بقلم: شير برام
التقطت الصورة (على ما يبدو ) بعدسة خليل رعد، الذي حضر إلى ميدان الإعدام قبل إنزال الجثث. تتطرق مصادر مختلفة إلى كيفية انتشار الصورة: يقول البعض إنّه قام ببيعها في دكانه في البلدة القديمة، ويقول آخرون إنها وصلت ليد أقرباء أحد القتلى عن طريق مسؤول سابق في الإدارة العثمانية.
تصوير: ياد يتسحاك بن تسفي
في شهر حزيران 1916، وجد أحمد جمال باشا، قائد الوحدة العسكرية الرابعة في الجيش العثماني وحاكم لواء دمشق، نفسه أمام معضلة صعبة: فرّ جنود كثر من صفوف الجيش العثماني، الذي كان يعاني من نقص شديد في القوى البشرية. الهجمات العثمانية على قناة السويس باءت بالفشل، وعاد الجنود إلى البلاد مهزومين، مرهقين وجوعى. على غرار مدن كثيرة أخرى في الإمبراطورية العثمانية، امتلأت القدس بعدد كبير من الجنود الذين فروا من الجيش واختفت آثارهم.
سميّ الجنود الفارون بـ “الفُرّار” وجاب الشوارع عدد كبير من عناصر الشرطة العسكرية بحثًا عنهم. أما جمال باشا، والذي كان بأمس الحاجة للجنود، فقد أصدر حكمًا بالإعدام على كلّ جندي فار لا يسلّم نفسه، ولكن دون جدوى. لشدة غيظه ووحشيته، قرر تلقين السكان درسًا. أمر رجاله بالقبض على خمسة جنود فارين وإعدامهم في موقع مركزي في المدينة. وبالفعل، تم القبض على خمسة منهم- يهوديْين، مسيحيْين ومسلم واحد- وأعدموا شنقًا في إجراء مسرّع. إليكم قصتهم.
مريض البوسفور
أدى انضمام الامبراطورية العثمانية للحرب العالمية الأولى إلى أزمة اقتصادية صعبة جدًا في جميع أرجاء الإمبراطورية، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، وتحديدًا في القدس. فقد انهارَ الاقتصاد السياحي المحلي وجُفّف عدد كبير من مصادر التمويل؛ ألحقت سنة القحط ضررًا جسيمًا بمحاصيل المزارعين، وازدادت الأمور سوءًا مع موجة الجراد التي اجتاحت الشرق الأوسط في 1914-1915، ووصلت المدينة المقدسة. التجنيد الإلزامي الذي فرضته السلطات العثمانية تركَ عددًا كبيرًا من العائلات بدون معيل، مما أدى إلى استفحال الفقر والجوع. العديد من السكان المحليين لم يُرسلوا إلى الوحدات القتالية، بل إلى “الكتائب العمالية”- وهي كتائب الأعمال الشاقة في الخدمة العسكرية العثمانية.
المزيج بين الحرب العالمية والأزمة الاقتصادية أدى إلى انخفاض الروح المعنوية وإلى معدلات فرار عالية في صفوف الجيش العثماني في الشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه، بدأت حركات قومية محلية بالتمرد ضد الحكم العثماني ودعم قوات الحلفاء. إنشاء مثل هذه الحركات، مثل فرقة البغالة الصهيونية التي شاركت في حملة غاليبولي، أو حملة الدردنيل، وثورة الحسين بن علي شريف مكة، دفعا بجمال باشا لممارسة العنف الشديد تجاه كلّ ما بدا له تمردًا وعصيانًا. على امتداد العامين 1915-1916، ارتكب أحمد جمال باشا سلسلة من جرائم الحرب، أهمها اضطهاد ممنهج للأرمن، والتي رسّخت صورته كإحدى الشخصيات الأكثر تطرفًا خلال فترة الحرب العالمية الأولى.
الإعدام شنقًا عند باب الخليل
في منتصف عام 1916، بعد أن أُعدم ونُفى الفارين من صفوف الجيش و “الخونة” في جميع أرجاء الشرق الأوسط، حضر أحمد جمال باشا إلى القدس لـمعالجة ظاهرة الفرار من الجيش. صرّح بأنّه سيصدر حكمًا بالإعدام ضد كلّ جندي فار لا يسلّم نفسه حتى نهاية حزيران 1916، وتعهّد بأنّه سيعفو عن جميع الجنود الفارين إذا عادوا إلى قواعدهم، ولكن دون جدوى. عندما احتدم غيظه، أمر جمال باشا بشنق خمسة فارين سيتم القبض عليهم بشكل عشوائي، لتلقين الآخرين درسًا. اُختير الفارون حسب ديانتهم- يهوديْين، عربيْين مسيحيْين وعربي مسلم واحد.
خلال يوم واحد، تم القبض على خمسة فارين يستوفون المواصفات المطلوبة، وأعدموا شنقًا في الميدان المركزي لمدينة القدس في حينه- في باحة باب الخليل. كان هؤلاء الخمسة إبراهيم قندلفت وموسى سوس المسيحيين، أحمد إلوتسو المسلم، وموشيه ميلل ويوسف أموزيغ اليهوديين (ينبغي الانتباه إلى كون الأسماء مترجمة من اللغة العبرية ويمكن أن تكون مختلفة بالعربية). سمح للمدانين الخمسة بمحادثة أخيرة مع رجال دين، كل حسب طائفته، ومن ثم شنقوا حتى لفظوا أنفاسهم الأخيرة. علقت على أعناقهم لافتات تصف جرائمهم، وبقيت جثثهم معلقة حتى المساء، ليرسخ في أذهان الناس الدرس القاسي الذي أراد جمال باشا تلقينهم إياه.
انتشر في المدينة خبر إعدام العثمانيين لشخصين يهوديين، وفي اليوم التالي، كُتب الخبر في صحيفة “الحرية”، حيث اقتبست الطلبات الأخيرة للمتهمين. تفيد المصادر بأنّ أموزيغ اكتفى بشرب القليل من الماء قبل تنفيذ حكم الإعدام؛ بينما طلب ميلل أن تُجبى أموال مستحقة له من مدينيه وإعطاءها لوالدته، وطلب أيضًا إزالة الغطاء عن عينيه ليلقى حتفه بأعين مفتوحة. أضاف المراسل أيضًا إلى أنّ طلبه بإزالة الغطاء عن عينيه رُفضَ للأسف، لأنّه كان مخالفًا للقانون العثماني.
إعدام يوسف أموزيغ كان مأساويًا للغاية، فهو لم يكن أصلًا من الفارين من صفوف الجيش. ولد أموزيغ في المغرب، وهاجر مع شقيقته ووالدته حنينة إلى مدينة القدس. سار يوسف على خطى والده، بحيث أصبح خياطًا وأقام ورشة خياطة مشتركة مع أحد السكان المسلمين المحليين في البلدة القديمة في القدس. قصدَ ورشته أثرياء المدينة وعائلات مرموقة مثل النشاشيبي، ويقال أيضًا إنّه كان يحيك الملابس لجمال باشا ورعيته. مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، أغلقت ورشته وجُنّد للجيش. عمل كخياط في قاعدة عسكرية في بئر السبع، وهي المدينة الوحيدة التي أقامها العثمانيون في فلسطين.
ذات يوم، أمره قائده بالعودة إلى القدس ليحيك له بعض البِدل. فتح ورشته وباشر بعمله، إلى أن رآه مخبرو الجيش العثماني وظنّوا أنّه فر من الجيش. تم القبض عليه من قبل عناصر الشرطة العسكرية، واعتقلَ. عندما حاول شرح المهمة التي كلّف بها، واجه صعوبات عديدة، لم يتمكن من التواصل مع قائده، وتأشيرة نقله العسكرية إلى القدس اختفت. حاولت والدة يوسف إيجاد التأشيرة، ولكن دون جدوى. بعد اعتقاله، سجن يوسف أموزيغ في القشلة (السجن المحلي المجاور لبرج القلعة)، لم يتم إيجاد التأشيرة، وأعدمَ أموزيغ مع الآخرين.
الموروث
في فترة لاحقة، تزوجت ابنة أخ أموزيغ، إستر حروش، من عكيفا أزولاي، والذي شغل منصب نائب رئيس بلدية القدس. كانت إستر من بين القلائل الذين تذكروا القصة، والتي سردت بعدة صيغ متشابهة نسبيًا، مع بعض التفاصيل المختلفة. على مدار سنوات طويلة، اعتاد اليهود السفراديون سرد قصة إعدام أموزيغ وميلل، إلى أن أصبحت حدثًا معروفًا في المدينة. بعد الحادثة بسنوات طويلة، اكتُشف أنّ منفّذ حكم الإعدام كان يهوديًا يُدعى مردخاي ساسون، والذي نفذ أوامر العثمانيين بحزن شديد، ورافق القتلى اليهود إلى مثواهم الأخير.
قرار جمال باشا بإعدام هؤلاء الخمسة حسب انتمائهم الديني كان قرارًا استثنائيًا، نسبةً لسائر أفعاله الوحشية خلال الحرب. عشوائية الاختيار، التنفيذ السريع للحكم وأثره على الجاليات المختلفة في المدينة- جميعها حولت هذا الحدث إلى مَعلم مهم في تاريخ مدينة القدس. بالإضافة إلى نشطاء منظمة نيلي، نعمان بليكند ويوسف ليشنسكي، اللذين أعدما في نفس الفترة بتهمة التجسس.
ترمز هذه القصة إلى حد ما إلى قدسية مدينة القدس للديانات السماوية الثلاث، وكيف تشكّل هذه المدينة ملتقى لأبناء الديانات الثلاث.