بقلم: شير برام
كلّ من تعلّم في جهاز التّربية الإسرائيليّ تعوّد على إحياء أيام للذّكرى الوطنيّة، يوم تذكّر ضحايا المحرقة ويوم تذكّر قتلى الجيش الإسرائيلي، يوم ذكرى إسحاق رابين وغيرهم. إلّا أنّ مدرستيّ كادوري وساسا في الجليل تحتفيان بإحياء ذكرى إضافيّة: ذكرى مجزرة الشّعب الشّركسي وتهجيره من موطنه. وهما المدرستين اللّتان تقدّما الخدمات إلى أبناء قريتيّ كفر كما والرّيحانيّة في الجليل، حيث يقطن معظم الشّركس في البلاد. الشّركس أقليّة فريدة ذات خصائص مميّزة في البلاد، ويحمل أبناؤها تاريخ هام على الصّعيد المحلّي والعالميّ.
من جبال القوقاز إلى شمال البلاد: عن إجلاء الشّركس
الشّركس أو الأديغة كما يسمّون أنفسهم شعب تعود أصوله إلى شمال غرب القوقاز، شرقًا من شواطئ البحر الأسود، ما بين روسيا وتركيا وإيران. عاشوا في أراضيهم بحريّة نسبيًا دون الحاجة إلى إقامة “دولة”، وعادة ما يتمّ التعريف عنهم كشعب مكوّن من إثني عشر قبيلة (على أنه في الواقع هناك المزيد من القبائل الشّركسيّة). رأى عموم الشّركس أنفسهم كشعب واحد منذ نهاية القرن الثّامن عشر. حاولت روسيا الاستيلاء على منطقة القوقاز بهدف توطين فئات أخرى إلا أنّ مقاومة الشّركس للاحتلال الرّوسي استمرّت مائة عام حتّى قام الرّوس في نهاية المطاف بعمليّة تطهير عرقيّ للشّركس في المراحل النّهائيّة من حرب 1854-1860، حيث أحرقوا مئات القرى وارتكبوا المجازر، وتهجّر من نجا من القوقاز، فوجد مليون منهم ملجأ في أراضي الدّولة العثمانيّة ومن بينها فلسطين.
تكوّن حينها ثلاثة تجمّعات سكّانيّة للشركس في البلاد وبقي منها اثنان: قرية كفر كما الّتي أعادوا تأسيسها في الجليل الأوسط بين مدينتيّ النّاصرة وطبريا وقرية الرّيحانيّة في الجليل الأعلى شمال صفد. تأسست “القرية القديمة” في كفر كما تحت كنف الحكم العثمانيّ عام 1878، كانت القرى الشّركسيّة في القوقاز تُبنى على مساحات شاسعة، اختار الشركس بناء ما يسمّى بـ “قرية الجدار” حيث تصطفّ البيوت إلى جانب بعضهها البعض لتشكّل سور يحيط الأماكن العامّة للقرية بدافع الأمن والحماية، وتعتبر قرية كفركما من الأمثلة المدهشة للعمارة المحلّية النّاجية من نهاية القرن التّاسع عشر وبداية القرن العشرين.
اقرأ/ي أيضًا: الشركس: صور وأخبار من البلاد في المكتبة الوطنية
كان الشّركس من مصدّري الحداثة في كلّ مكان وصلوا إليه. بالإضافة للجليل، أقاموا ثلاثة عشر تجمّعا سكنيًّا في هضبة الجولان، كما أقاموا في الأردن وأنشأوا مدينة عمّان المعاصرة. لقد قدّم الشّركس إلى المنطقة تقنيّات بناء لم تكن معروفة بها، بالإضافة إلى الحرف وصناعة الخشب والفلز، ونمط البناء والحياة الأوروبيّة، فتحوّلت كفر كما إلى مركز هام في المنطقة في نهاية الحكم العثمانيّ وخلال فترة الانتداب، وأقيمت في مركز القرية القديمة محطّة قمح حديثة؟ حيث التقى جميع سكّان القريّة من فلّاحين عرب، بدو، يهود وشركس. في حرب عام 1948 اختار الشّركس أن يقاتلوا إلى جانب اليهود، ومنذ ذلك الحين يتجنّد الشّركس في الخدمة الإجباريّة في الجيش الإسرائيليّ.
الشّركس شعب وليسوا “طائفة” كما يخطئ البعض في تسميتهم وهم أقليّة قوميّة في إسرائيل، علاقتهم وطيدة ببعضهم البعض في البلاد وخارجها ولا ينسون للحظة حلمهم بالعودة إلى موطنهم الأصلي. إلا أنهم في الوقت نفسه إسرائيليون ويندمجون في كل مجالات الحياة في البلاد. ورغم عددهم القليل في البلاد (قرابة 5000 إنسان من بين ملايين الشّركس في المنفى)، إلا أن الجالية الشركسيّة في البلاد سبّاقة في حفظ التّراث الشّركسي الواسع، ويعتبر يوم 21 من مايو من كلّ عام يوم ذكرى مجزرة الشّعب الشّركسي وتهجيره، والأهم هو حفظم للغتهم الأصليّة “الأديغيّة”. وهي لغة محكيّة فقط بالأصل إلا أنها تحوّلت إلى الكتابة الحرفيّة فقط في القرن التّاسع عشر (على أنه كان للشّركس كتابة رمزيّة في الماضي بقيت اليوم في رموز العائلات المختلفة)، حيث تُدرّس في المدارس الابتدائية والإعداديّة الّتي يدرس بها الشّركس. يتعلّم كلّ طفل شركسي العبريّة والإنجليزيّة والأديغيّة والعربيّة، وهناك من يدرسون الرّوسيّة والتّركيّة أيضًا. المدارس في قريتيّ كفركما والرّيحانيّة هي المدارس الوحيدة في العالم الّتي يدرس بها طلّاب مسلمون بالعبريّة كلغة أساسية.
الـ “أديغة خابزة” والتّعاليم الشّركسيّة: كانوا وما زالوا قوم أشدّاء
معظم الشّركس من المسلمين السّنة. اعتنقوا الإسلام في مرحلة متأخرة نسبيّا وقبل ذلك اعتنقوا المسيحيّة ومن قبلها الوثنيّة. وبالرّغم من ذلك، فإن كانوا مسلمين أو مسيحيّين، يتشارك جميع الشّراكسة في منظومة من القواعد والقوانين الخاصّة بهم والتّي توجّه تصرّفاتهم ونمط حياتهم وتسمّى “خابزة”. تعلّم الخابزة الإنسان الشّركسي كيف يتصرّف في حياته اليوميّة، كيف يربّي أبناءه على القيم والأخلاق الشّركسيّة. كما للأديغيين ميثولوجيا شعبيّة خاصّة بهم ما زالوا يورّثونها من جيلٍ إلى جيل، وبها أبطال تراثيون وقصص شعبية بشخصيّات محفورة في الوجدان الشّركسي.
يُقصد بالعبارة “أديغة خابزة” الطريقة الّتي ينبغي على الشّركسيّ أن يتصرّف بها. والإصرار على حفظ هذه الطريقة للعيش أمر هام جدًا، ومن لا يحترمها ويقيمها فمصيره الـ “حيناف” أي العار. توجّه الخابزة التّربية والقواعد الاجتماعيّة وكيفيّة الاحترام، الزّواج والطقوس والحياة اليوميّة. يفضّل معظم الشّركس التزاوج مع شركسيين فقط من أجل حفظ التراث الشركسيّ والهويّة. إلى جانب هذا، يحافظ الشّركس على إحياء تقاليدهم في الرّقص والموسيقى التّراثيّة. وتستخدم في الرّقصات الشركسيّة الألبسة التّراثيّة ومنها الـ “شركسكه”: حلّة المحارب وفي واجهتها مكان مخصّص للرّصاصات وهو لباس استخدم كذلك لدى شعوب أخرى في القوقاز.
اندمج الشّركس في المجتمع الإسرائيليّ في طرقٍ عدّة. في الماضي اعتاد الكثيرون منهم العمل في قوات الأمن حتى بعد انتهاء الخدمة الإجباريّة. ويعمل الكثيرون في شتّى المجالات من العلوم والبحث حتّى التعليم والصّناعة. يخرج الكثيرون للتّعلم في الجامعات إلا أنّ معظمهم يفضّل العودة للعيش في قراهم من أجل الحفاظ على الهويّة القوميّة والتّراثيّة كما يشتركون في الرّياضة: كابتن فريق كرة القدم الإسرائيليّة بيبرس ناتخو شركسيّ من كفر كما: وقريبته نيلي ناتخو الراحلة كانت لاعبة كرة سلّة واعدة وقياديّة. تتميّز الأقليّة الشركسيّة في إسرائيل بنسبة تعليم أكاديمي عالية، وفي السّنوات الأخيرة يتم تطوير مسار دراسي خاصّ حول الشّركس في البلاد.
كفر كما: مشهد ثقافي استثنائي في البلاد
بُنيت قرية كفر كما على آثار قرية بيزنطيّة قديمة، وبني مسجدها البازلتيّ بإلهام من نمط معماريّ ساد في البلاد في فترة أخرى من التّاريخ كان الشّركس حاضرون بها وهي فترة حكم المماليك، إذ كان الشركس إحدى المجموعات العرقيّة الّتي حكمت الدّولة المملوكيّة بالإضافة للأتراك والكرد والأرمن.
اقرأ/ي أيضًا: حضارة وثقافات: طوائف وجماعات وشعوب شكلوا طابع البلاد الفسيفسائي
عند زيارة البلدة القديمة في كفر كما يُنصح بالانتباه للتّفاصيل، لنمط عمارة البيوت، والتّحدث مع المحليّين المضيافين. كما يُنصح بتذوّق مأكولات المطبخ الشّركسيّ المميّزة والّتي يمكن اقتناؤها في القرية، ومنها الجبنة الشّركسيّة الشّهيرة والمخبوزات المحليّة. يعمل في كفر كما اليوم مركزًا تراثيًا للشّركس وإلى جانبه متحف يعرضان قصّة حفظ الشّركس لتاريخهم وهويّتهم.