هدية صغيرة تعبيرًا عن الشكر والامتنان: ألبوم الصور الجويّة المدنيّة الأول للبلاد

مجموعة من الصور الجوية للبلاد والفريدة من نوعها في أراشيف المكتبة.

داخل صندوق كرتونيّ مغلّف بقماش الكتّان الفاخر، حُفظت 40 صورة جويّة عالية الجودة للبلاد. لم يُكتب شيء على الصندوق، ولكن الورقة المائلة للصفرة داخل الصندوق، الموضوعة فوق الصور وقد كُتب عليها إهداء بالعبرية والألمانية، تسرد القصّة بأكملها.

 

هذه ثمرة تعاون فريد من نوعه بين رجل أعمال، فاعل خير وناشر وبين أحد أهم المصورين الذين نشطوا في البلاد. أسفرت العلاقة بينهما عن إنتاج سلسلة الصور الجويّة المدنيّة الأولى للبلاد، لأغراض غير عسكرية.

للألبوم الكامل

في الفترة العصيبة ما بين الأحداث الدامية في البلاد وحكم هتلر في ألمانيا، أقيمت في القدس حفلة عيد الميلاد الستّين لشلومو زيلمان شوكن. في الطابق الثاني لمبنى المكتبة التي صمّمها له المهندس المعماري الشهير آريخ مندلسون، جمع شوكن في 23 تشرين الأول 1937 مجموعة صغيرة ومختارة من الزملاء والمقرّبين. لم يكن لرجل الأعمال الصارم وصاحب الأملاك والنفوذ أصدقاء حقيقيون. مع ذلك، سعى الكثيرون لتمجيد راعي الكتاب العبري الذي جمع حوله نخبةً من الطاقات الإبداعية في “اليشوف” العبري الصغير في تلك الفترة.

القدس. نرى في الجهة اليسرى "بيت أغيون"، والذي سيصبح لاحقًا المقر الرسميّ لرئيس الوزراء. نرى في الجهة اليمنى بيت زيلمان شوكن، "فيلا شوكن"، وفي أعلى الصورة: كلية تراسنطا.
القدس. نرى في الجهة اليسرى “بيت أغيون”، والذي سيصبح لاحقًا المقر الرسميّ لرئيس الوزراء. نرى في الجهة اليمنى بيت زيلمان شوكن، “فيلا شوكن”، وفي أعلى الصورة: كلية تراسنطا.

اتخذ هذا الشخص، الذي تمكّن من إقامة شبكة متاجر ناجحة في ألمانيا، واعتبرَ أحد ملوك المال في موطنه، خطوة حكيمة عندما قرر بناء منزل خاص به في القدس، حيث نقل الجزء الأكبر من مكتبته، والتي اعتبرت موردًا ثقافيًا من الدرجة الأولى. ببلوغه سن الستين، كان شوكن قد احتل مكانة مرموقة كشخصية عامة في البلاد. شغل مناصب عليا مثل رئيس الهيئة الإدارية للجامعة العبرية وعضو هيئة إدارية في الوكالة اليهودية، وقبل ذلك بعام، اقتنى لابنه صحيفة هآرتس، إحدى أهم الصحف اليومية في “اليشوف” العبري في حينه. وإلى جانب محاولة استرجاع ممتلكاته التي نهبها النازيون، كرّس جلّ جهوده للمشاريع المبتكرة، أهمّها- إدارة دار شوكن للنشر.

البلدة القديمة في القدس
البلدة القديمة في القدس

ترأس الكاتب شموئيل يوسف عجنون مجموعة الأدباء التي تبنّاها ودعمها شوكن، وحرص بكل سخاء على تعزيز رفاههم وحسن حالهم. في تلك الفترة، حصل حاييم هزاز، شاؤول طشرينخوفسكي وآخرون على منح معيشية قدّمها شوكن، مقابل نيل الحقوق الحصرية لنشر أعمالهم. لا شك أنّ شوكن لعب في تلك الفترة دور راعي الأدب العبري، وقد شكّلت المعاهد البحثية التي أسّسها ورعاها (معهد دراسات الشعر العبري، أبحاث الكابالا وغير ذلك) ملجأ آمنًا لكبار المثقفين اليهود عندما كانت اليهودية في أوروبا على وشك الانهيار.

ولكن رغم الشهرة الواسعة التي حظي بها نشاط شوكن في المجال الأدبي والبحثي، إلّا أنّ هناك مراجع قليلة جدًا حول مبادرته المبتكرة لالتقاط صور جويّة للبلاد. من كان حلقة الوصل في عام 1937 بينه وبين نحمان شيفرين، مدير “الشركة الشرقية للصور الصحفيّة”؟ حتى لحظة كتابة هذه السطور، لا توجد لدينا إجابة واضحة، ولكن لا شكّ في أنّ العلاقة بين الاثنين أسفرت عن أحد المشاريع الطلائعية التي تركت أثرًا في تاريخ التصوير في البلاد.

فنانو التصوير يهاجرون إلى البلاد

 

قبل ذلك بأربع سنوات، قام شيفرين ببيع وكالة الصور الصحفية الكبيرة التي كان يملكها في برلين، وهاجر إلى البلاد مع احد أفضل المصورين الذي عملوا معه، زولتان كلوغر. القيود التي فرضها النازيون على نشاط المصورين الصحافيين اليهود، من الأشهر الأولى لاعتلاء هتلر سدة الحكم، دفعت شيفرين إلى اتخاذ القرار بالهجرة إلى البلاد.  أدركَ شيفرين أنّ المؤسّسات الوطنية في البلاد بحاجة لصور عالية الجودة، في إطار عمل أقسام الدعاية والإعلان، التي اكتسبت زخمًا متزايدًا.

تل أبيب
تل أبيب

 

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ شيفرين كان رجل أعمال موهوب، متمرّس وداهية، ولكنه لم يكون مصوّرًا، بل علّق آماله على مصوّر متواضع، واسع الاطلاع وعلى قدر عال من الموهبة، سطع نجمه في برلين في أواخر العشرينيّات: إنّه زولتان كلوغر، ابن مدينة كيكسكيميت في هنغاريا.

الجودة التقنية والفنية الرائعة للصور التي التقطها كلوغر للمؤسّسات الوطنية، فور قدومه إلى البلاد في تشرين الثاني 1933، إلى جانب الأداء الدقيق والسريع الذي حرص عليه وكيله، نحمان شيفرين، جعلا منه المصوّر المفضّل لدى مؤسسة “كيرن هيسود” والصندوق القومي اليهودي.

ولكن النجاح الفوري الذي حققه كلوغر وشيفرين لم يمنعهما من البحث عن قنوات عمل جديدة، التي ستزيد من عمق الفجوة بينهما وبين سائر المصوّرين الصحافيين في البلاد في تلك الفترة.

جلبت الهجرة الخامسة معها مجموعة كبيرة من المصوّرين المهنيين من أوروبا الوسطى ، حظي البعض منهم بشهرة عالمية، وساهموا في تنشيط المجال وتطوره المهني- وخلقوا منافسة حامية الوطيس.

محطّة توليد الطاقة الكهربائية في الباقورة
محطّة توليد الطاقة الكهربائية في الباقورة

 

تخوّف شيفرين من الشكاوى التي قدّمها بعض المصوّرين للمؤسّسات الوطنية، بحيث طرحوا إشكالية عدم الإنصاف في العمل شبه الحصري مع كلوغر. العلاقة المهنية الجريئة، التي جلبت لشيفرين وكلوغر عملًا كثيرًا، كانت مهمّة للغاية، وأخذ الاثنان يفكّران في مشروع جديد في مجال التصوير- مشروع جريء ومبتكر، يُبرز تفوّقهما على سائر المصوّرين في البلاد.

البلاد من نظرة جوية

هل خَدَم كلوغر كمصوّر في سلاح الجو النمساوي-المجري في الحرب العالمية الأولى، وهو من طرح فكرة التقاط صور جوية للبلاد؟ أم أنّها كانت أصلًا فكرة نحمان شيرفين، رجل الأعمال المفعم بالنشاط والحيوية؟ أم أنّ الحقوق على الصور الجويّة الأولى محفوظة لشلومو زيلمان شوكن، الذي اشتهر هو أيضًا بأفكاره المبتكرة، خاصة في مجال الدعاية والإعلان؟

على أيّ حال، كان لشوكِن دور مركزي في مبادرة استئجار طائرة مدنية وتوثيق البلاد، لأول مرة في تاريخها، بواسطة التصوير الجوي. حتى ذلك الحين، اقتصر التصوير الجوي على الكوادر العسكرية فقط، وذلك في إطار السلاح الجوي الألماني والبريطاني، خاصةً خلال الحرب العالمية الأولى. ولكن بفضل التمويل السخي الذي قدّمه شوكن لكلوغر وشيرفين، أصبح من الممكن استئجار خدمات شركة “أفيرون”، شركة الطيران الأولى في “اليشوف” العبري، وصعود كلوغر على متن إحدى طائراتها، مع كاميرته.

.

نهلال
نهلال

 

الصور الرائعة التي التقطها كلوغر لم تخيّب الآمال يومًا: مشاهد جويّة ساحرة لصحراء يهودا، غور الأردن، تل-حاي، عين حارود، بيت-يوسف وطيرات تسفي، بالإضافة إلى البلدات الساحلية، وعلى رأسها تل أبيب، كل ذلك كان ابتكارًا وتجديدًا حقيقيًا في جاليري صور البلاد. ولكن الروائع الحقيقية في سلسلة الصور هذه كانت الصور الجوية لمدينة القدس.

تكريمًا لراعي المشروع، شلومو زيلمان شوكن، (وربّما بناء على طلب واضح؟)، صوّر كلوغر منزل شوكن ومكتبته على مشارف حي الطالبية، منازل فخمة صمّمت من قِبل المهندس المعماري العالمي آريخ مندلسون،  وفتحت أبوابها قبل فترة وجيزة من تصويرها. البركة والحديقة التي أحاطت بفيلا شوكن، وقد اعتنى بها بستانيّ استدعيَ خصيصًا من ألمانيا،  هي جزء من التفاصيل الدقيقة الرائعة  التي يمكن تمييزها في الصور. هذه الصور الجوية هي توثيقات مهمة جدًا للأبحاث حول مدينة القدس وعلاقتها باليهود في فترة الانتداب، وهي تنضم إلى سلسلة صور جوية جميلة لمنطقة جبل المشارف، ومن ضمنها مبنى المكتبة الوطنية.

 القدس: نظرة من الشرق إلى الغرب. يظهر في وسط الصورة جبل المشارف وفيه مبنى المكتبة الجامعية والقومية، وسائر مرافق الجامعة.
القدس: نظرة من الشرق إلى الغرب. يظهر في وسط الصورة جبل المشارف وفيه مبنى المكتبة الجامعية والقومية، وسائر مرافق الجامعة.

“كلّما تقدّم بنا العمر، نصبح أكثر امتنانًا”، كتب مارتن بوبر، وأضاف قائلًا: “من يوجّه إليك كلمة شكر، فإنه يقول لك: سأذكرك دائمًا”. شوكن، الذي كان معجبًا ببوبر وشاركه الرأي حول مواضيع عديدة، تبنّى وجهة النظر هذه أيضًا. في سيرورة دامت طويلًا، بسبب اهتمام شوكِن الشديد بكل تفصيلة، تحوّلت صور كلوغِر الجويّة إلى ألبومات، حيث ألصقت مطبوعات فضية عالية الجودة على ألواح كرتونية  وحُفظت في صندوق. أُرفق إليها شوكِن ورقة طُبعت عليها الجملة التالية بالألمانية والعبرية: “يسعدني أن أرسل لحضرتكم، ولو في وقت متأخر، مجموعة صور جوية للبلاد، كهدية صغيرة ردًا على تهنئتكم بمناسبة عيد ميلادي الستين”.

تحت هذا الإهداء، أضاف شوكن بضع كلمات بالألمانية، بخط يده الصغير، ووقع باسمه. يرجّح أنّ الإنتاج عالي الجودة للألبوم، الذي أدى إلى إصداره “المتأخّر”، كان مكلفًا جدًا. قرر شوكن، رجل الأعمال المتزن والحَذِر في الشؤون المالية، إنتاج كمية محدودة من الألبومات، تحتوي على 40 صورة جوية عالية الجودة اختارها بنفسه.

أضاف إليها ألبومين صغيرين، يحتويان على مجموعة أصغر من الصور: ست صور واثنتي عشرة صورة فقط. من فاز بالألبوم الكبير، ومن فاز بالألبومات الأصغر؟ تجدون إجابة جزئية في قسم الأرشيفات في المكتبة الوطنية، حيث توجد بضع نسخ من الألبومات، وترافقها الأرشيفات الشخصية لبعض المقرّبين من شوكن.

عتليت
عتليت

 

أدى اندلاع الحرب العالمية الثانية إلى تقييد الطيران المدني في البلاد، ومن ضمنه حظر التصوير الجوي. وبهذا، بقي المشروع المشترك لكلوغر، شيفرين وشوكِن التوثيق غير العسكري الوحيد لهذه البلاد لسنوات طويلة. حتى في الوقت الحاضر، بعد نحو ثمانين عامًا، لا يزال هذا التوثيق موضع إعجاب ومصدر إلهام لجماله وجودته.

 

الشّركس في البلاد: من جبال القوقاز حتّى الجليل

الشّركس أو الأديغة كما يسمّون أنفسهم شعب تعود أصوله إلى شمال غرب القوقاز، ما بين روسيا وتركيا وإيران. تعرّفوا على الشعب الشركسي عن قرب.

شركس في كفر كما

بقلم: شير برام

كلّ من تعلّم في جهاز التّربية الإسرائيليّ تعوّد على إحياء أيام للذّكرى الوطنيّة، يوم تذكّر ضحايا المحرقة ويوم تذكّر قتلى الجيش الإسرائيلي، يوم ذكرى إسحاق رابين وغيرهم. إلّا أنّ مدرستيّ كادوري وساسا في الجليل تحتفيان بإحياء ذكرى إضافيّة: ذكرى مجزرة الشّعب الشّركسي وتهجيره من موطنه. وهما المدرستين اللّتان تقدّما الخدمات إلى أبناء قريتيّ كفر كما والرّيحانيّة في الجليل، حيث يقطن معظم الشّركس في البلاد. الشّركس أقليّة فريدة ذات خصائص مميّزة في البلاد، ويحمل أبناؤها تاريخ هام على الصّعيد المحلّي والعالميّ.

من جبال القوقاز إلى شمال البلاد: عن إجلاء الشّركس

الشّركس أو الأديغة كما يسمّون أنفسهم شعب تعود أصوله إلى شمال غرب القوقاز، شرقًا من شواطئ البحر الأسود، ما بين روسيا وتركيا وإيران. عاشوا في أراضيهم بحريّة نسبيًا دون الحاجة إلى إقامة “دولة”، وعادة ما يتمّ التعريف عنهم كشعب مكوّن من إثني عشر قبيلة (على أنه في الواقع هناك المزيد من القبائل الشّركسيّة). رأى عموم الشّركس أنفسهم كشعب واحد منذ نهاية القرن الثّامن عشر. حاولت روسيا الاستيلاء على منطقة القوقاز بهدف توطين فئات أخرى إلا أنّ مقاومة الشّركس للاحتلال الرّوسي استمرّت مائة عام حتّى قام الرّوس في نهاية المطاف بعمليّة تطهير عرقيّ للشّركس في المراحل النّهائيّة من حرب 1854-1860، حيث أحرقوا مئات القرى وارتكبوا المجازر، وتهجّر من نجا من القوقاز، فوجد مليون منهم ملجأ في أراضي الدّولة العثمانيّة ومن بينها فلسطين.

 القوقاز، موطن الشركس
القوقاز، موطن الشركس

تكوّن حينها ثلاثة تجمّعات سكّانيّة للشركس في البلاد وبقي منها اثنان: قرية كفر كما الّتي أعادوا تأسيسها في الجليل الأوسط بين مدينتيّ النّاصرة وطبريا وقرية الرّيحانيّة في الجليل الأعلى شمال صفد. تأسست “القرية القديمة” في كفر كما تحت كنف الحكم العثمانيّ عام 1878، كانت القرى الشّركسيّة في القوقاز تُبنى على مساحات شاسعة، اختار الشركس بناء ما يسمّى بـ “قرية الجدار” حيث تصطفّ البيوت إلى جانب بعضهها البعض لتشكّل سور يحيط الأماكن العامّة للقرية بدافع الأمن والحماية، وتعتبر قرية كفركما من الأمثلة المدهشة للعمارة المحلّية النّاجية من نهاية القرن التّاسع عشر وبداية القرن العشرين.

اقرأ/ي أيضًا: الشركس: صور وأخبار من البلاد في المكتبة الوطنية

كان الشّركس من مصدّري الحداثة في كلّ مكان وصلوا إليه. بالإضافة للجليل، أقاموا ثلاثة عشر تجمّعا سكنيًّا في هضبة الجولان، كما أقاموا في الأردن وأنشأوا مدينة عمّان المعاصرة. لقد قدّم الشّركس إلى المنطقة تقنيّات بناء لم تكن معروفة بها، بالإضافة إلى الحرف وصناعة الخشب والفلز، ونمط البناء والحياة الأوروبيّة، فتحوّلت كفر كما إلى مركز هام في المنطقة في نهاية الحكم العثمانيّ وخلال فترة الانتداب، وأقيمت في مركز القرية القديمة محطّة قمح حديثة؟ حيث التقى جميع سكّان القريّة من فلّاحين عرب، بدو، يهود وشركس. في حرب عام 1948 اختار الشّركس أن يقاتلوا إلى جانب اليهود، ومنذ ذلك الحين يتجنّد الشّركس في الخدمة الإجباريّة في الجيش الإسرائيليّ.

رجال من الشركس في كفر كما في سنوات السّتينيّات، أرشيف بوريس كارمي
رجال من الشركس في كفر كما في سنوات السّتينيّات، أرشيف بوريس كارمي

الشّركس شعب وليسوا “طائفة” كما يخطئ البعض في تسميتهم وهم أقليّة قوميّة في إسرائيل، علاقتهم وطيدة ببعضهم البعض في البلاد وخارجها ولا ينسون للحظة حلمهم بالعودة إلى موطنهم الأصلي. إلا أنهم في الوقت نفسه إسرائيليون ويندمجون في كل مجالات الحياة في البلاد. ورغم عددهم القليل في البلاد (قرابة 5000 إنسان من بين ملايين الشّركس في المنفى)، إلا أن الجالية الشركسيّة في البلاد سبّاقة في حفظ التّراث الشّركسي الواسع، ويعتبر يوم 21 من مايو من كلّ عام يوم ذكرى مجزرة الشّعب الشّركسي وتهجيره، والأهم هو حفظم للغتهم الأصليّة “الأديغيّة”. وهي لغة محكيّة فقط بالأصل إلا أنها تحوّلت إلى الكتابة الحرفيّة فقط في القرن التّاسع عشر (على أنه كان للشّركس كتابة رمزيّة في الماضي بقيت اليوم في رموز العائلات المختلفة)، حيث تُدرّس في المدارس الابتدائية والإعداديّة الّتي يدرس بها الشّركس. يتعلّم كلّ طفل شركسي العبريّة والإنجليزيّة والأديغيّة والعربيّة، وهناك من يدرسون الرّوسيّة والتّركيّة أيضًا. المدارس في قريتيّ كفركما والرّيحانيّة هي المدارس الوحيدة في العالم الّتي يدرس بها طلّاب مسلمون بالعبريّة كلغة أساسية.

طلّاب مدرسة في كفر كما في يوم العلم الشّركسي، تصوير حن بيرام
طلّاب مدرسة في كفر كما في يوم العلم الشّركسي، تصوير حن بيرام

الـ “أديغة خابزة” والتّعاليم الشّركسيّة: كانوا وما زالوا قوم أشدّاء

معظم الشّركس من المسلمين السّنة. اعتنقوا الإسلام في مرحلة متأخرة نسبيّا وقبل ذلك اعتنقوا المسيحيّة ومن قبلها الوثنيّة. وبالرّغم من ذلك، فإن كانوا مسلمين أو مسيحيّين، يتشارك جميع الشّراكسة في منظومة من القواعد والقوانين الخاصّة بهم والتّي توجّه تصرّفاتهم ونمط حياتهم وتسمّى “خابزة”. تعلّم الخابزة الإنسان الشّركسي كيف يتصرّف في حياته اليوميّة، كيف يربّي أبناءه على القيم والأخلاق الشّركسيّة. كما للأديغيين ميثولوجيا شعبيّة خاصّة بهم ما زالوا يورّثونها من جيلٍ إلى جيل، وبها أبطال تراثيون وقصص شعبية بشخصيّات محفورة في الوجدان الشّركسي.

رجل في اللباس الشركسيّ التّراثي في قرية كما سنوات السّبعينيّات، ارشيف بوريس كارمي
رجل في اللباس الشركسيّ التّراثي في قرية كما سنوات السّبعينيّات، ارشيف بوريس كارمي

يُقصد بالعبارة “أديغة خابزة” الطريقة الّتي ينبغي على الشّركسيّ أن يتصرّف بها. والإصرار على حفظ هذه الطريقة للعيش أمر هام جدًا، ومن لا يحترمها ويقيمها فمصيره الـ “حيناف” أي العار. توجّه الخابزة التّربية والقواعد الاجتماعيّة وكيفيّة الاحترام، الزّواج والطقوس والحياة اليوميّة. يفضّل معظم الشّركس التزاوج مع شركسيين فقط من أجل حفظ التراث الشركسيّ والهويّة. إلى جانب هذا، يحافظ الشّركس على إحياء تقاليدهم في الرّقص والموسيقى التّراثيّة. وتستخدم في الرّقصات الشركسيّة الألبسة التّراثيّة ومنها الـ “شركسكه”: حلّة المحارب وفي واجهتها مكان مخصّص للرّصاصات وهو لباس استخدم كذلك لدى شعوب أخرى في القوقاز.

طفل من قرية كفر كما في سنوات السّبعينيّات، يرتدي حلّة "شركسكه" التّراثيّة وعلى خصره خنجر شركسيّ
طفل من قرية كفر كما في سنوات السّبعينيّات، يرتدي حلّة “شركسكه” التّراثيّة وعلى خصره خنجر شركسيّ

اندمج الشّركس في المجتمع الإسرائيليّ في طرقٍ عدّة. في الماضي اعتاد الكثيرون منهم العمل في قوات الأمن حتى بعد انتهاء الخدمة الإجباريّة. ويعمل الكثيرون في شتّى المجالات من العلوم والبحث حتّى التعليم والصّناعة. يخرج الكثيرون للتّعلم في الجامعات إلا أنّ معظمهم يفضّل العودة للعيش في قراهم من أجل الحفاظ على الهويّة القوميّة والتّراثيّة كما يشتركون في الرّياضة: كابتن فريق كرة القدم الإسرائيليّة بيبرس ناتخو شركسيّ من كفر كما: وقريبته نيلي ناتخو الراحلة كانت لاعبة كرة سلّة واعدة وقياديّة. تتميّز الأقليّة الشركسيّة في إسرائيل بنسبة تعليم أكاديمي عالية، وفي السّنوات الأخيرة يتم تطوير مسار دراسي خاصّ حول الشّركس في البلاد.

كفر كما: مشهد ثقافي استثنائي في البلاد

الرّقص الشركسي من مركز التّراث في كفر كما، تصوير شير أهارون برام
الرّقص الشركسي من مركز التّراث في كفر كما، تصوير شير أهارون برام

بُنيت قرية كفر كما على آثار قرية بيزنطيّة قديمة، وبني مسجدها البازلتيّ بإلهام من نمط معماريّ ساد في البلاد في فترة أخرى من التّاريخ كان الشّركس حاضرون بها وهي فترة حكم المماليك، إذ كان الشركس إحدى المجموعات العرقيّة الّتي حكمت الدّولة المملوكيّة بالإضافة للأتراك والكرد والأرمن.

اقرأ/ي أيضًا: حضارة وثقافات: طوائف وجماعات وشعوب شكلوا طابع البلاد الفسيفسائي

عند زيارة البلدة القديمة في كفر كما يُنصح بالانتباه للتّفاصيل، لنمط عمارة البيوت، والتّحدث مع المحليّين المضيافين. كما يُنصح بتذوّق مأكولات المطبخ الشّركسيّ المميّزة والّتي يمكن اقتناؤها في القرية، ومنها الجبنة الشّركسيّة الشّهيرة والمخبوزات المحليّة. يعمل في كفر كما اليوم مركزًا تراثيًا للشّركس وإلى جانبه متحف يعرضان قصّة حفظ الشّركس لتاريخهم وهويّتهم.

صعود وسقوط سينما ريكس

ارتاد دار السينما هذه سكان القدس: يهود، عرب وجنود بريطانيون، لماذا إذًا أضرمت فيها النار مرتين؟

شير برام
אֲנִי זוֹכֵר קוֹלְנוֹעַ רֶקְס בְּיוֹמִיּוֹת

וּמֵרָחוֹק פַּעֲמוֹנִים שֶׁל כְּנֵסִיּוֹת

من أغنية يوسي بناي: “أنا وسيمون ومويز الصغير”

يعتبر شارع شلومتسيون هملكا اليوم محورًا مركزيًا في الطريق إلى جادة آلروف ماميلا ومتاجرها الفاخرة. في نهايات الأسبوع والأعياد، يمرّ العديد من الإسرائيليين عبر الشارع، يجلسون في المقاهي ويتابعون طريقهم نحو الجادة. قبل 80 عامًا، كان هذا الشارع أحد الشوارع المركزية للانتداب البريطاني في القدس. كان يرتاده العرب واليهود على حد سواء، مرتدين ملابس فاخرة ومتماشية مع أحدث خطوط الموضة، للجلوس في المقاهي- وخاصةً لمشاهدة العروض اليومية في سينما “ريكس” التي كانت واقعة عند أسفل الشارع.

“كيف كان الفيلم؟”، كثيرًا ما كان يتردد السؤال. “الفيلم ليس مميزًا، ولكن الشجار بعد الفيلم كان ممتعًا”.  هكذا يصف إلياهو نافي،  الراوي المقدسي الشهير، الزيارات إلى دار سينما “ريكس” في شارع “الأميرة ماري” في القدس الانتدابية- كما سميت في حينه. يصف نافي كيف نشب في نهاية فيلم من بطولة عبد الوهاب، الموسيقار العربي، وليلى مراد، اليهودية، شجار عنيف بين اليهود والعرب حول الصراع بين الشخصيات في الفيلم.

إعلان لفيلم في سينما ريكس. كانون الثاني، 1941. مجموعة الإعلانات، المكتبة الوطنية الإسرائيلية

 

هُدمت سينما ريكس منذ فترة طويلة، وتحوّل شارع الأميرة ماري إلى شارع شلومتسيون هملكا، ولكن المطّلعين على أدق تفاصيل تلك الفترة يتذكرون العروض اليومية في دار السينما الفخمة في ماميلا، التي لم يبق لها أثر. مع أنّ نافي يتذكر جيدًا الشجارات العنيفة بعد العروض، إلّا أنّ العنف لم يتوقف عند هذا الحد، وبعد اعتدائيّ إيتسل على المكان- ويسميهما البعض عمليات تخريبية- فإنّ دار السينما الفخمة، والتي كانت تتسع لـ 1,300 شخص، هُدمت وهُجرت. أقيم على أنقاضها المركز التجاري “هآحيم يسرائيل”، والذي لا يزال قائمًا حتى الآن.

كانت سينما ريكس مَعلمًا بارزًا في المشهد الطبيعي المقدسي في فترة الانتداب البريطاني. وبينما كانت سائر دور السينما التي نشطت في تلك الفترة- تسيون، أديسون وعيدن- بملكية يهودية، أقيمت سينما ريكس على يد رجل أعمال عربي-مسيحي يُدعى جوزيف باسكال ألبينا. تعاون ألبينا مع العديد من اليهود في مشاريع مختلفة، أحيانًا خلافًا لموقف اللجنة العربية العليا. كان ألبينا يملك شركة إنتاج سينمائي تدعى “أفلام النيل”، من جملة ممتلكات أخرى، وأقام سينما ريكس لعرض أفلامه هو أيضًا. المقاول الذي اختير لبناء دار السينما كان اليهودي يونا فريدمان، وبعد إنهاء المشروع، اكتشف ألبينا أنّه كان ينقصه مبلغ مالي وجب عليه دفعه لفريدمان، فاقترح عليها بدلًا من ذلك الدخول معه كشريك في السينما. في 6 حزيران 1938، افتتحت سينما ريكس (“ملك” باللاتينية)، وعرضت فيها أفلام عربية- مصرية أساسًا- بالإضافة إلى أفلام الغرب الأمريكي وأعمال أوروبية. غالبية الجمهور كان من العرب المقدسيين ورجال الإدارة البريطانيين، ولكن بعض اليهود ارتادوا المكان أيضًا.

 

سينما ريكس، مطلع الأربعينات. تصوير: بيكي ويكي إسرائيل

العملية التخريبية الأولى

في أيار 1939، بعد أقل من مرور عام على افتتاح سينما ريكس، أصدرت حكومة الانتداب البريطاني “الكتاب الأبيض”، حيث أعلن عن فرض قيود على هجرة اليهود إلى فلسطين. اعتبر ذلك هجومًا مباشرًا على اليشوف اليهودي في إسرائيل، وردًا على ذلك، نفّذت منظمة إيتسل عملية تخريبية.   يفيد ييشكا إلياف،  قائد العمليات في منظمة إيتسل، ومن ثم قائد منظمة ليحي، في مذكراته بأنّ سينما ريكس اختيرت لكونها “واقعة ضمن المنطقة التابعة لمؤسسات السلطات البريطانية (…) وبفضل موقعها ومبناها العصري، جذبت دار السينما قادة سلطات الانتداب، ونخبة المجتمع العربي.   استهدفت عملية دار السينما قادة السلطات العسكرية، المدنية والشرطوية، والجمهور الذي يضم القيادة الجماهيرية العربية وداعمي العصابات”. لقّب البريطانيون ييشكا بـ “الإرهابي ذي العيون المخملية”.

صحيفة “هبوكير” تعلن عن التفجيرات في سينما ريكس. 30 أيار، 1939

 

في 29 أيار، اقتحم رجال الـ “إيتسل” دار السينما أثناء عرض فيلم “طرزان”، فخّخوها بمعطف مليء بالمتفجرات والعبوات الناسفة المخبأة في علب الحلوى، وغادروا المكان. في تمام الساعة 20:30، عندما زأر الأسد الشهير لشركة الإنتاج السينمائي غولدن-ماير معلنًا عن بدء الفيلم، انفجرت العبوات الناسفة وفقًا للمخطط. هرع الجمهور الفَزِع خارج الصالة، ليصطدموا برجال الإيتسل الذين كانوا ينتظرونهم بجوار المقبرة الإسلامية في ماميلا، حيث نصبوا لهم فخًا وأطلقوا النار على الفارين. قُتل 5 أشخاص، جميعهم عرب، وأصيب 18 آخرون: ستة بريطانيين، عشرة عرب ويهوديان. لحق بالمكان ضرر جسيم، بعد أن احترق، وأصبح الاعتداء حديث الصباح والمساء في المدينة. في أعقاب الاعتداء على دار السينما، أصدر القائد العسكري البريطاني في القدس أمرًا بإغلاق جميع دور السينما في القدس، بالإضافة إلى مؤسسات ثقافية أخرى. وبينما استمرت منظمة الإيتسل في استهداف مواقع أخرى في المدينة، وقفت سينما ريكس على حافة الانهيار، ولكن اندلاع الحرب العالمية الثانية ساهم في تجديد نشاطها. حضر إلى المدينة عدد كبير من العساكر البريطانيين الذين احتاجوا مجددًا لدار سينما ناطقة بالإنجليزية. سارع أصحاب المكان لترميمه، وعادت سينما ريكس إلى قمة نشاطها.

اقرأ/ي أيضًا:  فلسطينيون في الحرب العالمية الثانية في صفوف بريطانيا

سنوات النشوة وانتهائها

طوال أربعينيات القرن الماضي، شكلت سينما ريكس ملتقى للعرب، اليهود والبريطانيين في القدس. خلافَا لما جاء في مذكرات رجال منظمة إيتسل، والذين أفادوا بأنّ دار السينما لم تكن وجهةً لسكان المدينة اليهود، يبدو أنّ العديد من اليهود ارتادوا المكان. إعلانات الأفلام صدرت باللغة العبرية في صحف يهودية، إلى جانب التهاني بالسنة العبرية الجديدة، وفي عام 1946، وعلى إثر الشائعات بأنّ الشركاء اليهود غادروا دار السينما، خرجت الإدارة في بيان يوضح عدم صحة هذه الإشاعة.

إعلان لفيلم في سينما ريكس. أيار 1940. مجموعة الإعلانات، المكتبة الوطنية الإسرائيلية

 

كان شارع الأميرة ماري أحد الشوارع الأكثر عصرية وكوزموبوليتانية في فترة الانتداب، وكانت “ريكس” دار السينما الوحيدة في مركز المدينة التي تفتح أبوابها يوم السبت. نشطت في الطابق العلوي للمبنى دار سينما إضافية تدعي “استوديو”. في مقالته التي نشرت في صحيفة “عال هميشمار “ ، يصف غابريئيل شطيرن الأجواء التي كانت سائدة في القدس في الأربعينات، وللمفارقة، كتب شطيرن أن سنوات الحرب شهدت تقاربًا بين الشعبين، واعتبرت فترة سلام نسبي. موقع دار السينما جعل منها ملتقى مباشرًا للشرائح المجتمعية المختلفة. في الفترة الفاصلة بين صدور الكتاب الأبيض واندلاع حرب الاستقلال في عام 1947، كان اليهود يشعرون بالراحة في المكان، خاصة عشية السبت والأعياد.   استحضر يستحضر يوسي بناي، في أغنية له عن هذه الفترة، العروض اليومية في دار السينما والتي كان يحضرها مع الأخوين سيمون ومويز. العروض الصباحية كانت أقل تكلفة من العروض المسائية… واستمرت حالة النشوة في سينما ريكس، حتى عشية 29 تشرين الثاني 1947.

بعد الإعلان الصادر عن الأمم المتحدة، واحتجاجًا على قرار التقسيم، بادرت اللجنة العربية العليا لإضراب لثلاثة أيام في الشارع العربي. كانت الأجواء في الشارع العربي في القدس عاصفة ومتوترة، مما أدى في نهاية المطاف إلى انفجار. في صباح الثاني من كانون الأول 1947، هاجم حشدٌ من العرب المركز التجاري في ماميلا، حيث كان غالبية المتاجر تابعة لليهود. القوات البريطانية التي وجب عليها حماية المكان كانت منشغلة في ملاحقة قوات الحراسة المركّزة المكونة من أعضاء “الهاغاناه”، وقام مثيرو الشعب، وهم يحملون العصي، الفؤوس والسكاكين، بإضرام النار في المركز التجاري والاعتداء على التجار. ردًا على ذلك، اعتدى رجال الإيتسل مجددًا على سينما ريكس، وهذه المرة، أضرموا فيها النار. خلافًا للعملية التخريبية الأولى التي نفذها رجال الإيتسل في السينما، والتي خطط لها بكل تأنٍ، كان الاعتداء هذه المرة أكثر عفوية.   نشرت صحيفة “حيروت-حرية” قصة الاعتداءـ، كما وصفها موشيه سولومون (“نتان”)، القائد الذي بادر إليها: “لم نتلق أي أوامر بذلك، كنا فقط 5 من رجال إيتسل  (…). وصلنا إلى “ريكس”، اقتحمنا الأبواب، وباشرنا بمهمة الإبادة، كما حدث في المركز التجاري. أضرمنا النار في غرفة الآلات ومن ثم في سائر أجزاء المبنى (…). بعد إتمام العملية، أخبرت المسؤولين عني في منظمة إيتسل بالعملية، وصادقوا عليها بأثر رجعي”.

الدخان يتصاعد من سينما ريكس. كانون الأول، 1947. مجموعة رودي غولدشطاين، بيتمونا

احترقت دار السينما بالكامل، إذ أنّ شرائط العرض المصنوعة من النترات كانت شديدة الاشتعال. تعالت سحب الدخان لتغطي سماء المدينة، والتقطت بعدسة بعض المصورين. في ذلك اليوم، ضاع الأمل في عودة سينما ريكس، التي خدمت العرب، اليهود والبريطانيين في القدس. ظلت أنقاضها قائمة حتى ستينيات القرن الماضي، إلى أن أقيم في المكان المركز التجاري الذي لا يزال قائمًا حتى يومنا هذا.

 

قصة ميلاد السيد المسيح في الكتاب المقدّس

أخذت الامبراطوريّة البيزنطية ببناء كنائس فاخرة في الأماكن التي شكّلت أهميّة في مسيرة المسيح والّتي استلهمت حكاية المكان في الانجيل لتشكّل تجربة حسّية فريدة لزوّارها.

صورة لمدخل كنيسة المهد في القرن التّاسع عشر، أرشيف ياد يتسحاك بن تسفي.

صورة لمدخل كنيسة المهد في القرن التّاسع عشر، أرشيف ياد يتسحاك بن تسفي.

إلى كنيسة المهد المقدّسة في مدينة بيت لحم تحجّ الطّوائف المسيحيّة لتحتفل بعيد ميلاد السّيد المسيح كلّ عام. وهو تقليد دينيّ نشأ منذ القرن الثّالث بعد الميلاد واستمرّ إلى يومنا هذا، وبرغم عدم وجود فريضة للحجّ إلى المواقع المقدّسة في الدّيانة المسيحيّة إلّا أن المسيحيون شعروا بالرّغبة بزيارة هذه المواقع الّتي تم استكشافها رويدًا رويدًا وربطها بمحطّات رئيسيّة من حياة السّيد المسيح كما وردت في الانجيل

بطاقة تذكاريّة لعام 1880 تظهر اجتماع الحجّاج في ساحة المهد خارج الكنيسة
بطاقة تذكاريّة لعام 1880 تظهر اجتماع الحجّاج في ساحة المهد خارج الكنيسة

فالانجيل اذًا هو المصدر الأول الّذي اعتمدت عليه تكهّنات الحجّاج الأوائل للعثور على الأماكن التي شكّلت أهميّة في مسيرة المسيح، وحين أصبحت الدّيانة المسيحيّة ديانة الامبراطوريّة البيزنطية بشكلٍ رسميّ، أخذت الامبراطوريّة ببناء كنائس فاخرة في كلّ من تلك المواقع، تلك الكنائس الّتي تطوّرت من حيث البنيان والأيقونات والتّصاميم الّتي استلهمت حكاية المكان في الانجيل لتشكّل تجربة حسّية فريدة لزوّارها الحجّاج.

نتناول في هذه المقالة قصّة ميلاد السّيد المسيح كما وردت في إنجيليّ لوقا ومتّا، ثمّ قصّة بناء كنيسة المهد الّتي استندت على هذه النّصوص.

وردت قصّة ولادة السّيد المسيح في إنجيل لوقا وإنجيل متّى، ويمكننا اعتبار القصّتين مكمّلتين لبعضهما البعض، ففي حين يذكر إنجيل متّى ولادة السّيد المسيح بقليلٍ من التّفاصيل لينتقل للحديث عن معجزة ظهور النّجم الّذي دلّ المجوس على ولادة “ملك اليهود”، يوفّر إنجيل لوقا مزيدًا من التّفاصيل حول سياق الحكاية وتفاصيلها. كلتا القصّتين تؤكّدا على أن الولادة وقعت في بيت لحم “مدينة داوود”، فما الّذي دلّ الامبراطور قسطنطين عام 335 على موقع مغارة المهد الّتي أمر ببناء الكنيسة فوقها؟ إليكم القصّتين كما وردتا في العهد الجديد.

من إنجيل متّى

“أمّا ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا: لمّا كانت مريم أمّه مخطوبة ليوسف، قبل أن يجتمعا، وُجدت حبلى من الرّوح القدس. فيوسف رجلها إذ كان بارًا، ولم يشأ أن يُشهرها، أراد تخليتها سرًا. ولكن فيما هو متفكرٌ في هذه الأمور، إذا ملاك الرّب قد ظهر له في حلم قائلًا: “يا يوسف ابن داوود، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك. لأن الّذي حُبل به فيها هو من الرّوح القُدُس. فستلد إبنا وتدعو اسمه ياسوع. لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم” وهذا كلّه كان لكيّ يتمّ ما قيل من الرّب بالنّبي القائل : “هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا، ويدعون اسمه عمّانوئيل” الّذي تفسيره :الله معنا. فلمّا استيقظ يوسف من النّوم فعل كما أمره ملاك الرّب، وأخذ امرأته. ولم يعرفها حتّى ولدت ابنها البكر. ودعا اسمه يسوع. ولمّا ولد يسوع في بيت لحم اليهوديّة، في أيّام هيرودس الملك، اذا مجوس من المشرق قد جاؤوا إلى اورشاليم قائلين :”أين هو المولود ملك اليهود”.

من إنجيل لوقا

“وفي تلك الأيام صدرَ أمرٌ من أغسطس قيصر بأن يُكتتب كلّ المسكونة. وهذا الاكتتاب الأوّل جرى إذ كان كيرينيوس والي سوريّة. فذهب الجميع ليُكتتبوا كلّ واحدٍ إلى مدينته. فصعد يوسف أيضًا من الجليل من مدينة النّاصرة إلى اليهوديّة، إلى مدينة داوود الّتي تُدعى بيت لحم، لكونه من بيت داوود وعشيرته ليُكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حُبلى. وبينما هما هناك تمّت أيّامها لتلد. فولدت ابنها البكر وقمّطته وأضجعته في المذود، إذ لم يكُن لهما موضعٌ في المنزل”

نَعرف إذًا من القصّة كما وردة في انجيل لوقا أنّ ولادة المسيح في بيت لحم كانت لسفرٍ اضطرّ يوسف ومريم للخروج فيه كيّ يلبّوا طلب القيصر بالاحصاء، فكان السّفر من النّاصرة إلى بيت لحم الّتي تعيش بها عشيرة يوسف، كما نعرف أيضًا أن ولادة المسيح لم تكن في بيتًا أو فندقًا مغلقًا، بل وُضع في مذود، وهو المكان الّذي يوضَع فيه علف الدّواب، وقد صنعت منه السّيدة مريم مهد المسيح حين كان رضيعًا، ممّا يفسّر اختيار اسم “كنيسة المهد”. ولكن مع ذلك، ما الّذي دلّ بناة الكنيسة على هذه المغارة تحديدًا، والنّص لا يذكر أيّة مغارة أو موقعًا؟

مجسّم لمذود السّيد المسيح من كنيسة القدّيسة كاترينا في بيت لحم خلال احتفالات الميلاد عام 2018، أرشيف دانتشو أرنون.
مجسّم لمذود السّيد المسيح من كنيسة القدّيسة كاترينا في بيت لحم خلال احتفالات الميلاد عام 2018، أرشيف دانتشو أرنون.

ورد الحديث عن مغارة للمرّة الأولى على لسان القدّيس جاستين بعد مائة وخمسين عامًا من ولادة السّيد المسح، وقد ذكّر القديس أن الولادة تمّت في مغارة صغيرة بالقرب من قرية “بيت لحم”، وكانت المغارة الّتي وُجدت في موقع كنيسة المهد اليوم اوّل ما اعتبره مسيحيّو القرن الثّالث مزارًا مقدّسًا بالإضافة إلى جبل الطّور، فزاروا المغارة وأدوّا بها الصلاة وتمّ بناء الكنيسة فوقها للمرّة الأولى وسمّيت بكنيسة “القدّيسة مريم” إلا أن أعيد بناءها مرّة أخرى في القرن السّادس ودُعيت “المهد” تيمّنًا بوصف إنجيل لوقا لحادثة الولادة.

تُعتبر كنيسة المهد أحد أهم المزارات المسيحيّة حول العالم، وتتناقل الأجيال هذه القصّة الّتي تطوّرت بناء عليها ترانيم الميلاد الّتي تتغنّى بمعجزة ميلاده الّذي اتّسم بالتّواضع. للمزيد حول كنيسة المهد ومدينة بيت لحم زوروا بوّابتنا المعرفيّة.