وفي أحد الأيّام، وبينما كان إسماعيل، الطالب الفقير في المعهد الفنّيّ، يمشي سارحًا في الزمالك، أحد أرقى أحياء القاهرة المشيّد على جزيرةٍ في النيل، مرّ لسوء حظّه ببيت أمّ كلثوم، المولودة في قريةٍ ريفيّةٍ، فهاجمه كلبها “فوكس” في الطريق العام، وعضّه في رجله حتّى سال دمه. وبعد أن اشتكى على الكلب، أمر وكيل النيابة بحفظ التحقيق، لأنّ الخدمات التي أدّتها أمّ كلثوم للدولة كفيلة أن تعفيها و”كلبها” من المسؤوليّة الجنائيّة.
في لقاءٍ تلفزيونيّ مع أحمد فؤاد نجم، أحد أبرز شعراء العاميّة في مصر، والذي كان قد حُبِسَ في عهدَي عبد الناصر والسادات، بتّهمٍ غريبةٍ كالسخرية، يروي القصّة السابقة أثناء تبريره كتابته قصيدة “كلب الست”، رغم كونه “كلثوميًّا” كما يصف نفسه، ومن “دراويش الست”، لكنّه أصبح وقتها، وفي “عزّ” زمنٍ يدّعي “الاشتراكيّة والقوميّة العربيّة ومجتمع العدالة”، أمام خيارَيْن: “حبّه للفن، وشرفه”.
موهبة لا يمكن تقليدها: عازف القانون يوسف زعرور
فأمام الجمال الصوفيّ الذي يجسّده صوت أمّ كلثوم في كثيرٍ من قصائدها المغنّاة، تزداد فجاجة الواقع. ففي إحدى مدائحها النبويّة، تُعيد، لأكثر من ربع ساعةٍ، غناء هذا البيت لأحمد شوقي الذي يصف رحلة المعراج: “حَتّى بَلَغتَ سَماءً لا يُطارُ لَها * عَلى جَناحٍ وَلا يُسْعَى عَلى قَدَمِ”، تكرّره بلمسةٍ مختلفةٍ كلّ مرّةٍ، كأنّها تكتبه من جديدٍ بمداد بحرٍ لا ينتهي، حتّى يصاب المستمع بدوارٍ سماويّ من النشوة. لكنّه، حين يعود إلى الواقع، يعضّه كلبٌ أرضيٌّ أمام قصرها، الذي لا تدخله الملائكة (رمز الرحمة)، كما ورد في حديثٍ منسوبٍ للنبيّ عن البيوت التي يربّي أصحابها كلابًا.
يبدأ “شاعر الغلابة”، كما كان يوصف من محبّيه، قصيدته، التي يحرّكها التناقض قبل لحظة الكتابة، بهذه السطور التي تكثّف التناقض:
في الزمالك من سنين/ وفي حِمى النيل القديم/ قصر من عصر اليمين/ ملك واحدة من الحريم/ صيتها أكتر من الآدان/ يسمعوه المسلمين/ والتتر والتركمان والهنود والمنبوذين/ ست فاقت على الرجال/ في المقام والاحترام/ صيت وشهرة/ وتل مال/ يعني في غاية التمام/ قُصره يعني هيّ كلمة/ ليها كلمة في الحكومة/ بس ربّك لأجل حكمة/ قام حرمها من الأمومة/ والأمومة طبع ثابت جوّا حوّا من زمان/ تعمل إيه الست؟/ جابت “فوكس” رومي وله ودان.
يوحي أسلوب القصّ بزمنٍ خرافيّ، زمن الملوك ومُلْكِ اليمين، رغم أنّه عصر الثورة على الملكيّة والرجعيّة. كذلك، فإنّ السيّدة “أمّ” كلثوم محرومةٌ من الأمومة، رغم التصاقها باسمها، فلأنّ الأسماء في ذلك الزمن كانت تائهةً عن معانيها، يمكن أن تغدو الأمّ البشريّة أُمًّا لكلبٍ، لا للمسكين إسماعيل، الذي لا يسعنا ونحن نسمع اسمه، إلّا أن نتذكّر الطفل إسماعيل، كما وردت قصّته في النصوص الإسلاميّة، الذي كاد أن يذبحه والده إبراهيم أضحيةً بشريّةً للربّ. ويذكّرنا المشهد بأكمله بدولة الثورة في عهد عبد الناصر، التي لم تفرش رحمها للشعب، بل أطلقتْ كلابها عليهم في كلّ درب، كما في قصيدةٍ أخرى لنجم:
شيّد قصورك عالمزارع / … / واطلق كلابك في الشوارع.
تكمل القصيدة رحلتها مع إسماعيل إلى الحجز والنيابة. هناك، يدرك أنّ كلماتٍ سمعها كثيرًا في المذياع، مثل “العدالة” و”الاشتراكية” تشير في الحقيقة إلى ضدّ المعاني التي كان يظنّها، فتعمل من أجل أغراضٍ أخرى لم توجد لأجلها، مثل منديل أمّ كلثوم، الذي كانت تشدّ عليه على المسرح، ولم تمسح به دم رِجل إسماعيل التي عضّها كلبها المحميّ بواسطة نظام “العدالة”.
لذلك، أمام وكيل النيابة، وكمن يحاول النجاة من كلبٍ يطارده، ومن العبث الذي يحيط به من كلّ جانب، تخبرنا القصيدة أنّ إسماعيل يتّهم نفسه بأنّه المذنب في تسميم كلب الستّ حين عضّه. فكما أنّ قصور الزمالك وحتّى شوارعها العامة ليست لجميع الناس، كذلك هو القانون.
بعد ذلك، يغنّي شاويش الشرطة لإسماعيل الأعرج أو “اسماعين”، في حفلة النيابة هذه، مؤكّدًا بغنائه على التناقض، حين يضع “الكلب” مكان “الحبّ” في أغنية أمّ كلثوم “إنت فين والحبّ فين”:
أنت فين والكلب فين؟/ أنت قدّه يا اسماعين؟/ طب ده كلب الست يا ابني/ وأنت تطلع ابن مين؟
ورغم حبّ أحمد فؤاد نجم لجمال عبد الناصر، ورغم رثائه إيّاه بقصيدةٍ عذبةٍ ذات نفحةٍ صوفيّةٍ، يصفه فيها بالحسين وصلاح الدين والنبيّ، إلّا أنّه يختم قصيدته متوجّهًا إلى الكلب، ساخرًا من مقام الرئيس، رأس هرم النظام:
هيص يا كلب الستّ هيص/ لك مقامك في البوليس/ بكرا تتألّف وزارة للكلاب/ ياخدوك رئيس.