربّ)؛ 6. تحريم أكل لحم الكائن الحي (أي يجب ذبح الكائن الحي قبل تناوله)؛ 7. فريضة إقامة أجهزة قضاء عادلة.

قام الفقهاء السلف بتأويل هذا الخطاب وتوصّلوا إلى جملة هذه الشرائع. وفق تراث هؤلاء الفقهاء السلف، فقد سبق وفرضت ست شرائع منها على آدم، بينما فرضت السابعة، الخاصة بتحريم تناول لحم حيوان حي، على نوح وذريته في أعقاب الطوفان فيما يطلق عليه “عهد قوس قزح”، حين أُحلّ للبشر قتل الحيوان لأغراض المأكل.

نقرأ في الإنجيل (العهد الجديد) أن شيوخ المسيحية في بداية تشكيلها ناقشوا مسألة وجوب أو عدم وجوب تأدية غير اليهود، المؤمنون بيسوع المسيح، الشرائع التوراتية. وقد أجمع هؤلاء على الاكتفاء ببعض هذه الشرائع السبع: تحريم عبادة الأوثان والأصنام، وتحريم الزّنا، وتحريم أكل لحم حيوان مخنوق، وتحريم أكل الدماء (أعمال الرسل 15: 20-29). ومن نافل القول إنَّ جميع التحريمات الواردة في “شرائع ذرية نوح السبع”، ومن ضمنها فريضة إقامة أجهزة قضاء عادلة، موجودة جميعها في القرآن الكريم والتراث الإسلامي بصورة كبيرة، ولكنها غير مخصّصة بقائمة بعينها كقائمة “الشرائع ذرية نوح السبع” أو “الشرائع العشر”.

تناول فقهاء التلمود (التلمود البابلي، سنهدرين 56أ)، وكذلك الكتب والمصنّفات المنشورة بالعربية-اليهودية، ككتاب يهودا اللاوي (ت. 1140 بالتقريب) ومصنّفات موسى بن ميمون (ت. 1204)، هذه الوصايا وتبعاتها. أما في عصرنا الحديث، تنشط بعض التيارات اليهودية، لا سيما حركة حبد الأرثوذكسية، في إطار الترويج لهذه الشرائع في جميع أنحاء العالم ومن بينها المجتمعات العربية.

قام الفقهاء السلف بتأويل الجمل التوراتية في أعقاب الطوفان (التكوين 9: 1-7) واستخرجوا منها هذه الشرائع:

“وبارك اللهُ نوحًا وبنيه وقال لهم: أَثمروا واكثروا واملأوا الأرضَ” – إشارة إلى تحريم التجديف؛

“ولتكن خشيتكم ورهبتكم على كل حيوانات الأرض وكل طيور السماء، مع كل ما يدب على الأرض، وكل أسماك البحر قد دفعت إلى أيديكم” – إشارة إلى فريضة إقامة أجهزة قضاء عادلة؛

“كل دابة حية تكون لكم طعامًا، كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع، غير أن لحمًا بحياته، دمه لا تأكلوه” – إشارة إلى تحريم أكل لحم الكائن الحي؛

“وأطلب أنا دمكم لأنفسكم فقط، من يد كل حيوان أطلبه” – إشارة إلى تحريم قتل النفس؛

“ومن يد الإنسان أطلب نفس الإنسان، من يد الإنسان أخيه” – إشارة إلى تحريم السرقة؛

“سافك دم الإنسان بالإنسان يسفك دمه، لأن الله على صورته عمل الإنسان” – إشارة إلى تحريم عبادة الأوثان والأصنام؛

“فأثمروا أنتم واكثروا وتوالدوا في الأرض وتكاثروا فيها” – إشارة إلى تحريم سفاح القربى؛

وكما يخبرنا اللاوي، كذلك فعلوا في تأويل إحدى الجمل التوراتية الأخرى (التكوين 2: 16)، وتوصّلوا إلى الوصايا ذاتها:

كما جعلوا (الفقهاء السلف) “وأوصى يهوه إلوهيم آدم قائلًا: من جميع شجر الجنة تأكل أكلًا” (التكوين 2: 16) علامة على “سبع الشرائع التي أُمر بها أبناء نوح: وأوصى – هذه هي الأحكام، يهوه – هذا تسبيح الاسم، إلوهيم – هذه عبادة آلهة غريبة، آدم – هذا سفك دماء، قائلًا – هذا سفاح القُربى، من جميع شجر الجنة – هذا نَهْب، تأكل أكلًا – هذا عضو الحيوان الحيّ” (الكتاب الخزري، المقالة 3، المادة 73 تعقيبًا على التلمود البابلي، السنهدرين، 56أ).

كما وجاء عند اللاوي أن بني إسرائيل المقيمون في مصر لم يعرفوا قبل خروجهم منها سوى بعض هذه الشرائع فقط:

فخرج بنو إسرائيل بأمر الله في تلك الليلة، في حين وفاة أولاد مصر، من عبودية فرعون، وصاروا إلى ناحية بحر القُلزُم (البحر الأحمر)، وقائدهم عامود غمام، وعامود نار سائر أمامَهم (الخروج 13: 21-22)، ومدبّرهم وسائسهم وإمامهم الشيخان الإلهيان موسى وهرون عليهما السلام، كانا حين أتاهما النبوّة ابني ثمانين ونيّف (الخروج 7: 7). وإلى الآن ليس عندهم شرائع إلاّ قليلة، موروثة عن أولئك الأفراد من لدن آدم ونوح، ولم ينسخها موسى ولا فسخها لكن زاد عليها (الكتاب الخزري، المقالة 1، المادة 83).

أما القاسم المشترك بين هذه الوصايا والشرائع العشر المفروضة على اليهود، فهي ثلاث شرائع فقط: تحريم القتل النفس، تحريم عبادة الأوثان والأصنام، وسفاح القربى. ومن اللافت أن فريضة إقامة أجهزة قضاء عادلة لم تذكر صراحة في الشرائع العشر المفروضة على بني إسرائيل بل في الشرائع المفروضة على غيرهم فقط. ولكن ينوّه بن ميمون (في كتاب الشرائع، شرائع الأمر، الشريعة رقم 9) أن جميع “شرائع ذرية نوح السبع” مفروضة أيضًا على بني إسرائيل كما هو على غيرهم.

يعقّب بعض الفقهاء اليهود ويقولون إنَّ ثلاثين شريعة مفروضة على غير اليهود يتفرّع من هذه الشرائع السبع، إلَّا أن غير اليهود لا يؤدّون سوى ثلاث منها فقط: عدم إبرام عقود زواج بين الذكور، وعدم بيع الجيف أو اللحم البشري في الأسواق، وتكريم التوراة. ويخبرنا بن ميمون أنَّ غير اليهودي الذي لا يؤدّي هذه الشرائع يجب الحكم عليه بالموت “إذا خضع إلينا”، أي تمتّع اليهود بالسلطة (تثنية التوراة، كتاب القضاة، تشريعات الملوك وحروبهم، الفصل 8، التشريع 13). ولكن بما أن اليهود عاشوا طيلة تاريخهم في ظل أنظمة غير يهودية، فإنهم لم يستطيعوا تنفيذ هذا الحكم ولم يقوموا بالتبشير بين الشعوب لإقناعهم لتأدية هذه الشرائع، لأن من شأن مثل هذا التبشير أن يعرّض اليهود للخطر. وفي أعقاب إقامة دولة إسرائيل وزوال الأخطار الوجودية التي تهدّدها، وجد أتباع تيار حبد الأرثوذكسي (منذ سنة 1981) ضرورة للتبشير بين غير اليهود لتأدية هذه الشرائع. وكذلك نجد ضمن الصهيونية الدينية محاولات لمثل هذا التبشير وإقامة منظمات عديدة، مثل “بريت عولم” و”بني نوح”، لهذا الغرض وإنشاء فروع لها في أنحاء العالم. ولكن نشهد استخدامًا سياسيًا لهذه الوصايا بين رجال الدين اليهود في إسرائيل بصورة خاصة. على سبيل المثال، صرّح الحاخام السفاردي الأكبر لإسرائيل، الراب يتسحاق يوسف (نجل الراب عوفاديا يوسف)، خلال خطبة عامة ألقاها (آذار 2016) أما الجمهور، بأن الشريعة اليهودية لا تسمح لغير اليهود الذي لا يؤدون هذه الشرائع بالإقامة في أرض إسرائيل”. وأردف قائلًا، “إذا كان غير اليهودي لا يرغب بقبول هذه الشرائع، يمكننا إرساله إلى المملكة العربية السعودية! … وعندما تكون السلطة القاهرة الحقيقية بأيدنا سنفعل هذا الأمر… عندما نتمتّع بالسلطة الكافية لا يمكن السماح حينها لغير اليهود الإقامة في إسرائيل. لكن يدنا ليست حازمة”. أثارت خطبة يوسف هذه غضبًا واسعًا في إسرائيل وانتقدت بشدة من قبل العديد من جمعيات حقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية وأعضاء الكنيست. كما وأصدر القائم بأعمال مدير مكتب إسرائيل لرابطة التشهير ضد اليهود استنكارًا شديدًا لما جاء في هذه الخطبة.

الوصايا العشر

تحوّلت الوصايا العشر إلى ما يشبه الدستور البشري الأسمى لا تختلف بشأن أهميتها بقية الثقافات والأمم، ولكن تختلف حول تأويلها ضمن سياقات مختلفة.

الوصايا العشر

“الوصايا العشر”، أو “العشرة كلمات” كما يرد في الترجمات اليهودية المركزية، تعتبر لبّ الرسالة الموسوية والقلب النابض للعقيدة اليهودية منذ ظهور رسالة موسى منذ الزمان الغابر، إذ أكّد الفقيه الجليل سعيد بن يوسف الفيومي (ت. 942م، فيوم مصر وبغداد العراق) على أنَّ الوصايا التي فرضها الرّب على بني إسرائيل، البالغ عددها 613 فريضة، مشتقّة جميعها من هذه الوصايا العشر. كما وأكّد في تفسيره لكتاب الخليقة (سيفر يتسيره) أن هذه الوصايا تعكس كذلك مقولات أرسطو العشرة الشهيرة التي تجمل سبل البحث في الكون وما فيه. وقد أضحت هذه الوصايا جزءًا لا يتجّزأ من كتاب الصلوات اليهودية، منذ القرون الأولى للميلاد، وكتبت حولها الأناشيد الدينية ووضعت المؤلّفات الخاصة بها.

لقد وصف الفقيه الشهير موسى بن ميمون (قرطبة، ت. 1204) هذه الوصايا بكونها “أصل الشرائع وابتداؤه” (كما يرد في تفسيره للمشناه، التقدمة اليومية/هتميد، المبحث 5، الشريعة أ)، وقد وصفها صاحب “الكتاب الخزري” بأنها “أمّهات الشرائع وأصولها” (الكتاب الحزري، المقالة 1، المادة 87) والتي تحوّلت بطبيعة الحال لاحقًا إلى جزء مركزي من العقيدة المسيحية، لا سيما وأن غالبيتها مذكورة في بعض الأناجيل (متى 19: 18-19؛ مرقس 10: 19)، ونلمس أصداء العديد منها في العقيدة القرآنية كذلك موزّعة على عدد من السور، لا سيما في سورتي الإسراء والأنعام. وفيما يلي نصّها بترجمة الفيومي وآثرت وضع ترجمة فاندايك الحديثة بين قوسين كبيرين (الخروج 20: 3-14):

  1. لا يكون لك معبود آخر من دوني (لا يكن لك آلهةٌ أخرى أمامي)؛
  2. لا تصنع لك فسلًا، ولا شبهًا ممّا في السماء في العلو وممّا في الأرض في السفلي وممّا في الماء تحت الأرض؛ لا تسجد لهم ولا تعبدهم لأنّي الله ربّك الطائق الغيور المطالب بذنوب الآباء مع البنين والثوالث والروابع لشائنيّ؛ وصانع الإحسان لألوف لمحبّي وحافظي وصايايَ (لا تصنع لك تمثالًا منحوتًا، ولا صورةً ما ممَّا في السَّماء من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض؛ لا تسجد لهنَّ ولا تعبدهنَّ، لأنِي أنا الرَّبَّ إلهك إلهٌ غيورٌ، أفتقدُ ذنوبَ الآباءِ في الأبناءِ في الجيل الثَّالث والرَّابع من مُبغضيَّ، وأصنعُ إحسانًا إلى أُلُوف من محبّيَّ وحافظي وصايايَ)؛
  3. لا تحلف باسم الله ربّك باطلًا لأنَّ الله لا يُبرئ من يحلف باسمه باطلًا (لا تنطق باسم الرَّبِ إلهك باطلًا، لأنَّ الرَّبَّ لا يُبرئُ من نطق باسْمِهِ باطلاً)؛
  4. اُذكر يومَ السَّبتِ وقدِّسه، ستّة أيام تعمل وتصنع جميع صنائعك، واليوم السابع سبت تُسبت فيه لله ربّك لا تصنع شيئًا من الصنائع أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهائمك وضيفك الذي في محالّك، لأنَّ الله خلق في ستة أيام صنع السماءَ والأرضَ والبحرَ وجميع ما فيها وأراحَها في اليوم السَّابع، ولذلك بارك الله في اليوم السابع وقدَّسه (اُذكر يومَ السَّبت لتقدّسه، ستَة أيام تعملُ وتصنعُ جميعَ عملكَ وأما اليومُ السَّابعُ ففيه سبْتٌ للرَّبِ إلهكَ، لا تصنع عملًا ما أنتَ وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك، لأنَّ في ستة أيام صنع الرَّبُّ السماءَ والأرضَ والبحرَ وكلَّ ما فيها، واستراحَ في اليوم السَّابع، لذلك بارك الرَّبُّ يوم السَّبت وقدَّسه)؛
  5. أكرم أباك وأمك لكي يطولَ عمرك في البلد الذي الله ربُّك معطيه لك (أكرم أباك وأمك لكي تطولَ أيامُك على الأرضِ التي يُعطيكَ الرَّبُّ إلهُكَ)؛
  6. لا تَقتُل النَّفس (لا تَقتُل)؛
  7. لا تَزْنِ (لا تَزْنِ)؛
  8. لا تَسْرِق (لا تَسْرِق)؛
  9. لا تشهد على أخيك شهادة باطلة (لا تشهد على قريبك شهادة زور)؛
  10. لا تتمنَّ منزل صاحبك، لا تتمنَّ زوجته وعبده وأمتَه وثوره وحماره وجميع ما له (لا تشته بيت قريبك، لا تشته امرأة قريبك، ولا عبدَه، ولا أَمَتَه، ولا ثوره، ولا حماره، ولا شيئًا ممَّا لقريبك).

    عقائد الإيمان، سدور فارحي
    عقائد الإيمان، سدور فارحي


على من فرضت الوصايا العشر؟

برغم النبرة العالمية لغالبية الوصايا، فقد فرضت هذه الوصايا العشر، وفق السياق التوراتي، على بني إسرائيل حصرًا، فقد جاء في تقديمها “أنا الله ربّك الذي أخرجك من بلد مصر من بيت العبودية” (الخروج 20: 2)، وكذلك وردت الفريضة الخامسة بترجمة الفيومي على النحو التالي: “أكرم أباك وأمك لكي يطولَ عمرك في البلد الذي الله ربُّك معطيه لك”، بمعنى أنَّ إكرام الأب والأم يعتبر شرطًا لإطالة عمر بني إسرائيل في أرض كنعان. أما على بقية الشعوب، فقد فرضت، بحسب تأويل الفقهاء السلف، سبع وصايا تشتهر بتعبير “وصايا ذرية نوح السبع” (سنتوقّف عندها بتوسّع في مادة خاصة). تنقسم هذه الوصايا العشر إلى قسمين رئيسين، الأول يتّصل بالعلاقة مع الرَّب (الوصايا الأربع الأولى)، والثاني يتّصل بالأبعاد الأخلاقية والنظام والعلاقات الاجتماعية، أما الفريضة الخامسة فيصعب تصنيفها للسبب الذي ذكرناه أعلاه، ولكن تعتبر تقليديًا تابعة للقسم الأول. ويقول العديد من الفقهاء السلف إنَّ الوصيتين الأولى والثانية فقط هما اللتان وردتا حرفيًا في كلام الرَّب إلى موسى، لأنهما هما فقط مصاغتان بضمير المتكلّم، أما البقية فقد دوّنها موسى بعباراته كما نقلهما إلى قومه.

ولكن الأمر أكثر تعقيدًا ممّا يمكن أن نخرج به من هنا، على صعيد عددها وصياغاتها والأهم من ذلك على صعيد تأويلها. أولًا، يرد في عدة أماكن في التوراة أن عدد هذه الوصايا (الكلمات) هو عشرة (الخروج 34: 28؛ التثنية 4: 13؛ 10: 4)، ولكن يمكننا التمييز بصورة واضحة بتسع وصايا فقط، لأن الأولى والثانية تتصلان بتحريم عبادة الأصنام والأوثان وهما يعتبران وصية واحدة. وتوصّل بعض الفقهاء والمفسّرين السلف إلى أنَّ مقدّمة الوصايا القائلة “أنا الله ربّك الذي أخرجك من بلد مصر من بيت العبودية” إنما تعتبر الوصية الأولى وتفيد فريضة التوحيد.

ثانيًا، لأنَّ هناك صيغة أخرى لهذه الوصايا العشر ذكرت في سفر التثنية (5: 7-21)، ومعظم الاختلافات لغوية طفيفة لا تغيّر المعنى بشيء جوهري، سوى الإضافة التي جاءت في القسم الأخير من الوصية الرابعة (تقديس السبت): واذكر أنك كنتَ عبدًا في بلد مصر، فأخرجك الله ربّك من ثَمَّ بيد شديدة وذراع ممدودة، ولذلك أمرك بأن تقيم في يوم السبت (واذكر أنك كنتَ عبدًا في أرض مصر، فأخرجك الرَّبُّ إلهك من هناك بيد شديدة وذراع ممدودة لأجل ذلك أوصاكَ الرَّبُّ إلهُكَ أن تَحفظَ يوم السَّبت). إضافة إلى ذلك، نشهد محاولة لإعادة كتابة هذه الوصايا من جديد في أماكن أخرى مع إدخال تغييرات كبيرة، ولكن لا يشار إليها كونها بديلًا أو مرادفًا لهذه الوصايا العشر (كما نقرأ، على سبيل المثال، في الخروج 34؛ اللاويّين 19). وقد اختلف الفقهاء السلف حول سبب هذه الاختلافات في الصياغة، فمنهم من قال إن جميع هذه الصياغات وردت في كلام الرَّب لموسى؛ ومنهم من قال إن الصياغة الواردة في سفر الخروج هي الأصلية، وما يرد في سفر التثنية إنما هي إعادة صياغة بعد تكسير موسى للوحي العهد في أعقاب خطيئة العجل؛ وقول آخر يفيد بأن صياغة سفر التثنية إنما هو تفسير لما جاء في صياغة سفر الخروج ولم يكن المقصود به إعادة كتابة بل التفسير فقط.

كتاب الصلوات
كتاب الصلوات

 

ثالثًا، كما ذكرنا، فإنَّ هذه الوصايا مفروضة على بني إسرائيل حصرًا، ولهذا تظهر تساؤلات عديدة حولها: هل يسري هذا التحريم على العلاقة فيما بين بني إسرائيل فقط، أم يسري كذلك على العلاقة مع غيرهم من الشعوب؟ إضافة إلى ذلك، تظهر تساؤلات عسيرة ناجمة عن تفسير المفردات ومعانيها وسياقاتها وحيثياتها. على سبيل المثال، بشأن تحريم القتل، هل القتل الناجم عن الدفاع عن النفس يعتبر “قتلًا” فيتعبر محرمًا؟ وهل القتل عن غير قصد يندرج ضمن هذا التحريم، أم ربما المقصود به القتل العمد فقط؟ وإذا تفوّه شخص بعبارة ما، أو أدلى بشهادة معينة، وكانت نتيجة ذلك مقتل شخص ما، هل يعتبر هذا قتلًا أم لا؟ وثالثًا، يختلف الفقهاء والمفسّرون في معاني هذه الوصايا، لا سيما تلك المرتبطة بالعلاقات الاجتماعية، كالزنا والسرقة. على سبيل المثال، على صعيد تحريم السرقة، هناك من يفسّرها بأنَّ المقصود بها سرقة البشر وبيعهم وليس سرقة الأموال، والتي وضعت بشأنها وصية في مكان آخر: “لا تسرقوا، ولا تكذبوا، ولا تغدروا أحدكم بصاحبه” (اللاويّين 19: 11).

أما في العصر الحديث، لا سيما في أعقاب الثورة البروتستانية في أوروبا وظهور ما يطلق عليه تعبير “التراث اليهودي-المسيحي”، فقد تحوّلت هذه الوصايا العشر إلى ما يشبه الدستور البشري الأسمى لا تختلف بشأن أهميتها بقية الثقافات والأمم، ولكن تختلف حول تأويلها ضمن السياقات المختلفة، لا سيما وأن هذه الوصايا مصاغة بطريقة مجرّدة.