صورة الأرض للشّريف الإدريسيّ

تُعتبر خرائط الإدريسيّ التي ظهرت بكتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" من أهمّ المصادر التي اعتمدها العالم في العصور الوسطى.

صورة الأرض ‏ل‏لشريف الإدريسي، نسخة 1951، مجموعة عيران لئور للخرائط، المكتبة الوطنية

صورة الأرض ‏ل‏لشريف الإدريسي، نسخة 1951، مجموعة عيران لئور للخرائط، المكتبة الوطنية

إيمان الأنصاري

لقب بالصّقليّ لأنّه اتّخذ جزيرة صقلية موطناً له بعد سقوط الدّولة الإسلاميّة. ولقب بسطرابون العرب نسبة للجغرافيّ الإغريقيّ الكبير سطرابون. هل عرفتم من هو؟ إنّه أطلس العرب، العالم المسلم الجغرافيّ الكبير “أبو عَبد الله مُحَمَّدٌ بن مُحَمَّدٌ الإِدْرِيسي الْهَاشِمِيّ الْقُرَشِيّ“. يا تُرى لماذا ننسبه إلى الغرب؟ وهو الرّائد في مجاله؟ لماذا ننسبه إلى صقلية وهو ابن المغرب؟ لماذا نلقبه بسطرابون العرب وهو أوّل من رسم خرائط دقيقة، وقام بإعادة تحديد خطوط الطّول والعرض، وهو من مؤسسي علم الجغرافيا الحديثة وأوّل من صمّم مجسم الكرة الأرضيّة ورسم خارطة العالم. بصراحة القائمة بوصفه تطول، وتأثيره حتى يومنا هذا يجول، هل تودون معرفة المزيد عنه؟

فلنتحدث بداية عن نسبه، لُقب بالشّريف الإدريسيّ نسبة إلى سلالة الأسرة الإدريسيّة العربيّة المغربيّة التي ينتهي نسبها إلى النبي محمد ﷺ، وقد حكمت المغرب ما بين 788 م – 974 م. وُلد الشّريف الإدريسيّ عام 1100 م في سبتة (المغرب سابقًا) واليوم هي تحت حكم إسبانيا وتُوفي عام 1165 م. بالإضافة لكونه جغرافيًّا، كتب في الأدب والشّعر والنّبات ودرس الفلسفة والطّب والنّجوم في قرطبة لذلك لُقب أيضا بالقرطبيّ. اشتهر بكتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” الذي ألفه بناءً على طلب الملك النّورمانيّ روجر الثّاني ملك صقلية، لذلك سُمي أيضا ب “كتاب روجر”، ويُعتبر أحد أهم الأعمال الجغرافيّة في العصور الوسطى. حيث قام الإدريسيّ بجمع كل المعلومات التي عرفها واكتسبها في رحلاته في هذا العمل، ويحتوي أيضًا على عدّة خرائط لكل العالم، ومعلومات عن المدن الرئيسيّة، وقد بقي مرجعًا لعلماء أوروبا لمدة تزيد عن 300 سنة.

في فترة الملك النورمانيّ كانت العلاقات الإسلاميّة والمسيحيّة في أوجها، وُلد روجر الثّاني عام 1095 م، وكان مهتمًا بعلوم الجغرافيا، ولم يكن راضيًّا وقتها عن الأوصاف للأرض في وقته، فقد كانت لديه خريطة مستمدة من أهم اثني عشر عملًا موجودة في وقته والتي أظهرت أنها تناقض بعضها البعض في كل مكان تقريبًا. فقرر أن يبدأ مشروعًا به وصف مفصّل للأرض والمعالم الجغرافيّة في ذلك الوقت، لذلك استعان بأفضل جغرافيّ كان في زمانه وهو الشّريف الإدريسيّ.

بعد سقوط دولة المرابطين الإسلاميّة، اختار الإدريسيّ الانتقال إلى صقلية بعد سقوط الحكومة الإسلاميّة، لأن الملك النورمانيّ في ذلك الوقت «روجر الثّاني» كان مُحبًّا للمعرفة، فدعاه للبقاء معه مشيرًا إلى أنّه ينحدر من عائلة الخلفاء السّابقة، وسيشعر الخليفة الجديد بالرّيبة بسبب بقاءه في البلاد، ووعده بالاعتناء به. فكانت له مكانة كبيرة عند الملك روجر الثّاني، حتى أنّه كان يقوم لتحيّته بإجلال عند لقاءه. فعمل الادريسيّ على مشروع استجواب الرّحالة بشكل فرديّ أو جماعيّ بمساعدة المترجمين الفوريين للمسائل الجغرافيّة المختلفة لمدة 15 عامًا بدون انقطاع، فمثلًا سأل الرّحالة عن المسافات بين مواقع الأماكن وفقًا لخطوط الطّول والعرض. والأجوبة التي تمّ الاتّفاق عليها قد ثبتت في عمله، والمعلومات التي عليها خلاف ذلك تمّ استثنائها.

تُعتبر خرائط الإدريسيّ التي ظهرت بكتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” من أهمّ المصادر التي اعتمدها العالم لمدّة تزيد عن 300 سنة في العصور الوسطى. حيث جمع به كل المعلومات التي عرفها واكتسبها في رحلاته، ووصف المدن ورسم خرائط دقيقة أظهرت كافة التضاريس من بحار، وأنهار، وجبال بدقة، ورسم كذلك خطوط الطّول والعرض. ويلاحظ أن الخريطة مقلوبة، لأن الجغرافيين المسلمين لم يرغبوا بوضع العالم الإسلاميّ أسفل العالم النّصراني. وقد رسمها بناء على طلب ملك صقلية روجر الثّاني الذي كان مهتمًّا بالعلم والمعرفة. في الكتاب هناك أيضا معلومات تاريخيّة، وثقافيّة، ودينيّة مهمّة. بفضل الإدريسيّ وخارطته أصبحت صقلية وجهة جذابة للدّراسة والاستكشاف. جمع أجزاء الخارطة المتفرقة المستشرق الألمانيّ كونراد ميلر باللغة اللاتينية في سنة (1926-1931) م. يمكنكم الاطلاع عليها هنا في فهارس المكتبة الوطنية، وأعادها إلى أصلها العربيّ الأستاذ محمد بهجة والدّكتور جواد علي عضوا المجمع العلميّ العراقيّ، ويمكنكم الإطّلاع عليها هنا.

على الرّغم من أنّ عمر الخارطة يتجاوز ال 800 عامًا، وهي خارطة ثريّة بحيث تحتوي على 2064 اسم مدينة، (في أفريقيا 365، في أوروبا 740، في آسيا 959 اسم مدينة)، من بينها تقريبًا جميع المدن المزدهرة والمكتظة بالسّكاّن في أفريقيا، لا يزال من الممكن التّعرف على الكثير من المدن وتحديدها حتّى اليوم بالرّغم من اندثار العديد منها. لم تنجو الخريطة كخريطة كليّة، ولكن يمكن العثور عليها في أجزاء من الكتب، حيث تتكوّن من 70 ورقة فرديّة. تتكون الخارطة في الأصل من 7 طبقات أفقيّة، تسمى الأقاليم السّبعة (أي الأماكن التي تقع على نفس خطّ العرض الجغرافيّ)، وقسّم كل إقليم إلى عشرة أقسام متساوية، ورسم لكل قسم خريطة، وبذلك تنقسم الخريطة بأكملها إلى 70 قسمًا.

 

صورة الأرض للشّريف الإدريسيّ
صورة الأرض للشّريف الإدريسيّ

أما في هذه الصّورة أعلاه تمّ رسم هذه الخارطة بالمقلوب! أي أنّ اتّجاه الجنوب هو في الأعلى والشّمال إلى الأسفل، رسمها الشّريف الإدريسيّ القرشيّ إلى ملك صقلية روجر الثّاني. وفي هذا المقطع من الخارطة يظهر العالم العربيّ والشرق الأوسط. يلاحظ أنّ الخريطة مقلوبة، لأن الجغرافيين المسلمين لم يرغبوا بوضع العالم الإسلاميّ أسفل العالم النصرانّي. في هذا القسم من الخارطة، تظهر شبه الجزيرة العربيّة بشكل واضح، وأيضًا بإمكاننا أن نرى بلاد الشّام، وفلسطين، والقدس، وممكن بوضوح رؤية بحيرة طبرية، والبحر الميت، ونهر الأردن.

بعدما تعلمنا عن الادريسيّ، وفهمنا دوره الكبير في تطوير علم الجغرافيا؛ إذ كان للعرب إنجازات وإسهامات في تطوّر العلوم والمعرفة، فلولاها لما وصل العالم إلى ما هو عليه اليوم من التطوّر العلميّ والتكنولوجيّ. لن ننسى دور الإدريسيّ في الجغرافيا، ودور الخوارزميّ في الرياضيات، ودور ابن الهيثم في العلوم، وغيرهم من العلماء العرب والمسلمين. وبطبيعة الحال، كان هناك دورًا للأمم السّابقة في بناء الحضارات، فالحضارة الإنسانيّة عبارة عن سلسلة، كل أمّة من الأمم تُضيف حلقة في هذه السّلسة، فالاكتشافات والاختراعات الحديثة لا تُجيّر إلى الحضارة الغربيّة المعاصرة، لأنها بنت علومها على علوم الأمم السّابقة.

قائمة المراجع:

Erläuterungen zu der von K. Miller, Stuttgart, 1928 zum erstenmal herausgegebenen grossen farbigen Weltkarte des Idrisi.

Miller, Konrad. Mappae Arabicae – arabische Welt-und Länderkarten.  Band I/II. Die Weltkarte des Idrisi vom Jahr 1154. Stuttgart : Selbstverlag, 1926.

Idrisi map – German – w 106 – 990025938860205171
Idrisi map – Arabic – w 106.1 – 990043688830205171

الفقه اليهودي: مصادر سلطته | طابون عخناي (فرن الأفعى)

الفقهاء اليهود هم السلطة الحصرية لمناقشة التشريعات الدينية ولا مكان للتدخّل السماوي في المسائل الفقهية. للمزيد في المقال.

كتاب الأحكام الشرعية

كتاب الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية للإسرائيليين

تعتبر مسألة مصادر سلطة مناقشة المسائل الفقهية وتحديد الشرائع غير التوراتية من المسائل المفاجئة، لا سيما للجمهور المسلم، لأن السلف اليهودي قد فرض أنه يتعيّن على الفقهاء أن لا يعتمدوا على الوحي أو الأحلام أو الإلهام في مناقشاتهم للمسائل الفقهية، بل عليهم أن يلتزموا بالعقل البشري واجتهاد الفقهاء حصرًا للبت في المسائل الفقهية. وأما بداية هذا النقاش، وفق التراث اليهودي، فقد ظهر في الحقبة الفاصلة بين خراب الهيكل الثاني وفشل ترّد بار كوخبا (70-136م)، ويطلق على فقهاء هذه الحقبة تعبير “الثنويون” (تنائيم – من لغة التلقين وقراءة وفحص النص على الدوام مرة بعد الأخرى).

ترد في إحدى صفحات التلمود البابلي (الباب الأوسط 59ب) قصة تعالج خلافًا فقهيًا ظهر بين هؤلاء الفقهاء، ودار هذا الخلاف حول مسألة فقهية محدّدة مرتبطة بالطّهارة والنّجاسة.

ولكن قبل الوقوف عند خلاصتها، نتوقف عند معنى الاسم “طابون عخناي”. عخناي، أو حخناي، هو تصحيف كلمة “أكيدنا” السريانية والمأخوذة من اليونانية وتعني أفعى، وهناك اعتقاد يقول إنَّ عخناي هو اسم علم كان يعمل في بناء الطوابين في حينه. أما “طابون” فهو فرن الطهي والخبيز، ويتشكّل من الطّوب بحيث تلتصق الطوب بعضها ببعض عن طريق وضع الرمل بين الواحدة والأخرى. أما “طابون عخناي” فهو ذلك الطابون الذي يتخذ شكل الأفعى حين تلتف حول نفسها. وهناك مجازًا تلموديًا يقول “هكيفوهو كتنورو شل عخناي” (أحاطوا به كطابون عخناي) ومعناه مجازًا: أحاطوا بالشيء من كلّ جانب. ويتلخّص السؤال المطروح أمام الفقهاء في كيفية التعامل مع هذا الطابون، هل يجب اعتباره أداة واحدة قائمة بذاتها، لا سيما وأنَّ الطين يوضع على الطوب من الخارج، أم كأداة مكسورة أو أداة ترابية، ووفق الفقيه شلومو يتسحاقي (فرنسا ت. 1105م) فقد اعتبر الفقيه إليعازر هذا الطابون شأنه كشأن عمارة البيت، وبهذا يحكم عليه كالحكم على عناصره المكوّنة له، ألا وهو التراب الذي يعتبر طاهرًا ولا تلحقه نجاسة بحسب الشريعة اليهودية التقليدية. فإذا قمنا بتفكيك هذا الطابون إلى عناصره المكوّنة له وأعدنا بناءه من جديد بواسطة لصق أجزاء الطّوب بواسطة الطين، هل يعتبر في هذه الحالة أداة لا تقبل النجاسة، لأن عناصره لا تقبل النجاسة (لأنه من التراب بالأصل)، أم لا، كما اعتقدت غالبية الفقهاء في حينه لأنه أداة واحدة متكاملة، والعديد من الأدوات المستخدمة في الطهي تقبل النجاسة، بصرف النظر عن العناصر المكوّنة له؟

تحوّل هذا النقاش الفقهي إلى خلاف مبدئي بشأن مكانة الوحي في مختلف درجاته ومراتبه والمعجزات و”هاتف من السّماء” (بت قول) في المسائل الفقهية. وتجدر الإشارة إلى أن رجال الدين في اليهودية يتمتّعون بدرجات قداسة معينة تؤهّلهم التواصل مع الوحي. بعبارات أخرى، فقد تحوّل النقاش إلى خلاف بشأن مصادر سلطة البت في المسائل الفقهية، هل يمكن الاعتماد على رسائل إلهية في تحديد الشرائع فقهيًا والبت عمومًا في مسائل فقهية، أم لا؟ فيمكن أن يأتي أحد الفقهاء في سياق مناقشة مسألة فقهية معينة ويدّعي استنادًا إلى عبارة توراتية معينة، أو القول إنه جاءه وحي من السّماء في الحلم أو اليقظة ليخبره بالشرع “السليم” الذي يجب التوصّل إليه في المسألة الفقهية المطروحة؛ بينما يأتي فقيه آخر فيدّعي مثله ولكن وحيه أخبره بشرع “سليم” آخر يجب اعتماده. ما هو العمل في مثل هذه الحالة؟ الحل الذي توصّل إليه الفقهاء حقبة “الثنويّين” عبر مناقشة مسألة “طابون عخناي”، هو أنَّ المسائل الفقهية مرتبطة حصرًا بالفقهاء أنفسهم والحجج التي يطروحنها واعتماد رأي الأغلبية في نهاية المطاف، استنادًا إلى العبارة التوراتية “وراءَ الأكثر فَمِلْ” (الخروج 23: 2- ترجمة سعيد الفيومي)، والتي تحوّلت إلى إحدى وصايا التوراة الـ613 المفروضة على اليهود جماعة وأفرادًا. ولكن تجدر الإشارة إلى أن الجملة التوراتية الكاملة التي أخذت منها هذه العبارة ترد بصياغة سلبية: “لا تَتْبَعِ الكثيرينَ إلى فِعْلِ الشَّرِّ، ولا تُجِبْ في دعوى مائلًا وراءَ الكثيرينَ للتَّحريفِ” (ترجمة فاندايك)، أيّ توصي هذه الجملة التوراتية عدم اتّباع رأي الأكثرية إذا كان يميل إلى الشرور وعدم الاستقامة، ولكنها لا تقول صراحة إنه يجب اعتماد رأي الأغلبية في الأمور الفقهية وأمور أخرى.

كتاب في فقه الذبيحة مقاصدها لأحد رجال الدين القرائيّين، غير معروف مؤلفها ولا زمان كتابته وربما في مصر.
كتاب في فقه الذبيحة مقاصدها لأحد رجال الدين القرائيّين، غير معروف مؤلفها ولا زمان كتابته وربما في مصر.

 

حاول الراب إليعازر بن هوركنيس، ممثّل التيار التقليدي في الفقه، أن يدعم الرأي الأول القائل إنَّ مسألة قبول أو عدم قبول الأداة النجاسة مرتبطة بقبول أو عدم قبول العناصر المكوّنة له النجاسة، من خلال الاستعانة بمعجزات والوحي. رفض طرف الأغلبية، وعلى رأسهم الراب يهوشع، جميع هذه الأسانيد والمعجزات وقول الوحي، وتعلّقوا بطرح مبدئي مفاده أنه لا مكان للتدخّل السماوي في المسائل الفقهية، استنادًا إلى عبارة توراتية “ليست هي بالسّماء” (التثنية 30: 12)، بل ترتبط هذه المسائل بصورة حصرية بالفقهاء أنفسهم، ويجب اعتماد رأي أغلبية الفقهاء في إصدار الأحكام بشأنها. وتجدر الإشارة إلى أنَّ هذا الطرح المبدئي استُخدم كذلك في تفسير التوراة ودراسة آثار الفقهاء السلف، فالتوراة بعد أن نزلت على موسى أصبحت بين يدي البشر، وهم المخوّلون حصرًا للبتّ فيها وتفسيرها، ولا دخل للرّب ولا للوحي في هذه الأمور.

ومن الهام بمكان الإشارة إلى أنَّ هذا النقاش يرتبط بصورة كبيرة بالثورة الدينية التي أحدثها الراب يوحنان بن زكايّ في أعقاب خراب الهيكل الثاني (70م)، والذي كان يعتبر حتى تلك الفترة مركز العبادة الحصري، وكانت العبادة تتمحور بالأساس حول تقديم القرابين والتقدمات. وعلى إثر خراب الهيكل، كان لزامًا على رجال الدين إدخال تغييرات كبيرة، فاستبدلت العبادة القديمة بفعل غياب الهيكل، بطقوس وممارسات بديلة، كالصلاة وقراءة التوراة ودراسته والبحث في آثار الفقهاء السلف وبناء الكنس. ولفعل ذلك كان يجب إعادة بناء المجمع الفقهي الأعلى (أو المحكمة العليا/السنهدرين) لطرح هذه الطقوس والممارسات البديلة والتصديق عليها.

الصلاة اليهودية بمختلف أنواعها ومواسمها وأزمانها

التلمود البابلي، الباب الأوسط 59ب: ترجمة

والتالي هو ما يعرف باسم طابون/فرن عخنايّ. تساءل (الفقهاء): ما معنى عخنايّ (أفعى) ولماذا أطلق عليه هذا الاسم؟ أجاب الراب يهودا عن صموئيل: لقد أحاط الفقهاء بالمسألة من كل جانب، كالأفعى التي تلتف حول نفسها، فنجّسوها. وردّد (الفقهاء) القول: في ذلك اليوم حين ناقش الفقهاء المسألة، طرح الراب إليعازر جميع الحجج الممكنة من أجل تعزيز رأيه، ولكنهم لم يقتنعوا بكل ذلك.

خاطبهم إليعازر قائلًا: إذا كان فقه الشريعة يتوافق مع رأيي، ستثبت شجرة الخروب هذه ذلك، فانتقلت شجرة الخروب من مكانها مسافة مائة ذراع، ويقول البعض بل أربعمائة ذراع. أجابه الفقهاء: لا نأخذ الدليل الشرعي من شجرة خروب. ثم قال لهم الفقيه إليعازر: إذا كان فقه الشريعة يتوافق مع رأيي، ستثبت قناة المياه ذلك، فتحوّل اتجاه الماء في القناة إلى الخلف. أجابه (الفقهاء): لا نأخذ الدليل الشرعي من قناة مياه. ثم قال لهم الفقيه إليعازر: إذا كان فقه الشريعة يتوافق مع رأيي، ستثبت جدران قاعة المجلس الفقهي ذلك، فمالت جدران القاعة إلى الداخل وكانت على وشك السقوط. وجّه الفقيه يهوشع صرخة باتجاه الجدران قائلًا لها: إذا كان فقهاء التوراة يتناقشون فيما بينهم في أمور فقه الشريعة، ما علاقتك بهذا النقاش؟ لم تسقط الجدران احترامًا للفقيه يهوشع، ولكنها لم تستقم احترامًا للفقيه إليعازر، وما زالت مائلة. عاد الفقيه إليعازر وقال لهم: إذا كان فقه الشريعة يتوافق مع رأيي، ستثبت السّماء ذلك. خرج هاتف من السّماء (بت قول) قائلًا: لماذا تخالفون الفقيه إليعازر، فإنَّ فقه الشريعة يتوافق مع رأيه في كل مسألة؟

وقف الراب يهوشع على رجليه وقال: “ليست هي بالسّماء” (التثنية 30: 12). يتساءل الفقهاء: ما علاقة عبارة “ليست هي بالسّماء” في هذا النقاش؟ أجاب الراب إرميا: بما أنَّ التوراة أعطيت في طور سيناء، فإننا لا نأخذ برأي الهاتف من السّماء، كما جاء في التوراة في طور سيناء: “مائلًا وراءَ الكثيرينَ” (الخروج 23: 2)، وبما أنَّ رأي غالبية الفقهاء خالف رأي الفقيه إليعازر، ففقه الشريعة لا يأخذ برأيه (بل ملتزم برأي الأغلبية). ويروي الفقهاء أنه بعد سنوات، التقى الفقيه ناتان بإيليا النبي وقال له: ماذا فعل القدوس تبارك اسمه في ذلك الوقت (عندما أصدر الفقيه يهوشع الحكم)؟ قال له إيليا: ابتسم القدوس تبارك اسمه وقال: لقد انتصر أبنائي عليّ، انتصر أبنائي عليّ.

يوسيف هكوهن بن شموئيل هليفي (عاش في القرن الـ14 أو الـ15)، كتاب في معاني شروط الذبيحة وتلخيص مقاصدها יוסף הכהן בן שמואל הלוי

يوسيف هكوهن بن شموئيل هليفي (عاش في القرن الـ14 أو الـ15)، كتاب في معاني شروط الذبيحة وتلخيص مقاصدها יוסף הכהן בן שמואל הלוי

 

قال الفقهاء: في ذلك اليوم، أحضروا جميع المأكولات التي أجازها الفقيه إليعازر بصفتها طاهرة وقذفوها في النار (لحرقها في الطابون/الفرن لأنها بحكم النجسة)، واتفق الفقهاء على هذا الحكم في ذلك ونبذوه (الفقيه إليعازر). وقال الفقهاء: من يذهب ليخبره بقرار نبذه؟ قال لهم الراب عكيفا (التلميذ المحبّب عليه): أنا أذهب لئلَّا يذهب آخر غير لائق فيبلغه بطريقة مهينة فيدمّر بالتالي العالم بأسره.

حينما يَنطِقُ الطير: لوحة العطار السردية

قصيدة فريد الدين العطار السردية "منطق الطير" ووصفه رحلة الصوفي حتى اتحاده مع وجود الله في داخله. فكيف سخّر الشعر لسرد قصته؟

منمنمة فارسية للرسام حبيب الله بعنوان "منطق الطير" موجودة في متحف الميتروبوليتان في نيويورك

على الرّغمِ من أنَّ التجاربَ الصّوفيةِ لا يمكنُ أبدًا التعبيرَ الكاملَ عنها باستخدام اللغة، حاولَ الصّوفيّونُ مراراً عبر التاريخ نقل تجاربهم بالموسيقى و الفنون البصّريةِ والأدب.

إنَّ أحدَ أكثرِ أعمالِ الشعرِ الصوفيِّ احترامًا وأهمية في التاريخ هو العملُ الضخم المسمّى ب”مَنطِقِ الطّير”، وهو مجموعةُ منَ القصائدِ للشاعرِ الفارسيِّ فريد الدين العطار والتي تعود للقرن الثالث عشر.

وُلد العطار في مدينةِ نيسابور في ما يُعرف اليوم بشمالِ شرق إيران وقضى معظم حياته في تلك المدينة. سنة ميلاده غير مؤكدة ولكن يبدو أنه بدأ حياته في وقت ما في أوائل منتصف القرن الثاني عشر و عاش حتى العقود الأولى من القرن الثالث عشر،اسمه الأصلي محمد و لقبه العطار، اذ يُرجح أنه انحدر من عائلة من العطارين أو الصيادلة.

هناك بشكل أساسي سبعة أعمال تنسب  إلى العطار ، أحدها هو عمل نثري يسمى تذكرة الأولياء وهو عبارة عن سلسلة من روايات السيرة الذاتية للصوفيين الأوائل. أما بقية أعماله فهي شعرية بمعظمها تشمل  ديوان،وهي مجموعة قصائدية متنوعة ،و كتاب أسرار نامه و كتاب مختار نامه. أما أشهر أعماله  والتي ستتناولها المقال القصيدة الطويلة بعنوان منطق الطير.

نُبين في هذا المقال كيف استعمل العطار كلماته لرسم صورة ممتعة عن رحلة الصوفيّ مستعينين بالنسخة العربية من الكتاب من ترجمة و دراسة الدكتور بديع جمعة.

 

نسخة ل”منطق الطير” للخطاط سلطان علي المشهدي،عام 1600م ، موجودة في متحف الميتروبوليتان في نيويورك (صورة توضيحية)

 

منطق الطّير

منطق الطير -أي حديث الطير- هو مصطلح مأخوذّ على الأرجحٍ من القرآن الكريم من سورة النمل ” وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ”1

تصّورُ كلماتِ القصيدةِ المفاهيم الصوفية من خلال سرد حكاية عن رحلة للطيور.تحكي القصيدة قصة اجتماع جميع طيور العالم لمناقشة من ينبغي عليهم تعيينهُ ملكًا لهم وبعد استصعابهم الامر يبدأ الهدهد، وهو أكثر الطيور حكمةً، في التحدث  مشيراً الى أن هناكَ طائرًا عظيمًا وأسطوريًا يُدعى سيمرغ يعيشُ في أرضٍ بعيدةٍ وأن عليهم الذهابَ للعثورِ عليه لمقابلة ملكهم الحقيقي، ولكن الطريق إلى هناك ستكون صعبة ومليئة بالعديد من المخاطرِ والعقبات.

يرفضُ قسمٌ من الطيور الذهاب مع الهدد متعللاً كلٌ منهم بعذرٍ مختلف، هنا يُمثِّلُ كلُّ طائرٍ جانبًا من النفس أو الأنا التي تتشبث بالأمور الدنيوية، فطائرٌ متعلقٌ بممتلكاتهِ وآخرٌ بسمعته.

يَرُدُّ الهدهد بدحضِ حُجَجِهم عن طريقِ سردِ حكاياتِ مأخوذة من أساطير شعبية أو من حياة الصوفيينَ السابقين، وكلها لها دلالةَ واضحة تنتقد ميلَ الإنسانِ إلى الانشغالِ بالنفس والدنيا. وبهذا يتمكّن الهدهدُ من إقناعِ عددٍ كبيرٍ من الطيور بالذهاب معهُ في هذه الرحلة الشاقة.

 

الرحلة

يمرُّ الطيورُ في رحلتهم  بسبعةِ أوديةٍ، لكل وادٍ اسمٌ خاص به ذو دلالة. هذه الأودية هي وادي الطلب الذي هو بداية الرحلة، فيها يبدأُ سالكُ الطريقِ (أي الصوفي) بالتخلي عن متعلقاته الدنيويةِ و يسعى لطلب “الحقيقة” ،مروراً بوادي العشق حيث تتخلّى الطيورُعن عقلها وتعتنق الحب الذي يدفعها لتحمل مشاق الطريق للوصول للمحبوب ( أي الله سبحانه و تعالى).

أما الوادي الثالث فهو وادي المعرفة الذي فيه يصبح كل فردٍ مبصراً قدرَ استاطعته، ثم يجد صدره في الحقيقة، وعندما يشرق سر ذاته عليه، يصبح موقدُ حَمامِ الدنيا روضةً لديه، ويرى لبَّه في دخيلته لا في جسده، كما لن يرى نفسه لحظة، حيث يرى الحبيب وحده، ومهما يرى، فسيرى وجهه على الدوام”. والرابع هو وادي الإستغناء وهو دلالة على تخلّي الصوفي عن الذات أو الأنا. أما الوادي الخامس فهو وادي التوحيد الذي فيهِ يُدرك الصّوفي اتحاده مع الله.

وصولا ً للوادي السادس، وادي الحيرة، الذي يمثلُ محطةً مهمةً على الطريق حيث يشعر الصوفيُ ( متمثلا بالطيور بالقصيدة) فجأةَ بشعورٍ من عدم اليقين والشك بايمانه ومعتقداته.

و أخيراً تصلُ الطيورُ الوادي الأخير وهو وادي الفقر والفناء، والفناء هنا بالمعنى الإيجابي، فالفناءُ بشيءٍ يعني البقاء بغيره، أي فناءُ الفردِ بدنيوته و بقاء الله.

 

 

نسخة تيمورية لاحقة من كتاب منطق الطير لفريد الدين العطار ( ١٢٣٠م)، المكتبة البريطانية (صورة توضيحية)

 

لقاء السيمرغ

بعد اجتيازِ الطريقِ الطويلةِ و الشاقةِ تصلُ القصيدةُ إلى ذروتها التي جعلتها واحدة من أشهر القصائد في التاريخ. اذ يصلُ ثلاثون طيرا فقط من أصل المئات الذين بدأوا الرحلة، ويظهر نوع من الوصي لاستقبالهم وبعد استجوابهم يرى أنهم مستعدون بالفعل للقاء السيمرغ، لذلك يقودهم إلى البوابةِ التي خلفها يكمنُ الجواب على كل أسئلتهم. ولكن عندما يصلون إلى تلك النقطةِ الأخيرةِ المنتظرة يتفاجؤونَ بأنفسهم يحدّقونَ بانعكاسهم بدلاً من لقاء ملكهم الذي وُعِدوا.

هنا يَكشِفُ العطّارُعن السرِّالعظيمِ الذي يكمُنُ في قلبِ القصةِ بأكملها، والمخبئ بالكلمة الفارسية” سيمرغ”.

“سي-مرغ ” تعني حرفيًا ثلاثين طائرًا . تبين أن الهدف من سعي الطيور لم يكن طائرًا قويًا كبيرًا أو شيئًا من هذا القبيل، بل كان الجوهرالأعمق لوجودهم.  بمعنى أن رحلتهم للبحثِ عن ملكهم ( أي الله سبحانه وتعالى ) لم تكن الا رحلةً للبحث عن نفسهم، و ليست الأولى بنقيض للثانية، بل على العكس، اذ يحاول ُالعطار بالقالب القصصي الممتع هذا تبيانَ الاعتقاد الصوفي بأن الله ليس شيئًا يمكنُ العثورُعليهِ في مكان ٍما ولكن في قلب المرء باعتباره جوهر كيانه.

 وعندما نظر الثلاثون طائرا على عجل ، رأوا أن السيمرغ هو الثلاثون طائرا . فوقعوا جميعا في الحيرة والاضطراب ، ولم يعرفوا هذا من ذاك،… فكلما نظروا صوبَ السيمرغ ، كان هو نفسه الثلاثين طائرا في ذلك المكان ، وكلما نظروا إلى أنفسهم ، كان الثلاثون طائرا هم ذلك الشيء الآخر. فهذا هو ذاك ، وذاك هو هذا ، وما سمع أحد قط في العالم بمثل هذا “

 

ما وراء القصة

إن الصور التي ينسجها العطار تحمِلُ بعضاً من أعمقِ الأفكار والمفاهيمِ الصوفيةِ وتنقلُ القارئَ إلى عالم مختلف. تمثِّلُ جميعُ أجزاءِ الحكاية جانبًا من جوانب الصوفية، أي أن الطيور تمثلنا نحن البشر والرغبات والارتباطات المختلفة لدينا تجاه العالم.

ويمثل الهدهد الشيخ الصوفي الذي يقود تلميذه على الطريق الروحي إلى الله، ويمثل هذا الطريق الرحلة التي تسيرها الطيور وتمثل الوديان السبعة المراحل أو المحطات التي سيمر بها الصوفي في هذه العملية لتنقية روحه في سبيل الاتحاد مع الله بحسب العطار.

أما السيمرغ فيمثل الله ،أي الحقيقة المطلقة، الذي تَبيَّنَ في النهايةِ حضوره في كلِّ ما حولنا في الواقع وأننا مجرد انعكاس لكيانه اللامتناهي.

هذه القصيدة شكّلت  تطوّرا للفن الصوفي، اذ استلهم العديد من الكتاب و الشعراء الصوفيين و غيرهم  الطريقة التي يعبر بها عن الجوانب العملية والفلسفية للصوفية من خلال القصص السردية والشعر الجميل. وهذا لم يَغب عن شخصيات مثل الرومي. في الواقع، الرومي هو مجرد مثال واحد لشخصيةِ اعتبرت العطارَ أحدَ مصدرِ إلهامٍ لها، اذ يُرجّح بأنَّ أحد أشهر كتبه ” المثنوي” اعتمدت أسلوب العطار الشعري ذاته2.

الى جانب الرومي، استخدم العديد من المفكرين اللاحقين الكثير من الصور التي ابتكرها العطار في هذه القصيدة وأسلوب التعبير حتى من خارج الإسلام والصوفية. فبهاء الله، مؤسس العقيدة البهائية، كتب عملاً بعنوان “الوديان السبعة” المستوحى بشكل واضح من قصة منطق الطير.

اليوم لا تزال القصيدة تُلهم أعمال ثقافية مختلفة منها  ألبومات موسيقية تحمل اسم روايات ترويها القصيدة، لذا يظل العطار أحد أشهر الأسماء في الصوفية وفي الشعر الفارسي ليومنا هذا.

روبرت لخمان: باحث في جذور الموسيقى العربية في الجامعة العبرية

يمكن القول إن لاخمان يعتبر الأب الروحي للأرشيف الصوتي التابع للمكتبة الوطنية، واستمرت أجيال من الباحثين في الموسيقى على طريقه.

روبرت لخمان مع مساعدته، القدس، 1936، أرشيف لخمان في الجامعة العبرية.

بدأ روبرت لاخمان، الموسيقي اليهودي الألماني، رحلة بحثه عن الموسيقى في سنٍ مبكّر، حيث ولد في برلين والتحق للدراسة في جامعتها وجامعة لندن مع التركيز على اللغتين الفرنسية والعربية. خلال الحرب العالمية الأولى، عمل كمترجم فوري في معسكر الاعتقال Wunsdrof لأسرى الحرب الّذي كان يسكنه أسرى من شمال إفريقيا والهند.

في هذا المعسكر، تعرّف لاخمان للمرة الأولى على الموسيقى والفلوكلور غير الغربي، وبدأ على العمل على تدوين ونسخ أغاني السجناء، تجربته في هذا المكان، زرعت البذور الأولى لبحث الدكتوراه الخاص به حول موسيقى شمال إفريقيا.

تسجيل الموسيقى الشرقية

بعد الحرب بدأ لاخمان دراسة علم الموسيقى في جامعة برلين، تحت إشراف يوهانس وولف وكارل شتومبف، ثم حصل على الدكتوراه عام 1922 بأطروحة حول الموسيقى الحضرية في تونس، استنادًا إلى تسجيلاته الميدانية خلال عدة رحلات بحثية في المنطقة. وفي السنوات الّتي تلت ذلك، قام لاخمان بعدد من الرحلات البحثية الإضافية إلى شمال إفريقيا، حيث قام بتسجيل وتوثيق الممارسات الموسيقية للمجتمعات في طرابلس وتونس والمغرب.

في عام 1929 أثناء إحدى جولاته في جزيرة جربة التونسية، سجّل لاخمان التقاليد الموسيقية الليتورجية وشبه الطقسية للمجتمع اليهودي المحلي، وهي المادة الّتي تعتبر نقطة الانطلاق لعمله الأساسي الترنيمة اليهودية والأغنية في جزيرة جربة (1940). كان انكشافه الأول للموسيقى الليتورجية الشرقية حدث أثناء دراسته للجالية اليهودية في جربة، وهو المجال الّذي تابع دراسته وتدريسه لاحقًا في القدس.

عمل لاخمان بين الأعوام 1927-1933 أمينًا لمكتبة قسم الموسيقى بمكتبة بلدية برلين، حيث ترأس مشروعًا لترجمة العديد من المقالات الموسيقية الهامة في العصور الوسطى. وفي عام 1930 أسس مع أساتذته في الجامعة جمعية أبحاث الموسيقى الشرقية، حيث تم تعيينه لاحقًا محررًا لمجلتهم الفصلية، والّتي كانت مطبوعة لمدة ثلاث سنوات، حتى أدت الضغوط المتزايدة إلى إغلاق المركز عام 1935.

في عام 1932 تم تعيين لاخمان رئيسًا للجنة التسجيلات الصوتية لمؤتمر الموسيقى العربية في القاهرة، حيث كان مسؤولًا عن تسجيل عروض الفنانين والفرق المدعوة إلى المؤتمر. وفي 1935 تم طرده من منصبه في مكتبة بلدية برلين من قبل المسؤولين النازيين، فهاجر في العام نفسه إلى القدس بناءً على دعوة من جي إل ماغنيس لتأسيس أرشيف الموسيقى الشرقية في الجامعة العبرية بالقدس.

أمضى لاخمان حوالي ثلاث سنوات قبل هجرته النهائية إلى فلسطين الانتدابية في تجهيز مكتبته وأرشيفه تحسبًا لانتقاله من ألمانيا، وحتى بعد هجرته، سافر إلى برلين عدة مرات وقام بنسخ التسجيلات على أسطوانات الشمع، بما في ذلك تسجيلات أبراهام زيفي إديلسون والّتي وصلت منها نسخ إلى برلين قادمة من فيينا. يمكن الاستماع لها هنا.

بعد هجرته إلى فلسطين، وقبل وصول النازيين إلى الحكم، قدّم لاخمان بحثه عن الموسيقى العربية في المؤتمر العالمي للموسيقى العربية في القاهرة عام 1932. التقى هناك العديد من الموسيقيين اليهود، بما في ذلك الموسيقار والملحّن اليهودي العراقي عزرا أهارون، الّذي مثّل موسيقى بلاده نيابةً عن حاكم العراق آنذاك. هاجر عزرا ابراهيم إلى فلسطين عام 1934 وأصبح أحد موضوعات بحث لاخمان الرئيسية، وشخصية رئيسية في دوائر الموسيقى الشرقية في القدس وبقية البلاد. افتتح راديو فلسطين بثه لاحقًا عام 1936 بعزف مقطوعة موسيقية من عزرا أهارون. لم يتوقع أهارون أن انتقاله إلى فلسطين ذلك العام سيمنعه من العودة إلى العراق، لكن التطورات السياسية والعسكرية لاحقًا منعته من العودة إلى بلاده.

تأسيس أرشيف الموسيقى في القدس

قبل مغادرة لاخمان لبرلين، كان يبحث عن طريقة لتأسيس مركز أبحاث حول الموسيقى الشرقية، وقام بالتواصل مع ممثلي الجامعة العبرية، وتلقى ردًا من رئيس الجامعة الدكتور يهودا ليب ماغنيس الّذي دعاه عام 1935 لإنشاء أرشيف للموسيقى الشرقية. وكان الهدف هو إنشاء أرشيف صوتي يقوم بتسجيل وتحليل التسجيلات مع استوديو ومعدات تسجيل وفني صوت.

لذلك، في عام 1936 وصل لاخمان إلى فلسطين بتصريح من الحكومة البريطانية الانتدابية، حاملًا معه نسخًا من التسجيلات الّتي تم تسجيلها في تونس والتي تم تخزينها في الأرشيف الصوتي في برلين. كانت هذه تسجيلات قد قام بها أبراهام زيفي أديلسون “أب الموسيقى اليهودية” الّذي أقام في القدس من عام 1907 حتى 1929. كما أحضر معه نسخًا من تسجيلاته الأخرى وسجلات الموسيقى الشرقية من الشرقين الأدنى والأقصى، بالإضافة إلى التمويل الّذي حصل عليه ليعمل معه فني الصوت والتر شور.

استمر عمل لاخمان في الأرشيف سنوات ثلاث، وقد واجهت الجامعة صعوبة في فهم أهدافه وأبحاثه، وأبلغوه عام 1938 بقطع التمويل عن مشروعه.

أدار لاخمان الأرشيف بمساعدة والتر شور فنيّ الصوت، خلال السنوات الأربع التي سبقت وفاته عام 1939 تمكّن من تسجيل 1000 مادة جديدة، معظمها مقاطع صوتية للموسيقى اللتورجية الشرقية. كان الهدف الرئيسي للاخمان في البحث عن موسيقى المجتمعات اليهودية الشرقية، هو وضع تقاليدها في السياق الأوسع للممارسات الموسيقية في الشرق الأدنى، وبالتالي خلق نموذج تاريخي ومقارن لمُجمل الموسيقى الشرقية والآسيوية.

وقد كانت المواضيع الّتي اهتم بها لاخمان كما سمّاها: الموسيقى السامرية – 233 تسجيلًا، الموسيقى اليهودية: الأكراد – 12 تسجيلًا، اليمنيون – 75 تسجيلًا، الغربية – 51 تسجيلًا، المجتمعات الأخرى – 25 تسجيلًا، الموسيقى الشعبية المعاصرة – 34 تسجيلًا، الموسيقى العربية: البدو – 23 تسجيلًا. وغيرها عشرات الموضوعات الأخرى.

روبرت لخمان خلال التسجيل

 

إعادة الإحياء للأرشيف

منذ عدة سنوات قامت تلميذة لاخمان الباحثة إديث جيرسون – كيوي بإحياء وأرشقة الأرشيف الموسيقي لأستاذها، فواصلت عمله وحافظت على مجموعة الموسيقى الشرقية حتى إنشاء الأرشيف الصوتي الوطني على يد البروفيسور إسرائيل أدلر، كجزء من المكتبة الوطنية الإسرائيلية عام 1965. لسنوات رفضت كيوي تسليم الأرشيف الخاص بلاخمان للمكتبة الوطنية، وفي الثمانينيّات سلّمت الأرشيف مع أرشيفها الخاص الّذي يحتوي على كتابات وملاحظات ورسائل لاخمان.

يمكن القول إن لاخمان يعتبر الأب الروحي للأرشيف الصوتي التابع للمكتبة الوطنية، واستمرت أجيال من الباحثين في الموسيقى على طريقه، وآخرين اختاروا مواضيع بحثه في الموسيقى الشرقية ليكملوها ويطوّروها ويستمروا بها.