ما علاقة المخلوقات والوحوش الأسطورية بالغزو المغولي؟ ولماذا يعتبر كتاب عجائب المخلوقات للقزويني من أشهر الكتب الإسلامية عبر التاريخ؟
ولد زكريا القزويني في مدينة قزوين الفارسية في العام 1203، ولذلك فقد قضى معظم حياته إمّا فارًا من جيوش جنكيز خان التي كانت قد بنت إمبراطورية تمتد من الصين إلى شرق أوروبا، إما مجتهدًا ليصنع له مكانة علميّة في البقاع التي سلمت من غزو المغول.
في عام 1220، ترك القزويني مدينته فارًا إلى الموصل ومن ثم إلى بغداد ومع ذلك اصطدم بالغزاة في مدينة واسط العراقيّة حيث قتلوا 40،000 من السكان. لم يقتل المغول الحرفيين والمثقفين والعلماء أو من رأوا أنهم من ذوي فائدة، ولذلك لم يُقتل القزويني لكونه عالمًا، وأكمل مسيرته تحت سيادة الحاكم الجديد كقاضي ومدرّس في مدرسة واسط الشرابية. ومع ذلك، فإن أثر الصدمة التي أحدثها الغزو المغولي في حياة القزويني والحضارة الإسلامية عمومًا لا يمكن الاستهانة به. ولذلك، حين كتب القزويني كتابه الأشهر عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات ، سعى إلى طمأنة قُرّاءه بأن النظام الكوني كان لا يزال قائمًا بأمان. يعتبر هذا الكتاب موسوعة تلخّص الكون المخلوق بالترتيب من السماء في الأعلى إلى الأرض في الأسفل. ورافقت رسومات الفلك والملائكة والحيوانات والنباتات ومخلوقات أخرى، منها الوحوش والبشر الأسطوريين، النص المكتوب في مخطوطاته الكثيرة في أنحاء العالم الإسلامي.
نسخت المخطوطة التي تنظرون إليها هنا عام 1659 في بغداد، وهي من مجموعة جامع وتاجر المخطوطات أبراهام شالوم يهودا. هي مثال ممتاز على العالم التراتبي كما رآه القزويني، وتظهر بترجمتها التركية مدى اتساع شهرة الكتاب والبقاع المتنوعة التي قرأت الكتاب ونسخته عبر القرون. مما يجعله من أكثر الكتب الإسلاميّة انتشارًا في التاريخ.
تعود أقدم نسخة (بالإنجليزية) معروفة اليوم عن كتاب القزويني إلى عام 1280؛ أي إلى ما قبل ثلاث سنوات من وفاة القزويني وتقع هذه النسخة في مكتبة الكونغرس. عند النّظر إلى هذه النسخة التي تحمل أكثر من 400 قطعة مرسومة للمخلوقات والموجودات وتصوّر الكون عند القزويني، ومقارنتها بنسخ لاحقة مثل هذه النسخة (بالإنجليزية) من القرن السادس عشر في المكتبة البريطانية، نلحظ تطوّر قدرة الرّسامين على ظبط الأشكال والألوان وجعلها أكثر دقّة ووضوح وأكثر إبداعًا وإثارة للدهشة عبر السّنين. ونفهم أن المتعة البصريّة شكّلت وظيفة من وظائف الكتاب ومنحته سيطًا ودعاية وصلت بعيدًا. وهذه الحرفيّة بالرسم بلغت أوجها على ما يبدو في مخطوطات القرن الثّامن عشر ومنها هذه المخطوطة (بالإنجليزية) الموجودة أيضًا في المكتبة البريطانية وتعود لعام 1750، ويرجّح أنّها وشبيهتها في مكتبة فرنسا الوطنية قد أُنتجتا في نفس الورشة في فلسطين.
في العام 1848، قام المستشرق الألماني فرديناند فستنفلد بتحقيق كتاب عجائب القزويني عن نسخ مخطوطة وُجِدَت في عدة مكتبات ألمانيّة ونشره مطبوعًا في مدينة غوتينغن الألمانية. صدر الكتاب محققًا باللغة العربية مع مقدمة الباحث باللغة الألمانية. ومن المفارقات، أن هذه النسخة المطبوعة لم تشتمل على رسومات للمخلوقات العجيبة والغريبة التي وصفها القزويني، ربما لمحدوديّة في قدرة الطابعات المتاحة لدار النشر حينها على تصوير رسومات من هذا النوع. فبينما النسخ المخطوطة القديمة منحت القارئ تجربة قراءة أكثر متعة ودهشة من خلال الرسومات الخياليّة الملونة والمرسومة بعناية، كان كتاب القزويني المطبوع في منتصف القرن التاسع عشر رتيبًا!
منذ أن أنهى القزويني كتابه في القرن الثالث عشر فإنه لم يتوقّف عن الصّدور بلغات ورسومات ووسائط متنوّعة للقراء من حول العالم، ويمكننا أن نصفه بوضوح كأحد أكثر الكتب انتشارًا في تاريخ الإسلام. وفي ظلّ التطوّر الرّقمي والاصطناعي الهائل الذي نشهده اليوم فإننا لا نستطيع إلّا أن نتساءل: هل سيُكتب عمر جديد واستهلاك من نوع آخر لهذا العمل التّاريخي الذي تميّز بالإمتاع البصري وإثارة الخيال وتقدير موجودات الكون؟ كيف تتخيلون سيكون شكل النسخ المستقبلية لهذا الكتاب؟