عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، 1659، المكتبة الوطنية
ولد زكريا القزويني في مدينة قزوين الفارسية في العام 1203، ولذلك فقد قضى معظم حياته إمّا فارًا من جيوش جنكيز خان التي كانت قد بنت إمبراطورية تمتد من الصين إلى شرق أوروبا، إما مجتهدًا ليصنع له مكانة علميّة في البقاع التي سلمت من غزو المغول.
في عام 1220، ترك القزويني مدينته فارًا إلى الموصل ومن ثم إلى بغداد ومع ذلك اصطدم بالغزاة في مدينة واسط العراقيّة حيث قتلوا 40،000 من السكان. لم يقتل المغول الحرفيين والمثقفين والعلماء أو من رأوا أنهم من ذوي فائدة، ولذلك لم يُقتل القزويني لكونه عالمًا، وأكمل مسيرته تحت سيادة الحاكم الجديد كقاضي ومدرّس في مدرسة واسط الشرابية. ومع ذلك، فإن أثر الصدمة التي أحدثها الغزو المغولي في حياة القزويني والحضارة الإسلامية عمومًا لا يمكن الاستهانة به. ولذلك، حين كتب القزويني كتابه الأشهر عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات ، سعى إلى طمأنة قُرّاءه بأن النظام الكوني كان لا يزال قائمًا بأمان. يعتبر هذا الكتاب موسوعة تلخّص الكون المخلوق بالترتيب من السماء في الأعلى إلى الأرض في الأسفل. ورافقت رسومات الفلك والملائكة والحيوانات والنباتات ومخلوقات أخرى، منها الوحوش والبشر الأسطوريين، النص المكتوب في مخطوطاته الكثيرة في أنحاء العالم الإسلامي.
نسخت المخطوطة التي تنظرون إليها هنا عام 1659 في بغداد، وهي من مجموعة جامع وتاجر المخطوطات أبراهام شالوم يهودا. هي مثال ممتاز على العالم التراتبي كما رآه القزويني، وتظهر بترجمتها التركية مدى اتساع شهرة الكتاب والبقاع المتنوعة التي قرأت الكتاب ونسخته عبر القرون. مما يجعله من أكثر الكتب الإسلاميّة انتشارًا في التاريخ.
تعود أقدم نسخة (بالإنجليزية) معروفة اليوم عن كتاب القزويني إلى عام 1280؛ أي إلى ما قبل ثلاث سنوات من وفاة القزويني وتقع هذه النسخة في مكتبة الكونغرس. عند النّظر إلى هذه النسخة التي تحمل أكثر من 400 قطعة مرسومة للمخلوقات والموجودات وتصوّر الكون عند القزويني، ومقارنتها بنسخ لاحقة مثل هذه النسخة (بالإنجليزية) من القرن السادس عشر في المكتبة البريطانية، نلحظ تطوّر قدرة الرّسامين على ظبط الأشكال والألوان وجعلها أكثر دقّة ووضوح وأكثر إبداعًا وإثارة للدهشة عبر السّنين. ونفهم أن المتعة البصريّة شكّلت وظيفة من وظائف الكتاب ومنحته سيطًا ودعاية وصلت بعيدًا. وهذه الحرفيّة بالرسم بلغت أوجها على ما يبدو في مخطوطات القرن الثّامن عشر ومنها هذه المخطوطة (بالإنجليزية) الموجودة أيضًا في المكتبة البريطانية وتعود لعام 1750، ويرجّح أنّها وشبيهتها في مكتبة فرنسا الوطنية قد أُنتجتا في نفس الورشة في فلسطين.
في العام 1848، قام المستشرق الألماني فرديناند فستنفلد بتحقيق كتاب عجائب القزويني عن نسخ مخطوطة وُجِدَت في عدة مكتبات ألمانيّة ونشره مطبوعًا في مدينة غوتينغن الألمانية. صدر الكتاب محققًا باللغة العربية مع مقدمة الباحث باللغة الألمانية. ومن المفارقات، أن هذه النسخة المطبوعة لم تشتمل على رسومات للمخلوقات العجيبة والغريبة التي وصفها القزويني، ربما لمحدوديّة في قدرة الطابعات المتاحة لدار النشر حينها على تصوير رسومات من هذا النوع. فبينما النسخ المخطوطة القديمة منحت القارئ تجربة قراءة أكثر متعة ودهشة من خلال الرسومات الخياليّة الملونة والمرسومة بعناية، كان كتاب القزويني المطبوع في منتصف القرن التاسع عشر رتيبًا!
منذ أن أنهى القزويني كتابه في القرن الثالث عشر فإنه لم يتوقّف عن الصّدور بلغات ورسومات ووسائط متنوّعة للقراء من حول العالم، ويمكننا أن نصفه بوضوح كأحد أكثر الكتب انتشارًا في تاريخ الإسلام. وفي ظلّ التطوّر الرّقمي والاصطناعي الهائل الذي نشهده اليوم فإننا لا نستطيع إلّا أن نتساءل: هل سيُكتب عمر جديد واستهلاك من نوع آخر لهذا العمل التّاريخي الذي تميّز بالإمتاع البصري وإثارة الخيال وتقدير موجودات الكون؟ كيف تتخيلون سيكون شكل النسخ المستقبلية لهذا الكتاب؟
ثبت بالفحص المخبري: مخطوطة كتاب الشفا لابن سينا قديمة ونادرة!
أثارت مخطوطة كتاب الشفا لابن سينا في المكتبة الوطنية جدلًا بين الباحثين حول تأريخها، ولم يكن هناك إلا طريقة واحدة للحصول على إجابة.
رسم ابن سينا من مخطوطة تعود للعصور الوسطى بعنوان subtitles of truth من عام 1271 (المصدر ويكيبيديا)، وهاجر ميلمان، مختصّة حفظ وترميم في مختبر الحفظ والترميم في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة، وهي تقطع برفق خط رفيع من المخطوطة.
تُرجِم عن: راحيل غولبيرغ
تقف سيّدة برداء أبيض مخبري أمام طاولة عمل مضاءة وتمدّ يدها لتطلب “اإزميل”. تمسك بالأداة الحادة وتميل من فوق الطاولة المضاءة جيّدًا لتقطع خطا رفيعًا وطويلًا. هذه ليست عملية جراحية لإنسان. ولكن لمخطوطة تاريخ نسخها غير معروف بعد.
الهدف من هذه “الجراحة” هو الكشف عن عمر المخطوطة التي بين أيدينا. ولذلك، نُقل الجزء الصّغير الذي تمّ قصّه من المخطوطة إلى مختبر خارجي ليخضع لفحص مخبري دقيق. إن أهميّة هذا الفحص المخبري ونتائجه مهمّة جدًا؛ إذ أنّ هذه المخطوطة ليست مخطوطة عاديّة، إنّها منسوبة لفيلسوف وطبيب القرن الحادي عشر الشّهير ابن سينا (980-1037 م).
مؤلّف الكتاب
يعتبر ابن سينا أحد أهم المفكرين في العالم الإسلامي، وهو من المفكرين الإسلاميين الأقلاء الذين حظوا بشهرة عالميّة في حياتهم، فقد عُرفوا في العالم الإسلامي وكذلك في أوروبا، وقد عرف ابن سينا بالاسم اللاتيني “أفيسينا”.
لمع نجم ابن سينا في جيل يافع واعتبر طبيبًا وفيلسوفًا مرموقًا، وقد حصل على هذه الشّهرة لأول مرّة عندما استدعي لتطبيب سلطان بلاد فارس الذي كان طريحًا للفراش لفترة طويلة وعجز أطباء البلاط عن مداواته. حين تفوّق ابن سينا على هؤلاء الأطباء الملكيين ونجح بتطبيب السلطان، فُتحت أمامه أبواب المكتبة السلطانيّة الفاخرة على مصراعيها، وأدت هذه النّقلة إلى طفرة من الإبداع والإنتاج العلمي عند ابن سينا، كان من ثمراتها كتابه الشّهير في فلسفة العلم “كتاب الشّفا”.
في حياته القصيرة تمكّن ابن سينا من ترك مئات المؤلّفات. وفي مجموعات المكتبة الوطنيّة هناك مئات من المخطوطات لمؤلفات ابن سينا المختلفة، وكذلك شروح لاحقة لهذه المؤلفات، ولكن يتميّز في عملين من بين الجميع: واحد في الطب والثاني في العلوم.
تنبع فرادة ابن سينا في هذين العملين لأنه يرسم من خلالهما خارطة لكل مجال المعرفة، من خلال التقسيم إلى فئات واضحة. كما تكمن أهمية مساهمة ابن سينا العلمية بأنه يعرض كل من هذه الفئات بنظرة نقديّة ويعرض استنتاجاته عن كل مجال ومجال. هذا الأسلوب في فحص الفئات المختلفة بشكل نقدي وبالذات في مجال الطّب، تحوّل إلى الأساس الّذي اتكأ عليه بدرجة كبيرة الطب الحديث وهو “الطب المبني على التجربة”. هدف “كتاب الشفا” هو تغطية جميع مجالات العلوم الموجودة في حين كتابته، إن تفرد وأهمية الكتاب تكمن كما ذكرنا في هيكله، الذي أصبح المعيار الذي بحسبه كُتبت كتب الفلسفة منذ ذلك الوقت.
يتكوّن كتاب الشفا من أربعة أجزاء، وكل جزء يتناول موضوعًا مختلفًا: الجزء الأول موجود في مجموعة المكتبة الوطنيّة ويتناول المنطق. أمّا بقية الأجزاء فتتناول موضوعات مثل العلوم الطبيعيّة، علم النّفس، العلوم الحسابيّة (الهندسة والرياضيات والموسيقى والفلك) والمتافيزيقية.
المخطوطة النّادرة في المكتبة الوطنيّة
وصل الجزء الأول من كتاب الشفا الى المكتبة الوطنيّة كجزء من المجموعة الضخمة للباحث وجامع الكتب الأثرية الشهير أبراهام شالوم يهودا (1877-1951). مفهرس المجموعة أفرايم ووست سجّل المخطوطة الفريدة هذه في فهرس المكتبة. ومن المعلومات التي على المفهرس إدراجها حول كل مخطوطة هي سنة نسخها الواردة فيها أو التي يقدّرها المفهرس. لم تذكر سنة نسخ المخطوطة في أي مكان على صفحاتها، إلا المفهرس قدّر أنّ المخطوطة نُسخت عام 1050 وأرفق علامة سؤال بجانب السنة كما يظهر في الصورة التي أمامكم من الفهرس الرقمس للمكتبة. يعتبر وجود مخطوطة بهذا القِدَم والنّدرة في مجموعة يهودا ليس بالأمر الغريب، فقد عُرف جامع المخطوطات بسعيه لشراء المخطوطات النادرة والثمينة. ومع ذلك، فإننا لا نعرف ما الذي دفع ووست لهذا التخمين، أهو نوع الورق أو الحبر، ام مجرّد “حدس”؟
ما أهمية تأريخ المخطوطة؟ وكيف نقوم بهذا؟
إن المخطوطة التي نسخت في أيام مؤلّف الكتاب تعتبر أكثر أهمية من مخطوطة نُسخت لاحقًا، لأن هذا يدل أوّلًا على مكانة المؤلف في عصره من جهة، ولأن النص الذي بداخل هذه المخطوطة سيكون أكثر دقة من جهة أخرى حيث أنه الأقرب للأصل وقد يكون منسوخًا عنه. يذكر هنا إن عدد مخطوطات كتاب الشّفا التي تعود لحياة ابن سينا نفسه قليلة جدًا حول العالم. واكتشاف مخطوطة جديدة من هذا النوع يسلّط المزيد من الضّوء على الصياغة الأصليّة والأولى للكتاب.
هناك عدّة طرق لتأريخ أي مخطوطة؛ الطريقة المعروفة والأسهل هي بقراءة حرد المتن: أي الملاحظة التي تأتي عادة في آخر الكتاب ويوثّق بها النّاسخ تاريخ الفراغ من كتابته وأحيانًا اسمه وتفاصيل أخرى عن المخطوطة، كالمكان الذي نُسخت فيه وسبب نسخها والمزيد. نجد حرد المتن في آخر الكثير من المخطوطات، ولكن ليس في هذه المخطوطة.
هناك طرق أخرى لمعرفة تاريخ إنتاج المخطوطة بطرق غير مباشرة، منها ما قد تحتويه الصّفحة الأولى أو خوارج متن النّص من ملاحظات، أختام، أو ملاحظات تخص إجازات القراءة وغيرها. جميع هذه الدلائل تمكننا أحيانًا من تقدير الوقت الذي كتبت فيه المخطوطة.
بالإضافة إلى ذلك، الجسد المادي لكل مخطوطة يساعدنا بالتعرف على تاريخها أيضًا: نوع الورق، نوع الحبر، أسلوب التزويق والرّسم، نوع الخطّ، طريقة ترقيم الصّفحات والمزيد. مع ذلك، فإن مختصة المخطوطات (يشار إلى مجال دراسة المواد التي تنتج منها الكتب بالكوديكولوجيا) المسؤولة عن مجموعة المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة، تحذّر من الوقوع في خطأ تأريخ المخطوطة بناء على تجليدها فإن التجليد قد يتبدّل.
من مميزات الورق التي تساعد بالتعرف على تاريخ المخطوطة: جودة الورق ونوعه، قوام السطح وشفافيته، اللمعان واللون وكذلك قوة الورق ومرونته. في المخطوطة التي نتحدث عنها يمكننا أن نرى بعض هذه العوامل بوضوح؛ إذ تظهر الألياف التي صنع منها الورق، كما هناك مناطق أغمق من غيرها.
منذ أن وصلت المخطوطة إلى المكتبة الوطنية ظهرت آراء مختلفة حول تاريخ كتابتها، فهناك من رأى أن هذه المخطوطة نُسخت في حياة ابن سينا نفسه وهناك من رأى أنها تنتمي لعصر آخر بعد وفاته. واشتدّت التساؤلات حين توجّهت متخصصّة في علم المخطوط الإسلامي من إيطاليا مشكّكة بالتأريخ الذّي وضعه ووست، وادعت أن المخطوطة نُسخت بعد 200 عام من هذا التاريخ. عندها قرر طاقم المكتبة أن يقوم باللازم لإعطاء جواب نهائي لهذا التساؤل.
فحص التأريخ بالكربون المشعّ 14
قامت مارسيلا سكلي رئيسة قسم الحفظ والترميم في المكتبة الوطنية بدعوة بروفيسور إليزابيتا بورتو لطلب إجراء فحص التأريخ بالكربون 14، وهو الفحص المخبري الأكثر حسمًا في هذه الحالة لتأريخ عمر الورق. وصلت بروفيسور بورتو ذات الصيت العالمي في المجال الى المكتبة لأخذ عينة من المخطوطة، ولهذا تمت هذه “الجراحة”.
بما أن هذا النوع من الفحوصات يعتبر “ضارًا” بالمادة لانه يقتطع جزءًا منها، فقد دار نقاشًا مطوّلًا بين خبيرة الترميم سكلي وبروفيسور بورتو حول كيفيّة اتخاذ العينة والمكان المناسب لقصّها منه. كانت الفكرة الأولى هي اقتطاع جزء يحتوي على الحبر، ولكن للامتناع من المس بالمخطوطة نفسها واقتطاع جزء من الكتابة، أخذت العينة من أطراف الصفحات على هيئة خط طويل وليس على شكل مستطيل كما هي العادة.
يسمّى هذا الفحص المخبري بالتأريخ بالكربون المشعّ، ويعتمد الفحص على حقيقة ان لكل مادّة عضوية وتيرة ثابتة للتحلل الاشعاعي. وبالتالي، كلما قدمت المادة، كلما اضمحلّت كمية الكربون المشع التي ستتواجد فيها. تطوّر البحث حول هذا الموضوع بشكل ملحوظ على مرّ السنين، وبهذه الطريقة الآن يمكن تحديد عمر الجماد الذي يعود عمره لـ 50 الف عام على الأكثر. تم إجراء الفحص في المختبر البحثي على اسم دنجور في معهد وايزمان في رحوفوت تحت إشراف بروفيسور بورتو.
حين وصلت نتائج الفحص وأخيرًا من بروفيسور بورتو اتّضح أن حدس المفهرس ووست كان موفّقًا ودقيقًا: فالمخطوطة لا تعود للقرن الرابع بل تم صنعها بين السنوات 1040 و1060 على الأكثر، وذلك بعد وفاة ابن سينا بمدّة غير طويلة. كما اتّضح أن المادة الأصلية التي صنع منها الورق هي السليولوز. وهذا مثال آخر على تقاطع العلوم الدقيقة مع التاريخ، فقد تمكّنت مختصة من الدّرجة الأولى من مساعدتنا بفهم قصّة وتاريخ أحد الكنوز الإنسانيّة التي بين أيدينا.
ساعدت مارسيلا سكلي، رئيسة قسم الحفظ والترميم في المكتبة الوطنية الإسرائيليّة، بتحرير هذا المقال.
الباحثة “غيرترود بيل” الّتي أشارت على بريطانيا بمنح الاستقلال للعراق
إن كان أبراهام شالوم يهودا وغيرترود بيل قد التقيا مرّة واحدة ولم يُعجبا ببعضهم البعض، فكيف وصلت مخطوطتها إلى أيدي يهودا؟
كانت غيرترود بيل (1868-1926) امرأة رائدة، وُلدت لعائلة صناعيين أثرياء، ونشأت في حياة سهلة ورغدة، وكان من المتوقع أن ينتهي بها المطاف بالزواج وإقامة عائلة، وهذه حياة لم ترغب بها. برزت كفتاة ذكيّة منذ الصّغر، وخلال عامين أتمت دراسة البكالوريوس في التاريخ الحديث من جامعة أكسفورد. حين بلغت 24 عامًا، خرجت لزيارة عمّها الذي كان سفيرًا لبريطانيا في طهران، وقد غرست بها هذه الزيارة حبا كبيرًا للشرق الأوسط، وعادت إليه مرة عديدة ومكثت فيه لفترات طويلة.
نشرت غيرترود بيل عددًا من الكتب؛ الأول نُشِر عام 1894 عن مغامراتها وتجاربها في زيارتها الأولى لطهران وأسمته “سفرنامه” أي كتاب سفر، مستلهمة الاسم من عناوين فارسيّة كلاسيكيّة مثل “شاهنامه” (كتاب الملوك). في عام 1897، نشرت ترجمة إنجليزيّة لديوان حافظ، وهو ديوان شعر فارسي كلاسيكي، وكتب أخرى كتبت بها عن تجاربها وأبحاثها في الشرق الأوسط.
من المثير للاهتمام، أن بيل لم تكتب قطّ عن رحلتها الطويلة والخطرة في منطقة “حائل” في شبه الجزيرة العربيّة، منطقة حائل الصحراويّة المعروفة بصعوبة الترحال فيها، كانت بيل ثاني امرأة على الاطلاق تعبرها. ساعد بيل في رحلتها تمكنها من ركوب الخيل، وبالرغم من ابتعادها عن حياة الرغد التي ولدت بها، فقد عُرِف عن بيل في رحلاتها تزودها دومًا بطقم الخزف الصيني من صناعة “ويدجوود” وصابون من عطر الخزامى.
بعكس المتبع في زمانها، سافرت غيرترود وحيدة، وتتساءل الباحثة جوزافين كام التي كتبت سيرة قصيرة لبيل، لو كانت بيل قد تزوجت من حبيبها الأول هينري كدوغن الذي توفي من التهاب الرئتين، هل كانت ستستمر في حياة الترحال الخطر في بلاد غريبة؟
بفضل معرفتها الواسعة في التاريخ والجغرافيا والسياسة، تحولت غيرترود بيل إلى شخصية مركزيّة في صراع بريطانيا خلال الحرب العالميّة الأولى وما بعدها من أحداث دارت في الشرق الأوسط. كانت كذلك من الشخصيات الهامة التي حضرت مؤتمر القاهرة، الذي دعى إليه وزير المستعمرات البريطاني وينستون تشرتشل عام 1921.
يبرز حضور بيل في الصورة كامرأة وحيدة بين عشرات الرجال المشاركين في المؤتمر، لم تُدعى بيل إلى المؤتمر كـ “زينة” ولكن لمنصبها كمستشارة للمندوب السامي البريطاني حينها في العراق. كان الهدف من مؤتمر القاهرة هو معالجة الوعود المتناقضة التي بثتها كل من بريطانيا وفرنسا فيما يخص الأقاليم العربيّة خلال الحرب العالميّة الأولى. قدّم السير بيرسي كوكس المندوب السامي مع غيرترود بيل أمام المؤتمر مخططهم للعراق، والتي اعتمدت على معرفة بيل بالقبائل المختلفة ورؤيتها للعراق. وكجزء من استنتاجات المؤتمر، عملت على مساعدة الملك فيصل الأول من السلالة الهاشمية ليعتلي عرش العراق ويصبح ملكها.
بعد إقامة دولة العراق الحديثة، عادت بيل إلى حبها الأول نحو الآثار؛ إذ أقامت المتحف القومي في العراق وساعدت في تأسيس القانون الذي ينص على أن الآثار التي وجدت في مكان معيّن يجب أن تبقى في الأرض التي استخرجت منها.
توفيت غرترود بيل في العراق في تموز 1926 جراء تناول جرعة زائدة من الحبوب المنوّمة. لم يتضّح إن كان هذا انتحارًا أو خطأ بتقدير مفعول الدواء. فمن جهة، لا تشير رسائل بيل إلى زوجة أبيها إلى أي نيّة انتحاريّة، ومن جهة أخرى فقد طلبت بيل من أصدقائها الاعتناء بحيواناتها الأليفة إذا ما أصابها ضرر.
في مجموعات المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة، وجد مجموعة شعر فارسي أهديَت إلى غيرترود بيل، المرأة الغنية عن التعريف في تاريخ الشرق الأوسط في ذلك الوقت،في عام 1921. وصل الكتاب إلى المكتبة الوطنية الإسرائيليّة عن طريق أبراهام شالوم يهودا، وهو مقتني مخطوطات معروف، أهدى مجموعته وأرشيفه الشّخصي إلى المكتبة الوطنيّة في العام 1951. تحتوي مجموعة يهودا على آلاف المخطوطات الإسلاميّة في مواضيع تغطّي كافة مجالات المعرفة الإساسيّة في الثّقافة الإسلاميّة: القرآن، الحديث، الفقه والشريعة الإسلاميّة والعلوم. تحتوي المجموعة أيضًا على كتب السعاوي المسيحيّة وكتابات اسحاق نيوتن اللاهوتيّة.
كيف وصل الكتاب المهدى إلى غيرترود بيل إلى شالوم يهودا ومن ثمّ إلى المكتبة الوطنيّة؟
رسائل بيل ومذكراتها موجودة في أرشيف غيرترود بيل في جامعة نيوكاسل والذي تبرعت به زوجة أبيها. عند البحث في الأرشيف، يظهر أن سبل غيرترود بيل وأبراهام يهودا تقاطعت في عام 1902 على متن باخرة “كليوباترا” التي أبحرت من إزمير إلى مدينة حيفا. كان يهودا بصحبة أمريكيّين تعرّفت إليهم بيل أيضًا. وفي رسالة لزوجة أبيها وصفت بيل يهودا بأوصاف غير محبّبة. ولذلك، فإن السؤال يصبح أكثر غموضًا وإثارة للاهتمام: إن كان أبراهام شالوم يهودا وغيرترود بيل قد التقيا مرّة واحدة ولم يُعجبا ببعضهم البعض، فكيف وصلت مخطوطتها إلى أيدي يهودا؟
تراتيل وصلوات السبت وألحانها المتنوّعة
ماذا تعرفون عن المتعة الفنية في تراتيل السبت وعن العادات العريقة التي تُمارس داخل البيوت اليهوديّة المحافظة ودور العبادة؟ تعرفوا في هذه المقالة على بعض العادات المرتبطة بالسبت اليهودي.
يوم السبت هو اليوم المقدّس للديانة اليهوديّة عبر التّاريخ، وتعتبر إقامة شعائره من فرائض الديانة، وذلك لأنها مدرجة ضمن الوصايا العشر. وأصلها مستمدّ من القصّة التوراتيّة حول خلق العالم، اذ تقول القصة ان الخالق خلق الكون كله في ستة ايام واستراح فيه في اليوم السّابع. “وبارك الله اليوم السابع وقدّسه لأنه فيه استراح من جميع الّذي عمر” (التكوين،2،3). أصبحت هذه الكلمات مادّة للتراتيل المنغّمة والمتنوّعة، والّتي تتوزّع على عدد من التراتيل المرتبطة بتقاليد السبت، منها صلاة استقبال ليلة السبت، وصلاة الصّباح ومباركة الطّعام.
حافظ اليهود في مختلف أماكن تواجدهم عبر العصور على هذه الشعائر، وطوّروا تقاليد إضافيّة مرتبطة بها، ممّا يجعل النّظر في أرشيفها أمر غاية في الفضول، وذلك لتنوّعها الواسع والمتعدد الثقافات.
في التسجيلات الصّوتية وحدها، يمكن إيجاد عشرات التّراتيل المؤّداة بحسب أصول فنون موسيقيّة متعددة الأصول والثّقافات.
وفرع الله في اليوم السابع من خلقه الذي عمل. فاستراح في اليوم السابع من كل عمله الذي عمل.
وبارك الرب اليوم السابع وقدسه. لانه فيه استراح من جميع عمله الذي عمله الله خالقًا.
بدون موسيقى، يستطيع المؤدي بصوته فقط أن يحكي العبارات التوراتية كما لو كانت قصّة، يبدأ بنغمة منخفضة ومحايدة، كما لو أنه يهيئ المستمع لبداية قصّة ما، ثمّ يرتفع، ويستطيع المستمع العربي هنا تمييز المقامات الشّرقيّة في الاداء وينتقل المؤدّي بين الانغام المرتفعة والمنخفضة ببراعة، ممّا يضيف بعد درامي إلى الصّلاة.
يتميّز الأداء السفاردي المذكور بالبطء والرّوحانيّة والارتباط بمعاني الكلمات، فهو يرتفع ويؤدي عُرَب مميزة عند الحديث عن القداسة أو السّماء، ويعتمد على الاحساس والارتجال اللحظي، أي أنه غير مرتبط بنغمة محفوظة ومتكرّرة، ولكن يتحرك بين مقامي النهاوند والكرد ويؤدي نغمات مبتكرة.
بالمقابل، يعتمد الأداء الفرنسي لميشيل هايمن لصلاة السبت الصباحيّة على مجموعة من النغمات المتنوّعة والمتكرّرة مرّة بعد أخرى، ويتميّز أداؤه بالسّرعة وكأنه يحفظه، كما يبدو الّلحن معدّ للأداء الجماعي.استمعوا إليه هنا.
وبمناسبة الحديث عن الأداء الجماعي، إليكم فيديو من إحياء عائلة هنجارية لتراتيل السبت معًا في عام 2010، وبها أيضًا يظهر الأداء السريع (مقارنة بالأداء السفاردي)، والمحفوظ مسبقًا. يمكنكم مشاهدة الفيديو هنا.
ومع ذلك، يجب الحذر من عدم التعميم، فليس كل التراتيل المشرقيّة مرتجلة، انظروا على سبيل المثال إلى صلاة تقديس ليلة السبت بنسخة يهود بابل من أداء الحاخام دافيد حلبي، وبها يظهر الجزئين، الفردي والمرتجل والجماعي المحفوظ مسبقًا. للاستماع.
يبدأ يوم السّبت عند اقتراب ساعة الغروب من يوم الجمعة، ويستمرّ إلى ان تظهر النجوم في ليلة اليوم التالي (السبت). ولذلك تتغيّر مواعيد السبت خلال السّنة بحسب مواقيت غروب الشّمس. وخلال السبت، يتم تكريمه وإحياؤه من خلال وصايا وفرائض وعادات ثقافيّة متنوّعة، منها: إنارة الشّموع وأكل ثلاثة وجبات مخصّصة ليوم السّبت، ولجميعها صلوات تتلى على الخبز وعلى النبيذ، بالإضافة إلى ترتيل أغاني السّبت والصلوات الخاصّة بيوم السّبت.
للاطلاع على جميع التسجيلات الصّوتيّة المتعلّقة بفرائض يوم السّبت، يمكنكم تصفّح هذا الرابطعلى رحاب “فهرس موقع المكتبة”