تعتبر مسألة مصادر سلطة مناقشة المسائل الفقهية وتحديد الشرائع غير التوراتية من المسائل المفاجئة، لا سيما للجمهور المسلم، لأن السلف اليهودي قد فرض أنه يتعيّن على الفقهاء أن لا يعتمدوا على الوحي أو الأحلام أو الإلهام في مناقشاتهم للمسائل الفقهية، بل عليهم أن يلتزموا بالعقل البشري واجتهاد الفقهاء حصرًا للبت في المسائل الفقهية. وأما بداية هذا النقاش، وفق التراث اليهودي، فقد ظهر في الحقبة الفاصلة بين خراب الهيكل الثاني وفشل ترّد بار كوخبا (70-136م)، ويطلق على فقهاء هذه الحقبة تعبير “الثنويون” (تنائيم – من لغة التلقين وقراءة وفحص النص على الدوام مرة بعد الأخرى).
ترد في إحدى صفحات التلمود البابلي (الباب الأوسط 59ب) قصة تعالج خلافًا فقهيًا ظهر بين هؤلاء الفقهاء، ودار هذا الخلاف حول مسألة فقهية محدّدة مرتبطة بالطّهارة والنّجاسة.
ولكن قبل الوقوف عند خلاصتها، نتوقف عند معنى الاسم “طابون عخناي”. عخناي، أو حخناي، هو تصحيف كلمة “أكيدنا” السريانية والمأخوذة من اليونانية وتعني أفعى، وهناك اعتقاد يقول إنَّ عخناي هو اسم علم كان يعمل في بناء الطوابين في حينه. أما “طابون” فهو فرن الطهي والخبيز، ويتشكّل من الطّوب بحيث تلتصق الطوب بعضها ببعض عن طريق وضع الرمل بين الواحدة والأخرى. أما “طابون عخناي” فهو ذلك الطابون الذي يتخذ شكل الأفعى حين تلتف حول نفسها. وهناك مجازًا تلموديًا يقول “هكيفوهو كتنورو شل عخناي” (أحاطوا به كطابون عخناي) ومعناه مجازًا: أحاطوا بالشيء من كلّ جانب. ويتلخّص السؤال المطروح أمام الفقهاء في كيفية التعامل مع هذا الطابون، هل يجب اعتباره أداة واحدة قائمة بذاتها، لا سيما وأنَّ الطين يوضع على الطوب من الخارج، أم كأداة مكسورة أو أداة ترابية، ووفق الفقيه شلومو يتسحاقي (فرنسا ت. 1105م) فقد اعتبر الفقيه إليعازر هذا الطابون شأنه كشأن عمارة البيت، وبهذا يحكم عليه كالحكم على عناصره المكوّنة له، ألا وهو التراب الذي يعتبر طاهرًا ولا تلحقه نجاسة بحسب الشريعة اليهودية التقليدية. فإذا قمنا بتفكيك هذا الطابون إلى عناصره المكوّنة له وأعدنا بناءه من جديد بواسطة لصق أجزاء الطّوب بواسطة الطين، هل يعتبر في هذه الحالة أداة لا تقبل النجاسة، لأن عناصره لا تقبل النجاسة (لأنه من التراب بالأصل)، أم لا، كما اعتقدت غالبية الفقهاء في حينه لأنه أداة واحدة متكاملة، والعديد من الأدوات المستخدمة في الطهي تقبل النجاسة، بصرف النظر عن العناصر المكوّنة له؟
تحوّل هذا النقاش الفقهي إلى خلاف مبدئي بشأن مكانة الوحي في مختلف درجاته ومراتبه والمعجزات و”هاتف من السّماء” (بت قول) في المسائل الفقهية. وتجدر الإشارة إلى أن رجال الدين في اليهودية يتمتّعون بدرجات قداسة معينة تؤهّلهم التواصل مع الوحي. بعبارات أخرى، فقد تحوّل النقاش إلى خلاف بشأن مصادر سلطة البت في المسائل الفقهية، هل يمكن الاعتماد على رسائل إلهية في تحديد الشرائع فقهيًا والبت عمومًا في مسائل فقهية، أم لا؟ فيمكن أن يأتي أحد الفقهاء في سياق مناقشة مسألة فقهية معينة ويدّعي استنادًا إلى عبارة توراتية معينة، أو القول إنه جاءه وحي من السّماء في الحلم أو اليقظة ليخبره بالشرع “السليم” الذي يجب التوصّل إليه في المسألة الفقهية المطروحة؛ بينما يأتي فقيه آخر فيدّعي مثله ولكن وحيه أخبره بشرع “سليم” آخر يجب اعتماده. ما هو العمل في مثل هذه الحالة؟ الحل الذي توصّل إليه الفقهاء حقبة “الثنويّين” عبر مناقشة مسألة “طابون عخناي”، هو أنَّ المسائل الفقهية مرتبطة حصرًا بالفقهاء أنفسهم والحجج التي يطروحنها واعتماد رأي الأغلبية في نهاية المطاف، استنادًا إلى العبارة التوراتية “وراءَ الأكثر فَمِلْ” (الخروج 23: 2- ترجمة سعيد الفيومي)، والتي تحوّلت إلى إحدى وصايا التوراة الـ613 المفروضة على اليهود جماعة وأفرادًا. ولكن تجدر الإشارة إلى أن الجملة التوراتية الكاملة التي أخذت منها هذه العبارة ترد بصياغة سلبية: “لا تَتْبَعِ الكثيرينَ إلى فِعْلِ الشَّرِّ، ولا تُجِبْ في دعوى مائلًا وراءَ الكثيرينَ للتَّحريفِ” (ترجمة فاندايك)، أيّ توصي هذه الجملة التوراتية عدم اتّباع رأي الأكثرية إذا كان يميل إلى الشرور وعدم الاستقامة، ولكنها لا تقول صراحة إنه يجب اعتماد رأي الأغلبية في الأمور الفقهية وأمور أخرى.
حاول الراب إليعازر بن هوركنيس، ممثّل التيار التقليدي في الفقه، أن يدعم الرأي الأول القائل إنَّ مسألة قبول أو عدم قبول الأداة النجاسة مرتبطة بقبول أو عدم قبول العناصر المكوّنة له النجاسة، من خلال الاستعانة بمعجزات والوحي. رفض طرف الأغلبية، وعلى رأسهم الراب يهوشع، جميع هذه الأسانيد والمعجزات وقول الوحي، وتعلّقوا بطرح مبدئي مفاده أنه لا مكان للتدخّل السماوي في المسائل الفقهية، استنادًا إلى عبارة توراتية “ليست هي بالسّماء” (التثنية 30: 12)، بل ترتبط هذه المسائل بصورة حصرية بالفقهاء أنفسهم، ويجب اعتماد رأي أغلبية الفقهاء في إصدار الأحكام بشأنها. وتجدر الإشارة إلى أنَّ هذا الطرح المبدئي استُخدم كذلك في تفسير التوراة ودراسة آثار الفقهاء السلف، فالتوراة بعد أن نزلت على موسى أصبحت بين يدي البشر، وهم المخوّلون حصرًا للبتّ فيها وتفسيرها، ولا دخل للرّب ولا للوحي في هذه الأمور.
ومن الهام بمكان الإشارة إلى أنَّ هذا النقاش يرتبط بصورة كبيرة بالثورة الدينية التي أحدثها الراب يوحنان بن زكايّ في أعقاب خراب الهيكل الثاني (70م)، والذي كان يعتبر حتى تلك الفترة مركز العبادة الحصري، وكانت العبادة تتمحور بالأساس حول تقديم القرابين والتقدمات. وعلى إثر خراب الهيكل، كان لزامًا على رجال الدين إدخال تغييرات كبيرة، فاستبدلت العبادة القديمة بفعل غياب الهيكل، بطقوس وممارسات بديلة، كالصلاة وقراءة التوراة ودراسته والبحث في آثار الفقهاء السلف وبناء الكنس. ولفعل ذلك كان يجب إعادة بناء المجمع الفقهي الأعلى (أو المحكمة العليا/السنهدرين) لطرح هذه الطقوس والممارسات البديلة والتصديق عليها.
الصلاة اليهودية بمختلف أنواعها ومواسمها وأزمانها
التلمود البابلي، الباب الأوسط 59ب: ترجمة
والتالي هو ما يعرف باسم طابون/فرن عخنايّ. تساءل (الفقهاء): ما معنى عخنايّ (أفعى) ولماذا أطلق عليه هذا الاسم؟ أجاب الراب يهودا عن صموئيل: لقد أحاط الفقهاء بالمسألة من كل جانب، كالأفعى التي تلتف حول نفسها، فنجّسوها. وردّد (الفقهاء) القول: في ذلك اليوم حين ناقش الفقهاء المسألة، طرح الراب إليعازر جميع الحجج الممكنة من أجل تعزيز رأيه، ولكنهم لم يقتنعوا بكل ذلك.
خاطبهم إليعازر قائلًا: إذا كان فقه الشريعة يتوافق مع رأيي، ستثبت شجرة الخروب هذه ذلك، فانتقلت شجرة الخروب من مكانها مسافة مائة ذراع، ويقول البعض بل أربعمائة ذراع. أجابه الفقهاء: لا نأخذ الدليل الشرعي من شجرة خروب. ثم قال لهم الفقيه إليعازر: إذا كان فقه الشريعة يتوافق مع رأيي، ستثبت قناة المياه ذلك، فتحوّل اتجاه الماء في القناة إلى الخلف. أجابه (الفقهاء): لا نأخذ الدليل الشرعي من قناة مياه. ثم قال لهم الفقيه إليعازر: إذا كان فقه الشريعة يتوافق مع رأيي، ستثبت جدران قاعة المجلس الفقهي ذلك، فمالت جدران القاعة إلى الداخل وكانت على وشك السقوط. وجّه الفقيه يهوشع صرخة باتجاه الجدران قائلًا لها: إذا كان فقهاء التوراة يتناقشون فيما بينهم في أمور فقه الشريعة، ما علاقتك بهذا النقاش؟ لم تسقط الجدران احترامًا للفقيه يهوشع، ولكنها لم تستقم احترامًا للفقيه إليعازر، وما زالت مائلة. عاد الفقيه إليعازر وقال لهم: إذا كان فقه الشريعة يتوافق مع رأيي، ستثبت السّماء ذلك. خرج هاتف من السّماء (بت قول) قائلًا: لماذا تخالفون الفقيه إليعازر، فإنَّ فقه الشريعة يتوافق مع رأيه في كل مسألة؟
وقف الراب يهوشع على رجليه وقال: “ليست هي بالسّماء” (التثنية 30: 12). يتساءل الفقهاء: ما علاقة عبارة “ليست هي بالسّماء” في هذا النقاش؟ أجاب الراب إرميا: بما أنَّ التوراة أعطيت في طور سيناء، فإننا لا نأخذ برأي الهاتف من السّماء، كما جاء في التوراة في طور سيناء: “مائلًا وراءَ الكثيرينَ” (الخروج 23: 2)، وبما أنَّ رأي غالبية الفقهاء خالف رأي الفقيه إليعازر، ففقه الشريعة لا يأخذ برأيه (بل ملتزم برأي الأغلبية). ويروي الفقهاء أنه بعد سنوات، التقى الفقيه ناتان بإيليا النبي وقال له: ماذا فعل القدوس تبارك اسمه في ذلك الوقت (عندما أصدر الفقيه يهوشع الحكم)؟ قال له إيليا: ابتسم القدوس تبارك اسمه وقال: لقد انتصر أبنائي عليّ، انتصر أبنائي عليّ.
قال الفقهاء: في ذلك اليوم، أحضروا جميع المأكولات التي أجازها الفقيه إليعازر بصفتها طاهرة وقذفوها في النار (لحرقها في الطابون/الفرن لأنها بحكم النجسة)، واتفق الفقهاء على هذا الحكم في ذلك ونبذوه (الفقيه إليعازر). وقال الفقهاء: من يذهب ليخبره بقرار نبذه؟ قال لهم الراب عكيفا (التلميذ المحبّب عليه): أنا أذهب لئلَّا يذهب آخر غير لائق فيبلغه بطريقة مهينة فيدمّر بالتالي العالم بأسره.