“الوصايا العشر”، أو “العشرة كلمات” كما يرد في الترجمات اليهودية المركزية، تعتبر لبّ الرسالة الموسوية والقلب النابض للعقيدة اليهودية منذ ظهور رسالة موسى منذ الزمان الغابر، إذ أكّد الفقيه الجليل سعيد بن يوسف الفيومي (ت. 942م، فيوم مصر وبغداد العراق) على أنَّ الوصايا التي فرضها الرّب على بني إسرائيل، البالغ عددها 613 فريضة، مشتقّة جميعها من هذه الوصايا العشر. كما وأكّد في تفسيره لكتاب الخليقة (سيفر يتسيره) أن هذه الوصايا تعكس كذلك مقولات أرسطو العشرة الشهيرة التي تجمل سبل البحث في الكون وما فيه. وقد أضحت هذه الوصايا جزءًا لا يتجّزأ من كتاب الصلوات اليهودية، منذ القرون الأولى للميلاد، وكتبت حولها الأناشيد الدينية ووضعت المؤلّفات الخاصة بها.
لقد وصف الفقيه الشهير موسى بن ميمون (قرطبة، ت. 1204) هذه الوصايا بكونها “أصل الشرائع وابتداؤه” (كما يرد في تفسيره للمشناه، التقدمة اليومية/هتميد، المبحث 5، الشريعة أ)، وقد وصفها صاحب “الكتاب الخزري” بأنها “أمّهات الشرائع وأصولها” (الكتاب الحزري، المقالة 1، المادة 87) والتي تحوّلت بطبيعة الحال لاحقًا إلى جزء مركزي من العقيدة المسيحية، لا سيما وأن غالبيتها مذكورة في بعض الأناجيل (متى 19: 18-19؛ مرقس 10: 19)، ونلمس أصداء العديد منها في العقيدة القرآنية كذلك موزّعة على عدد من السور، لا سيما في سورتي الإسراء والأنعام. وفيما يلي نصّها بترجمة الفيومي وآثرت وضع ترجمة فاندايك الحديثة بين قوسين كبيرين (الخروج 20: 3-14):
- لا يكون لك معبود آخر من دوني (لا يكن لك آلهةٌ أخرى أمامي)؛
- لا تصنع لك فسلًا، ولا شبهًا ممّا في السماء في العلو وممّا في الأرض في السفلي وممّا في الماء تحت الأرض؛ لا تسجد لهم ولا تعبدهم لأنّي الله ربّك الطائق الغيور المطالب بذنوب الآباء مع البنين والثوالث والروابع لشائنيّ؛ وصانع الإحسان لألوف لمحبّي وحافظي وصايايَ (لا تصنع لك تمثالًا منحوتًا، ولا صورةً ما ممَّا في السَّماء من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض؛ لا تسجد لهنَّ ولا تعبدهنَّ، لأنِي أنا الرَّبَّ إلهك إلهٌ غيورٌ، أفتقدُ ذنوبَ الآباءِ في الأبناءِ في الجيل الثَّالث والرَّابع من مُبغضيَّ، وأصنعُ إحسانًا إلى أُلُوف من محبّيَّ وحافظي وصايايَ)؛
- لا تحلف باسم الله ربّك باطلًا لأنَّ الله لا يُبرئ من يحلف باسمه باطلًا (لا تنطق باسم الرَّبِ إلهك باطلًا، لأنَّ الرَّبَّ لا يُبرئُ من نطق باسْمِهِ باطلاً)؛
- اُذكر يومَ السَّبتِ وقدِّسه، ستّة أيام تعمل وتصنع جميع صنائعك، واليوم السابع سبت تُسبت فيه لله ربّك لا تصنع شيئًا من الصنائع أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهائمك وضيفك الذي في محالّك، لأنَّ الله خلق في ستة أيام صنع السماءَ والأرضَ والبحرَ وجميع ما فيها وأراحَها في اليوم السَّابع، ولذلك بارك الله في اليوم السابع وقدَّسه (اُذكر يومَ السَّبت لتقدّسه، ستَة أيام تعملُ وتصنعُ جميعَ عملكَ وأما اليومُ السَّابعُ ففيه سبْتٌ للرَّبِ إلهكَ، لا تصنع عملًا ما أنتَ وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك، لأنَّ في ستة أيام صنع الرَّبُّ السماءَ والأرضَ والبحرَ وكلَّ ما فيها، واستراحَ في اليوم السَّابع، لذلك بارك الرَّبُّ يوم السَّبت وقدَّسه)؛
- أكرم أباك وأمك لكي يطولَ عمرك في البلد الذي الله ربُّك معطيه لك (أكرم أباك وأمك لكي تطولَ أيامُك على الأرضِ التي يُعطيكَ الرَّبُّ إلهُكَ)؛
- لا تَقتُل النَّفس (لا تَقتُل)؛
- لا تَزْنِ (لا تَزْنِ)؛
- لا تَسْرِق (لا تَسْرِق)؛
- لا تشهد على أخيك شهادة باطلة (لا تشهد على قريبك شهادة زور)؛
- لا تتمنَّ منزل صاحبك، لا تتمنَّ زوجته وعبده وأمتَه وثوره وحماره وجميع ما له (لا تشته بيت قريبك، لا تشته امرأة قريبك، ولا عبدَه، ولا أَمَتَه، ولا ثوره، ولا حماره، ولا شيئًا ممَّا لقريبك).
على من فرضت الوصايا العشر؟
برغم النبرة العالمية لغالبية الوصايا، فقد فرضت هذه الوصايا العشر، وفق السياق التوراتي، على بني إسرائيل حصرًا، فقد جاء في تقديمها “أنا الله ربّك الذي أخرجك من بلد مصر من بيت العبودية” (الخروج 20: 2)، وكذلك وردت الفريضة الخامسة بترجمة الفيومي على النحو التالي: “أكرم أباك وأمك لكي يطولَ عمرك في البلد الذي الله ربُّك معطيه لك”، بمعنى أنَّ إكرام الأب والأم يعتبر شرطًا لإطالة عمر بني إسرائيل في أرض كنعان. أما على بقية الشعوب، فقد فرضت، بحسب تأويل الفقهاء السلف، سبع وصايا تشتهر بتعبير “وصايا ذرية نوح السبع” (سنتوقّف عندها بتوسّع في مادة خاصة). تنقسم هذه الوصايا العشر إلى قسمين رئيسين، الأول يتّصل بالعلاقة مع الرَّب (الوصايا الأربع الأولى)، والثاني يتّصل بالأبعاد الأخلاقية والنظام والعلاقات الاجتماعية، أما الفريضة الخامسة فيصعب تصنيفها للسبب الذي ذكرناه أعلاه، ولكن تعتبر تقليديًا تابعة للقسم الأول. ويقول العديد من الفقهاء السلف إنَّ الوصيتين الأولى والثانية فقط هما اللتان وردتا حرفيًا في كلام الرَّب إلى موسى، لأنهما هما فقط مصاغتان بضمير المتكلّم، أما البقية فقد دوّنها موسى بعباراته كما نقلهما إلى قومه.
ولكن الأمر أكثر تعقيدًا ممّا يمكن أن نخرج به من هنا، على صعيد عددها وصياغاتها والأهم من ذلك على صعيد تأويلها. أولًا، يرد في عدة أماكن في التوراة أن عدد هذه الوصايا (الكلمات) هو عشرة (الخروج 34: 28؛ التثنية 4: 13؛ 10: 4)، ولكن يمكننا التمييز بصورة واضحة بتسع وصايا فقط، لأن الأولى والثانية تتصلان بتحريم عبادة الأصنام والأوثان وهما يعتبران وصية واحدة. وتوصّل بعض الفقهاء والمفسّرين السلف إلى أنَّ مقدّمة الوصايا القائلة “أنا الله ربّك الذي أخرجك من بلد مصر من بيت العبودية” إنما تعتبر الوصية الأولى وتفيد فريضة التوحيد.
ثانيًا، لأنَّ هناك صيغة أخرى لهذه الوصايا العشر ذكرت في سفر التثنية (5: 7-21)، ومعظم الاختلافات لغوية طفيفة لا تغيّر المعنى بشيء جوهري، سوى الإضافة التي جاءت في القسم الأخير من الوصية الرابعة (تقديس السبت): واذكر أنك كنتَ عبدًا في بلد مصر، فأخرجك الله ربّك من ثَمَّ بيد شديدة وذراع ممدودة، ولذلك أمرك بأن تقيم في يوم السبت (واذكر أنك كنتَ عبدًا في أرض مصر، فأخرجك الرَّبُّ إلهك من هناك بيد شديدة وذراع ممدودة لأجل ذلك أوصاكَ الرَّبُّ إلهُكَ أن تَحفظَ يوم السَّبت). إضافة إلى ذلك، نشهد محاولة لإعادة كتابة هذه الوصايا من جديد في أماكن أخرى مع إدخال تغييرات كبيرة، ولكن لا يشار إليها كونها بديلًا أو مرادفًا لهذه الوصايا العشر (كما نقرأ، على سبيل المثال، في الخروج 34؛ اللاويّين 19). وقد اختلف الفقهاء السلف حول سبب هذه الاختلافات في الصياغة، فمنهم من قال إن جميع هذه الصياغات وردت في كلام الرَّب لموسى؛ ومنهم من قال إن الصياغة الواردة في سفر الخروج هي الأصلية، وما يرد في سفر التثنية إنما هي إعادة صياغة بعد تكسير موسى للوحي العهد في أعقاب خطيئة العجل؛ وقول آخر يفيد بأن صياغة سفر التثنية إنما هو تفسير لما جاء في صياغة سفر الخروج ولم يكن المقصود به إعادة كتابة بل التفسير فقط.
ثالثًا، كما ذكرنا، فإنَّ هذه الوصايا مفروضة على بني إسرائيل حصرًا، ولهذا تظهر تساؤلات عديدة حولها: هل يسري هذا التحريم على العلاقة فيما بين بني إسرائيل فقط، أم يسري كذلك على العلاقة مع غيرهم من الشعوب؟ إضافة إلى ذلك، تظهر تساؤلات عسيرة ناجمة عن تفسير المفردات ومعانيها وسياقاتها وحيثياتها. على سبيل المثال، بشأن تحريم القتل، هل القتل الناجم عن الدفاع عن النفس يعتبر “قتلًا” فيتعبر محرمًا؟ وهل القتل عن غير قصد يندرج ضمن هذا التحريم، أم ربما المقصود به القتل العمد فقط؟ وإذا تفوّه شخص بعبارة ما، أو أدلى بشهادة معينة، وكانت نتيجة ذلك مقتل شخص ما، هل يعتبر هذا قتلًا أم لا؟ وثالثًا، يختلف الفقهاء والمفسّرون في معاني هذه الوصايا، لا سيما تلك المرتبطة بالعلاقات الاجتماعية، كالزنا والسرقة. على سبيل المثال، على صعيد تحريم السرقة، هناك من يفسّرها بأنَّ المقصود بها سرقة البشر وبيعهم وليس سرقة الأموال، والتي وضعت بشأنها وصية في مكان آخر: “لا تسرقوا، ولا تكذبوا، ولا تغدروا أحدكم بصاحبه” (اللاويّين 19: 11).
أما في العصر الحديث، لا سيما في أعقاب الثورة البروتستانية في أوروبا وظهور ما يطلق عليه تعبير “التراث اليهودي-المسيحي”، فقد تحوّلت هذه الوصايا العشر إلى ما يشبه الدستور البشري الأسمى لا تختلف بشأن أهميتها بقية الثقافات والأمم، ولكن تختلف حول تأويلها ضمن السياقات المختلفة، لا سيما وأن هذه الوصايا مصاغة بطريقة مجرّدة.