“شرائع ذرية نوح السبع”، هي شرائع أشار إليها الفقهاء السلف اليهود كونها فرضت على الشعوب غير اليهودية، في مقابل الشرائع الـ613 المفروضة على اليهود. بعد انتهاء الطوفان وخروج نوح والحاشية المرافقة له من السفينة، ظهر قوس قزح في السماء، وقام الرَّب بمخاطبة نوح وجاء في معرضها منح المخلوقات وليس الإنسان فقط الأمان بحيث أنه لن يبعث بالطوفان مرة أخرى فتهلك المخلوقات (التكوين 9: 8-17)، وجعل قوس قزح هذا علامة على العهد الذي يتضمّن سبع شرائع يؤدّيها نوح وذريته أيضًا (التكوين 9: 1-7).
فيما يلي قائمة هذه الشرائع السبع: 1. تحريم عبادة الأصنام والأوثان؛ 2. تحريم سفك الدماء؛ 3. تحريم السرقة؛ 4. تحريم سفاح القُربى؛ 5. تسبيح اسم الربّ (وتحريم التجديف على الربّ)؛ 6. تحريم أكل لحم الكائن الحي (أي يجب ذبح الكائن الحي قبل تناوله)؛ 7. فريضة إقامة أجهزة قضاء عادلة.
قام الفقهاء السلف بتأويل هذا الخطاب وتوصّلوا إلى جملة هذه الشرائع. وفق تراث هؤلاء الفقهاء السلف، فقد سبق وفرضت ست شرائع منها على آدم، بينما فرضت السابعة، الخاصة بتحريم تناول لحم حيوان حي، على نوح وذريته في أعقاب الطوفان فيما يطلق عليه “عهد قوس قزح”، حين أُحلّ للبشر قتل الحيوان لأغراض المأكل.
نقرأ في الإنجيل (العهد الجديد) أن شيوخ المسيحية في بداية تشكيلها ناقشوا مسألة وجوب أو عدم وجوب تأدية غير اليهود، المؤمنون بيسوع المسيح، الشرائع التوراتية. وقد أجمع هؤلاء على الاكتفاء ببعض هذه الشرائع السبع: تحريم عبادة الأوثان والأصنام، وتحريم الزّنا، وتحريم أكل لحم حيوان مخنوق، وتحريم أكل الدماء (أعمال الرسل 15: 20-29). ومن نافل القول إنَّ جميع التحريمات الواردة في “شرائع ذرية نوح السبع”، ومن ضمنها فريضة إقامة أجهزة قضاء عادلة، موجودة جميعها في القرآن الكريم والتراث الإسلامي بصورة كبيرة، ولكنها غير مخصّصة بقائمة بعينها كقائمة “الشرائع ذرية نوح السبع” أو “الشرائع العشر”.
تناول فقهاء التلمود (التلمود البابلي، سنهدرين 56أ)، وكذلك الكتب والمصنّفات المنشورة بالعربية-اليهودية، ككتاب يهودا اللاوي (ت. 1140 بالتقريب) ومصنّفات موسى بن ميمون (ت. 1204)، هذه الوصايا وتبعاتها. أما في عصرنا الحديث، تنشط بعض التيارات اليهودية، لا سيما حركة حبد الأرثوذكسية، في إطار الترويج لهذه الشرائع في جميع أنحاء العالم ومن بينها المجتمعات العربية.
قام الفقهاء السلف بتأويل الجمل التوراتية في أعقاب الطوفان (التكوين 9: 1-7) واستخرجوا منها هذه الشرائع:
“وبارك اللهُ نوحًا وبنيه وقال لهم: أَثمروا واكثروا واملأوا الأرضَ” – إشارة إلى تحريم التجديف؛
“ولتكن خشيتكم ورهبتكم على كل حيوانات الأرض وكل طيور السماء، مع كل ما يدب على الأرض، وكل أسماك البحر قد دفعت إلى أيديكم” – إشارة إلى فريضة إقامة أجهزة قضاء عادلة؛
“كل دابة حية تكون لكم طعامًا، كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع، غير أن لحمًا بحياته، دمه لا تأكلوه” – إشارة إلى تحريم أكل لحم الكائن الحي؛
“وأطلب أنا دمكم لأنفسكم فقط، من يد كل حيوان أطلبه” – إشارة إلى تحريم قتل النفس؛
“ومن يد الإنسان أطلب نفس الإنسان، من يد الإنسان أخيه” – إشارة إلى تحريم السرقة؛
“سافك دم الإنسان بالإنسان يسفك دمه، لأن الله على صورته عمل الإنسان” – إشارة إلى تحريم عبادة الأوثان والأصنام؛
“فأثمروا أنتم واكثروا وتوالدوا في الأرض وتكاثروا فيها” – إشارة إلى تحريم سفاح القربى؛
وكما يخبرنا اللاوي، كذلك فعلوا في تأويل إحدى الجمل التوراتية الأخرى (التكوين 2: 16)، وتوصّلوا إلى الوصايا ذاتها:
كما جعلوا (الفقهاء السلف) “وأوصى يهوه إلوهيم آدم قائلًا: من جميع شجر الجنة تأكل أكلًا” (التكوين 2: 16) علامة على “سبع الشرائع التي أُمر بها أبناء نوح: وأوصى – هذه هي الأحكام، يهوه – هذا تسبيح الاسم، إلوهيم – هذه عبادة آلهة غريبة، آدم – هذا سفك دماء، قائلًا – هذا سفاح القُربى، من جميع شجر الجنة – هذا نَهْب، تأكل أكلًا – هذا عضو الحيوان الحيّ” (الكتاب الخزري، المقالة 3، المادة 73 تعقيبًا على التلمود البابلي، السنهدرين، 56أ).
كما وجاء عند اللاوي أن بني إسرائيل المقيمون في مصر لم يعرفوا قبل خروجهم منها سوى بعض هذه الشرائع فقط:
فخرج بنو إسرائيل بأمر الله في تلك الليلة، في حين وفاة أولاد مصر، من عبودية فرعون، وصاروا إلى ناحية بحر القُلزُم (البحر الأحمر)، وقائدهم عامود غمام، وعامود نار سائر أمامَهم (الخروج 13: 21-22)، ومدبّرهم وسائسهم وإمامهم الشيخان الإلهيان موسى وهرون عليهما السلام، كانا حين أتاهما النبوّة ابني ثمانين ونيّف (الخروج 7: 7). وإلى الآن ليس عندهم شرائع إلاّ قليلة، موروثة عن أولئك الأفراد من لدن آدم ونوح، ولم ينسخها موسى ولا فسخها لكن زاد عليها (الكتاب الخزري، المقالة 1، المادة 83).
أما القاسم المشترك بين هذه الوصايا والشرائع العشر المفروضة على اليهود، فهي ثلاث شرائع فقط: تحريم القتل النفس، تحريم عبادة الأوثان والأصنام، وسفاح القربى. ومن اللافت أن فريضة إقامة أجهزة قضاء عادلة لم تذكر صراحة في الشرائع العشر المفروضة على بني إسرائيل بل في الشرائع المفروضة على غيرهم فقط. ولكن ينوّه بن ميمون (في كتاب الشرائع، شرائع الأمر، الشريعة رقم 9) أن جميع “شرائع ذرية نوح السبع” مفروضة أيضًا على بني إسرائيل كما هو على غيرهم.
يعقّب بعض الفقهاء اليهود ويقولون إنَّ ثلاثين شريعة مفروضة على غير اليهود يتفرّع من هذه الشرائع السبع، إلَّا أن غير اليهود لا يؤدّون سوى ثلاث منها فقط: عدم إبرام عقود زواج بين الذكور، وعدم بيع الجيف أو اللحم البشري في الأسواق، وتكريم التوراة. ويخبرنا بن ميمون أنَّ غير اليهودي الذي لا يؤدّي هذه الشرائع يجب الحكم عليه بالموت “إذا خضع إلينا”، أي تمتّع اليهود بالسلطة (تثنية التوراة، كتاب القضاة، تشريعات الملوك وحروبهم، الفصل 8، التشريع 13). ولكن بما أن اليهود عاشوا طيلة تاريخهم في ظل أنظمة غير يهودية، فإنهم لم يستطيعوا تنفيذ هذا الحكم ولم يقوموا بالتبشير بين الشعوب لإقناعهم لتأدية هذه الشرائع، لأن من شأن مثل هذا التبشير أن يعرّض اليهود للخطر. وفي أعقاب إقامة دولة إسرائيل وزوال الأخطار الوجودية التي تهدّدها، وجد أتباع تيار حبد الأرثوذكسي (منذ سنة 1981) ضرورة للتبشير بين غير اليهود لتأدية هذه الشرائع. وكذلك نجد ضمن الصهيونية الدينية محاولات لمثل هذا التبشير وإقامة منظمات عديدة، مثل “بريت عولم” و”بني نوح”، لهذا الغرض وإنشاء فروع لها في أنحاء العالم. ولكن نشهد استخدامًا سياسيًا لهذه الوصايا بين رجال الدين اليهود في إسرائيل بصورة خاصة. على سبيل المثال، صرّح الحاخام السفاردي الأكبر لإسرائيل، الراب يتسحاق يوسف (نجل الراب عوفاديا يوسف)، خلال خطبة عامة ألقاها (آذار 2016) أما الجمهور، بأن الشريعة اليهودية لا تسمح لغير اليهود الذي لا يؤدون هذه الشرائع بالإقامة في أرض إسرائيل”. وأردف قائلًا، “إذا كان غير اليهودي لا يرغب بقبول هذه الشرائع، يمكننا إرساله إلى المملكة العربية السعودية! … وعندما تكون السلطة القاهرة الحقيقية بأيدنا سنفعل هذا الأمر… عندما نتمتّع بالسلطة الكافية لا يمكن السماح حينها لغير اليهود الإقامة في إسرائيل. لكن يدنا ليست حازمة”. أثارت خطبة يوسف هذه غضبًا واسعًا في إسرائيل وانتقدت بشدة من قبل العديد من جمعيات حقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية وأعضاء الكنيست. كما وأصدر القائم بأعمال مدير مكتب إسرائيل لرابطة التشهير ضد اليهود استنكارًا شديدًا لما جاء في هذه الخطبة.