صعود وسقوط سينما ريكس

ارتاد دار السينما هذه سكان القدس: يهود، عرب وجنود بريطانيون، لماذا إذًا أضرمت فيها النار مرتين؟

شير برام
אֲנִי זוֹכֵר קוֹלְנוֹעַ רֶקְס בְּיוֹמִיּוֹת

וּמֵרָחוֹק פַּעֲמוֹנִים שֶׁל כְּנֵסִיּוֹת

من أغنية يوسي بناي: “أنا وسيمون ومويز الصغير”

يعتبر شارع شلومتسيون هملكا اليوم محورًا مركزيًا في الطريق إلى جادة آلروف ماميلا ومتاجرها الفاخرة. في نهايات الأسبوع والأعياد، يمرّ العديد من الإسرائيليين عبر الشارع، يجلسون في المقاهي ويتابعون طريقهم نحو الجادة. قبل 80 عامًا، كان هذا الشارع أحد الشوارع المركزية للانتداب البريطاني في القدس. كان يرتاده العرب واليهود على حد سواء، مرتدين ملابس فاخرة ومتماشية مع أحدث خطوط الموضة، للجلوس في المقاهي- وخاصةً لمشاهدة العروض اليومية في سينما “ريكس” التي كانت واقعة عند أسفل الشارع.

“كيف كان الفيلم؟”، كثيرًا ما كان يتردد السؤال. “الفيلم ليس مميزًا، ولكن الشجار بعد الفيلم كان ممتعًا”.  هكذا يصف إلياهو نافي،  الراوي المقدسي الشهير، الزيارات إلى دار سينما “ريكس” في شارع “الأميرة ماري” في القدس الانتدابية- كما سميت في حينه. يصف نافي كيف نشب في نهاية فيلم من بطولة عبد الوهاب، الموسيقار العربي، وليلى مراد، اليهودية، شجار عنيف بين اليهود والعرب حول الصراع بين الشخصيات في الفيلم.

إعلان لفيلم في سينما ريكس. كانون الثاني، 1941. مجموعة الإعلانات، المكتبة الوطنية الإسرائيلية

 

هُدمت سينما ريكس منذ فترة طويلة، وتحوّل شارع الأميرة ماري إلى شارع شلومتسيون هملكا، ولكن المطّلعين على أدق تفاصيل تلك الفترة يتذكرون العروض اليومية في دار السينما الفخمة في ماميلا، التي لم يبق لها أثر. مع أنّ نافي يتذكر جيدًا الشجارات العنيفة بعد العروض، إلّا أنّ العنف لم يتوقف عند هذا الحد، وبعد اعتدائيّ إيتسل على المكان- ويسميهما البعض عمليات تخريبية- فإنّ دار السينما الفخمة، والتي كانت تتسع لـ 1,300 شخص، هُدمت وهُجرت. أقيم على أنقاضها المركز التجاري “هآحيم يسرائيل”، والذي لا يزال قائمًا حتى الآن.

كانت سينما ريكس مَعلمًا بارزًا في المشهد الطبيعي المقدسي في فترة الانتداب البريطاني. وبينما كانت سائر دور السينما التي نشطت في تلك الفترة- تسيون، أديسون وعيدن- بملكية يهودية، أقيمت سينما ريكس على يد رجل أعمال عربي-مسيحي يُدعى جوزيف باسكال ألبينا. تعاون ألبينا مع العديد من اليهود في مشاريع مختلفة، أحيانًا خلافًا لموقف اللجنة العربية العليا. كان ألبينا يملك شركة إنتاج سينمائي تدعى “أفلام النيل”، من جملة ممتلكات أخرى، وأقام سينما ريكس لعرض أفلامه هو أيضًا. المقاول الذي اختير لبناء دار السينما كان اليهودي يونا فريدمان، وبعد إنهاء المشروع، اكتشف ألبينا أنّه كان ينقصه مبلغ مالي وجب عليه دفعه لفريدمان، فاقترح عليها بدلًا من ذلك الدخول معه كشريك في السينما. في 6 حزيران 1938، افتتحت سينما ريكس (“ملك” باللاتينية)، وعرضت فيها أفلام عربية- مصرية أساسًا- بالإضافة إلى أفلام الغرب الأمريكي وأعمال أوروبية. غالبية الجمهور كان من العرب المقدسيين ورجال الإدارة البريطانيين، ولكن بعض اليهود ارتادوا المكان أيضًا.

 

سينما ريكس، مطلع الأربعينات. تصوير: بيكي ويكي إسرائيل

العملية التخريبية الأولى

في أيار 1939، بعد أقل من مرور عام على افتتاح سينما ريكس، أصدرت حكومة الانتداب البريطاني “الكتاب الأبيض”، حيث أعلن عن فرض قيود على هجرة اليهود إلى فلسطين. اعتبر ذلك هجومًا مباشرًا على اليشوف اليهودي في إسرائيل، وردًا على ذلك، نفّذت منظمة إيتسل عملية تخريبية.   يفيد ييشكا إلياف،  قائد العمليات في منظمة إيتسل، ومن ثم قائد منظمة ليحي، في مذكراته بأنّ سينما ريكس اختيرت لكونها “واقعة ضمن المنطقة التابعة لمؤسسات السلطات البريطانية (…) وبفضل موقعها ومبناها العصري، جذبت دار السينما قادة سلطات الانتداب، ونخبة المجتمع العربي.   استهدفت عملية دار السينما قادة السلطات العسكرية، المدنية والشرطوية، والجمهور الذي يضم القيادة الجماهيرية العربية وداعمي العصابات”. لقّب البريطانيون ييشكا بـ “الإرهابي ذي العيون المخملية”.

صحيفة “هبوكير” تعلن عن التفجيرات في سينما ريكس. 30 أيار، 1939

 

في 29 أيار، اقتحم رجال الـ “إيتسل” دار السينما أثناء عرض فيلم “طرزان”، فخّخوها بمعطف مليء بالمتفجرات والعبوات الناسفة المخبأة في علب الحلوى، وغادروا المكان. في تمام الساعة 20:30، عندما زأر الأسد الشهير لشركة الإنتاج السينمائي غولدن-ماير معلنًا عن بدء الفيلم، انفجرت العبوات الناسفة وفقًا للمخطط. هرع الجمهور الفَزِع خارج الصالة، ليصطدموا برجال الإيتسل الذين كانوا ينتظرونهم بجوار المقبرة الإسلامية في ماميلا، حيث نصبوا لهم فخًا وأطلقوا النار على الفارين. قُتل 5 أشخاص، جميعهم عرب، وأصيب 18 آخرون: ستة بريطانيين، عشرة عرب ويهوديان. لحق بالمكان ضرر جسيم، بعد أن احترق، وأصبح الاعتداء حديث الصباح والمساء في المدينة. في أعقاب الاعتداء على دار السينما، أصدر القائد العسكري البريطاني في القدس أمرًا بإغلاق جميع دور السينما في القدس، بالإضافة إلى مؤسسات ثقافية أخرى. وبينما استمرت منظمة الإيتسل في استهداف مواقع أخرى في المدينة، وقفت سينما ريكس على حافة الانهيار، ولكن اندلاع الحرب العالمية الثانية ساهم في تجديد نشاطها. حضر إلى المدينة عدد كبير من العساكر البريطانيين الذين احتاجوا مجددًا لدار سينما ناطقة بالإنجليزية. سارع أصحاب المكان لترميمه، وعادت سينما ريكس إلى قمة نشاطها.

اقرأ/ي أيضًا:  فلسطينيون في الحرب العالمية الثانية في صفوف بريطانيا

سنوات النشوة وانتهائها

طوال أربعينيات القرن الماضي، شكلت سينما ريكس ملتقى للعرب، اليهود والبريطانيين في القدس. خلافَا لما جاء في مذكرات رجال منظمة إيتسل، والذين أفادوا بأنّ دار السينما لم تكن وجهةً لسكان المدينة اليهود، يبدو أنّ العديد من اليهود ارتادوا المكان. إعلانات الأفلام صدرت باللغة العبرية في صحف يهودية، إلى جانب التهاني بالسنة العبرية الجديدة، وفي عام 1946، وعلى إثر الشائعات بأنّ الشركاء اليهود غادروا دار السينما، خرجت الإدارة في بيان يوضح عدم صحة هذه الإشاعة.

إعلان لفيلم في سينما ريكس. أيار 1940. مجموعة الإعلانات، المكتبة الوطنية الإسرائيلية

 

كان شارع الأميرة ماري أحد الشوارع الأكثر عصرية وكوزموبوليتانية في فترة الانتداب، وكانت “ريكس” دار السينما الوحيدة في مركز المدينة التي تفتح أبوابها يوم السبت. نشطت في الطابق العلوي للمبنى دار سينما إضافية تدعي “استوديو”. في مقالته التي نشرت في صحيفة “عال هميشمار “ ، يصف غابريئيل شطيرن الأجواء التي كانت سائدة في القدس في الأربعينات، وللمفارقة، كتب شطيرن أن سنوات الحرب شهدت تقاربًا بين الشعبين، واعتبرت فترة سلام نسبي. موقع دار السينما جعل منها ملتقى مباشرًا للشرائح المجتمعية المختلفة. في الفترة الفاصلة بين صدور الكتاب الأبيض واندلاع حرب الاستقلال في عام 1947، كان اليهود يشعرون بالراحة في المكان، خاصة عشية السبت والأعياد.   استحضر يستحضر يوسي بناي، في أغنية له عن هذه الفترة، العروض اليومية في دار السينما والتي كان يحضرها مع الأخوين سيمون ومويز. العروض الصباحية كانت أقل تكلفة من العروض المسائية… واستمرت حالة النشوة في سينما ريكس، حتى عشية 29 تشرين الثاني 1947.

بعد الإعلان الصادر عن الأمم المتحدة، واحتجاجًا على قرار التقسيم، بادرت اللجنة العربية العليا لإضراب لثلاثة أيام في الشارع العربي. كانت الأجواء في الشارع العربي في القدس عاصفة ومتوترة، مما أدى في نهاية المطاف إلى انفجار. في صباح الثاني من كانون الأول 1947، هاجم حشدٌ من العرب المركز التجاري في ماميلا، حيث كان غالبية المتاجر تابعة لليهود. القوات البريطانية التي وجب عليها حماية المكان كانت منشغلة في ملاحقة قوات الحراسة المركّزة المكونة من أعضاء “الهاغاناه”، وقام مثيرو الشعب، وهم يحملون العصي، الفؤوس والسكاكين، بإضرام النار في المركز التجاري والاعتداء على التجار. ردًا على ذلك، اعتدى رجال الإيتسل مجددًا على سينما ريكس، وهذه المرة، أضرموا فيها النار. خلافًا للعملية التخريبية الأولى التي نفذها رجال الإيتسل في السينما، والتي خطط لها بكل تأنٍ، كان الاعتداء هذه المرة أكثر عفوية.   نشرت صحيفة “حيروت-حرية” قصة الاعتداءـ، كما وصفها موشيه سولومون (“نتان”)، القائد الذي بادر إليها: “لم نتلق أي أوامر بذلك، كنا فقط 5 من رجال إيتسل  (…). وصلنا إلى “ريكس”، اقتحمنا الأبواب، وباشرنا بمهمة الإبادة، كما حدث في المركز التجاري. أضرمنا النار في غرفة الآلات ومن ثم في سائر أجزاء المبنى (…). بعد إتمام العملية، أخبرت المسؤولين عني في منظمة إيتسل بالعملية، وصادقوا عليها بأثر رجعي”.

الدخان يتصاعد من سينما ريكس. كانون الأول، 1947. مجموعة رودي غولدشطاين، بيتمونا

احترقت دار السينما بالكامل، إذ أنّ شرائط العرض المصنوعة من النترات كانت شديدة الاشتعال. تعالت سحب الدخان لتغطي سماء المدينة، والتقطت بعدسة بعض المصورين. في ذلك اليوم، ضاع الأمل في عودة سينما ريكس، التي خدمت العرب، اليهود والبريطانيين في القدس. ظلت أنقاضها قائمة حتى ستينيات القرن الماضي، إلى أن أقيم في المكان المركز التجاري الذي لا يزال قائمًا حتى يومنا هذا.

 

حمامات طبريا في جرايد فلسطين الانتدابية

نشارككم بعض من أخبار ينابيع طبريا الساخنة وحماماتها التّاريخيّة كما وردت في الصحف الفلسطينيّة أثناء فترة الانتداب البريطاني.

عائلة عربيّة بالقرب من حمامات طبريا في سنوات الأربعينات، أرشيف بن تسفي

حظيت مدينة طبريا التي لا تزال مأهولة بالسكّان، منذ العقد الثالث للميلاد، بذكر شاسع لينابيعها السّاخنة وحمّاماتها المعدنيّة، ومع أن الصّورة الّتي تصلنا عن الحياة في طبريا تبدو رومانسيّة في الغالب، إلا أنّ الحياة في مناخها الحارّ لم تكن سهلة على الاطلاق. فقد شاع عن أهالي طبريّا في القرن العاشر للميلاد – كما يحدّث المؤرّخ شمس الدين المقدسي – أنّ عامهم كان يسير كالتالي: أنّهم يرقصون شهرين، ويلتهمون لشهرين، فيضربون لشهرين، ويذهبون عراة لشهرين، ويتوغّلون في الطّين شهرين. وكان يقصد المقدسيّ أنّهم يرقصون من شدّة البراغيث، ثمّ يتلذّذون بفاكهتهم ، ثمّ يجنّون من كثرة الحشرات فيضربوها لشهرين، ثمّ يخلعون ملابسهم لشهرين من شدّة الحرارة في الصيف، ثمّ يملأهم وحل الشوارع حين يأتي الشّتاء.

امرأة بجانب حمامات طبريا السّاخنة عام 1945، أرشيف بن تسفي
امرأة بجانب حمامات طبريا السّاخنة عام 1945، أرشيف بن تسفي

 

إلّا أن ينابيع طبريا الساخنة كانت تعرف قديمًا وإلى حقب ليست ببعيدة بقدرتها على شفاء الأمراض الجلديّة، فكان يتدفّق إليها الزّوار من جميع أنحاء بلاد الشّام للتطبّب في مياهها العذبة والاستجمام بها لبضعة أيام، مما جعل المدينة دائمة الاستقبال للغرباء والضّيوف. ولكن كيف تمّت إدارة هذا المورد الطبيعي الّذي لطالما كان ملاذًا لعامّة الناس في العصر الحديث؟ إليكم تعريف مجلّة المنتدى بحمامات طبريا إلى قرائها عام 1946 بقلم الاستاذ أحمد خليفة، والّذي يتطرّق إلى أحوال البحيرة وينابيعها في العهد العثمانيّ:

ويبدو أنّ البحيرة كانت متصلة بالبحر الابيض بواسطة مرج بن عامر فقذف أحد البراكين التي كانت ملتهبة بحممه عليها فسد طريق الاتّصال بينها وبين البحر الأبيض. ومن الأدلة على ذلك وجود مواد بركانية في طبقات المرج السّفلي ومن الأدلة على أن حفرة البحيرة بركانيّة وجود الحمامات المعدنية في أطرافها وتكاثف طبقات البازالت في قصر البحيرة وتوالي الزلازل في أنحائها. أما الينابيع المعدنيّة فهي واقعة على مسافة تقرب من كيلومترين إلى جنوب المدينة وكانت معروفة بتأثير مياهها في شفاء بعض الأمراض الجلدية والعصبية من العهد الرّوماني.

وقد أقام هيرود حمامات حول الينابيع وبنى قصرًا في سفح الجبل خلفها وإلى الشمال من الحمامات بنى مدينة طبريا وجعلها عاصمة الجليل وأكثر فيها من المنازل الجميلة والهياكل. تغطي الينبوع الآن قبة يجري الماء من تحتها الى الحمامات.

وزادت الحكومة العثمانية في تلك الأبنية سنة 1890 ونالت بعض الشركات امتيازًا لإقامة أبنية عصرية وحدائق حول الحمامات ومن المبهج أن الحكومة العثمانية كانت قد قررت تخصيص قسم من واردات الحمامات لشؤون التعليم وأن بناء مدرسة البنين في طبرية ذي الطراز العربي قد أُقيم من الواردات المذكورة وإذا توافرت رؤوس الأموال تخصصها الشركات لبناء منازل وفنادق في طبريا، فإن هذه المدينة تصبح مشتى لا لأهل فلسطين فحسب بل لسكان الشرق العربي كله فحين تكون قمم الجبال مكسوة بالثلج يتمتّع أهل طبريا بجو استوائي دافئ كأنهم في قارة أخرى.

لقراءة المقالة كامة في مجلة المنتدى

أمّا في العهد الانتدابي، فنرى في جريدة فلسطين خبرًا في العشرين من نيسان عام 1929 يفيد بأن حكومة الانتداب منحت امتياز شراء حمامات طبريّا لمستثمرين أجانب، في حين يملك بعض الملّاك العرب في بيروت أسهمًا بسيطة من عائدات المشروع، ممّا جعل الانتفاع بمياه الينابيع حكرًا على مشروعات المستثمرين الّذين صادق عليهم المندوب السّامي فقط.

جريدة فلسطين 20 نيسان 1929، أرشيف جرايد
جريدة فلسطين 20 نيسان 1929، أرشيف جرايد

 

ويبدو أن الحمامات بقيت موقعًا جذابًا للزوار، ولكن ربّما بطريقة أخرى، فنرى دعوة في جريدة فلسطين أيضًا بعد ثلاثة عشر عامًا لاحتفال تقيمه “شركة حمامات طبريا” حيث ستقيم الأوركسترا الفلسطينيّة حفلًا موسيقيًاَ! أمّا اليوم فتعتبر منطقة الينابيع السّاخنة موقعًا أثريًا ومتنزّه وطنيّ تحت إشراف سلطة الطبيعة والحدائق الإسرائيليّة.

جريدة فلسطين 5 نيسان 1942، أرشيف جرايد
جريدة فلسطين 5 نيسان 1942، أرشيف جرايد

 

لم يعد هناك حديث عن قدرة خاصّة لهذه المياه على شفاء الأمراض، كما أنها لم تعد تحمل سمة قدسيّة على وجه الخصوص، سوى  أنّ المراجع القديمة منها والحديثة تشهد على اعتبارها كذلك لعقود. خاصّة للاعتقاد بأن السيّد المسيح أدىّ بعض من معجزاته الشّهيرة في شفاء الأمراض وإحياء الموتى على ضفاف بحيرة طبريّا وهو ربّما السّبب الّذي أضفى على مياه ينابيع طبريّا صفة شهيرة في شفاء الأمراض والقداسة وصلت إلى شتّى الطّوائف الّتي سكنت المنطقة لعصور.

للمزيد حول مدينة طبريا إليكم بوابة المحتوى الرقمي حول مدينة طبريا والتي يمكن من خلالها الوصول إلى مواد رقمية متنوعة حول المدينة وتاريخها وسكانها.

رئيس حكومة أم رئيسة حكومة؟ لم يكن الأمر مهمًا بالنسبة لجولدا ميئير

كيف تعاملت جولدا مائير مع النقد؟ لماذا وافقت على الدخول إلى كنيس في موسكو ولكن ليس في تل-أبيب؟ وما علاقتها بالاتحاد الإسرائيلي لصناعي القبعات؟

في 17 آذار 1969، وقع في إسرائيل حدث غير مسبوق: تقلدت جولدا ميئير منصب رئيس حكومة، لتصبح بذلك أول امرأة في التاريخ الإسرائيلي والثالثة في العصر الحديث التي تتسلم مقاليد الحكم: بحيث سبقتها سيريمافو باندرانايكا (سريلانكا) وأندريا غاندي (الهند). تَقلُّد امرأة منصب رئيس حكومة لدولة إسرائيل، الدولة الفتية الغارقة في صراع عنيف، بعد سنتين فقط على حرب الأيام الستة، لم يكن بديهيًا؛ ولكن سلسلة الأحداث السياسية التي وقعت بعد وفاة ليفي إشكول أدت إلى تعيين ميئير في هذا المنصب، والتي فُضّلت على يغآل ألون، موشيه ديان وبنحاس سابير.

لم يلق تعيين جولدا ميئير رئيسة حكومة أي اعتراض رسمي سوى من قبل أعضاء الكنيست الحريديين عن حزب أغودات يسرائيل، بحيث أعرب رئيس الحزب، يتسحاك ميئير، عن قلقه من أنّ تسلّم امرأة مقاليد الحكم سيقلل من قوة الردع الإسرائيلية. باستثناء هذا النقد، لم يكن هناك تذمّر رسمي أو جماهيري من تعيين جولدا في هذا المنصب. أما ميئير نفسها، وعلى الرغم من صورتها ووظيفتها، إلّا أنها لم تكن من أنصار الحركة النسوية، بل خرجت أكثر من مرة بتصريحات ضد الحركة. على أيّ حال، لقيت ميئير اهتمامًا شديدًا على إثر تقلدها منصب رئيسة حكومة إسرائيل، وذلك في العديد من المواقف التي وجّه لها خلالها نقد خفيّ أو جليّ. وقد تفوّهت مئير نفسها مرارًا بعبارات لاذعة من منطلق كونها امرأة.

جولدا ميئير وحكومتها الجديدة، 1969. تصوير: أرشيف داني هداني
جولدا ميئير وحكومتها الجديدة، 1969. تصوير: أرشيف داني هداني

فصل الدين عن الدولة؟

كانت علاقة جولدا ميئير بالدين مركبة قبل أن تصبح رئيسة حكومة بسنوات طويلة. عند سفرها إلى موسكو في نهاية الأربعينات، كسفيرة لإسرائيل في الاتحاد السوفيتي، زارت كنيسًا كبيرًا في المدينة. صور البعثة التي التقطت في الكنيس مع يهود محليين انتشرت في البلاد والعالم، وعند عودة جولدا إلى البلاد، توجه إليها عضو الكنيست بنيامين مينتس بغية تحدّيها لتقوم بزيارة كنيس في إسرائيل. “أدعوكِ لزيارة الكنيس الكبير في صلاة الشكر. هل تزورين الكُنس في موسكو فقط”؟ لم تتردد ميئير في الردّ، ووضحت له أنّها زارت الكنيس في موسكو لأنّها أرادت زيارة اليهود المحليين، ولذلك وافقت على الجلوس في قسم النساء. أما هنا في البلاد، فقد أشارت إلى أنّها ستذهب إلى الكنس عندما تتحقق المساواة ويسمح لها بالجلوس في الصالة الرئيسية حيث يجلس الرجال.

"معاريف"، 4 أيار 1949
“معاريف”، 4 أيار 1949

منذ مطلع الخمسينات، طرحت إمكانية ترشيح جولدا ميئير لمنصب رئيس بلدية تل أبيب، الأمر الذي أثار نقاشًا حول قدرة امرأة على شغل منصب مرموق كهذا. احتدم الجدل الإعلامي حول هذا الموضوع، وسُمعت آراء مختلفة ومتعارضة. كتبت مريم شير في مقالتها الثابتة “ماذا تقول المرأة؟” في صحيفة “دَفار” أنّنا “جميعًا بحاجة إليك، جولدا ميئيرسون،  كـ ‘ربة منزل رئيسية’ لمدينة تل-أبيب”.

"دَفار"، 26 تموز، 1955
“دَفار”، 26 تموز، 1955

بعد أن تقلدت جولدا منصب رئيس حكومة، أعرب كبار الحاخامات في البلاد عن مواقف مختلفة تجاه هذا التعيين. رفض الحاخام الرئيسي في حينه، إيسر يهودا أونترمان، الردّ على الأسئلة الموجهة له حول الموضوع، وقال إنّه طالما لم تقم جهات رسمية بطلب رأيه حول الموضوع، فلا داع لإبدائه. أعرب الفائز بجائزة إسرائيل ورئيس محكمة حباد، الحاخام شلومه يوسف زفين، عن موقف سلبي، مستندًا إلى حكم موسى بن ميمون في كتابه “دلالة الحائرين”. أشار الحاخام السفرادي الرئيسي، الحاخام يتسحاك نيسيم، إلى أنّه لا توجد أية مشكلة في التعيين؛ أما الحاخام السفرادي الرئيسي لمدينة تل-أبيب، عوفاديا يوسف، فلم يسارع لإبداء رأيه وأجاب بأنّه ينبغي التعمق في الموضوع قبل الرد.

 

"معاريف"، 7 آذار 1969.
“معاريف”، 7 آذار 1969.

 

 

ما قصة القبعات؟

في يوم الاستقلال في عام 1973، أقام الجيش الإسرائيلي استعراضه الأخيرة لذكرى مرور 25 عامًا على قيام دولة إسرائيل. أقيم هذا الاستعراض، والذي تقرر إلغاؤه نهائيًا بسبب تكاليفه الباهظة، للمرة الأخيرة بحضور رئيسة الحكومة جولدا ميئير، التي اعتلت المنصة الرئيسية. بعد مرور فترة وجيزة، نُشرت في صحيفة “معاريف” رسالة-شكوى” رسمية من قبل الاتحاد الإسرائيلي لصانعي القبعات” في إطار مقالة تمار أفيدار “خارج دوام المطبخ” بسبب المظهر المهمَل لرئيسة الحكومة، التي لم تعتمر قبعة أثناء الاستعراض. كتب أعضاء الاتحاد أنّ “مظهرها يشكل نموذجًا سلبيًا لجميع نساء إسرائيل” وطالبوها بأن تصبح قدوة فيما يخص الموضة والأزياء، لحث نساء إسرائيل على تبني موضة اعتمار القبعات. اقترُح في المقالة أيضًا صنع موديل خاص لقبعة تحمل اسم ميئير، بحيث يعوض بيعها عن الأضرار الاقتصادية التي تسببت بها جولدا بسبب مظهرها هذا.

اليوم الذي قرر فيه أحمد جمال باشا الانتقام من سكان القدس

صُدم سكان القدس بمشهد إعدام السلطات العثمانية خمسة أشخاص شنقًا، وقد وثّق هذا المشهد مصوّر مقدسي، ومنذ ذلك الحين، أصبحت الصورة أسطورة مقدسية تجمع بين سكان المدينة.

التقطت الصورة )على ما يبدو (بعدسة خليل رعد، الذي حضر إلى ميدان الإعدام قبل إنزال الجثث. تتطرق مصادر مختلفة إلى كيفية انتشار الصورة: يقول البعض إنّه قام ببيعها في دكانه في البلدة القديمة، ويقول آخرون إنها وصلت ليد أقرباء أحد القتلى عن طريق مسؤول سابق في الإدارة العثمانية.

بقلم: شير برام

التقطت الصورة (على ما يبدو ) بعدسة خليل رعد، الذي حضر إلى ميدان الإعدام قبل إنزال الجثث. تتطرق مصادر مختلفة إلى كيفية انتشار الصورة: يقول البعض إنّه قام ببيعها في دكانه في البلدة القديمة، ويقول آخرون إنها وصلت ليد أقرباء أحد القتلى عن طريق مسؤول سابق في الإدارة العثمانية.

تصوير: ياد يتسحاك بن تسفي

 

في شهر حزيران 1916، وجد أحمد جمال باشا، قائد الوحدة العسكرية الرابعة في الجيش العثماني وحاكم لواء دمشق، نفسه أمام معضلة صعبة: فرّ جنود كثر من صفوف الجيش العثماني، الذي كان يعاني من نقص شديد في القوى البشرية. الهجمات العثمانية على قناة السويس باءت بالفشل، وعاد الجنود إلى البلاد مهزومين، مرهقين وجوعى. على غرار مدن كثيرة أخرى في الإمبراطورية العثمانية، امتلأت القدس بعدد كبير من الجنود الذين فروا من الجيش واختفت آثارهم.

أحمد جمال باشا، الحاكم العسكري العثماني في بلاد الشام. تصوير: ياد يتسحاك بن تفسي
أحمد جمال باشا، الحاكم العسكري العثماني في بلاد الشام. أرشيف: ياد يتسحاك بن تسفي.

سميّ الجنود الفارون بـ “الفُرّار” وجاب الشوارع عدد كبير من عناصر الشرطة العسكرية بحثًا عنهم. أما جمال باشا، والذي كان بأمس الحاجة للجنود، فقد أصدر حكمًا بالإعدام على كلّ جندي فار لا يسلّم نفسه، ولكن دون جدوى. لشدة غيظه ووحشيته، قرر تلقين السكان درسًا. أمر رجاله بالقبض على خمسة جنود فارين وإعدامهم في موقع مركزي في المدينة. وبالفعل، تم القبض على خمسة منهم- يهوديْين، مسيحيْين ومسلم واحد- وأعدموا شنقًا في إجراء مسرّع. إليكم قصتهم.

مريض البوسفور

أدى انضمام الامبراطورية العثمانية للحرب العالمية الأولى إلى أزمة اقتصادية صعبة جدًا في جميع أرجاء الإمبراطورية، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، وتحديدًا في القدس. فقد انهارَ الاقتصاد السياحي المحلي وجُفّف عدد كبير من مصادر التمويل؛ ألحقت سنة القحط ضررًا جسيمًا بمحاصيل المزارعين، وازدادت الأمور سوءًا مع موجة الجراد التي اجتاحت الشرق الأوسط في 1914-1915، ووصلت المدينة المقدسة. التجنيد الإلزامي الذي فرضته السلطات العثمانية تركَ عددًا كبيرًا من العائلات بدون معيل، مما أدى إلى استفحال الفقر والجوع. العديد من السكان المحليين لم يُرسلوا إلى الوحدات القتالية، بل إلى “الكتائب العمالية”- وهي كتائب الأعمال الشاقة في الخدمة العسكرية العثمانية.

 

عرض عسكري للجيش العثماني في باحة القشلة، أسفل برج القلعة (قلعة القدس)، القدس. تصوير: ياد يتسحاك بن تسفي.

المزيج بين الحرب العالمية والأزمة الاقتصادية أدى إلى انخفاض الروح المعنوية وإلى معدلات فرار عالية في صفوف الجيش العثماني في الشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه، بدأت حركات قومية محلية بالتمرد ضد الحكم العثماني ودعم قوات الحلفاء. إنشاء مثل هذه الحركات، مثل فرقة البغالة الصهيونية التي شاركت في حملة غاليبولي، أو حملة الدردنيل، وثورة الحسين بن علي شريف مكة، دفعا بجمال باشا لممارسة العنف الشديد تجاه كلّ ما بدا له تمردًا وعصيانًا. على امتداد العامين 1915-1916، ارتكب أحمد جمال باشا سلسلة من جرائم الحرب، أهمها اضطهاد ممنهج للأرمن، والتي رسّخت صورته كإحدى الشخصيات الأكثر تطرفًا خلال فترة الحرب العالمية الأولى.

الإعدام شنقًا عند باب الخليل

في منتصف عام 1916، بعد أن أُعدم ونُفى الفارين من صفوف الجيش و “الخونة” في جميع أرجاء الشرق الأوسط، حضر أحمد جمال باشا إلى القدس لـمعالجة ظاهرة الفرار من الجيش. صرّح بأنّه سيصدر حكمًا بالإعدام ضد كلّ جندي فار لا يسلّم نفسه حتى نهاية حزيران 1916، وتعهّد بأنّه سيعفو عن جميع الجنود الفارين إذا عادوا إلى قواعدهم، ولكن دون جدوى.  عندما احتدم غيظه، أمر جمال باشا بشنق خمسة فارين سيتم القبض عليهم بشكل عشوائي، لتلقين الآخرين درسًا. اُختير الفارون حسب ديانتهم- يهوديْين، عربيْين مسيحيْين وعربي مسلم واحد.

جمال باشا يخرج إلى المعركة لاحتلال قناة السويس، باب الخليل القدس، 1915. تصوير: ياد يتسحاك بن تسفي.

خلال يوم واحد، تم القبض على خمسة فارين يستوفون المواصفات المطلوبة، وأعدموا شنقًا في الميدان المركزي لمدينة القدس في حينه- في باحة باب الخليل. كان هؤلاء الخمسة إبراهيم قندلفت وموسى سوس المسيحيين، أحمد إلوتسو المسلم، وموشيه ميلل ويوسف أموزيغ اليهوديين (ينبغي الانتباه إلى كون الأسماء مترجمة من اللغة العبرية ويمكن أن تكون مختلفة بالعربية).  سمح للمدانين الخمسة بمحادثة أخيرة مع رجال دين، كل حسب طائفته، ومن ثم شنقوا حتى لفظوا أنفاسهم الأخيرة. علقت على أعناقهم لافتات تصف جرائمهم، وبقيت جثثهم معلقة حتى المساء، ليرسخ في أذهان الناس الدرس القاسي الذي أراد جمال باشا تلقينهم إياه.

انتشر في المدينة خبر إعدام العثمانيين لشخصين يهوديين، وفي اليوم التالي، كُتب الخبر في صحيفة “الحرية”،  حيث اقتبست الطلبات الأخيرة للمتهمين. تفيد المصادر بأنّ أموزيغ اكتفى بشرب القليل من الماء قبل تنفيذ حكم الإعدام؛ بينما طلب ميلل أن تُجبى أموال مستحقة له من مدينيه وإعطاءها لوالدته، وطلب أيضًا إزالة الغطاء عن عينيه ليلقى حتفه بأعين مفتوحة. أضاف المراسل أيضًا إلى أنّ طلبه بإزالة الغطاء عن عينيه رُفضَ للأسف، لأنّه كان مخالفًا للقانون العثماني.

 

صحيفة “الحرية” تنشر نبأ الإعدام شنقًا، 30 حزيران، 1916.

 

إعدام يوسف أموزيغ كان مأساويًا للغاية، فهو لم يكن أصلًا من الفارين من صفوف الجيش. ولد أموزيغ في المغرب، وهاجر مع شقيقته ووالدته حنينة إلى مدينة القدس. سار يوسف على خطى والده، بحيث أصبح خياطًا وأقام ورشة خياطة مشتركة مع أحد السكان المسلمين المحليين في البلدة القديمة في القدس. قصدَ ورشته أثرياء المدينة وعائلات مرموقة مثل النشاشيبي، ويقال أيضًا إنّه كان يحيك الملابس لجمال باشا ورعيته. مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، أغلقت ورشته وجُنّد للجيش. عمل كخياط في قاعدة عسكرية في بئر السبع، وهي المدينة الوحيدة التي أقامها العثمانيون في فلسطين.

ذات يوم، أمره قائده بالعودة إلى القدس ليحيك له بعض البِدل. فتح ورشته وباشر بعمله، إلى أن رآه مخبرو الجيش العثماني وظنّوا أنّه فر من الجيش. تم القبض عليه من قبل عناصر الشرطة العسكرية، واعتقلَ. عندما حاول شرح المهمة التي كلّف بها، واجه صعوبات عديدة، لم يتمكن من التواصل مع قائده، وتأشيرة نقله العسكرية إلى القدس اختفت.  حاولت والدة يوسف إيجاد التأشيرة، ولكن دون جدوى. بعد اعتقاله، سجن يوسف أموزيغ في القشلة (السجن المحلي المجاور لبرج القلعة)، لم يتم إيجاد التأشيرة، وأعدمَ أموزيغ مع الآخرين.

الموروث

في فترة لاحقة، تزوجت ابنة أخ أموزيغ، إستر حروش، من عكيفا أزولاي، والذي شغل منصب نائب رئيس بلدية القدس. كانت إستر من بين القلائل الذين تذكروا القصة، والتي سردت بعدة صيغ متشابهة نسبيًا، مع بعض التفاصيل المختلفة. على مدار سنوات طويلة، اعتاد اليهود السفراديون سرد قصة إعدام أموزيغ وميلل، إلى أن أصبحت حدثًا معروفًا في المدينة. بعد الحادثة بسنوات طويلة، اكتُشف أنّ منفّذ حكم الإعدام كان يهوديًا يُدعى مردخاي ساسون، والذي نفذ أوامر العثمانيين بحزن شديد، ورافق القتلى اليهود إلى مثواهم الأخير.

قرار جمال باشا بإعدام هؤلاء الخمسة حسب انتمائهم الديني كان قرارًا استثنائيًا، نسبةً لسائر أفعاله الوحشية خلال الحرب. عشوائية الاختيار، التنفيذ السريع للحكم وأثره على الجاليات المختلفة في المدينة- جميعها حولت هذا الحدث إلى مَعلم مهم في تاريخ مدينة القدس. بالإضافة إلى نشطاء منظمة نيلي، نعمان بليكند ويوسف ليشنسكي، اللذين أعدما في نفس الفترة بتهمة التجسس.

ترمز هذه القصة إلى حد ما إلى قدسية مدينة القدس للديانات السماوية الثلاث، وكيف تشكّل هذه المدينة ملتقى لأبناء الديانات الثلاث.