الوصايا العشر

تحوّلت الوصايا العشر إلى ما يشبه الدستور البشري الأسمى لا تختلف بشأن أهميتها بقية الثقافات والأمم، ولكن تختلف حول تأويلها ضمن سياقات مختلفة.

الوصايا العشر

“الوصايا العشر”، أو “العشرة كلمات” كما يرد في الترجمات اليهودية المركزية، تعتبر لبّ الرسالة الموسوية والقلب النابض للعقيدة اليهودية منذ ظهور رسالة موسى منذ الزمان الغابر، إذ أكّد الفقيه الجليل سعيد بن يوسف الفيومي (ت. 942م، فيوم مصر وبغداد العراق) على أنَّ الوصايا التي فرضها الرّب على بني إسرائيل، البالغ عددها 613 فريضة، مشتقّة جميعها من هذه الوصايا العشر. كما وأكّد في تفسيره لكتاب الخليقة (سيفر يتسيره) أن هذه الوصايا تعكس كذلك مقولات أرسطو العشرة الشهيرة التي تجمل سبل البحث في الكون وما فيه. وقد أضحت هذه الوصايا جزءًا لا يتجّزأ من كتاب الصلوات اليهودية، منذ القرون الأولى للميلاد، وكتبت حولها الأناشيد الدينية ووضعت المؤلّفات الخاصة بها.

لقد وصف الفقيه الشهير موسى بن ميمون (قرطبة، ت. 1204) هذه الوصايا بكونها “أصل الشرائع وابتداؤه” (كما يرد في تفسيره للمشناه، التقدمة اليومية/هتميد، المبحث 5، الشريعة أ)، وقد وصفها صاحب “الكتاب الخزري” بأنها “أمّهات الشرائع وأصولها” (الكتاب الحزري، المقالة 1، المادة 87) والتي تحوّلت بطبيعة الحال لاحقًا إلى جزء مركزي من العقيدة المسيحية، لا سيما وأن غالبيتها مذكورة في بعض الأناجيل (متى 19: 18-19؛ مرقس 10: 19)، ونلمس أصداء العديد منها في العقيدة القرآنية كذلك موزّعة على عدد من السور، لا سيما في سورتي الإسراء والأنعام. وفيما يلي نصّها بترجمة الفيومي وآثرت وضع ترجمة فاندايك الحديثة بين قوسين كبيرين (الخروج 20: 3-14):

  1. لا يكون لك معبود آخر من دوني (لا يكن لك آلهةٌ أخرى أمامي)؛
  2. لا تصنع لك فسلًا، ولا شبهًا ممّا في السماء في العلو وممّا في الأرض في السفلي وممّا في الماء تحت الأرض؛ لا تسجد لهم ولا تعبدهم لأنّي الله ربّك الطائق الغيور المطالب بذنوب الآباء مع البنين والثوالث والروابع لشائنيّ؛ وصانع الإحسان لألوف لمحبّي وحافظي وصايايَ (لا تصنع لك تمثالًا منحوتًا، ولا صورةً ما ممَّا في السَّماء من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض؛ لا تسجد لهنَّ ولا تعبدهنَّ، لأنِي أنا الرَّبَّ إلهك إلهٌ غيورٌ، أفتقدُ ذنوبَ الآباءِ في الأبناءِ في الجيل الثَّالث والرَّابع من مُبغضيَّ، وأصنعُ إحسانًا إلى أُلُوف من محبّيَّ وحافظي وصايايَ)؛
  3. لا تحلف باسم الله ربّك باطلًا لأنَّ الله لا يُبرئ من يحلف باسمه باطلًا (لا تنطق باسم الرَّبِ إلهك باطلًا، لأنَّ الرَّبَّ لا يُبرئُ من نطق باسْمِهِ باطلاً)؛
  4. اُذكر يومَ السَّبتِ وقدِّسه، ستّة أيام تعمل وتصنع جميع صنائعك، واليوم السابع سبت تُسبت فيه لله ربّك لا تصنع شيئًا من الصنائع أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهائمك وضيفك الذي في محالّك، لأنَّ الله خلق في ستة أيام صنع السماءَ والأرضَ والبحرَ وجميع ما فيها وأراحَها في اليوم السَّابع، ولذلك بارك الله في اليوم السابع وقدَّسه (اُذكر يومَ السَّبت لتقدّسه، ستَة أيام تعملُ وتصنعُ جميعَ عملكَ وأما اليومُ السَّابعُ ففيه سبْتٌ للرَّبِ إلهكَ، لا تصنع عملًا ما أنتَ وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك، لأنَّ في ستة أيام صنع الرَّبُّ السماءَ والأرضَ والبحرَ وكلَّ ما فيها، واستراحَ في اليوم السَّابع، لذلك بارك الرَّبُّ يوم السَّبت وقدَّسه)؛
  5. أكرم أباك وأمك لكي يطولَ عمرك في البلد الذي الله ربُّك معطيه لك (أكرم أباك وأمك لكي تطولَ أيامُك على الأرضِ التي يُعطيكَ الرَّبُّ إلهُكَ)؛
  6. لا تَقتُل النَّفس (لا تَقتُل)؛
  7. لا تَزْنِ (لا تَزْنِ)؛
  8. لا تَسْرِق (لا تَسْرِق)؛
  9. لا تشهد على أخيك شهادة باطلة (لا تشهد على قريبك شهادة زور)؛
  10. لا تتمنَّ منزل صاحبك، لا تتمنَّ زوجته وعبده وأمتَه وثوره وحماره وجميع ما له (لا تشته بيت قريبك، لا تشته امرأة قريبك، ولا عبدَه، ولا أَمَتَه، ولا ثوره، ولا حماره، ولا شيئًا ممَّا لقريبك).

    عقائد الإيمان، سدور فارحي
    عقائد الإيمان، سدور فارحي


على من فرضت الوصايا العشر؟

برغم النبرة العالمية لغالبية الوصايا، فقد فرضت هذه الوصايا العشر، وفق السياق التوراتي، على بني إسرائيل حصرًا، فقد جاء في تقديمها “أنا الله ربّك الذي أخرجك من بلد مصر من بيت العبودية” (الخروج 20: 2)، وكذلك وردت الفريضة الخامسة بترجمة الفيومي على النحو التالي: “أكرم أباك وأمك لكي يطولَ عمرك في البلد الذي الله ربُّك معطيه لك”، بمعنى أنَّ إكرام الأب والأم يعتبر شرطًا لإطالة عمر بني إسرائيل في أرض كنعان. أما على بقية الشعوب، فقد فرضت، بحسب تأويل الفقهاء السلف، سبع وصايا تشتهر بتعبير “وصايا ذرية نوح السبع” (سنتوقّف عندها بتوسّع في مادة خاصة). تنقسم هذه الوصايا العشر إلى قسمين رئيسين، الأول يتّصل بالعلاقة مع الرَّب (الوصايا الأربع الأولى)، والثاني يتّصل بالأبعاد الأخلاقية والنظام والعلاقات الاجتماعية، أما الفريضة الخامسة فيصعب تصنيفها للسبب الذي ذكرناه أعلاه، ولكن تعتبر تقليديًا تابعة للقسم الأول. ويقول العديد من الفقهاء السلف إنَّ الوصيتين الأولى والثانية فقط هما اللتان وردتا حرفيًا في كلام الرَّب إلى موسى، لأنهما هما فقط مصاغتان بضمير المتكلّم، أما البقية فقد دوّنها موسى بعباراته كما نقلهما إلى قومه.

ولكن الأمر أكثر تعقيدًا ممّا يمكن أن نخرج به من هنا، على صعيد عددها وصياغاتها والأهم من ذلك على صعيد تأويلها. أولًا، يرد في عدة أماكن في التوراة أن عدد هذه الوصايا (الكلمات) هو عشرة (الخروج 34: 28؛ التثنية 4: 13؛ 10: 4)، ولكن يمكننا التمييز بصورة واضحة بتسع وصايا فقط، لأن الأولى والثانية تتصلان بتحريم عبادة الأصنام والأوثان وهما يعتبران وصية واحدة. وتوصّل بعض الفقهاء والمفسّرين السلف إلى أنَّ مقدّمة الوصايا القائلة “أنا الله ربّك الذي أخرجك من بلد مصر من بيت العبودية” إنما تعتبر الوصية الأولى وتفيد فريضة التوحيد.

ثانيًا، لأنَّ هناك صيغة أخرى لهذه الوصايا العشر ذكرت في سفر التثنية (5: 7-21)، ومعظم الاختلافات لغوية طفيفة لا تغيّر المعنى بشيء جوهري، سوى الإضافة التي جاءت في القسم الأخير من الوصية الرابعة (تقديس السبت): واذكر أنك كنتَ عبدًا في بلد مصر، فأخرجك الله ربّك من ثَمَّ بيد شديدة وذراع ممدودة، ولذلك أمرك بأن تقيم في يوم السبت (واذكر أنك كنتَ عبدًا في أرض مصر، فأخرجك الرَّبُّ إلهك من هناك بيد شديدة وذراع ممدودة لأجل ذلك أوصاكَ الرَّبُّ إلهُكَ أن تَحفظَ يوم السَّبت). إضافة إلى ذلك، نشهد محاولة لإعادة كتابة هذه الوصايا من جديد في أماكن أخرى مع إدخال تغييرات كبيرة، ولكن لا يشار إليها كونها بديلًا أو مرادفًا لهذه الوصايا العشر (كما نقرأ، على سبيل المثال، في الخروج 34؛ اللاويّين 19). وقد اختلف الفقهاء السلف حول سبب هذه الاختلافات في الصياغة، فمنهم من قال إن جميع هذه الصياغات وردت في كلام الرَّب لموسى؛ ومنهم من قال إن الصياغة الواردة في سفر الخروج هي الأصلية، وما يرد في سفر التثنية إنما هي إعادة صياغة بعد تكسير موسى للوحي العهد في أعقاب خطيئة العجل؛ وقول آخر يفيد بأن صياغة سفر التثنية إنما هو تفسير لما جاء في صياغة سفر الخروج ولم يكن المقصود به إعادة كتابة بل التفسير فقط.

كتاب الصلوات
كتاب الصلوات

 

ثالثًا، كما ذكرنا، فإنَّ هذه الوصايا مفروضة على بني إسرائيل حصرًا، ولهذا تظهر تساؤلات عديدة حولها: هل يسري هذا التحريم على العلاقة فيما بين بني إسرائيل فقط، أم يسري كذلك على العلاقة مع غيرهم من الشعوب؟ إضافة إلى ذلك، تظهر تساؤلات عسيرة ناجمة عن تفسير المفردات ومعانيها وسياقاتها وحيثياتها. على سبيل المثال، بشأن تحريم القتل، هل القتل الناجم عن الدفاع عن النفس يعتبر “قتلًا” فيتعبر محرمًا؟ وهل القتل عن غير قصد يندرج ضمن هذا التحريم، أم ربما المقصود به القتل العمد فقط؟ وإذا تفوّه شخص بعبارة ما، أو أدلى بشهادة معينة، وكانت نتيجة ذلك مقتل شخص ما، هل يعتبر هذا قتلًا أم لا؟ وثالثًا، يختلف الفقهاء والمفسّرون في معاني هذه الوصايا، لا سيما تلك المرتبطة بالعلاقات الاجتماعية، كالزنا والسرقة. على سبيل المثال، على صعيد تحريم السرقة، هناك من يفسّرها بأنَّ المقصود بها سرقة البشر وبيعهم وليس سرقة الأموال، والتي وضعت بشأنها وصية في مكان آخر: “لا تسرقوا، ولا تكذبوا، ولا تغدروا أحدكم بصاحبه” (اللاويّين 19: 11).

أما في العصر الحديث، لا سيما في أعقاب الثورة البروتستانية في أوروبا وظهور ما يطلق عليه تعبير “التراث اليهودي-المسيحي”، فقد تحوّلت هذه الوصايا العشر إلى ما يشبه الدستور البشري الأسمى لا تختلف بشأن أهميتها بقية الثقافات والأمم، ولكن تختلف حول تأويلها ضمن السياقات المختلفة، لا سيما وأن هذه الوصايا مصاغة بطريقة مجرّدة.

المحرقة المنسيّة في مراسم الحداد الدينيّة

ما العلاقة القائمة حاليًا بين تذكّر المحرقة النازيّة في المجتمع اليهودي وبين المراسم الدينيّة التقليديّة المتبعة؟

مراسم الحداد في ذكرى خراب الهيكل التاسع من آب، أرشيف دان هداني

مترجم بتصرّف عن مقالة رأي لـ: يويل رافيل

تقام ذكرى خراب الهيكل المقدس في اليهوديّة والمعروفة بذكرى التاسع من آب من خلال صيام يوم كامل واقامة مراسم الحداد على تدمير هيكل سليمان وهيكل هيرودس. يستغرق الصيام 25 ساعة كاملة يحظر فيها الاكل والشرب وأي عمل من المتعة، وخلال هذا اليوم يدأب الجميع على الالتزام بمظاهر الحزن والتواضع في الملبس، ويتلى في صباح اليوم التالي مرثيّة ترتل بلحن حزين تدعى “كينوت” أي حداد.

في عام 1984 وافق خمسة من كبار رجال الدين اليهود في الولايات المتحدة على أن يتم الحداد على أرواح أشخاص  فقدوا في أحداث اوروبية، وأصدروا بيانا لإعلان ذلك “رأينا أنه من المناسب قبول ما نصح به كثر طيّبون، وهو أن نتذكر وننتحب في يوم التاسع من آب، ذلك اليوم الذي كتب فيه البكاء علينا لأجيال، أن ننتحب فيه أيضًا على قديسي أوروبا، أن نندب علنًا ونسكب الدموع على خسارة ستمائة ألف إسرائيلي سقطوا على أيدي الأشرار الملعونين”.

سمح هذا المقتطف من خطاب موافقة الحاخامات منذ تسعة وثلاثين عامًا بإضافة تقليد إلى مراسم الحداد، وهي ترانيم النعي والرثاء المعتادة في صوم التاسع من آب. وقد عبّر اتفاقهم هذا عن منعطف في تشكيل ذاكرة المحرقة في المجتمع الديني بكافة أشكاله. وكان من الممكن أن يفضي ذلك المنعطف لإضافة مراثي مكتوبة خصيًصا لإحياء ذكرى ستة ملايين يهودي تمت إبادتهم في المحرقة خلال مراثي التاسع من آب بشكل ثابت يبقى عبر الأجيال، إلا أنه من المؤسف أنه حتى اليوم وبعد قبول، لم يتم قبول هذا الاتفاق الشرعي باعتباره اتفاقا جماهيريًا.

في كل عام يتساءل الإسرائيليون في ذكرى المحرقة والبطولة، كيف ستتذكر الأجيال القادمة المحرقة؟ ومع تناقص عدد الناجين من بيننا كل عام فإن السؤال يشتد أكثر وأكثر، فسيأتي وقت لن يكون فيه شهود على المحرقة.

صدرت عام 2007 عن مطبعة جامعة بار إيلان بالتعاون مع كلية أورشليم مجموعة اولى ومرتبة من “مراثي المحرقة”. جمعت جميع المرثيات بعد المحرقة من حاخامات ومؤلفين ومبدعين دينيين كثر، وكذلك غير متدينين، مع أن معظمهم بالتأكيد ينتمون للتيار الديني القومي. قصائد شخصيّة وملهمة كتبها اشخاص معروفين إما لرثاء أشخاص عرفوهم وإما بصدق كلماتهم الخاصّة والنادرة وعلى فترات زمانية مختلفة، مبدعون يشار إليهم بالبنان من حاخام ووفيلسوف وشاعر. بينما في ترتيب صلاة يوم المحرقة المعتمد للحركة التقليديّة فقد تم تضمين رثاء بعنوان “انظر من السماء” لكاتب هويته غير معروفة.

 

غلاف مرثيات المحرقة
غلاف مرثيات المحرقة

بالرغم من هذا، تم استبعاد المرثيات التي كتبت بأسلوب العصور الوسطى من ترتيب الصلاوات في معظم المجتمعات. ولذلك فإن السؤال يطرح نفسه، من الذي عارض دمج مرثيات الحداد على أرواح المفقدوين في المحرقة من ترتيب ذكرى خراب الهيكل أو التاسع من آب، وهو يوم الحداد الأكبر في اليهوديّة؟ لماذا كانت هناك ولا تزال مقاومة شرسة من قبل المجتمع المتشدد لإضفاء معنى حديث مضاف لذكرى التاسع من آب؟ وحتى يمكننا أن نسأل، لماذا لم يتبنّ الجمهور الديني القومي، وحتّى المتشددون منهم، عادة حداد ورثاء لضحايا المحرقة حتّى في اليوم المعتمد حاليًا لإحياء ذكراهم؟

يشير الحاخام ياوز كيست إلى عدّة أسباب لذلك. في رأيه، والكاتب يتفق معه، لا توجد اليوم هيئة دينيّة تملك السلطة التي تخوّلها للتعامل مع المسائل الروحيّة المحيطة بالمحرقة. فمن يحقّ له أن يؤلّف صلاة رثاء حول موضوع المحرقة ليتم تضمينه في ترتيب الصلاة المعتمد؟ بالإضافة الى ذلك، هل يمكن أن تثير المحرقة أسئلة حول مسألة الإيمان بحد ذاتها؟

يحوم النقاش هنا حول سؤال يزعج في الحقيقة كل يهودي مؤمن، وحتى هؤلاء الذين لا يتبعون الفرائض لكنهم يهود، أين كان إله إسرائيل في المحرقة؟ وهو السؤال الذي يجب أن يتجلى كاملًا في الحداد على ضحايا المحرقة. ولكن نتساءل يضًا، ألا يحضر هذا السؤال أيضًا فيما يتعلّق بخراب الهيكل وحدادنا عليه؟ يؤمن كثر ان أحداث خراب الهيكل كانت أقل كارثيّة للشعب اليهودي من المحرقة. وها هو خراب الهيكل يتصدّر مراسم الحداد والصلاة، وتبقى المحرقة مستبعدة عن مراسيم دور العبادة.

ثبت بالفحص المخبري: مخطوطة كتاب الشفا لابن سينا قديمة ونادرة!

أثارت مخطوطة كتاب الشفا لابن سينا في المكتبة الوطنية جدلًا بين الباحثين حول تأريخها، ولم يكن هناك إلا طريقة واحدة للحصول على إجابة.

رسم ابن سينا من مخطوطة تعود للعصور الوسطى بعنوان subtitles of truth من عام 1271 (المصدر ويكيبيديا)، وهاجر ميلمان، مختصّة حفظ وترميم في مختبر الحفظ والترميم في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة، وهي تقطع برفق خط رفيع من المخطوطة.

رسم ابن سينا من مخطوطة تعود للعصور الوسطى بعنوان subtitles of truth من عام 1271 (المصدر ويكيبيديا)، وهاجر ميلمان، مختصّة حفظ وترميم في مختبر الحفظ والترميم في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة، وهي تقطع برفق خط رفيع من المخطوطة.

تُرجِم عن: راحيل غولبيرغ

تقف سيّدة برداء أبيض مخبري أمام طاولة عمل مضاءة وتمدّ يدها لتطلب “اإزميل”. تمسك بالأداة الحادة وتميل من فوق الطاولة المضاءة جيّدًا لتقطع خطا رفيعًا وطويلًا. هذه ليست عملية جراحية لإنسان. ولكن لمخطوطة تاريخ نسخها غير معروف بعد.

الهدف من هذه “الجراحة” هو الكشف عن عمر المخطوطة التي بين أيدينا. ولذلك، نُقل الجزء الصّغير الذي تمّ قصّه من المخطوطة إلى مختبر خارجي ليخضع لفحص مخبري دقيق. إن أهميّة هذا الفحص المخبري ونتائجه مهمّة جدًا؛ إذ أنّ هذه المخطوطة ليست مخطوطة عاديّة، إنّها منسوبة لفيلسوف وطبيب القرن الحادي عشر الشّهير ابن سينا (980-1037 م).

 

رسم ابن سينا من مخطوطة تعود للعصور الوسطى بعنوان subtitles of truth من عام 1271 (المصدر ويكيبيديا)
رسم ابن سينا من مخطوطة تعود للعصور الوسطى بعنوان subtitles of truth من عام 1271 (المصدر ويكيبيديا)


مؤلّف الكتاب

يعتبر ابن سينا أحد أهم المفكرين في العالم الإسلامي، وهو من المفكرين الإسلاميين الأقلاء الذين حظوا بشهرة عالميّة في حياتهم، فقد عُرفوا في العالم الإسلامي وكذلك في أوروبا، وقد عرف ابن سينا بالاسم اللاتيني “أفيسينا”.

لمع نجم ابن سينا في جيل يافع واعتبر طبيبًا وفيلسوفًا مرموقًا، وقد حصل على هذه الشّهرة لأول مرّة عندما استدعي لتطبيب سلطان بلاد فارس الذي كان طريحًا للفراش لفترة طويلة وعجز أطباء البلاط عن مداواته. حين تفوّق ابن سينا على هؤلاء الأطباء الملكيين ونجح بتطبيب السلطان، فُتحت أمامه أبواب المكتبة السلطانيّة الفاخرة على مصراعيها، وأدت هذه النّقلة إلى طفرة من الإبداع والإنتاج العلمي عند ابن سينا، كان من ثمراتها كتابه الشّهير في فلسفة العلم “كتاب الشّفا”.

 

الصفحة الأولى من مخطوطة "كتاب الشّفاء"، مجموعة المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة.
الصفحة الأولى من مخطوطة “كتاب الشّفا”، مجموعة المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة.


في حياته القصيرة تمكّن ابن سينا من ترك مئات المؤلّفات. وفي مجموعات المكتبة الوطنيّة هناك مئات من المخطوطات لمؤلفات ابن سينا المختلفة، وكذلك شروح لاحقة لهذه المؤلفات، ولكن يتميّز في عملين من بين الجميع: واحد في الطب والثاني في العلوم.

تنبع فرادة ابن سينا في هذين العملين لأنه يرسم من خلالهما خارطة لكل مجال المعرفة، من خلال التقسيم إلى فئات واضحة. كما تكمن أهمية مساهمة ابن سينا العلمية بأنه يعرض كل من هذه الفئات بنظرة نقديّة ويعرض استنتاجاته عن كل مجال ومجال. هذا الأسلوب في فحص الفئات المختلفة بشكل نقدي وبالذات في مجال الطّب، تحوّل إلى الأساس الّذي اتكأ عليه بدرجة كبيرة الطب الحديث وهو “الطب المبني على التجربة”. هدف “كتاب الشفا” هو تغطية جميع مجالات العلوم الموجودة في حين كتابته، إن تفرد وأهمية الكتاب تكمن كما ذكرنا في هيكله، الذي أصبح المعيار الذي بحسبه كُتبت كتب الفلسفة منذ ذلك الوقت.

يتكوّن كتاب الشفا من أربعة أجزاء، وكل جزء يتناول موضوعًا مختلفًا: الجزء الأول موجود في مجموعة المكتبة الوطنيّة ويتناول المنطق. أمّا بقية الأجزاء فتتناول موضوعات مثل العلوم الطبيعيّة، علم النّفس، العلوم الحسابيّة (الهندسة والرياضيات والموسيقى والفلك) والمتافيزيقية.


المخطوطة النّادرة في المكتبة الوطنيّة

وصل الجزء الأول من كتاب الشفا الى المكتبة الوطنيّة كجزء من المجموعة الضخمة للباحث وجامع الكتب الأثرية الشهير أبراهام شالوم يهودا (1877-1951). مفهرس المجموعة أفرايم ووست سجّل المخطوطة الفريدة هذه في فهرس المكتبة. ومن المعلومات التي على المفهرس إدراجها حول كل مخطوطة هي سنة نسخها الواردة فيها أو التي يقدّرها المفهرس. لم تذكر سنة نسخ المخطوطة في أي مكان على صفحاتها، إلا المفهرس قدّر أنّ المخطوطة نُسخت عام 1050 وأرفق علامة سؤال بجانب السنة كما يظهر في الصورة التي أمامكم من الفهرس الرقمس للمكتبة. يعتبر وجود مخطوطة بهذا القِدَم والنّدرة في مجموعة يهودا ليس بالأمر الغريب، فقد عُرف جامع المخطوطات بسعيه لشراء المخطوطات النادرة والثمينة. ومع ذلك، فإننا لا نعرف ما الذي دفع ووست لهذا التخمين، أهو نوع الورق أو الحبر، ام مجرّد “حدس”؟

 

من فهرس المكتبة الوطنية الإسرائيليّة عن مخطوطة كتاب الشفاء. نرى في الفهرس جميع المعلومات الأساسية عن كل مادّة موجودة بين أيدي المكتبة الوطنية وهنا يظهر التأريخ "سنة: 1050؟"
من فهرس المكتبة الوطنية الإسرائيليّة عن مخطوطة كتاب الشفا. نرى في الفهرس جميع المعلومات الأساسية عن كل مادّة موجودة بين أيدي المكتبة الوطنية وهنا يظهر التأريخ “سنة: 1050؟”

 

ما أهمية تأريخ المخطوطة؟ وكيف نقوم بهذا؟

إن المخطوطة التي نسخت في أيام مؤلّف الكتاب تعتبر أكثر أهمية من مخطوطة نُسخت لاحقًا، لأن هذا يدل أوّلًا على مكانة المؤلف في عصره من جهة، ولأن النص الذي بداخل هذه المخطوطة سيكون أكثر دقة من جهة أخرى حيث أنه الأقرب للأصل وقد يكون منسوخًا عنه. يذكر هنا إن عدد مخطوطات كتاب الشّفا التي تعود لحياة ابن سينا نفسه  قليلة جدًا حول العالم. واكتشاف مخطوطة جديدة من هذا النوع يسلّط المزيد من الضّوء على الصياغة الأصليّة والأولى للكتاب.

هناك عدّة طرق لتأريخ أي مخطوطة؛ الطريقة المعروفة والأسهل هي بقراءة حرد المتن: أي الملاحظة التي تأتي عادة في آخر الكتاب ويوثّق بها النّاسخ تاريخ الفراغ من كتابته وأحيانًا اسمه وتفاصيل أخرى عن المخطوطة، كالمكان الذي نُسخت فيه وسبب نسخها والمزيد. نجد حرد المتن في آخر الكثير من المخطوطات، ولكن ليس في هذه المخطوطة.

 

هناك طرق أخرى لمعرفة تاريخ إنتاج المخطوطة بطرق غير مباشرة، منها ما قد تحتويه الصّفحة الأولى أو خوارج متن النّص من ملاحظات، أختام، أو ملاحظات تخص إجازات القراءة وغيرها. جميع هذه الدلائل تمكننا أحيانًا من تقدير الوقت الذي كتبت فيه المخطوطة.

بالإضافة إلى ذلك، الجسد المادي لكل مخطوطة يساعدنا بالتعرف على تاريخها أيضًا: نوع الورق، نوع الحبر، أسلوب التزويق والرّسم، نوع الخطّ، طريقة ترقيم الصّفحات والمزيد. مع ذلك، فإن مختصة المخطوطات (يشار إلى مجال دراسة المواد التي تنتج منها الكتب بالكوديكولوجيا) المسؤولة عن مجموعة المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة، تحذّر من الوقوع في خطأ تأريخ المخطوطة بناء على تجليدها فإن التجليد قد يتبدّل.

من مميزات الورق التي تساعد بالتعرف على تاريخ المخطوطة: جودة الورق ونوعه، قوام السطح وشفافيته، اللمعان واللون وكذلك قوة الورق ومرونته. في المخطوطة التي نتحدث عنها يمكننا أن نرى بعض هذه العوامل بوضوح؛ إذ تظهر الألياف التي صنع منها الورق، كما هناك مناطق أغمق من غيرها.

منذ أن وصلت المخطوطة إلى المكتبة الوطنية ظهرت آراء مختلفة حول تاريخ كتابتها، فهناك من رأى أن هذه المخطوطة نُسخت في حياة ابن سينا نفسه وهناك من رأى أنها تنتمي لعصر آخر بعد وفاته. واشتدّت التساؤلات حين توجّهت متخصصّة في علم المخطوط الإسلامي من إيطاليا مشكّكة بالتأريخ الذّي وضعه ووست، وادعت أن المخطوطة نُسخت بعد 200 عام من هذا التاريخ. عندها قرر طاقم المكتبة أن يقوم باللازم لإعطاء جواب نهائي لهذا التساؤل.

 

حرد المتن كمثال، كثيرًا ما يظهر بشكل مثلّث معكوس إلى الأسفل. من مخطوطة في المكتبة الوطنيّة.
حرد المتن كمثال، كثيرًا ما يظهر بشكل مثلّث معكوس إلى الأسفل. من مخطوطة في المكتبة الوطنيّة.


فحص التأريخ بالكربون المشعّ 14

قامت مارسيلا سكلي رئيسة قسم الحفظ والترميم في المكتبة الوطنية بدعوة بروفيسور إليزابيتا بورتو لطلب إجراء فحص التأريخ بالكربون 14، وهو الفحص المخبري الأكثر حسمًا في هذه الحالة لتأريخ عمر الورق. وصلت بروفيسور بورتو ذات الصيت العالمي في المجال الى المكتبة لأخذ عينة من المخطوطة، ولهذا تمت هذه “الجراحة”.

بما أن هذا النوع من الفحوصات يعتبر “ضارًا” بالمادة لانه يقتطع جزءًا منها، فقد دار نقاشًا مطوّلًا بين خبيرة الترميم سكلي وبروفيسور بورتو حول كيفيّة اتخاذ العينة والمكان المناسب لقصّها منه. كانت الفكرة الأولى هي اقتطاع جزء يحتوي على الحبر، ولكن للامتناع من المس بالمخطوطة نفسها واقتطاع جزء من الكتابة، أخذت العينة من أطراف الصفحات على هيئة خط طويل وليس على شكل مستطيل كما هي العادة.

 

بوفيسور بورتو تقوم بتغليف العينة في ورق فضي قبل نقلها إلى معهد وايزمان لتطبيق الفحص المخبري بالكربون المشع.
بوفيسور بورتو تقوم بتغليف العينة في ورق فضي قبل نقلها إلى معهد وايزمان لتطبيق الفحص المخبري بالكربون المشع.

 

يسمّى هذا الفحص المخبري بالتأريخ بالكربون المشعّ، ويعتمد الفحص على حقيقة ان لكل مادّة عضوية وتيرة ثابتة للتحلل الاشعاعي. وبالتالي، كلما قدمت المادة، كلما اضمحلّت كمية الكربون المشع التي ستتواجد فيها. تطوّر البحث حول هذا الموضوع بشكل ملحوظ على مرّ السنين، وبهذه الطريقة الآن يمكن تحديد عمر الجماد الذي يعود عمره لـ 50 الف عام على الأكثر. تم إجراء الفحص في المختبر البحثي على اسم دنجور في معهد وايزمان في رحوفوت تحت إشراف بروفيسور بورتو.

 

مارسيلا سكلي، رئيسة قسم الحفظ والترميم على يسار الصورة وبروفيسور بورتو يمينًا. على الطاولة المخطوطة القديمة في المكتبة الوطنية بعنوان "كتاب الشّفاء" لابن سينا. يتم عرض أي مخطوطة نادرة حسب الطلب في غرف مخصصة للمعاينة حيث يتم وضع المخطوطة على وسادة للحفاظ عليها.
مارسيلا سكلي، رئيسة قسم الحفظ والترميم على يسار الصورة وبروفيسور بورتو يمينًا. على الطاولة المخطوطة القديمة في المكتبة الوطنية بعنوان “كتاب الشّفا” لابن سينا. يتم عرض أي مخطوطة نادرة حسب الطلب في غرف مخصصة للمعاينة حيث يتم وضع المخطوطة على وسادة للحفاظ عليها.

 

حين وصلت نتائج الفحص وأخيرًا من بروفيسور بورتو اتّضح أن حدس المفهرس ووست كان موفّقًا ودقيقًا: فالمخطوطة لا تعود للقرن الرابع بل تم صنعها بين السنوات 1040 و1060 على الأكثر، وذلك بعد وفاة ابن سينا بمدّة غير طويلة. كما اتّضح أن المادة الأصلية التي صنع منها الورق هي السليولوز. وهذا مثال آخر على تقاطع العلوم الدقيقة مع التاريخ، فقد تمكّنت مختصة من الدّرجة الأولى من مساعدتنا بفهم قصّة وتاريخ أحد الكنوز الإنسانيّة التي بين أيدينا.

 

ساعدت مارسيلا سكلي، رئيسة قسم الحفظ والترميم في المكتبة الوطنية الإسرائيليّة، بتحرير هذا المقال.

 

الباحثة “غيرترود بيل” الّتي أشارت على بريطانيا بمنح الاستقلال للعراق

إن كان أبراهام شالوم يهودا وغيرترود بيل قد التقيا مرّة واحدة ولم يُعجبا ببعضهم البعض، فكيف وصلت مخطوطتها إلى أيدي يهودا؟

غيرترود بيل

غيرترود بيل

تُرجِم عن: راحيل غولبيرغ

كانت غيرترود بيل (1868-1926) امرأة رائدة، وُلدت لعائلة صناعيين أثرياء، ونشأت في حياة سهلة ورغدة، وكان من المتوقع أن ينتهي بها المطاف بالزواج وإقامة عائلة، وهذه حياة لم ترغب بها. برزت كفتاة ذكيّة منذ الصّغر، وخلال عامين أتمت دراسة البكالوريوس في التاريخ الحديث من جامعة أكسفورد. حين بلغت 24 عامًا، خرجت لزيارة عمّها الذي كان سفيرًا لبريطانيا في طهران، وقد غرست بها هذه الزيارة حبا كبيرًا للشرق الأوسط، وعادت إليه مرة عديدة ومكثت فيه لفترات طويلة.

نشرت غيرترود بيل عددًا من الكتب؛ الأول نُشِر عام 1894 عن مغامراتها وتجاربها في زيارتها الأولى لطهران وأسمته “سفرنامه” أي كتاب سفر، مستلهمة الاسم من عناوين فارسيّة كلاسيكيّة مثل “شاهنامه” (كتاب الملوك). في عام 1897، نشرت ترجمة إنجليزيّة لديوان حافظ، وهو ديوان شعر فارسي كلاسيكي، وكتب أخرى كتبت بها عن تجاربها وأبحاثها في الشرق الأوسط.

من المثير للاهتمام، أن بيل لم تكتب قطّ عن رحلتها الطويلة والخطرة في منطقة “حائل” في شبه الجزيرة العربيّة، منطقة حائل الصحراويّة المعروفة بصعوبة الترحال فيها، كانت بيل ثاني امرأة على الاطلاق تعبرها. ساعد بيل في رحلتها تمكنها من ركوب الخيل، وبالرغم من ابتعادها عن حياة الرغد التي ولدت بها، فقد عُرِف عن بيل في رحلاتها تزودها دومًا بطقم الخزف الصيني من صناعة “ويدجوود” وصابون من عطر الخزامى.

بعكس المتبع في زمانها، سافرت غيرترود وحيدة، وتتساءل الباحثة جوزافين كام التي كتبت سيرة قصيرة لبيل، لو كانت بيل قد تزوجت من حبيبها الأول هينري كدوغن الذي توفي من التهاب الرئتين، هل كانت ستستمر في حياة الترحال الخطر في بلاد غريبة؟

بفضل معرفتها الواسعة في التاريخ والجغرافيا والسياسة، تحولت غيرترود بيل إلى شخصية مركزيّة في صراع بريطانيا خلال الحرب العالميّة الأولى وما بعدها من أحداث دارت في الشرق الأوسط. كانت كذلك من الشخصيات الهامة التي حضرت مؤتمر القاهرة، الذي دعى إليه وزير المستعمرات البريطاني وينستون تشرتشل عام 1921.

 

مؤتمر القاهرة، تظهر على يسار الصورة غيرترود بيل، وإلى جانبها ساسون حزقيل أول وزير مالية للعراق. مصدر الصورة ويكيبيديا.
مؤتمر القاهرة، تظهر على يسار الصورة غيرترود بيل، وإلى جانبها ساسون حزقيل أول وزير مالية للعراق. مصدر الصورة ويكيبيديا.

 

يبرز حضور بيل في الصورة كامرأة وحيدة بين عشرات الرجال المشاركين في المؤتمر، لم تُدعى بيل إلى المؤتمر كـ “زينة” ولكن لمنصبها كمستشارة للمندوب السامي البريطاني حينها في العراق. كان الهدف من مؤتمر القاهرة هو معالجة الوعود المتناقضة التي بثتها كل من بريطانيا وفرنسا فيما يخص الأقاليم العربيّة خلال الحرب العالميّة الأولى. قدّم السير بيرسي كوكس المندوب السامي مع غيرترود بيل أمام المؤتمر مخططهم للعراق، والتي اعتمدت على معرفة بيل بالقبائل المختلفة ورؤيتها للعراق. وكجزء من استنتاجات المؤتمر، عملت على مساعدة الملك فيصل الأول من السلالة الهاشمية ليعتلي عرش العراق ويصبح ملكها.

بعد إقامة دولة العراق الحديثة، عادت بيل إلى حبها الأول نحو الآثار؛ إذ أقامت المتحف القومي في العراق وساعدت في تأسيس القانون الذي ينص على أن الآثار التي وجدت في مكان معيّن يجب أن تبقى في الأرض التي استخرجت منها.

توفيت غرترود بيل في العراق في تموز 1926 جراء تناول جرعة زائدة من الحبوب المنوّمة. لم يتضّح إن كان هذا انتحارًا أو خطأ بتقدير مفعول الدواء. فمن جهة، لا تشير رسائل بيل إلى زوجة أبيها إلى أي نيّة انتحاريّة، ومن جهة أخرى فقد طلبت بيل من أصدقائها الاعتناء بحيواناتها الأليفة إذا ما أصابها ضرر.

في مجموعات المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة، وجد مجموعة شعر فارسي أهديَت إلى غيرترود بيل، المرأة الغنية عن التعريف في تاريخ الشرق الأوسط في ذلك الوقت،في عام 1921. وصل الكتاب إلى المكتبة الوطنية الإسرائيليّة عن طريق أبراهام شالوم يهودا، وهو مقتني مخطوطات معروف، أهدى مجموعته وأرشيفه الشّخصي إلى المكتبة الوطنيّة في العام 1951. تحتوي مجموعة يهودا على آلاف المخطوطات الإسلاميّة في مواضيع تغطّي كافة مجالات المعرفة الإساسيّة في الثّقافة الإسلاميّة: القرآن، الحديث، الفقه والشريعة الإسلاميّة والعلوم. تحتوي المجموعة أيضًا على كتب السعاوي المسيحيّة وكتابات اسحاق نيوتن اللاهوتيّة.

للمزيد حول مواد علوم الدين الإسلامي

 

كيف وصل الكتاب المهدى إلى غيرترود بيل إلى شالوم يهودا ومن ثمّ إلى المكتبة الوطنيّة؟
رسائل بيل ومذكراتها موجودة في أرشيف غيرترود بيل في جامعة نيوكاسل والذي تبرعت به زوجة أبيها. عند البحث في الأرشيف، يظهر أن سبل غيرترود بيل وأبراهام يهودا تقاطعت في عام 1902 على متن باخرة “كليوباترا” التي أبحرت من إزمير إلى مدينة حيفا. كان يهودا بصحبة أمريكيّين تعرّفت إليهم بيل أيضًا. وفي رسالة لزوجة أبيها وصفت بيل يهودا بأوصاف غير محبّبة. ولذلك، فإن السؤال يصبح أكثر غموضًا وإثارة للاهتمام: إن كان أبراهام شالوم يهودا وغيرترود بيل قد التقيا مرّة واحدة ولم يُعجبا ببعضهم البعض، فكيف وصلت مخطوطتها إلى أيدي يهودا؟