إيمان الأنصاري
لقب بالصّقليّ لأنّه اتّخذ جزيرة صقلية موطناً له بعد سقوط الدّولة الإسلاميّة. ولقب بسطرابون العرب نسبة للجغرافيّ الإغريقيّ الكبير سطرابون. هل عرفتم من هو؟ إنّه أطلس العرب، العالم المسلم الجغرافيّ الكبير “أبو عَبد الله مُحَمَّدٌ بن مُحَمَّدٌ الإِدْرِيسي الْهَاشِمِيّ الْقُرَشِيّ“. يا تُرى لماذا ننسبه إلى الغرب؟ وهو الرّائد في مجاله؟ لماذا ننسبه إلى صقلية وهو ابن المغرب؟ لماذا نلقبه بسطرابون العرب وهو أوّل من رسم خرائط دقيقة، وقام بإعادة تحديد خطوط الطّول والعرض، وهو من مؤسسي علم الجغرافيا الحديثة وأوّل من صمّم مجسم الكرة الأرضيّة ورسم خارطة العالم. بصراحة القائمة بوصفه تطول، وتأثيره حتى يومنا هذا يجول، هل تودون معرفة المزيد عنه؟
فلنتحدث بداية عن نسبه، لُقب بالشّريف الإدريسيّ نسبة إلى سلالة الأسرة الإدريسيّة العربيّة المغربيّة التي ينتهي نسبها إلى النبي محمد ﷺ، وقد حكمت المغرب ما بين 788 م – 974 م. وُلد الشّريف الإدريسيّ عام 1100 م في سبتة (المغرب سابقًا) واليوم هي تحت حكم إسبانيا وتُوفي عام 1165 م. بالإضافة لكونه جغرافيًّا، كتب في الأدب والشّعر والنّبات ودرس الفلسفة والطّب والنّجوم في قرطبة لذلك لُقب أيضا بالقرطبيّ. اشتهر بكتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” الذي ألفه بناءً على طلب الملك النّورمانيّ روجر الثّاني ملك صقلية، لذلك سُمي أيضا ب “كتاب روجر”، ويُعتبر أحد أهم الأعمال الجغرافيّة في العصور الوسطى. حيث قام الإدريسيّ بجمع كل المعلومات التي عرفها واكتسبها في رحلاته في هذا العمل، ويحتوي أيضًا على عدّة خرائط لكل العالم، ومعلومات عن المدن الرئيسيّة، وقد بقي مرجعًا لعلماء أوروبا لمدة تزيد عن 300 سنة.
في فترة الملك النورمانيّ كانت العلاقات الإسلاميّة والمسيحيّة في أوجها، وُلد روجر الثّاني عام 1095 م، وكان مهتمًا بعلوم الجغرافيا، ولم يكن راضيًّا وقتها عن الأوصاف للأرض في وقته، فقد كانت لديه خريطة مستمدة من أهم اثني عشر عملًا موجودة في وقته والتي أظهرت أنها تناقض بعضها البعض في كل مكان تقريبًا. فقرر أن يبدأ مشروعًا به وصف مفصّل للأرض والمعالم الجغرافيّة في ذلك الوقت، لذلك استعان بأفضل جغرافيّ كان في زمانه وهو الشّريف الإدريسيّ.
بعد سقوط دولة المرابطين الإسلاميّة، اختار الإدريسيّ الانتقال إلى صقلية بعد سقوط الحكومة الإسلاميّة، لأن الملك النورمانيّ في ذلك الوقت «روجر الثّاني» كان مُحبًّا للمعرفة، فدعاه للبقاء معه مشيرًا إلى أنّه ينحدر من عائلة الخلفاء السّابقة، وسيشعر الخليفة الجديد بالرّيبة بسبب بقاءه في البلاد، ووعده بالاعتناء به. فكانت له مكانة كبيرة عند الملك روجر الثّاني، حتى أنّه كان يقوم لتحيّته بإجلال عند لقاءه. فعمل الادريسيّ على مشروع استجواب الرّحالة بشكل فرديّ أو جماعيّ بمساعدة المترجمين الفوريين للمسائل الجغرافيّة المختلفة لمدة 15 عامًا بدون انقطاع، فمثلًا سأل الرّحالة عن المسافات بين مواقع الأماكن وفقًا لخطوط الطّول والعرض. والأجوبة التي تمّ الاتّفاق عليها قد ثبتت في عمله، والمعلومات التي عليها خلاف ذلك تمّ استثنائها.
تُعتبر خرائط الإدريسيّ التي ظهرت بكتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” من أهمّ المصادر التي اعتمدها العالم لمدّة تزيد عن 300 سنة في العصور الوسطى. حيث جمع به كل المعلومات التي عرفها واكتسبها في رحلاته، ووصف المدن ورسم خرائط دقيقة أظهرت كافة التضاريس من بحار، وأنهار، وجبال بدقة، ورسم كذلك خطوط الطّول والعرض. ويلاحظ أن الخريطة مقلوبة، لأن الجغرافيين المسلمين لم يرغبوا بوضع العالم الإسلاميّ أسفل العالم النّصراني. وقد رسمها بناء على طلب ملك صقلية روجر الثّاني الذي كان مهتمًّا بالعلم والمعرفة. في الكتاب هناك أيضا معلومات تاريخيّة، وثقافيّة، ودينيّة مهمّة. بفضل الإدريسيّ وخارطته أصبحت صقلية وجهة جذابة للدّراسة والاستكشاف. جمع أجزاء الخارطة المتفرقة المستشرق الألمانيّ كونراد ميلر باللغة اللاتينية في سنة (1926-1931) م. يمكنكم الاطلاع عليها هنا في فهارس المكتبة الوطنية، وأعادها إلى أصلها العربيّ الأستاذ محمد بهجة والدّكتور جواد علي عضوا المجمع العلميّ العراقيّ، ويمكنكم الإطّلاع عليها هنا.
على الرّغم من أنّ عمر الخارطة يتجاوز ال 800 عامًا، وهي خارطة ثريّة بحيث تحتوي على 2064 اسم مدينة، (في أفريقيا 365، في أوروبا 740، في آسيا 959 اسم مدينة)، من بينها تقريبًا جميع المدن المزدهرة والمكتظة بالسّكاّن في أفريقيا، لا يزال من الممكن التّعرف على الكثير من المدن وتحديدها حتّى اليوم بالرّغم من اندثار العديد منها. لم تنجو الخريطة كخريطة كليّة، ولكن يمكن العثور عليها في أجزاء من الكتب، حيث تتكوّن من 70 ورقة فرديّة. تتكون الخارطة في الأصل من 7 طبقات أفقيّة، تسمى الأقاليم السّبعة (أي الأماكن التي تقع على نفس خطّ العرض الجغرافيّ)، وقسّم كل إقليم إلى عشرة أقسام متساوية، ورسم لكل قسم خريطة، وبذلك تنقسم الخريطة بأكملها إلى 70 قسمًا.
أما في هذه الصّورة أعلاه تمّ رسم هذه الخارطة بالمقلوب! أي أنّ اتّجاه الجنوب هو في الأعلى والشّمال إلى الأسفل، رسمها الشّريف الإدريسيّ القرشيّ إلى ملك صقلية روجر الثّاني. وفي هذا المقطع من الخارطة يظهر العالم العربيّ والشرق الأوسط. يلاحظ أنّ الخريطة مقلوبة، لأن الجغرافيين المسلمين لم يرغبوا بوضع العالم الإسلاميّ أسفل العالم النصرانّي. في هذا القسم من الخارطة، تظهر شبه الجزيرة العربيّة بشكل واضح، وأيضًا بإمكاننا أن نرى بلاد الشّام، وفلسطين، والقدس، وممكن بوضوح رؤية بحيرة طبرية، والبحر الميت، ونهر الأردن.
بعدما تعلمنا عن الادريسيّ، وفهمنا دوره الكبير في تطوير علم الجغرافيا؛ إذ كان للعرب إنجازات وإسهامات في تطوّر العلوم والمعرفة، فلولاها لما وصل العالم إلى ما هو عليه اليوم من التطوّر العلميّ والتكنولوجيّ. لن ننسى دور الإدريسيّ في الجغرافيا، ودور الخوارزميّ في الرياضيات، ودور ابن الهيثم في العلوم، وغيرهم من العلماء العرب والمسلمين. وبطبيعة الحال، كان هناك دورًا للأمم السّابقة في بناء الحضارات، فالحضارة الإنسانيّة عبارة عن سلسلة، كل أمّة من الأمم تُضيف حلقة في هذه السّلسة، فالاكتشافات والاختراعات الحديثة لا تُجيّر إلى الحضارة الغربيّة المعاصرة، لأنها بنت علومها على علوم الأمم السّابقة.
قائمة المراجع:
Erläuterungen zu der von K. Miller, Stuttgart, 1928 zum erstenmal herausgegebenen grossen farbigen Weltkarte des Idrisi.
Miller, Konrad. Mappae Arabicae – arabische Welt-und Länderkarten. Band I/II. Die Weltkarte des Idrisi vom Jahr 1154. Stuttgart : Selbstverlag, 1926.
Idrisi map – German – w 106 – 990025938860205171
Idrisi map – Arabic – w 106.1 – 990043688830205171