شير برام
אֲנִי זוֹכֵר קוֹלְנוֹעַ רֶקְס בְּיוֹמִיּוֹת
וּמֵרָחוֹק פַּעֲמוֹנִים שֶׁל כְּנֵסִיּוֹת
من أغنية يوسي بناي: “أنا وسيمون ومويز الصغير”
يعتبر شارع شلومتسيون هملكا اليوم محورًا مركزيًا في الطريق إلى جادة آلروف ماميلا ومتاجرها الفاخرة. في نهايات الأسبوع والأعياد، يمرّ العديد من الإسرائيليين عبر الشارع، يجلسون في المقاهي ويتابعون طريقهم نحو الجادة. قبل 80 عامًا، كان هذا الشارع أحد الشوارع المركزية للانتداب البريطاني في القدس. كان يرتاده العرب واليهود على حد سواء، مرتدين ملابس فاخرة ومتماشية مع أحدث خطوط الموضة، للجلوس في المقاهي- وخاصةً لمشاهدة العروض اليومية في سينما “ريكس” التي كانت واقعة عند أسفل الشارع.
“كيف كان الفيلم؟”، كثيرًا ما كان يتردد السؤال. “الفيلم ليس مميزًا، ولكن الشجار بعد الفيلم كان ممتعًا”. هكذا يصف إلياهو نافي، الراوي المقدسي الشهير، الزيارات إلى دار سينما “ريكس” في شارع “الأميرة ماري” في القدس الانتدابية- كما سميت في حينه. يصف نافي كيف نشب في نهاية فيلم من بطولة عبد الوهاب، الموسيقار العربي، وليلى مراد، اليهودية، شجار عنيف بين اليهود والعرب حول الصراع بين الشخصيات في الفيلم.
هُدمت سينما ريكس منذ فترة طويلة، وتحوّل شارع الأميرة ماري إلى شارع شلومتسيون هملكا، ولكن المطّلعين على أدق تفاصيل تلك الفترة يتذكرون العروض اليومية في دار السينما الفخمة في ماميلا، التي لم يبق لها أثر. مع أنّ نافي يتذكر جيدًا الشجارات العنيفة بعد العروض، إلّا أنّ العنف لم يتوقف عند هذا الحد، وبعد اعتدائيّ إيتسل على المكان- ويسميهما البعض عمليات تخريبية- فإنّ دار السينما الفخمة، والتي كانت تتسع لـ 1,300 شخص، هُدمت وهُجرت. أقيم على أنقاضها المركز التجاري “هآحيم يسرائيل”، والذي لا يزال قائمًا حتى الآن.
كانت سينما ريكس مَعلمًا بارزًا في المشهد الطبيعي المقدسي في فترة الانتداب البريطاني. وبينما كانت سائر دور السينما التي نشطت في تلك الفترة- تسيون، أديسون وعيدن- بملكية يهودية، أقيمت سينما ريكس على يد رجل أعمال عربي-مسيحي يُدعى جوزيف باسكال ألبينا. تعاون ألبينا مع العديد من اليهود في مشاريع مختلفة، أحيانًا خلافًا لموقف اللجنة العربية العليا. كان ألبينا يملك شركة إنتاج سينمائي تدعى “أفلام النيل”، من جملة ممتلكات أخرى، وأقام سينما ريكس لعرض أفلامه هو أيضًا. المقاول الذي اختير لبناء دار السينما كان اليهودي يونا فريدمان، وبعد إنهاء المشروع، اكتشف ألبينا أنّه كان ينقصه مبلغ مالي وجب عليه دفعه لفريدمان، فاقترح عليها بدلًا من ذلك الدخول معه كشريك في السينما. في 6 حزيران 1938، افتتحت سينما ريكس (“ملك” باللاتينية)، وعرضت فيها أفلام عربية- مصرية أساسًا- بالإضافة إلى أفلام الغرب الأمريكي وأعمال أوروبية. غالبية الجمهور كان من العرب المقدسيين ورجال الإدارة البريطانيين، ولكن بعض اليهود ارتادوا المكان أيضًا.
العملية التخريبية الأولى
في أيار 1939، بعد أقل من مرور عام على افتتاح سينما ريكس، أصدرت حكومة الانتداب البريطاني “الكتاب الأبيض”، حيث أعلن عن فرض قيود على هجرة اليهود إلى فلسطين. اعتبر ذلك هجومًا مباشرًا على اليشوف اليهودي في إسرائيل، وردًا على ذلك، نفّذت منظمة إيتسل عملية تخريبية. يفيد ييشكا إلياف، قائد العمليات في منظمة إيتسل، ومن ثم قائد منظمة ليحي، في مذكراته بأنّ سينما ريكس اختيرت لكونها “واقعة ضمن المنطقة التابعة لمؤسسات السلطات البريطانية (…) وبفضل موقعها ومبناها العصري، جذبت دار السينما قادة سلطات الانتداب، ونخبة المجتمع العربي. استهدفت عملية دار السينما قادة السلطات العسكرية، المدنية والشرطوية، والجمهور الذي يضم القيادة الجماهيرية العربية وداعمي العصابات”. لقّب البريطانيون ييشكا بـ “الإرهابي ذي العيون المخملية”.
في 29 أيار، اقتحم رجال الـ “إيتسل” دار السينما أثناء عرض فيلم “طرزان”، فخّخوها بمعطف مليء بالمتفجرات والعبوات الناسفة المخبأة في علب الحلوى، وغادروا المكان. في تمام الساعة 20:30، عندما زأر الأسد الشهير لشركة الإنتاج السينمائي غولدن-ماير معلنًا عن بدء الفيلم، انفجرت العبوات الناسفة وفقًا للمخطط. هرع الجمهور الفَزِع خارج الصالة، ليصطدموا برجال الإيتسل الذين كانوا ينتظرونهم بجوار المقبرة الإسلامية في ماميلا، حيث نصبوا لهم فخًا وأطلقوا النار على الفارين. قُتل 5 أشخاص، جميعهم عرب، وأصيب 18 آخرون: ستة بريطانيين، عشرة عرب ويهوديان. لحق بالمكان ضرر جسيم، بعد أن احترق، وأصبح الاعتداء حديث الصباح والمساء في المدينة. في أعقاب الاعتداء على دار السينما، أصدر القائد العسكري البريطاني في القدس أمرًا بإغلاق جميع دور السينما في القدس، بالإضافة إلى مؤسسات ثقافية أخرى. وبينما استمرت منظمة الإيتسل في استهداف مواقع أخرى في المدينة، وقفت سينما ريكس على حافة الانهيار، ولكن اندلاع الحرب العالمية الثانية ساهم في تجديد نشاطها. حضر إلى المدينة عدد كبير من العساكر البريطانيين الذين احتاجوا مجددًا لدار سينما ناطقة بالإنجليزية. سارع أصحاب المكان لترميمه، وعادت سينما ريكس إلى قمة نشاطها.
اقرأ/ي أيضًا: فلسطينيون في الحرب العالمية الثانية في صفوف بريطانيا
سنوات النشوة وانتهائها
طوال أربعينيات القرن الماضي، شكلت سينما ريكس ملتقى للعرب، اليهود والبريطانيين في القدس. خلافَا لما جاء في مذكرات رجال منظمة إيتسل، والذين أفادوا بأنّ دار السينما لم تكن وجهةً لسكان المدينة اليهود، يبدو أنّ العديد من اليهود ارتادوا المكان. إعلانات الأفلام صدرت باللغة العبرية في صحف يهودية، إلى جانب التهاني بالسنة العبرية الجديدة، وفي عام 1946، وعلى إثر الشائعات بأنّ الشركاء اليهود غادروا دار السينما، خرجت الإدارة في بيان يوضح عدم صحة هذه الإشاعة.
كان شارع الأميرة ماري أحد الشوارع الأكثر عصرية وكوزموبوليتانية في فترة الانتداب، وكانت “ريكس” دار السينما الوحيدة في مركز المدينة التي تفتح أبوابها يوم السبت. نشطت في الطابق العلوي للمبنى دار سينما إضافية تدعي “استوديو”. في مقالته التي نشرت في صحيفة “عال هميشمار “ ، يصف غابريئيل شطيرن الأجواء التي كانت سائدة في القدس في الأربعينات، وللمفارقة، كتب شطيرن أن سنوات الحرب شهدت تقاربًا بين الشعبين، واعتبرت فترة سلام نسبي. موقع دار السينما جعل منها ملتقى مباشرًا للشرائح المجتمعية المختلفة. في الفترة الفاصلة بين صدور الكتاب الأبيض واندلاع حرب الاستقلال في عام 1947، كان اليهود يشعرون بالراحة في المكان، خاصة عشية السبت والأعياد. استحضر يستحضر يوسي بناي، في أغنية له عن هذه الفترة، العروض اليومية في دار السينما والتي كان يحضرها مع الأخوين سيمون ومويز. العروض الصباحية كانت أقل تكلفة من العروض المسائية… واستمرت حالة النشوة في سينما ريكس، حتى عشية 29 تشرين الثاني 1947.
بعد الإعلان الصادر عن الأمم المتحدة، واحتجاجًا على قرار التقسيم، بادرت اللجنة العربية العليا لإضراب لثلاثة أيام في الشارع العربي. كانت الأجواء في الشارع العربي في القدس عاصفة ومتوترة، مما أدى في نهاية المطاف إلى انفجار. في صباح الثاني من كانون الأول 1947، هاجم حشدٌ من العرب المركز التجاري في ماميلا، حيث كان غالبية المتاجر تابعة لليهود. القوات البريطانية التي وجب عليها حماية المكان كانت منشغلة في ملاحقة قوات الحراسة المركّزة المكونة من أعضاء “الهاغاناه”، وقام مثيرو الشعب، وهم يحملون العصي، الفؤوس والسكاكين، بإضرام النار في المركز التجاري والاعتداء على التجار. ردًا على ذلك، اعتدى رجال الإيتسل مجددًا على سينما ريكس، وهذه المرة، أضرموا فيها النار. خلافًا للعملية التخريبية الأولى التي نفذها رجال الإيتسل في السينما، والتي خطط لها بكل تأنٍ، كان الاعتداء هذه المرة أكثر عفوية. نشرت صحيفة “حيروت-حرية” قصة الاعتداءـ، كما وصفها موشيه سولومون (“نتان”)، القائد الذي بادر إليها: “لم نتلق أي أوامر بذلك، كنا فقط 5 من رجال إيتسل (…). وصلنا إلى “ريكس”، اقتحمنا الأبواب، وباشرنا بمهمة الإبادة، كما حدث في المركز التجاري. أضرمنا النار في غرفة الآلات ومن ثم في سائر أجزاء المبنى (…). بعد إتمام العملية، أخبرت المسؤولين عني في منظمة إيتسل بالعملية، وصادقوا عليها بأثر رجعي”.
الدخان يتصاعد من سينما ريكس. كانون الأول، 1947. مجموعة رودي غولدشطاين، بيتمونا
احترقت دار السينما بالكامل، إذ أنّ شرائط العرض المصنوعة من النترات كانت شديدة الاشتعال. تعالت سحب الدخان لتغطي سماء المدينة، والتقطت بعدسة بعض المصورين. في ذلك اليوم، ضاع الأمل في عودة سينما ريكس، التي خدمت العرب، اليهود والبريطانيين في القدس. ظلت أنقاضها قائمة حتى ستينيات القرن الماضي، إلى أن أقيم في المكان المركز التجاري الذي لا يزال قائمًا حتى يومنا هذا.