تُرجِم عن: راحيل غولبيرغ
تقف سيّدة برداء أبيض مخبري أمام طاولة عمل مضاءة وتمدّ يدها لتطلب “اإزميل”. تمسك بالأداة الحادة وتميل من فوق الطاولة المضاءة جيّدًا لتقطع خطا رفيعًا وطويلًا. هذه ليست عملية جراحية لإنسان. ولكن لمخطوطة تاريخ نسخها غير معروف بعد.
الهدف من هذه “الجراحة” هو الكشف عن عمر المخطوطة التي بين أيدينا. ولذلك، نُقل الجزء الصّغير الذي تمّ قصّه من المخطوطة إلى مختبر خارجي ليخضع لفحص مخبري دقيق. إن أهميّة هذا الفحص المخبري ونتائجه مهمّة جدًا؛ إذ أنّ هذه المخطوطة ليست مخطوطة عاديّة، إنّها منسوبة لفيلسوف وطبيب القرن الحادي عشر الشّهير ابن سينا (980-1037 م).
مؤلّف الكتاب
يعتبر ابن سينا أحد أهم المفكرين في العالم الإسلامي، وهو من المفكرين الإسلاميين الأقلاء الذين حظوا بشهرة عالميّة في حياتهم، فقد عُرفوا في العالم الإسلامي وكذلك في أوروبا، وقد عرف ابن سينا بالاسم اللاتيني “أفيسينا”.
لمع نجم ابن سينا في جيل يافع واعتبر طبيبًا وفيلسوفًا مرموقًا، وقد حصل على هذه الشّهرة لأول مرّة عندما استدعي لتطبيب سلطان بلاد فارس الذي كان طريحًا للفراش لفترة طويلة وعجز أطباء البلاط عن مداواته. حين تفوّق ابن سينا على هؤلاء الأطباء الملكيين ونجح بتطبيب السلطان، فُتحت أمامه أبواب المكتبة السلطانيّة الفاخرة على مصراعيها، وأدت هذه النّقلة إلى طفرة من الإبداع والإنتاج العلمي عند ابن سينا، كان من ثمراتها كتابه الشّهير في فلسفة العلم “كتاب الشّفا”.
في حياته القصيرة تمكّن ابن سينا من ترك مئات المؤلّفات. وفي مجموعات المكتبة الوطنيّة هناك مئات من المخطوطات لمؤلفات ابن سينا المختلفة، وكذلك شروح لاحقة لهذه المؤلفات، ولكن يتميّز في عملين من بين الجميع: واحد في الطب والثاني في العلوم.
تنبع فرادة ابن سينا في هذين العملين لأنه يرسم من خلالهما خارطة لكل مجال المعرفة، من خلال التقسيم إلى فئات واضحة. كما تكمن أهمية مساهمة ابن سينا العلمية بأنه يعرض كل من هذه الفئات بنظرة نقديّة ويعرض استنتاجاته عن كل مجال ومجال. هذا الأسلوب في فحص الفئات المختلفة بشكل نقدي وبالذات في مجال الطّب، تحوّل إلى الأساس الّذي اتكأ عليه بدرجة كبيرة الطب الحديث وهو “الطب المبني على التجربة”. هدف “كتاب الشفا” هو تغطية جميع مجالات العلوم الموجودة في حين كتابته، إن تفرد وأهمية الكتاب تكمن كما ذكرنا في هيكله، الذي أصبح المعيار الذي بحسبه كُتبت كتب الفلسفة منذ ذلك الوقت.
يتكوّن كتاب الشفا من أربعة أجزاء، وكل جزء يتناول موضوعًا مختلفًا: الجزء الأول موجود في مجموعة المكتبة الوطنيّة ويتناول المنطق. أمّا بقية الأجزاء فتتناول موضوعات مثل العلوم الطبيعيّة، علم النّفس، العلوم الحسابيّة (الهندسة والرياضيات والموسيقى والفلك) والمتافيزيقية.
المخطوطة النّادرة في المكتبة الوطنيّة
وصل الجزء الأول من كتاب الشفا الى المكتبة الوطنيّة كجزء من المجموعة الضخمة للباحث وجامع الكتب الأثرية الشهير أبراهام شالوم يهودا (1877-1951). مفهرس المجموعة أفرايم ووست سجّل المخطوطة الفريدة هذه في فهرس المكتبة. ومن المعلومات التي على المفهرس إدراجها حول كل مخطوطة هي سنة نسخها الواردة فيها أو التي يقدّرها المفهرس. لم تذكر سنة نسخ المخطوطة في أي مكان على صفحاتها، إلا المفهرس قدّر أنّ المخطوطة نُسخت عام 1050 وأرفق علامة سؤال بجانب السنة كما يظهر في الصورة التي أمامكم من الفهرس الرقمس للمكتبة. يعتبر وجود مخطوطة بهذا القِدَم والنّدرة في مجموعة يهودا ليس بالأمر الغريب، فقد عُرف جامع المخطوطات بسعيه لشراء المخطوطات النادرة والثمينة. ومع ذلك، فإننا لا نعرف ما الذي دفع ووست لهذا التخمين، أهو نوع الورق أو الحبر، ام مجرّد “حدس”؟
ما أهمية تأريخ المخطوطة؟ وكيف نقوم بهذا؟
إن المخطوطة التي نسخت في أيام مؤلّف الكتاب تعتبر أكثر أهمية من مخطوطة نُسخت لاحقًا، لأن هذا يدل أوّلًا على مكانة المؤلف في عصره من جهة، ولأن النص الذي بداخل هذه المخطوطة سيكون أكثر دقة من جهة أخرى حيث أنه الأقرب للأصل وقد يكون منسوخًا عنه. يذكر هنا إن عدد مخطوطات كتاب الشّفا التي تعود لحياة ابن سينا نفسه قليلة جدًا حول العالم. واكتشاف مخطوطة جديدة من هذا النوع يسلّط المزيد من الضّوء على الصياغة الأصليّة والأولى للكتاب.
هناك عدّة طرق لتأريخ أي مخطوطة؛ الطريقة المعروفة والأسهل هي بقراءة حرد المتن: أي الملاحظة التي تأتي عادة في آخر الكتاب ويوثّق بها النّاسخ تاريخ الفراغ من كتابته وأحيانًا اسمه وتفاصيل أخرى عن المخطوطة، كالمكان الذي نُسخت فيه وسبب نسخها والمزيد. نجد حرد المتن في آخر الكثير من المخطوطات، ولكن ليس في هذه المخطوطة.
هناك طرق أخرى لمعرفة تاريخ إنتاج المخطوطة بطرق غير مباشرة، منها ما قد تحتويه الصّفحة الأولى أو خوارج متن النّص من ملاحظات، أختام، أو ملاحظات تخص إجازات القراءة وغيرها. جميع هذه الدلائل تمكننا أحيانًا من تقدير الوقت الذي كتبت فيه المخطوطة.
بالإضافة إلى ذلك، الجسد المادي لكل مخطوطة يساعدنا بالتعرف على تاريخها أيضًا: نوع الورق، نوع الحبر، أسلوب التزويق والرّسم، نوع الخطّ، طريقة ترقيم الصّفحات والمزيد. مع ذلك، فإن مختصة المخطوطات (يشار إلى مجال دراسة المواد التي تنتج منها الكتب بالكوديكولوجيا) المسؤولة عن مجموعة المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة، تحذّر من الوقوع في خطأ تأريخ المخطوطة بناء على تجليدها فإن التجليد قد يتبدّل.
من مميزات الورق التي تساعد بالتعرف على تاريخ المخطوطة: جودة الورق ونوعه، قوام السطح وشفافيته، اللمعان واللون وكذلك قوة الورق ومرونته. في المخطوطة التي نتحدث عنها يمكننا أن نرى بعض هذه العوامل بوضوح؛ إذ تظهر الألياف التي صنع منها الورق، كما هناك مناطق أغمق من غيرها.
منذ أن وصلت المخطوطة إلى المكتبة الوطنية ظهرت آراء مختلفة حول تاريخ كتابتها، فهناك من رأى أن هذه المخطوطة نُسخت في حياة ابن سينا نفسه وهناك من رأى أنها تنتمي لعصر آخر بعد وفاته. واشتدّت التساؤلات حين توجّهت متخصصّة في علم المخطوط الإسلامي من إيطاليا مشكّكة بالتأريخ الذّي وضعه ووست، وادعت أن المخطوطة نُسخت بعد 200 عام من هذا التاريخ. عندها قرر طاقم المكتبة أن يقوم باللازم لإعطاء جواب نهائي لهذا التساؤل.
فحص التأريخ بالكربون المشعّ 14
قامت مارسيلا سكلي رئيسة قسم الحفظ والترميم في المكتبة الوطنية بدعوة بروفيسور إليزابيتا بورتو لطلب إجراء فحص التأريخ بالكربون 14، وهو الفحص المخبري الأكثر حسمًا في هذه الحالة لتأريخ عمر الورق. وصلت بروفيسور بورتو ذات الصيت العالمي في المجال الى المكتبة لأخذ عينة من المخطوطة، ولهذا تمت هذه “الجراحة”.
بما أن هذا النوع من الفحوصات يعتبر “ضارًا” بالمادة لانه يقتطع جزءًا منها، فقد دار نقاشًا مطوّلًا بين خبيرة الترميم سكلي وبروفيسور بورتو حول كيفيّة اتخاذ العينة والمكان المناسب لقصّها منه. كانت الفكرة الأولى هي اقتطاع جزء يحتوي على الحبر، ولكن للامتناع من المس بالمخطوطة نفسها واقتطاع جزء من الكتابة، أخذت العينة من أطراف الصفحات على هيئة خط طويل وليس على شكل مستطيل كما هي العادة.
يسمّى هذا الفحص المخبري بالتأريخ بالكربون المشعّ، ويعتمد الفحص على حقيقة ان لكل مادّة عضوية وتيرة ثابتة للتحلل الاشعاعي. وبالتالي، كلما قدمت المادة، كلما اضمحلّت كمية الكربون المشع التي ستتواجد فيها. تطوّر البحث حول هذا الموضوع بشكل ملحوظ على مرّ السنين، وبهذه الطريقة الآن يمكن تحديد عمر الجماد الذي يعود عمره لـ 50 الف عام على الأكثر. تم إجراء الفحص في المختبر البحثي على اسم دنجور في معهد وايزمان في رحوفوت تحت إشراف بروفيسور بورتو.
حين وصلت نتائج الفحص وأخيرًا من بروفيسور بورتو اتّضح أن حدس المفهرس ووست كان موفّقًا ودقيقًا: فالمخطوطة لا تعود للقرن الرابع بل تم صنعها بين السنوات 1040 و1060 على الأكثر، وذلك بعد وفاة ابن سينا بمدّة غير طويلة. كما اتّضح أن المادة الأصلية التي صنع منها الورق هي السليولوز. وهذا مثال آخر على تقاطع العلوم الدقيقة مع التاريخ، فقد تمكّنت مختصة من الدّرجة الأولى من مساعدتنا بفهم قصّة وتاريخ أحد الكنوز الإنسانيّة التي بين أيدينا.
ساعدت مارسيلا سكلي، رئيسة قسم الحفظ والترميم في المكتبة الوطنية الإسرائيليّة، بتحرير هذا المقال.