داخل صندوق كرتونيّ مغلّف بقماش الكتّان الفاخر، حُفظت 40 صورة جويّة عالية الجودة للبلاد. لم يُكتب شيء على الصندوق، ولكن الورقة المائلة للصفرة داخل الصندوق، الموضوعة فوق الصور وقد كُتب عليها إهداء بالعبرية والألمانية، تسرد القصّة بأكملها.
هذه ثمرة تعاون فريد من نوعه بين رجل أعمال، فاعل خير وناشر وبين أحد أهم المصورين الذين نشطوا في البلاد. أسفرت العلاقة بينهما عن إنتاج سلسلة الصور الجويّة المدنيّة الأولى للبلاد، لأغراض غير عسكرية.
في الفترة العصيبة ما بين الأحداث الدامية في البلاد وحكم هتلر في ألمانيا، أقيمت في القدس حفلة عيد الميلاد الستّين لشلومو زيلمان شوكن. في الطابق الثاني لمبنى المكتبة التي صمّمها له المهندس المعماري الشهير آريخ مندلسون، جمع شوكن في 23 تشرين الأول 1937 مجموعة صغيرة ومختارة من الزملاء والمقرّبين. لم يكن لرجل الأعمال الصارم وصاحب الأملاك والنفوذ أصدقاء حقيقيون. مع ذلك، سعى الكثيرون لتمجيد راعي الكتاب العبري الذي جمع حوله نخبةً من الطاقات الإبداعية في “اليشوف” العبري الصغير في تلك الفترة.
اتخذ هذا الشخص، الذي تمكّن من إقامة شبكة متاجر ناجحة في ألمانيا، واعتبرَ أحد ملوك المال في موطنه، خطوة حكيمة عندما قرر بناء منزل خاص به في القدس، حيث نقل الجزء الأكبر من مكتبته، والتي اعتبرت موردًا ثقافيًا من الدرجة الأولى. ببلوغه سن الستين، كان شوكن قد احتل مكانة مرموقة كشخصية عامة في البلاد. شغل مناصب عليا مثل رئيس الهيئة الإدارية للجامعة العبرية وعضو هيئة إدارية في الوكالة اليهودية، وقبل ذلك بعام، اقتنى لابنه صحيفة هآرتس، إحدى أهم الصحف اليومية في “اليشوف” العبري في حينه. وإلى جانب محاولة استرجاع ممتلكاته التي نهبها النازيون، كرّس جلّ جهوده للمشاريع المبتكرة، أهمّها- إدارة دار شوكن للنشر.
ترأس الكاتب شموئيل يوسف عجنون مجموعة الأدباء التي تبنّاها ودعمها شوكن، وحرص بكل سخاء على تعزيز رفاههم وحسن حالهم. في تلك الفترة، حصل حاييم هزاز، شاؤول طشرينخوفسكي وآخرون على منح معيشية قدّمها شوكن، مقابل نيل الحقوق الحصرية لنشر أعمالهم. لا شك أنّ شوكن لعب في تلك الفترة دور راعي الأدب العبري، وقد شكّلت المعاهد البحثية التي أسّسها ورعاها (معهد دراسات الشعر العبري، أبحاث الكابالا وغير ذلك) ملجأ آمنًا لكبار المثقفين اليهود عندما كانت اليهودية في أوروبا على وشك الانهيار.
ولكن رغم الشهرة الواسعة التي حظي بها نشاط شوكن في المجال الأدبي والبحثي، إلّا أنّ هناك مراجع قليلة جدًا حول مبادرته المبتكرة لالتقاط صور جويّة للبلاد. من كان حلقة الوصل في عام 1937 بينه وبين نحمان شيفرين، مدير “الشركة الشرقية للصور الصحفيّة”؟ حتى لحظة كتابة هذه السطور، لا توجد لدينا إجابة واضحة، ولكن لا شكّ في أنّ العلاقة بين الاثنين أسفرت عن أحد المشاريع الطلائعية التي تركت أثرًا في تاريخ التصوير في البلاد.
فنانو التصوير يهاجرون إلى البلاد
قبل ذلك بأربع سنوات، قام شيفرين ببيع وكالة الصور الصحفية الكبيرة التي كان يملكها في برلين، وهاجر إلى البلاد مع احد أفضل المصورين الذي عملوا معه، زولتان كلوغر. القيود التي فرضها النازيون على نشاط المصورين الصحافيين اليهود، من الأشهر الأولى لاعتلاء هتلر سدة الحكم، دفعت شيفرين إلى اتخاذ القرار بالهجرة إلى البلاد. أدركَ شيفرين أنّ المؤسّسات الوطنية في البلاد بحاجة لصور عالية الجودة، في إطار عمل أقسام الدعاية والإعلان، التي اكتسبت زخمًا متزايدًا.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ شيفرين كان رجل أعمال موهوب، متمرّس وداهية، ولكنه لم يكون مصوّرًا، بل علّق آماله على مصوّر متواضع، واسع الاطلاع وعلى قدر عال من الموهبة، سطع نجمه في برلين في أواخر العشرينيّات: إنّه زولتان كلوغر، ابن مدينة كيكسكيميت في هنغاريا.
الجودة التقنية والفنية الرائعة للصور التي التقطها كلوغر للمؤسّسات الوطنية، فور قدومه إلى البلاد في تشرين الثاني 1933، إلى جانب الأداء الدقيق والسريع الذي حرص عليه وكيله، نحمان شيفرين، جعلا منه المصوّر المفضّل لدى مؤسسة “كيرن هيسود” والصندوق القومي اليهودي.
ولكن النجاح الفوري الذي حققه كلوغر وشيفرين لم يمنعهما من البحث عن قنوات عمل جديدة، التي ستزيد من عمق الفجوة بينهما وبين سائر المصوّرين الصحافيين في البلاد في تلك الفترة.
جلبت الهجرة الخامسة معها مجموعة كبيرة من المصوّرين المهنيين من أوروبا الوسطى ، حظي البعض منهم بشهرة عالمية، وساهموا في تنشيط المجال وتطوره المهني- وخلقوا منافسة حامية الوطيس.
تخوّف شيفرين من الشكاوى التي قدّمها بعض المصوّرين للمؤسّسات الوطنية، بحيث طرحوا إشكالية عدم الإنصاف في العمل شبه الحصري مع كلوغر. العلاقة المهنية الجريئة، التي جلبت لشيفرين وكلوغر عملًا كثيرًا، كانت مهمّة للغاية، وأخذ الاثنان يفكّران في مشروع جديد في مجال التصوير- مشروع جريء ومبتكر، يُبرز تفوّقهما على سائر المصوّرين في البلاد.
البلاد من نظرة جوية
هل خَدَم كلوغر كمصوّر في سلاح الجو النمساوي-المجري في الحرب العالمية الأولى، وهو من طرح فكرة التقاط صور جوية للبلاد؟ أم أنّها كانت أصلًا فكرة نحمان شيرفين، رجل الأعمال المفعم بالنشاط والحيوية؟ أم أنّ الحقوق على الصور الجويّة الأولى محفوظة لشلومو زيلمان شوكن، الذي اشتهر هو أيضًا بأفكاره المبتكرة، خاصة في مجال الدعاية والإعلان؟
على أيّ حال، كان لشوكِن دور مركزي في مبادرة استئجار طائرة مدنية وتوثيق البلاد، لأول مرة في تاريخها، بواسطة التصوير الجوي. حتى ذلك الحين، اقتصر التصوير الجوي على الكوادر العسكرية فقط، وذلك في إطار السلاح الجوي الألماني والبريطاني، خاصةً خلال الحرب العالمية الأولى. ولكن بفضل التمويل السخي الذي قدّمه شوكن لكلوغر وشيرفين، أصبح من الممكن استئجار خدمات شركة “أفيرون”، شركة الطيران الأولى في “اليشوف” العبري، وصعود كلوغر على متن إحدى طائراتها، مع كاميرته.
.
الصور الرائعة التي التقطها كلوغر لم تخيّب الآمال يومًا: مشاهد جويّة ساحرة لصحراء يهودا، غور الأردن، تل-حاي، عين حارود، بيت-يوسف وطيرات تسفي، بالإضافة إلى البلدات الساحلية، وعلى رأسها تل أبيب، كل ذلك كان ابتكارًا وتجديدًا حقيقيًا في جاليري صور البلاد. ولكن الروائع الحقيقية في سلسلة الصور هذه كانت الصور الجوية لمدينة القدس.
تكريمًا لراعي المشروع، شلومو زيلمان شوكن، (وربّما بناء على طلب واضح؟)، صوّر كلوغر منزل شوكن ومكتبته على مشارف حي الطالبية، منازل فخمة صمّمت من قِبل المهندس المعماري العالمي آريخ مندلسون، وفتحت أبوابها قبل فترة وجيزة من تصويرها. البركة والحديقة التي أحاطت بفيلا شوكن، وقد اعتنى بها بستانيّ استدعيَ خصيصًا من ألمانيا، هي جزء من التفاصيل الدقيقة الرائعة التي يمكن تمييزها في الصور. هذه الصور الجوية هي توثيقات مهمة جدًا للأبحاث حول مدينة القدس وعلاقتها باليهود في فترة الانتداب، وهي تنضم إلى سلسلة صور جوية جميلة لمنطقة جبل المشارف، ومن ضمنها مبنى المكتبة الوطنية.
“كلّما تقدّم بنا العمر، نصبح أكثر امتنانًا”، كتب مارتن بوبر، وأضاف قائلًا: “من يوجّه إليك كلمة شكر، فإنه يقول لك: سأذكرك دائمًا”. شوكن، الذي كان معجبًا ببوبر وشاركه الرأي حول مواضيع عديدة، تبنّى وجهة النظر هذه أيضًا. في سيرورة دامت طويلًا، بسبب اهتمام شوكِن الشديد بكل تفصيلة، تحوّلت صور كلوغِر الجويّة إلى ألبومات، حيث ألصقت مطبوعات فضية عالية الجودة على ألواح كرتونية وحُفظت في صندوق. أُرفق إليها شوكِن ورقة طُبعت عليها الجملة التالية بالألمانية والعبرية: “يسعدني أن أرسل لحضرتكم، ولو في وقت متأخر، مجموعة صور جوية للبلاد، كهدية صغيرة ردًا على تهنئتكم بمناسبة عيد ميلادي الستين”.
تحت هذا الإهداء، أضاف شوكن بضع كلمات بالألمانية، بخط يده الصغير، ووقع باسمه. يرجّح أنّ الإنتاج عالي الجودة للألبوم، الذي أدى إلى إصداره “المتأخّر”، كان مكلفًا جدًا. قرر شوكن، رجل الأعمال المتزن والحَذِر في الشؤون المالية، إنتاج كمية محدودة من الألبومات، تحتوي على 40 صورة جوية عالية الجودة اختارها بنفسه.
أضاف إليها ألبومين صغيرين، يحتويان على مجموعة أصغر من الصور: ست صور واثنتي عشرة صورة فقط. من فاز بالألبوم الكبير، ومن فاز بالألبومات الأصغر؟ تجدون إجابة جزئية في قسم الأرشيفات في المكتبة الوطنية، حيث توجد بضع نسخ من الألبومات، وترافقها الأرشيفات الشخصية لبعض المقرّبين من شوكن.
أدى اندلاع الحرب العالمية الثانية إلى تقييد الطيران المدني في البلاد، ومن ضمنه حظر التصوير الجوي. وبهذا، بقي المشروع المشترك لكلوغر، شيفرين وشوكِن التوثيق غير العسكري الوحيد لهذه البلاد لسنوات طويلة. حتى في الوقت الحاضر، بعد نحو ثمانين عامًا، لا يزال هذا التوثيق موضع إعجاب ومصدر إلهام لجماله وجودته.