الفقه اليهودي: مصادر سلطته | طابون عخناي (فرن الأفعى)

الفقهاء اليهود هم السلطة الحصرية لمناقشة التشريعات الدينية ولا مكان للتدخّل السماوي في المسائل الفقهية. للمزيد في المقال.

كتاب الأحكام الشرعية

كتاب الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية للإسرائيليين

تعتبر مسألة مصادر سلطة مناقشة المسائل الفقهية وتحديد الشرائع غير التوراتية من المسائل المفاجئة، لا سيما للجمهور المسلم، لأن السلف اليهودي قد فرض أنه يتعيّن على الفقهاء أن لا يعتمدوا على الوحي أو الأحلام أو الإلهام في مناقشاتهم للمسائل الفقهية، بل عليهم أن يلتزموا بالعقل البشري واجتهاد الفقهاء حصرًا للبت في المسائل الفقهية. وأما بداية هذا النقاش، وفق التراث اليهودي، فقد ظهر في الحقبة الفاصلة بين خراب الهيكل الثاني وفشل ترّد بار كوخبا (70-136م)، ويطلق على فقهاء هذه الحقبة تعبير “الثنويون” (تنائيم – من لغة التلقين وقراءة وفحص النص على الدوام مرة بعد الأخرى).

ترد في إحدى صفحات التلمود البابلي (الباب الأوسط 59ب) قصة تعالج خلافًا فقهيًا ظهر بين هؤلاء الفقهاء، ودار هذا الخلاف حول مسألة فقهية محدّدة مرتبطة بالطّهارة والنّجاسة.

ولكن قبل الوقوف عند خلاصتها، نتوقف عند معنى الاسم “طابون عخناي”. عخناي، أو حخناي، هو تصحيف كلمة “أكيدنا” السريانية والمأخوذة من اليونانية وتعني أفعى، وهناك اعتقاد يقول إنَّ عخناي هو اسم علم كان يعمل في بناء الطوابين في حينه. أما “طابون” فهو فرن الطهي والخبيز، ويتشكّل من الطّوب بحيث تلتصق الطوب بعضها ببعض عن طريق وضع الرمل بين الواحدة والأخرى. أما “طابون عخناي” فهو ذلك الطابون الذي يتخذ شكل الأفعى حين تلتف حول نفسها. وهناك مجازًا تلموديًا يقول “هكيفوهو كتنورو شل عخناي” (أحاطوا به كطابون عخناي) ومعناه مجازًا: أحاطوا بالشيء من كلّ جانب. ويتلخّص السؤال المطروح أمام الفقهاء في كيفية التعامل مع هذا الطابون، هل يجب اعتباره أداة واحدة قائمة بذاتها، لا سيما وأنَّ الطين يوضع على الطوب من الخارج، أم كأداة مكسورة أو أداة ترابية، ووفق الفقيه شلومو يتسحاقي (فرنسا ت. 1105م) فقد اعتبر الفقيه إليعازر هذا الطابون شأنه كشأن عمارة البيت، وبهذا يحكم عليه كالحكم على عناصره المكوّنة له، ألا وهو التراب الذي يعتبر طاهرًا ولا تلحقه نجاسة بحسب الشريعة اليهودية التقليدية. فإذا قمنا بتفكيك هذا الطابون إلى عناصره المكوّنة له وأعدنا بناءه من جديد بواسطة لصق أجزاء الطّوب بواسطة الطين، هل يعتبر في هذه الحالة أداة لا تقبل النجاسة، لأن عناصره لا تقبل النجاسة (لأنه من التراب بالأصل)، أم لا، كما اعتقدت غالبية الفقهاء في حينه لأنه أداة واحدة متكاملة، والعديد من الأدوات المستخدمة في الطهي تقبل النجاسة، بصرف النظر عن العناصر المكوّنة له؟

تحوّل هذا النقاش الفقهي إلى خلاف مبدئي بشأن مكانة الوحي في مختلف درجاته ومراتبه والمعجزات و”هاتف من السّماء” (بت قول) في المسائل الفقهية. وتجدر الإشارة إلى أن رجال الدين في اليهودية يتمتّعون بدرجات قداسة معينة تؤهّلهم التواصل مع الوحي. بعبارات أخرى، فقد تحوّل النقاش إلى خلاف بشأن مصادر سلطة البت في المسائل الفقهية، هل يمكن الاعتماد على رسائل إلهية في تحديد الشرائع فقهيًا والبت عمومًا في مسائل فقهية، أم لا؟ فيمكن أن يأتي أحد الفقهاء في سياق مناقشة مسألة فقهية معينة ويدّعي استنادًا إلى عبارة توراتية معينة، أو القول إنه جاءه وحي من السّماء في الحلم أو اليقظة ليخبره بالشرع “السليم” الذي يجب التوصّل إليه في المسألة الفقهية المطروحة؛ بينما يأتي فقيه آخر فيدّعي مثله ولكن وحيه أخبره بشرع “سليم” آخر يجب اعتماده. ما هو العمل في مثل هذه الحالة؟ الحل الذي توصّل إليه الفقهاء حقبة “الثنويّين” عبر مناقشة مسألة “طابون عخناي”، هو أنَّ المسائل الفقهية مرتبطة حصرًا بالفقهاء أنفسهم والحجج التي يطروحنها واعتماد رأي الأغلبية في نهاية المطاف، استنادًا إلى العبارة التوراتية “وراءَ الأكثر فَمِلْ” (الخروج 23: 2- ترجمة سعيد الفيومي)، والتي تحوّلت إلى إحدى وصايا التوراة الـ613 المفروضة على اليهود جماعة وأفرادًا. ولكن تجدر الإشارة إلى أن الجملة التوراتية الكاملة التي أخذت منها هذه العبارة ترد بصياغة سلبية: “لا تَتْبَعِ الكثيرينَ إلى فِعْلِ الشَّرِّ، ولا تُجِبْ في دعوى مائلًا وراءَ الكثيرينَ للتَّحريفِ” (ترجمة فاندايك)، أيّ توصي هذه الجملة التوراتية عدم اتّباع رأي الأكثرية إذا كان يميل إلى الشرور وعدم الاستقامة، ولكنها لا تقول صراحة إنه يجب اعتماد رأي الأغلبية في الأمور الفقهية وأمور أخرى.

كتاب في فقه الذبيحة مقاصدها لأحد رجال الدين القرائيّين، غير معروف مؤلفها ولا زمان كتابته وربما في مصر.
كتاب في فقه الذبيحة مقاصدها لأحد رجال الدين القرائيّين، غير معروف مؤلفها ولا زمان كتابته وربما في مصر.

 

حاول الراب إليعازر بن هوركنيس، ممثّل التيار التقليدي في الفقه، أن يدعم الرأي الأول القائل إنَّ مسألة قبول أو عدم قبول الأداة النجاسة مرتبطة بقبول أو عدم قبول العناصر المكوّنة له النجاسة، من خلال الاستعانة بمعجزات والوحي. رفض طرف الأغلبية، وعلى رأسهم الراب يهوشع، جميع هذه الأسانيد والمعجزات وقول الوحي، وتعلّقوا بطرح مبدئي مفاده أنه لا مكان للتدخّل السماوي في المسائل الفقهية، استنادًا إلى عبارة توراتية “ليست هي بالسّماء” (التثنية 30: 12)، بل ترتبط هذه المسائل بصورة حصرية بالفقهاء أنفسهم، ويجب اعتماد رأي أغلبية الفقهاء في إصدار الأحكام بشأنها. وتجدر الإشارة إلى أنَّ هذا الطرح المبدئي استُخدم كذلك في تفسير التوراة ودراسة آثار الفقهاء السلف، فالتوراة بعد أن نزلت على موسى أصبحت بين يدي البشر، وهم المخوّلون حصرًا للبتّ فيها وتفسيرها، ولا دخل للرّب ولا للوحي في هذه الأمور.

ومن الهام بمكان الإشارة إلى أنَّ هذا النقاش يرتبط بصورة كبيرة بالثورة الدينية التي أحدثها الراب يوحنان بن زكايّ في أعقاب خراب الهيكل الثاني (70م)، والذي كان يعتبر حتى تلك الفترة مركز العبادة الحصري، وكانت العبادة تتمحور بالأساس حول تقديم القرابين والتقدمات. وعلى إثر خراب الهيكل، كان لزامًا على رجال الدين إدخال تغييرات كبيرة، فاستبدلت العبادة القديمة بفعل غياب الهيكل، بطقوس وممارسات بديلة، كالصلاة وقراءة التوراة ودراسته والبحث في آثار الفقهاء السلف وبناء الكنس. ولفعل ذلك كان يجب إعادة بناء المجمع الفقهي الأعلى (أو المحكمة العليا/السنهدرين) لطرح هذه الطقوس والممارسات البديلة والتصديق عليها.

الصلاة اليهودية بمختلف أنواعها ومواسمها وأزمانها

التلمود البابلي، الباب الأوسط 59ب: ترجمة

والتالي هو ما يعرف باسم طابون/فرن عخنايّ. تساءل (الفقهاء): ما معنى عخنايّ (أفعى) ولماذا أطلق عليه هذا الاسم؟ أجاب الراب يهودا عن صموئيل: لقد أحاط الفقهاء بالمسألة من كل جانب، كالأفعى التي تلتف حول نفسها، فنجّسوها. وردّد (الفقهاء) القول: في ذلك اليوم حين ناقش الفقهاء المسألة، طرح الراب إليعازر جميع الحجج الممكنة من أجل تعزيز رأيه، ولكنهم لم يقتنعوا بكل ذلك.

خاطبهم إليعازر قائلًا: إذا كان فقه الشريعة يتوافق مع رأيي، ستثبت شجرة الخروب هذه ذلك، فانتقلت شجرة الخروب من مكانها مسافة مائة ذراع، ويقول البعض بل أربعمائة ذراع. أجابه الفقهاء: لا نأخذ الدليل الشرعي من شجرة خروب. ثم قال لهم الفقيه إليعازر: إذا كان فقه الشريعة يتوافق مع رأيي، ستثبت قناة المياه ذلك، فتحوّل اتجاه الماء في القناة إلى الخلف. أجابه (الفقهاء): لا نأخذ الدليل الشرعي من قناة مياه. ثم قال لهم الفقيه إليعازر: إذا كان فقه الشريعة يتوافق مع رأيي، ستثبت جدران قاعة المجلس الفقهي ذلك، فمالت جدران القاعة إلى الداخل وكانت على وشك السقوط. وجّه الفقيه يهوشع صرخة باتجاه الجدران قائلًا لها: إذا كان فقهاء التوراة يتناقشون فيما بينهم في أمور فقه الشريعة، ما علاقتك بهذا النقاش؟ لم تسقط الجدران احترامًا للفقيه يهوشع، ولكنها لم تستقم احترامًا للفقيه إليعازر، وما زالت مائلة. عاد الفقيه إليعازر وقال لهم: إذا كان فقه الشريعة يتوافق مع رأيي، ستثبت السّماء ذلك. خرج هاتف من السّماء (بت قول) قائلًا: لماذا تخالفون الفقيه إليعازر، فإنَّ فقه الشريعة يتوافق مع رأيه في كل مسألة؟

وقف الراب يهوشع على رجليه وقال: “ليست هي بالسّماء” (التثنية 30: 12). يتساءل الفقهاء: ما علاقة عبارة “ليست هي بالسّماء” في هذا النقاش؟ أجاب الراب إرميا: بما أنَّ التوراة أعطيت في طور سيناء، فإننا لا نأخذ برأي الهاتف من السّماء، كما جاء في التوراة في طور سيناء: “مائلًا وراءَ الكثيرينَ” (الخروج 23: 2)، وبما أنَّ رأي غالبية الفقهاء خالف رأي الفقيه إليعازر، ففقه الشريعة لا يأخذ برأيه (بل ملتزم برأي الأغلبية). ويروي الفقهاء أنه بعد سنوات، التقى الفقيه ناتان بإيليا النبي وقال له: ماذا فعل القدوس تبارك اسمه في ذلك الوقت (عندما أصدر الفقيه يهوشع الحكم)؟ قال له إيليا: ابتسم القدوس تبارك اسمه وقال: لقد انتصر أبنائي عليّ، انتصر أبنائي عليّ.

يوسيف هكوهن بن شموئيل هليفي (عاش في القرن الـ14 أو الـ15)، كتاب في معاني شروط الذبيحة وتلخيص مقاصدها יוסף הכהן בן שמואל הלוי

يوسيف هكوهن بن شموئيل هليفي (عاش في القرن الـ14 أو الـ15)، كتاب في معاني شروط الذبيحة وتلخيص مقاصدها יוסף הכהן בן שמואל הלוי

 

قال الفقهاء: في ذلك اليوم، أحضروا جميع المأكولات التي أجازها الفقيه إليعازر بصفتها طاهرة وقذفوها في النار (لحرقها في الطابون/الفرن لأنها بحكم النجسة)، واتفق الفقهاء على هذا الحكم في ذلك ونبذوه (الفقيه إليعازر). وقال الفقهاء: من يذهب ليخبره بقرار نبذه؟ قال لهم الراب عكيفا (التلميذ المحبّب عليه): أنا أذهب لئلَّا يذهب آخر غير لائق فيبلغه بطريقة مهينة فيدمّر بالتالي العالم بأسره.

روبرت لخمان: باحث في جذور الموسيقى العربية في الجامعة العبرية

يمكن القول إن لاخمان يعتبر الأب الروحي للأرشيف الصوتي التابع للمكتبة الوطنية، واستمرت أجيال من الباحثين في الموسيقى على طريقه.

روبرت لخمان مع مساعدته، القدس، 1936، أرشيف لخمان في الجامعة العبرية.

بدأ روبرت لاخمان، الموسيقي اليهودي الألماني، رحلة بحثه عن الموسيقى في سنٍ مبكّر، حيث ولد في برلين والتحق للدراسة في جامعتها وجامعة لندن مع التركيز على اللغتين الفرنسية والعربية. خلال الحرب العالمية الأولى، عمل كمترجم فوري في معسكر الاعتقال Wunsdrof لأسرى الحرب الّذي كان يسكنه أسرى من شمال إفريقيا والهند.

في هذا المعسكر، تعرّف لاخمان للمرة الأولى على الموسيقى والفلوكلور غير الغربي، وبدأ على العمل على تدوين ونسخ أغاني السجناء، تجربته في هذا المكان، زرعت البذور الأولى لبحث الدكتوراه الخاص به حول موسيقى شمال إفريقيا.

تسجيل الموسيقى الشرقية

بعد الحرب بدأ لاخمان دراسة علم الموسيقى في جامعة برلين، تحت إشراف يوهانس وولف وكارل شتومبف، ثم حصل على الدكتوراه عام 1922 بأطروحة حول الموسيقى الحضرية في تونس، استنادًا إلى تسجيلاته الميدانية خلال عدة رحلات بحثية في المنطقة. وفي السنوات الّتي تلت ذلك، قام لاخمان بعدد من الرحلات البحثية الإضافية إلى شمال إفريقيا، حيث قام بتسجيل وتوثيق الممارسات الموسيقية للمجتمعات في طرابلس وتونس والمغرب.

في عام 1929 أثناء إحدى جولاته في جزيرة جربة التونسية، سجّل لاخمان التقاليد الموسيقية الليتورجية وشبه الطقسية للمجتمع اليهودي المحلي، وهي المادة الّتي تعتبر نقطة الانطلاق لعمله الأساسي الترنيمة اليهودية والأغنية في جزيرة جربة (1940). كان انكشافه الأول للموسيقى الليتورجية الشرقية حدث أثناء دراسته للجالية اليهودية في جربة، وهو المجال الّذي تابع دراسته وتدريسه لاحقًا في القدس.

عمل لاخمان بين الأعوام 1927-1933 أمينًا لمكتبة قسم الموسيقى بمكتبة بلدية برلين، حيث ترأس مشروعًا لترجمة العديد من المقالات الموسيقية الهامة في العصور الوسطى. وفي عام 1930 أسس مع أساتذته في الجامعة جمعية أبحاث الموسيقى الشرقية، حيث تم تعيينه لاحقًا محررًا لمجلتهم الفصلية، والّتي كانت مطبوعة لمدة ثلاث سنوات، حتى أدت الضغوط المتزايدة إلى إغلاق المركز عام 1935.

في عام 1932 تم تعيين لاخمان رئيسًا للجنة التسجيلات الصوتية لمؤتمر الموسيقى العربية في القاهرة، حيث كان مسؤولًا عن تسجيل عروض الفنانين والفرق المدعوة إلى المؤتمر. وفي 1935 تم طرده من منصبه في مكتبة بلدية برلين من قبل المسؤولين النازيين، فهاجر في العام نفسه إلى القدس بناءً على دعوة من جي إل ماغنيس لتأسيس أرشيف الموسيقى الشرقية في الجامعة العبرية بالقدس.

أمضى لاخمان حوالي ثلاث سنوات قبل هجرته النهائية إلى فلسطين الانتدابية في تجهيز مكتبته وأرشيفه تحسبًا لانتقاله من ألمانيا، وحتى بعد هجرته، سافر إلى برلين عدة مرات وقام بنسخ التسجيلات على أسطوانات الشمع، بما في ذلك تسجيلات أبراهام زيفي إديلسون والّتي وصلت منها نسخ إلى برلين قادمة من فيينا. يمكن الاستماع لها هنا.

بعد هجرته إلى فلسطين، وقبل وصول النازيين إلى الحكم، قدّم لاخمان بحثه عن الموسيقى العربية في المؤتمر العالمي للموسيقى العربية في القاهرة عام 1932. التقى هناك العديد من الموسيقيين اليهود، بما في ذلك الموسيقار والملحّن اليهودي العراقي عزرا أهارون، الّذي مثّل موسيقى بلاده نيابةً عن حاكم العراق آنذاك. هاجر عزرا ابراهيم إلى فلسطين عام 1934 وأصبح أحد موضوعات بحث لاخمان الرئيسية، وشخصية رئيسية في دوائر الموسيقى الشرقية في القدس وبقية البلاد. افتتح راديو فلسطين بثه لاحقًا عام 1936 بعزف مقطوعة موسيقية من عزرا أهارون. لم يتوقع أهارون أن انتقاله إلى فلسطين ذلك العام سيمنعه من العودة إلى العراق، لكن التطورات السياسية والعسكرية لاحقًا منعته من العودة إلى بلاده.

تأسيس أرشيف الموسيقى في القدس

قبل مغادرة لاخمان لبرلين، كان يبحث عن طريقة لتأسيس مركز أبحاث حول الموسيقى الشرقية، وقام بالتواصل مع ممثلي الجامعة العبرية، وتلقى ردًا من رئيس الجامعة الدكتور يهودا ليب ماغنيس الّذي دعاه عام 1935 لإنشاء أرشيف للموسيقى الشرقية. وكان الهدف هو إنشاء أرشيف صوتي يقوم بتسجيل وتحليل التسجيلات مع استوديو ومعدات تسجيل وفني صوت.

لذلك، في عام 1936 وصل لاخمان إلى فلسطين بتصريح من الحكومة البريطانية الانتدابية، حاملًا معه نسخًا من التسجيلات الّتي تم تسجيلها في تونس والتي تم تخزينها في الأرشيف الصوتي في برلين. كانت هذه تسجيلات قد قام بها أبراهام زيفي أديلسون “أب الموسيقى اليهودية” الّذي أقام في القدس من عام 1907 حتى 1929. كما أحضر معه نسخًا من تسجيلاته الأخرى وسجلات الموسيقى الشرقية من الشرقين الأدنى والأقصى، بالإضافة إلى التمويل الّذي حصل عليه ليعمل معه فني الصوت والتر شور.

استمر عمل لاخمان في الأرشيف سنوات ثلاث، وقد واجهت الجامعة صعوبة في فهم أهدافه وأبحاثه، وأبلغوه عام 1938 بقطع التمويل عن مشروعه.

أدار لاخمان الأرشيف بمساعدة والتر شور فنيّ الصوت، خلال السنوات الأربع التي سبقت وفاته عام 1939 تمكّن من تسجيل 1000 مادة جديدة، معظمها مقاطع صوتية للموسيقى اللتورجية الشرقية. كان الهدف الرئيسي للاخمان في البحث عن موسيقى المجتمعات اليهودية الشرقية، هو وضع تقاليدها في السياق الأوسع للممارسات الموسيقية في الشرق الأدنى، وبالتالي خلق نموذج تاريخي ومقارن لمُجمل الموسيقى الشرقية والآسيوية.

وقد كانت المواضيع الّتي اهتم بها لاخمان كما سمّاها: الموسيقى السامرية – 233 تسجيلًا، الموسيقى اليهودية: الأكراد – 12 تسجيلًا، اليمنيون – 75 تسجيلًا، الغربية – 51 تسجيلًا، المجتمعات الأخرى – 25 تسجيلًا، الموسيقى الشعبية المعاصرة – 34 تسجيلًا، الموسيقى العربية: البدو – 23 تسجيلًا. وغيرها عشرات الموضوعات الأخرى.

روبرت لخمان خلال التسجيل

 

إعادة الإحياء للأرشيف

منذ عدة سنوات قامت تلميذة لاخمان الباحثة إديث جيرسون – كيوي بإحياء وأرشقة الأرشيف الموسيقي لأستاذها، فواصلت عمله وحافظت على مجموعة الموسيقى الشرقية حتى إنشاء الأرشيف الصوتي الوطني على يد البروفيسور إسرائيل أدلر، كجزء من المكتبة الوطنية الإسرائيلية عام 1965. لسنوات رفضت كيوي تسليم الأرشيف الخاص بلاخمان للمكتبة الوطنية، وفي الثمانينيّات سلّمت الأرشيف مع أرشيفها الخاص الّذي يحتوي على كتابات وملاحظات ورسائل لاخمان.

يمكن القول إن لاخمان يعتبر الأب الروحي للأرشيف الصوتي التابع للمكتبة الوطنية، واستمرت أجيال من الباحثين في الموسيقى على طريقه، وآخرين اختاروا مواضيع بحثه في الموسيقى الشرقية ليكملوها ويطوّروها ويستمروا بها.

كلب الست أمّ كلثوم: إنت فين والكلب فين؟

لا شكّ أن أمّ كلثوم شكّلت حالةً فريدةً في تاريخ الغناء العربيّ، بموهبتها التي لا تنضب، وقدرتها الفذّة على التجدّد، وجمعها بين النقائض.

أم كلثوم

وفي أحد الأيّام، وبينما كان إسماعيل، الطالب الفقير في المعهد الفنّيّ، يمشي سارحًا في الزمالك، أحد أرقى أحياء القاهرة المشيّد على جزيرةٍ في النيل، مرّ لسوء حظّه ببيت أمّ كلثوم، المولودة في قريةٍ ريفيّةٍ، فهاجمه كلبها “فوكس” في الطريق العام، وعضّه في رجله حتّى سال دمه. وبعد أن اشتكى على الكلب، أمر وكيل النيابة بحفظ التحقيق، لأنّ الخدمات التي أدّتها أمّ كلثوم للدولة كفيلة أن تعفيها و”كلبها” من المسؤوليّة الجنائيّة.

مقال عن صوت أم كلثوم في صحيفة الإتحاد 11 شباط 1975

في لقاءٍ تلفزيونيّ مع أحمد فؤاد نجم، أحد أبرز شعراء العاميّة في مصر، والذي كان قد حُبِسَ في عهدَي عبد الناصر والسادات، بتّهمٍ غريبةٍ كالسخرية، يروي القصّة السابقة أثناء تبريره كتابته قصيدة “كلب الست”، رغم كونه “كلثوميًّا” كما يصف نفسه، ومن “دراويش الست”، لكنّه أصبح وقتها، وفي “عزّ” زمنٍ  يدّعي “الاشتراكيّة والقوميّة العربيّة ومجتمع العدالة”، أمام خيارَيْن: “حبّه للفن، وشرفه”.

موهبة لا يمكن تقليدها: عازف القانون يوسف زعرور

 

أمّ كلثوم بين الواقعيّ والمتخيّل: صحيفة الإتحاد 11 شباط 2000

فأمام الجمال الصوفيّ الذي يجسّده صوت أمّ كلثوم في كثيرٍ من قصائدها المغنّاة، تزداد فجاجة الواقع. ففي إحدى مدائحها النبويّة، تُعيد، لأكثر من ربع ساعةٍ، غناء هذا البيت لأحمد شوقي الذي يصف رحلة المعراج: “حَتّى بَلَغتَ سَماءً لا يُطارُ لَها * عَلى جَناحٍ وَلا يُسْعَى عَلى قَدَمِ”، تكرّره بلمسةٍ مختلفةٍ كلّ مرّةٍ، كأنّها تكتبه من جديدٍ بمداد بحرٍ لا ينتهي، حتّى يصاب المستمع بدوارٍ سماويّ من النشوة. لكنّه، حين يعود إلى الواقع، يعضّه كلبٌ أرضيٌّ أمام قصرها، الذي لا تدخله الملائكة (رمز الرحمة)، كما ورد في حديثٍ منسوبٍ للنبيّ عن البيوت التي يربّي أصحابها كلابًا.

قصيدة للشاعر أحمد فؤاد نجم في صحيفة الإتحاد 15 نيسان 1977
قصيدة للشاعر أحمد فؤاد نجم في صحيفة الإتحاد 15 نيسان 1977

 

يبدأ “شاعر الغلابة”، كما كان يوصف من محبّيه، قصيدته، التي يحرّكها التناقض قبل لحظة الكتابة، بهذه السطور التي تكثّف التناقض:
في الزمالك من سنين/ وفي حِمى النيل القديم/ قصر من عصر اليمين/ ملك واحدة من الحريم/ صيتها أكتر من الآدان/ يسمعوه المسلمين/ والتتر والتركمان والهنود والمنبوذين/ ست فاقت على الرجال/ في المقام والاحترام/ صيت وشهرة/ وتل مال/ يعني في غاية التمام/ قُصره يعني هيّ كلمة/ ليها كلمة في الحكومة/ بس ربّك لأجل حكمة/ قام حرمها من الأمومة/ والأمومة طبع ثابت جوّا حوّا من زمان/ تعمل إيه الست؟/ جابت “فوكس” رومي وله ودان.

يوحي أسلوب القصّ بزمنٍ خرافيّ، زمن الملوك ومُلْكِ اليمين، رغم أنّه عصر الثورة على الملكيّة والرجعيّة. كذلك، فإنّ السيّدة “أمّ” كلثوم محرومةٌ من الأمومة، رغم التصاقها باسمها، فلأنّ الأسماء في ذلك الزمن كانت تائهةً عن معانيها، يمكن أن تغدو الأمّ البشريّة أُمًّا لكلبٍ، لا للمسكين إسماعيل، الذي لا يسعنا ونحن نسمع اسمه، إلّا أن نتذكّر الطفل إسماعيل، كما وردت قصّته في النصوص الإسلاميّة، الذي كاد أن يذبحه والده إبراهيم أضحيةً بشريّةً للربّ. ويذكّرنا المشهد بأكمله بدولة الثورة في عهد عبد الناصر، التي لم تفرش رحمها للشعب، بل أطلقتْ كلابها عليهم في كلّ درب، كما في قصيدةٍ أخرى لنجم:
شيّد قصورك عالمزارع / … / واطلق كلابك في الشوارع.

عن لقاء أم كلثوم وعبد الناصر: صحيفة الإتحاد 14 كانون الثاني 2000
عن لقاء أم كلثوم وعبد الناصر: صحيفة الإتحاد 14 كانون الثاني 2000

 

تكمل القصيدة رحلتها مع إسماعيل إلى الحجز والنيابة. هناك، يدرك أنّ كلماتٍ سمعها كثيرًا في المذياع، مثل “العدالة” و”الاشتراكية” تشير في الحقيقة إلى ضدّ المعاني التي كان يظنّها، فتعمل من أجل أغراضٍ أخرى لم توجد لأجلها، مثل منديل أمّ كلثوم، الذي كانت تشدّ عليه على المسرح، ولم تمسح به دم رِجل إسماعيل التي عضّها كلبها المحميّ بواسطة نظام “العدالة”.

لذلك، أمام وكيل النيابة، وكمن يحاول النجاة من كلبٍ يطارده، ومن العبث الذي يحيط به من كلّ جانب، تخبرنا القصيدة أنّ إسماعيل يتّهم نفسه بأنّه المذنب في تسميم كلب الستّ حين عضّه. فكما أنّ قصور الزمالك وحتّى شوارعها العامة ليست لجميع الناس، كذلك هو القانون.

بعد ذلك، يغنّي شاويش الشرطة لإسماعيل الأعرج أو “اسماعين”، في حفلة النيابة هذه، مؤكّدًا بغنائه على التناقض، حين يضع “الكلب” مكان “الحبّ” في أغنية أمّ كلثوم “إنت فين والحبّ فين”:

أنت فين والكلب فين؟/ أنت قدّه يا اسماعين؟/ طب ده كلب الست يا ابني/ وأنت تطلع ابن مين؟

ورغم حبّ أحمد فؤاد نجم لجمال عبد الناصر، ورغم رثائه إيّاه بقصيدةٍ عذبةٍ ذات نفحةٍ صوفيّةٍ، يصفه فيها بالحسين وصلاح الدين والنبيّ، إلّا أنّه يختم قصيدته متوجّهًا إلى الكلب، ساخرًا من مقام الرئيس، رأس هرم النظام:

هيص يا كلب الستّ هيص/ لك مقامك في البوليس/ بكرا تتألّف وزارة للكلاب/ ياخدوك رئيس.

قصيدة في الذكرى السادسة والعشرين لوفاة جمال عبد الناصر: صحية الإتحاد 30 أيلول 1996
قصيدة في الذكرى السادسة والعشرين لوفاة جمال عبد الناصر: صحية الإتحاد 30 أيلول 1996

شرائع ذرية نوح السبع

"شرائع ذرية نوح السبع"، هي شرائع أشار إليها الفقهاء السلف اليهود كونها فرضت على الشعوب غير اليهودية، في مقابل الشرائع المفروضة على اليهود.

بطاقة بريدية لحالة الطوفان وسفينة نوح

“شرائع ذرية نوح السبع”، هي شرائع أشار إليها الفقهاء السلف اليهود كونها فرضت على الشعوب غير اليهودية، في مقابل الشرائع الـ613 المفروضة على اليهود. بعد انتهاء الطوفان وخروج نوح والحاشية المرافقة له من السفينة، ظهر قوس قزح في السماء، وقام الرَّب بمخاطبة نوح وجاء في معرضها منح المخلوقات وليس الإنسان فقط الأمان بحيث أنه لن يبعث بالطوفان مرة أخرى فتهلك المخلوقات (التكوين 9: 8-17)، وجعل قوس قزح هذا علامة على العهد الذي يتضمّن سبع شرائع يؤدّيها نوح وذريته أيضًا (التكوين 9: 1-7).

فيما يلي قائمة هذه الشرائع السبع: 1. تحريم عبادة الأصنام والأوثان؛ 2. تحريم سفك الدماء؛ 3. تحريم السرقة؛ 4. تحريم سفاح القُربى؛ 5. تسبيح اسم الربّ (وتحريم التجديف على الربّ)؛ 6. تحريم أكل لحم الكائن الحي (أي يجب ذبح الكائن الحي قبل تناوله)؛ 7. فريضة إقامة أجهزة قضاء عادلة.

قام الفقهاء السلف بتأويل هذا الخطاب وتوصّلوا إلى جملة هذه الشرائع. وفق تراث هؤلاء الفقهاء السلف، فقد سبق وفرضت ست شرائع منها على آدم، بينما فرضت السابعة، الخاصة بتحريم تناول لحم حيوان حي، على نوح وذريته في أعقاب الطوفان فيما يطلق عليه “عهد قوس قزح”، حين أُحلّ للبشر قتل الحيوان لأغراض المأكل.

نقرأ في الإنجيل (العهد الجديد) أن شيوخ المسيحية في بداية تشكيلها ناقشوا مسألة وجوب أو عدم وجوب تأدية غير اليهود، المؤمنون بيسوع المسيح، الشرائع التوراتية. وقد أجمع هؤلاء على الاكتفاء ببعض هذه الشرائع السبع: تحريم عبادة الأوثان والأصنام، وتحريم الزّنا، وتحريم أكل لحم حيوان مخنوق، وتحريم أكل الدماء (أعمال الرسل 15: 20-29). ومن نافل القول إنَّ جميع التحريمات الواردة في “شرائع ذرية نوح السبع”، ومن ضمنها فريضة إقامة أجهزة قضاء عادلة، موجودة جميعها في القرآن الكريم والتراث الإسلامي بصورة كبيرة، ولكنها غير مخصّصة بقائمة بعينها كقائمة “الشرائع ذرية نوح السبع” أو “الشرائع العشر”.

تناول فقهاء التلمود (التلمود البابلي، سنهدرين 56أ)، وكذلك الكتب والمصنّفات المنشورة بالعربية-اليهودية، ككتاب يهودا اللاوي (ت. 1140 بالتقريب) ومصنّفات موسى بن ميمون (ت. 1204)، هذه الوصايا وتبعاتها. أما في عصرنا الحديث، تنشط بعض التيارات اليهودية، لا سيما حركة حبد الأرثوذكسية، في إطار الترويج لهذه الشرائع في جميع أنحاء العالم ومن بينها المجتمعات العربية.

قام الفقهاء السلف بتأويل الجمل التوراتية في أعقاب الطوفان (التكوين 9: 1-7) واستخرجوا منها هذه الشرائع:

“وبارك اللهُ نوحًا وبنيه وقال لهم: أَثمروا واكثروا واملأوا الأرضَ” – إشارة إلى تحريم التجديف؛

“ولتكن خشيتكم ورهبتكم على كل حيوانات الأرض وكل طيور السماء، مع كل ما يدب على الأرض، وكل أسماك البحر قد دفعت إلى أيديكم” – إشارة إلى فريضة إقامة أجهزة قضاء عادلة؛

“كل دابة حية تكون لكم طعامًا، كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع، غير أن لحمًا بحياته، دمه لا تأكلوه” – إشارة إلى تحريم أكل لحم الكائن الحي؛

“وأطلب أنا دمكم لأنفسكم فقط، من يد كل حيوان أطلبه” – إشارة إلى تحريم قتل النفس؛

“ومن يد الإنسان أطلب نفس الإنسان، من يد الإنسان أخيه” – إشارة إلى تحريم السرقة؛

“سافك دم الإنسان بالإنسان يسفك دمه، لأن الله على صورته عمل الإنسان” – إشارة إلى تحريم عبادة الأوثان والأصنام؛

“فأثمروا أنتم واكثروا وتوالدوا في الأرض وتكاثروا فيها” – إشارة إلى تحريم سفاح القربى؛

وكما يخبرنا اللاوي، كذلك فعلوا في تأويل إحدى الجمل التوراتية الأخرى (التكوين 2: 16)، وتوصّلوا إلى الوصايا ذاتها:

كما جعلوا (الفقهاء السلف) “وأوصى يهوه إلوهيم آدم قائلًا: من جميع شجر الجنة تأكل أكلًا” (التكوين 2: 16) علامة على “سبع الشرائع التي أُمر بها أبناء نوح: وأوصى – هذه هي الأحكام، يهوه – هذا تسبيح الاسم، إلوهيم – هذه عبادة آلهة غريبة، آدم – هذا سفك دماء، قائلًا – هذا سفاح القُربى، من جميع شجر الجنة – هذا نَهْب، تأكل أكلًا – هذا عضو الحيوان الحيّ” (الكتاب الخزري، المقالة 3، المادة 73 تعقيبًا على التلمود البابلي، السنهدرين، 56أ).

كما وجاء عند اللاوي أن بني إسرائيل المقيمون في مصر لم يعرفوا قبل خروجهم منها سوى بعض هذه الشرائع فقط:

فخرج بنو إسرائيل بأمر الله في تلك الليلة، في حين وفاة أولاد مصر، من عبودية فرعون، وصاروا إلى ناحية بحر القُلزُم (البحر الأحمر)، وقائدهم عامود غمام، وعامود نار سائر أمامَهم (الخروج 13: 21-22)، ومدبّرهم وسائسهم وإمامهم الشيخان الإلهيان موسى وهرون عليهما السلام، كانا حين أتاهما النبوّة ابني ثمانين ونيّف (الخروج 7: 7). وإلى الآن ليس عندهم شرائع إلاّ قليلة، موروثة عن أولئك الأفراد من لدن آدم ونوح، ولم ينسخها موسى ولا فسخها لكن زاد عليها (الكتاب الخزري، المقالة 1، المادة 83).

أما القاسم المشترك بين هذه الوصايا والشرائع العشر المفروضة على اليهود، فهي ثلاث شرائع فقط: تحريم القتل النفس، تحريم عبادة الأوثان والأصنام، وسفاح القربى. ومن اللافت أن فريضة إقامة أجهزة قضاء عادلة لم تذكر صراحة في الشرائع العشر المفروضة على بني إسرائيل بل في الشرائع المفروضة على غيرهم فقط. ولكن ينوّه بن ميمون (في كتاب الشرائع، شرائع الأمر، الشريعة رقم 9) أن جميع “شرائع ذرية نوح السبع” مفروضة أيضًا على بني إسرائيل كما هو على غيرهم.

يعقّب بعض الفقهاء اليهود ويقولون إنَّ ثلاثين شريعة مفروضة على غير اليهود يتفرّع من هذه الشرائع السبع، إلَّا أن غير اليهود لا يؤدّون سوى ثلاث منها فقط: عدم إبرام عقود زواج بين الذكور، وعدم بيع الجيف أو اللحم البشري في الأسواق، وتكريم التوراة. ويخبرنا بن ميمون أنَّ غير اليهودي الذي لا يؤدّي هذه الشرائع يجب الحكم عليه بالموت “إذا خضع إلينا”، أي تمتّع اليهود بالسلطة (تثنية التوراة، كتاب القضاة، تشريعات الملوك وحروبهم، الفصل 8، التشريع 13). ولكن بما أن اليهود عاشوا طيلة تاريخهم في ظل أنظمة غير يهودية، فإنهم لم يستطيعوا تنفيذ هذا الحكم ولم يقوموا بالتبشير بين الشعوب لإقناعهم لتأدية هذه الشرائع، لأن من شأن مثل هذا التبشير أن يعرّض اليهود للخطر. وفي أعقاب إقامة دولة إسرائيل وزوال الأخطار الوجودية التي تهدّدها، وجد أتباع تيار حبد الأرثوذكسي (منذ سنة 1981) ضرورة للتبشير بين غير اليهود لتأدية هذه الشرائع. وكذلك نجد ضمن الصهيونية الدينية محاولات لمثل هذا التبشير وإقامة منظمات عديدة، مثل “بريت عولم” و”بني نوح”، لهذا الغرض وإنشاء فروع لها في أنحاء العالم. ولكن نشهد استخدامًا سياسيًا لهذه الوصايا بين رجال الدين اليهود في إسرائيل بصورة خاصة. على سبيل المثال، صرّح الحاخام السفاردي الأكبر لإسرائيل، الراب يتسحاق يوسف (نجل الراب عوفاديا يوسف)، خلال خطبة عامة ألقاها (آذار 2016) أما الجمهور، بأن الشريعة اليهودية لا تسمح لغير اليهود الذي لا يؤدون هذه الشرائع بالإقامة في أرض إسرائيل”. وأردف قائلًا، “إذا كان غير اليهودي لا يرغب بقبول هذه الشرائع، يمكننا إرساله إلى المملكة العربية السعودية! … وعندما تكون السلطة القاهرة الحقيقية بأيدنا سنفعل هذا الأمر… عندما نتمتّع بالسلطة الكافية لا يمكن السماح حينها لغير اليهود الإقامة في إسرائيل. لكن يدنا ليست حازمة”. أثارت خطبة يوسف هذه غضبًا واسعًا في إسرائيل وانتقدت بشدة من قبل العديد من جمعيات حقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية وأعضاء الكنيست. كما وأصدر القائم بأعمال مدير مكتب إسرائيل لرابطة التشهير ضد اليهود استنكارًا شديدًا لما جاء في هذه الخطبة.