بدأ روبرت لاخمان، الموسيقي اليهودي الألماني، رحلة بحثه عن الموسيقى في سنٍ مبكّر، حيث ولد في برلين والتحق للدراسة في جامعتها وجامعة لندن مع التركيز على اللغتين الفرنسية والعربية. خلال الحرب العالمية الأولى، عمل كمترجم فوري في معسكر الاعتقال Wunsdrof لأسرى الحرب الّذي كان يسكنه أسرى من شمال إفريقيا والهند.
في هذا المعسكر، تعرّف لاخمان للمرة الأولى على الموسيقى والفلوكلور غير الغربي، وبدأ على العمل على تدوين ونسخ أغاني السجناء، تجربته في هذا المكان، زرعت البذور الأولى لبحث الدكتوراه الخاص به حول موسيقى شمال إفريقيا.
بعد الحرب بدأ لاخمان دراسة علم الموسيقى في جامعة برلين، تحت إشراف يوهانس وولف وكارل شتومبف، ثم حصل على الدكتوراه عام 1922 بأطروحة حول الموسيقى الحضرية في تونس، استنادًا إلى تسجيلاته الميدانية خلال عدة رحلات بحثية في المنطقة. وفي السنوات الّتي تلت ذلك، قام لاخمان بعدد من الرحلات البحثية الإضافية إلى شمال إفريقيا، حيث قام بتسجيل وتوثيق الممارسات الموسيقية للمجتمعات في طرابلس وتونس والمغرب.
في عام 1929 أثناء إحدى جولاته في جزيرة جربة التونسية، سجّل لاخمان التقاليد الموسيقية الليتورجية وشبه الطقسية للمجتمع اليهودي المحلي، وهي المادة الّتي تعتبر نقطة الانطلاق لعمله الأساسي الترنيمة اليهودية والأغنية في جزيرة جربة (1940). كان انكشافه الأول للموسيقى الليتورجية الشرقية حدث أثناء دراسته للجالية اليهودية في جربة، وهو المجال الّذي تابع دراسته وتدريسه لاحقًا في القدس.
عمل لاخمان بين الأعوام 1927-1933 أمينًا لمكتبة قسم الموسيقى بمكتبة بلدية برلين، حيث ترأس مشروعًا لترجمة العديد من المقالات الموسيقية الهامة في العصور الوسطى. وفي عام 1930 أسس مع أساتذته في الجامعة جمعية أبحاث الموسيقى الشرقية، حيث تم تعيينه لاحقًا محررًا لمجلتهم الفصلية، والّتي كانت مطبوعة لمدة ثلاث سنوات، حتى أدت الضغوط المتزايدة إلى إغلاق المركز عام 1935.
في عام 1932 تم تعيين لاخمان رئيسًا للجنة التسجيلات الصوتية لمؤتمر الموسيقى العربية في القاهرة، حيث كان مسؤولًا عن تسجيل عروض الفنانين والفرق المدعوة إلى المؤتمر. وفي 1935 تم طرده من منصبه في مكتبة بلدية برلين من قبل المسؤولين النازيين، فهاجر في العام نفسه إلى القدس بناءً على دعوة من جي إل ماغنيس لتأسيس أرشيف الموسيقى الشرقية في الجامعة العبرية بالقدس.
أمضى لاخمان حوالي ثلاث سنوات قبل هجرته النهائية إلى فلسطين الانتدابية في تجهيز مكتبته وأرشيفه تحسبًا لانتقاله من ألمانيا، وحتى بعد هجرته، سافر إلى برلين عدة مرات وقام بنسخ التسجيلات على أسطوانات الشمع، بما في ذلك تسجيلات أبراهام زيفي إديلسون والّتي وصلت منها نسخ إلى برلين قادمة من فيينا. يمكن الاستماع لها هنا.
بعد هجرته إلى فلسطين، وقبل وصول النازيين إلى الحكم، قدّم لاخمان بحثه عن الموسيقى العربية في المؤتمر العالمي للموسيقى العربية في القاهرة عام 1932. التقى هناك العديد من الموسيقيين اليهود، بما في ذلك الموسيقار والملحّن اليهودي العراقي عزرا أهارون، الّذي مثّل موسيقى بلاده نيابةً عن حاكم العراق آنذاك. هاجر عزرا ابراهيم إلى فلسطين عام 1934 وأصبح أحد موضوعات بحث لاخمان الرئيسية، وشخصية رئيسية في دوائر الموسيقى الشرقية في القدس وبقية البلاد. افتتح راديو فلسطين بثه لاحقًا عام 1936 بعزف مقطوعة موسيقية من عزرا أهارون. لم يتوقع أهارون أن انتقاله إلى فلسطين ذلك العام سيمنعه من العودة إلى العراق، لكن التطورات السياسية والعسكرية لاحقًا منعته من العودة إلى بلاده.
تأسيس أرشيف الموسيقى في القدس
قبل مغادرة لاخمان لبرلين، كان يبحث عن طريقة لتأسيس مركز أبحاث حول الموسيقى الشرقية، وقام بالتواصل مع ممثلي الجامعة العبرية، وتلقى ردًا من رئيس الجامعة الدكتور يهودا ليب ماغنيس الّذي دعاه عام 1935 لإنشاء أرشيف للموسيقى الشرقية. وكان الهدف هو إنشاء أرشيف صوتي يقوم بتسجيل وتحليل التسجيلات مع استوديو ومعدات تسجيل وفني صوت.
لذلك، في عام 1936 وصل لاخمان إلى فلسطين بتصريح من الحكومة البريطانية الانتدابية، حاملًا معه نسخًا من التسجيلات الّتي تم تسجيلها في تونس والتي تم تخزينها في الأرشيف الصوتي في برلين. كانت هذه تسجيلات قد قام بها أبراهام زيفي أديلسون “أب الموسيقى اليهودية” الّذي أقام في القدس من عام 1907 حتى 1929. كما أحضر معه نسخًا من تسجيلاته الأخرى وسجلات الموسيقى الشرقية من الشرقين الأدنى والأقصى، بالإضافة إلى التمويل الّذي حصل عليه ليعمل معه فني الصوت والتر شور.
استمر عمل لاخمان في الأرشيف سنوات ثلاث، وقد واجهت الجامعة صعوبة في فهم أهدافه وأبحاثه، وأبلغوه عام 1938 بقطع التمويل عن مشروعه.
أدار لاخمان الأرشيف بمساعدة والتر شور فنيّ الصوت، خلال السنوات الأربع التي سبقت وفاته عام 1939 تمكّن من تسجيل 1000 مادة جديدة، معظمها مقاطع صوتية للموسيقى اللتورجية الشرقية. كان الهدف الرئيسي للاخمان في البحث عن موسيقى المجتمعات اليهودية الشرقية، هو وضع تقاليدها في السياق الأوسع للممارسات الموسيقية في الشرق الأدنى، وبالتالي خلق نموذج تاريخي ومقارن لمُجمل الموسيقى الشرقية والآسيوية.
وقد كانت المواضيع الّتي اهتم بها لاخمان كما سمّاها: الموسيقى السامرية – 233 تسجيلًا، الموسيقى اليهودية: الأكراد – 12 تسجيلًا، اليمنيون – 75 تسجيلًا، الغربية – 51 تسجيلًا، المجتمعات الأخرى – 25 تسجيلًا، الموسيقى الشعبية المعاصرة – 34 تسجيلًا، الموسيقى العربية: البدو – 23 تسجيلًا. وغيرها عشرات الموضوعات الأخرى.
إعادة الإحياء للأرشيف
منذ عدة سنوات قامت تلميذة لاخمان الباحثة إديث جيرسون – كيوي بإحياء وأرشقة الأرشيف الموسيقي لأستاذها، فواصلت عمله وحافظت على مجموعة الموسيقى الشرقية حتى إنشاء الأرشيف الصوتي الوطني على يد البروفيسور إسرائيل أدلر، كجزء من المكتبة الوطنية الإسرائيلية عام 1965. لسنوات رفضت كيوي تسليم الأرشيف الخاص بلاخمان للمكتبة الوطنية، وفي الثمانينيّات سلّمت الأرشيف مع أرشيفها الخاص الّذي يحتوي على كتابات وملاحظات ورسائل لاخمان.
يمكن القول إن لاخمان يعتبر الأب الروحي للأرشيف الصوتي التابع للمكتبة الوطنية، واستمرت أجيال من الباحثين في الموسيقى على طريقه، وآخرين اختاروا مواضيع بحثه في الموسيقى الشرقية ليكملوها ويطوّروها ويستمروا بها.