وادي الحوارث – أندلس القرن العشرين

يعتبر وادي الحوارث فاجعة الفلسطينيين الأولى؛ إذ تعكس الصحف الفلسطينية التاريخية ردة فعل الناس عقب أحداث طرد السكان العرب من هناك.

هديل عبد الحي عنبوسي

وادي الحوارث سهل منبسط فسيح، مترامي الأطراف، ويشكّل قسمًا كبيرًا من السّاحل الغربي في سورية الجنوبيّة في قضاء طولكرم سابقُا. جيّد التّربة والهواء، مساحته لا تقل عن خمسين ألف دونم، إذ يعتبر من السهول الكبيرة، ولا يعدّ وادي الحوارث واديًا بين جبلين كما يتبادر إلى الذّهن من كلمة “وادي”، بل هو السهل الساحلي الذي يقل عن نظيره من السهول ليس في البلاد فحسب، إنّما في خير الأرضين والبقاع في العالم.

وقد سُمّي بسهل وادي الحوارث نسبة إلى اسم أهل الوادي؛ عرب الحوارث، وهم قبائل ينتمون بمعظمهم إلى بني حارثة، وأصلهم من نجد، جاؤوا من سوريا ونزلوا حماة، ومن حماة نزحوا إلى فلسطين. يتكونّ وادي الحوارث من قسمين: شرقيّ وغربيّ، في القسم الشرقي يتكوّن من وادي القبّاني، ومنطقة لاستثمار الحكومة، بينما في القسم الغربي، يوجد وادي التيان، أرض السمارة، ورمال.

 

قضيّة وادي الحوارث

بدأت هجرة عرب الحوارث من واديهم قبل العام 1948، وتحديدًا في العام 1928 بحسب مقالات الصحف الفلسطينية في أرشيف جرايد. لذا، يمكن القول إن هجرة عرب الحوارث هي التهجير الفعلي الأول. وفقًا للمصادر، طُرد فلاحو الحوارث من أراضيهم بلا مأوى وبلا معيشة على يد مسؤولين بريطانيين ويهود، رغم مقاومتهم ومحاولات البقاء والصّمود في أراضيهم قدر المستطاع، بيد أنّ بساطتهم وقلّة الإمكانيّات جعلتهم مُشرّدين وبلا ملاذ.

وادي الحوارث وعائلة سرقس وانفجار بيروت

ما يُميّز حكاية وادي الحوارث أنّها من أولى الفاجعات الفلسطينية، نسبيًّا حدثت قديمًا، فكيف لها أن ترتبط مع حدثٍ معاصر كانفجار بيروت والذي وقع في آب من العام 2020؟!

السّر عند الليدي إيفون سرقس..

الليدي سرقس هي سيدة لبنانيّة مسيحيّة من عائلة أرستقراطيّة معروفة وفاحشة الثّراء والأملاك. والدها ألفرد موسى سرقس ابن عائلة مالكة الأراضي الكُبرى في الوطن العربي، وأمّها الدونا ماريا دي كاسنو وهي من عائلة إيطاليّة من سلالة عائلة الفيفيور. وقد ورثت الليدي عن عائلتها مئات آلاف الدونمات لأراضٍ في منطقة مرج ابن عامر، الجليل الغربي، وادي الحوارث، حيفا ويافا.

في انفجار بيروت، كانت الليدي سرقس إحدى الضحايا، فقصرها العائلي المُنيف، والذي قطنت فيه في آخر سنوات حياتها، يقع في حيّ الأشرفيّة في بيروت، وقد لحقت به أضرارًا جسيمة، وعانت الليدي في المستشفى لمدة 27 يوم بعد إصابتها في الانفجار حتى وافتها المنيّة في 31 آب 2020 عن عمر يُناهز 98 عام.

كانت معظم أراضي وادي الحوارث تحت سيطرة عائلة سرقس حيث كانت تمتلك 30 ألف دونم من أصل 50 ألف، وقد بيعت مساحة العائلة من الوادي للحركات الصهيونية بينما تبقّى بحيازة الفلسطينيين 20 ألف دونم، ولا نعلم كيف تمّ التصرف بها، والاحتمال الأكبر هو أن يكون عن طريق السماسرة الذين عاونوا الحركات الصهيونيّة وسهلّوا لهم بيع الأراضي، حيث لم يكن لفلاحي عرب الحوارث والسكان الأصليين للوادي أي سلطة في تسليم الأراضي أو بيعها.

بالإضافة إلى ما سبق، يجب تسليط الضوء على قانون أملاك الغائبين والذي سُنّ في العام 1950، وينصّ بموجبه “أنّ كل من هُجّر أو نزح خارج الحدود الفلسطينيّة حتى تاريخ تشرين الثاني من العام 1947 يعتبر إما غائبًا أو مفقودًا”، وبهذا التعريف، فإنّ الحكومة مخوّلة في السيطرة على أملاك هؤلاء الغائبين (كريتشمر 2012: 75). ومن شروط حالات الغائب والتي وقعت على الليدي سرقس هي حالة حيازة أملاك في فلسطين الانتدابية، ولكن مالكها مواطن في البلاد العربية أو بلاد العدوّ، أو يسكن في فلسطين (شرق القدس والضفة الغربية).

للصحف الفلسطينية كلمة…

عكست الصحف الفلسطينية القديمة وبيّنت ردة فعل عامة الناس حول ما يحدث في وادي الحوارث، كذلك قامت العديد من الصحف بكتابة أخبار ومقالات رأي حول هذه الفاجعة.

على سبيل المثال، ورد في صحيفة فلسطين في 20 تشرين الثاني 1929 وتحديدًا في الصفحة الثالثة التالي:

“ذهب اليوم مأمور الإجراء مع قوة من البوليس البريطاني والفلسطيني وستة من اليهود لإخلاء عرب وادي الحوارث البالغ عددهم ألفي نسمة من أراضيهم وتبلغ مساحتها 35 ألف دونم وتسليمها لليهود رغم القضايا العديدة التي أقاموها في تثبيت ملكيتهم لقسم كبير من هذه الأراضي. ولما كان رئيس المحكمة المركزية في نابلس أصدر أمرا بتأجيل المحاكمة عاد اليهود واستحصلوا على أمر بإخراجهم من أراضيهم بعد أن قدّموا كفالة ماليّة. إنّ عرب وادي الحوارث مصممون على عدم الخروج من أراضيهم التي عاشوا فيها منذ مئات السنين وليس لهم أي محل آخر يلجؤون إليه أو يعيشون منه ولذلك فالأفكار عندنا مضطربة لهذا الأمر. وقد علمنا أن مثل هذا الخبر قد أرسل للجمعية الإسلاميّة المسيحيّة لتقابل سعادة حاكم اللواء وتحتج لديه على هذا العمل!”

وقد خبّرت ذات الصحيفة بعد ثلاثة أيام، في يوم 23 تشرين الثاني 1929، أنّه قد “جاء 200 يهودي اليوم (الجمعة) للمرة الثانية من مستعمرة الخضيرة إلى وادي الحوارث ليحرثوا الأرض فيه فتجمهر عليهم العرب وأخرجوهم بضرب العصي ووقف نحو 1000 عربي على الحدود ليمنعوا دخول اليهود إلى أراضيهم بعد الآن”

بالإضافة إلى صحف أخرى مثل اليرموك، الحياة والجامعة العربية.

 

الجامعة العربية: 11 تشرين الأوّل 1928
الجامعة العربية: 11 تشرين الأوّل 1928

 

 

الحياة: 16 آذار 1931
الحياة: 16 آذار 1931

 

اليرموك: 14 أيلول 1928
اليرموك: 14 أيلول 1928

 

في الختام، تكرر مصطلح “الأندلس” في الصحف الفلسطينيّة، إذ شُبّهِت فلسطين بالأندلس، فمنهم من ذكر “وغدت فلسطين أندلسًا أُخرى“، “أندلس القرن العشرين“. ونرى أنّ عرب الحوارث كغيرهم، كانوا من “الغائبين الحاضرين” إن صحّ التعبير، فهم موجودون في أرضهم جسدًا وروحًا، لكنّه تم السيطرة على أراضيهم قمعًا وقسرًا.

 

نبذة حول هديل عبد الحي عنبوسي طالبة دراسات شرق أوسط وعلم آثار في جامعة بن غوريون في النقب. مهتمّة بدراسة القضايا الفلسطينية وتاريخ البلاد وآثاراتها من مختلف الفترات الزمنية توازيا مع تاريخ الإسلام في الشمال الافريقي وبلاد الأندلس.

 

صعود وسقوط سينما ريكس

ارتاد دار السينما هذه سكان القدس: يهود، عرب وجنود بريطانيون، لماذا إذًا أضرمت فيها النار مرتين؟

شير برام
אֲנִי זוֹכֵר קוֹלְנוֹעַ רֶקְס בְּיוֹמִיּוֹת

וּמֵרָחוֹק פַּעֲמוֹנִים שֶׁל כְּנֵסִיּוֹת

من أغنية يوسي بناي: “أنا وسيمون ومويز الصغير”

يعتبر شارع شلومتسيون هملكا اليوم محورًا مركزيًا في الطريق إلى جادة آلروف ماميلا ومتاجرها الفاخرة. في نهايات الأسبوع والأعياد، يمرّ العديد من الإسرائيليين عبر الشارع، يجلسون في المقاهي ويتابعون طريقهم نحو الجادة. قبل 80 عامًا، كان هذا الشارع أحد الشوارع المركزية للانتداب البريطاني في القدس. كان يرتاده العرب واليهود على حد سواء، مرتدين ملابس فاخرة ومتماشية مع أحدث خطوط الموضة، للجلوس في المقاهي- وخاصةً لمشاهدة العروض اليومية في سينما “ريكس” التي كانت واقعة عند أسفل الشارع.

“كيف كان الفيلم؟”، كثيرًا ما كان يتردد السؤال. “الفيلم ليس مميزًا، ولكن الشجار بعد الفيلم كان ممتعًا”.  هكذا يصف إلياهو نافي،  الراوي المقدسي الشهير، الزيارات إلى دار سينما “ريكس” في شارع “الأميرة ماري” في القدس الانتدابية- كما سميت في حينه. يصف نافي كيف نشب في نهاية فيلم من بطولة عبد الوهاب، الموسيقار العربي، وليلى مراد، اليهودية، شجار عنيف بين اليهود والعرب حول الصراع بين الشخصيات في الفيلم.

إعلان لفيلم في سينما ريكس. كانون الثاني، 1941. مجموعة الإعلانات، المكتبة الوطنية الإسرائيلية

 

هُدمت سينما ريكس منذ فترة طويلة، وتحوّل شارع الأميرة ماري إلى شارع شلومتسيون هملكا، ولكن المطّلعين على أدق تفاصيل تلك الفترة يتذكرون العروض اليومية في دار السينما الفخمة في ماميلا، التي لم يبق لها أثر. مع أنّ نافي يتذكر جيدًا الشجارات العنيفة بعد العروض، إلّا أنّ العنف لم يتوقف عند هذا الحد، وبعد اعتدائيّ إيتسل على المكان- ويسميهما البعض عمليات تخريبية- فإنّ دار السينما الفخمة، والتي كانت تتسع لـ 1,300 شخص، هُدمت وهُجرت. أقيم على أنقاضها المركز التجاري “هآحيم يسرائيل”، والذي لا يزال قائمًا حتى الآن.

كانت سينما ريكس مَعلمًا بارزًا في المشهد الطبيعي المقدسي في فترة الانتداب البريطاني. وبينما كانت سائر دور السينما التي نشطت في تلك الفترة- تسيون، أديسون وعيدن- بملكية يهودية، أقيمت سينما ريكس على يد رجل أعمال عربي-مسيحي يُدعى جوزيف باسكال ألبينا. تعاون ألبينا مع العديد من اليهود في مشاريع مختلفة، أحيانًا خلافًا لموقف اللجنة العربية العليا. كان ألبينا يملك شركة إنتاج سينمائي تدعى “أفلام النيل”، من جملة ممتلكات أخرى، وأقام سينما ريكس لعرض أفلامه هو أيضًا. المقاول الذي اختير لبناء دار السينما كان اليهودي يونا فريدمان، وبعد إنهاء المشروع، اكتشف ألبينا أنّه كان ينقصه مبلغ مالي وجب عليه دفعه لفريدمان، فاقترح عليها بدلًا من ذلك الدخول معه كشريك في السينما. في 6 حزيران 1938، افتتحت سينما ريكس (“ملك” باللاتينية)، وعرضت فيها أفلام عربية- مصرية أساسًا- بالإضافة إلى أفلام الغرب الأمريكي وأعمال أوروبية. غالبية الجمهور كان من العرب المقدسيين ورجال الإدارة البريطانيين، ولكن بعض اليهود ارتادوا المكان أيضًا.

 

سينما ريكس، مطلع الأربعينات. تصوير: بيكي ويكي إسرائيل

العملية التخريبية الأولى

في أيار 1939، بعد أقل من مرور عام على افتتاح سينما ريكس، أصدرت حكومة الانتداب البريطاني “الكتاب الأبيض”، حيث أعلن عن فرض قيود على هجرة اليهود إلى فلسطين. اعتبر ذلك هجومًا مباشرًا على اليشوف اليهودي في إسرائيل، وردًا على ذلك، نفّذت منظمة إيتسل عملية تخريبية.   يفيد ييشكا إلياف،  قائد العمليات في منظمة إيتسل، ومن ثم قائد منظمة ليحي، في مذكراته بأنّ سينما ريكس اختيرت لكونها “واقعة ضمن المنطقة التابعة لمؤسسات السلطات البريطانية (…) وبفضل موقعها ومبناها العصري، جذبت دار السينما قادة سلطات الانتداب، ونخبة المجتمع العربي.   استهدفت عملية دار السينما قادة السلطات العسكرية، المدنية والشرطوية، والجمهور الذي يضم القيادة الجماهيرية العربية وداعمي العصابات”. لقّب البريطانيون ييشكا بـ “الإرهابي ذي العيون المخملية”.

صحيفة “هبوكير” تعلن عن التفجيرات في سينما ريكس. 30 أيار، 1939

 

في 29 أيار، اقتحم رجال الـ “إيتسل” دار السينما أثناء عرض فيلم “طرزان”، فخّخوها بمعطف مليء بالمتفجرات والعبوات الناسفة المخبأة في علب الحلوى، وغادروا المكان. في تمام الساعة 20:30، عندما زأر الأسد الشهير لشركة الإنتاج السينمائي غولدن-ماير معلنًا عن بدء الفيلم، انفجرت العبوات الناسفة وفقًا للمخطط. هرع الجمهور الفَزِع خارج الصالة، ليصطدموا برجال الإيتسل الذين كانوا ينتظرونهم بجوار المقبرة الإسلامية في ماميلا، حيث نصبوا لهم فخًا وأطلقوا النار على الفارين. قُتل 5 أشخاص، جميعهم عرب، وأصيب 18 آخرون: ستة بريطانيين، عشرة عرب ويهوديان. لحق بالمكان ضرر جسيم، بعد أن احترق، وأصبح الاعتداء حديث الصباح والمساء في المدينة. في أعقاب الاعتداء على دار السينما، أصدر القائد العسكري البريطاني في القدس أمرًا بإغلاق جميع دور السينما في القدس، بالإضافة إلى مؤسسات ثقافية أخرى. وبينما استمرت منظمة الإيتسل في استهداف مواقع أخرى في المدينة، وقفت سينما ريكس على حافة الانهيار، ولكن اندلاع الحرب العالمية الثانية ساهم في تجديد نشاطها. حضر إلى المدينة عدد كبير من العساكر البريطانيين الذين احتاجوا مجددًا لدار سينما ناطقة بالإنجليزية. سارع أصحاب المكان لترميمه، وعادت سينما ريكس إلى قمة نشاطها.

اقرأ/ي أيضًا:  فلسطينيون في الحرب العالمية الثانية في صفوف بريطانيا

سنوات النشوة وانتهائها

طوال أربعينيات القرن الماضي، شكلت سينما ريكس ملتقى للعرب، اليهود والبريطانيين في القدس. خلافَا لما جاء في مذكرات رجال منظمة إيتسل، والذين أفادوا بأنّ دار السينما لم تكن وجهةً لسكان المدينة اليهود، يبدو أنّ العديد من اليهود ارتادوا المكان. إعلانات الأفلام صدرت باللغة العبرية في صحف يهودية، إلى جانب التهاني بالسنة العبرية الجديدة، وفي عام 1946، وعلى إثر الشائعات بأنّ الشركاء اليهود غادروا دار السينما، خرجت الإدارة في بيان يوضح عدم صحة هذه الإشاعة.

إعلان لفيلم في سينما ريكس. أيار 1940. مجموعة الإعلانات، المكتبة الوطنية الإسرائيلية

 

كان شارع الأميرة ماري أحد الشوارع الأكثر عصرية وكوزموبوليتانية في فترة الانتداب، وكانت “ريكس” دار السينما الوحيدة في مركز المدينة التي تفتح أبوابها يوم السبت. نشطت في الطابق العلوي للمبنى دار سينما إضافية تدعي “استوديو”. في مقالته التي نشرت في صحيفة “عال هميشمار “ ، يصف غابريئيل شطيرن الأجواء التي كانت سائدة في القدس في الأربعينات، وللمفارقة، كتب شطيرن أن سنوات الحرب شهدت تقاربًا بين الشعبين، واعتبرت فترة سلام نسبي. موقع دار السينما جعل منها ملتقى مباشرًا للشرائح المجتمعية المختلفة. في الفترة الفاصلة بين صدور الكتاب الأبيض واندلاع حرب الاستقلال في عام 1947، كان اليهود يشعرون بالراحة في المكان، خاصة عشية السبت والأعياد.   استحضر يستحضر يوسي بناي، في أغنية له عن هذه الفترة، العروض اليومية في دار السينما والتي كان يحضرها مع الأخوين سيمون ومويز. العروض الصباحية كانت أقل تكلفة من العروض المسائية… واستمرت حالة النشوة في سينما ريكس، حتى عشية 29 تشرين الثاني 1947.

بعد الإعلان الصادر عن الأمم المتحدة، واحتجاجًا على قرار التقسيم، بادرت اللجنة العربية العليا لإضراب لثلاثة أيام في الشارع العربي. كانت الأجواء في الشارع العربي في القدس عاصفة ومتوترة، مما أدى في نهاية المطاف إلى انفجار. في صباح الثاني من كانون الأول 1947، هاجم حشدٌ من العرب المركز التجاري في ماميلا، حيث كان غالبية المتاجر تابعة لليهود. القوات البريطانية التي وجب عليها حماية المكان كانت منشغلة في ملاحقة قوات الحراسة المركّزة المكونة من أعضاء “الهاغاناه”، وقام مثيرو الشعب، وهم يحملون العصي، الفؤوس والسكاكين، بإضرام النار في المركز التجاري والاعتداء على التجار. ردًا على ذلك، اعتدى رجال الإيتسل مجددًا على سينما ريكس، وهذه المرة، أضرموا فيها النار. خلافًا للعملية التخريبية الأولى التي نفذها رجال الإيتسل في السينما، والتي خطط لها بكل تأنٍ، كان الاعتداء هذه المرة أكثر عفوية.   نشرت صحيفة “حيروت-حرية” قصة الاعتداءـ، كما وصفها موشيه سولومون (“نتان”)، القائد الذي بادر إليها: “لم نتلق أي أوامر بذلك، كنا فقط 5 من رجال إيتسل  (…). وصلنا إلى “ريكس”، اقتحمنا الأبواب، وباشرنا بمهمة الإبادة، كما حدث في المركز التجاري. أضرمنا النار في غرفة الآلات ومن ثم في سائر أجزاء المبنى (…). بعد إتمام العملية، أخبرت المسؤولين عني في منظمة إيتسل بالعملية، وصادقوا عليها بأثر رجعي”.

الدخان يتصاعد من سينما ريكس. كانون الأول، 1947. مجموعة رودي غولدشطاين، بيتمونا

احترقت دار السينما بالكامل، إذ أنّ شرائط العرض المصنوعة من النترات كانت شديدة الاشتعال. تعالت سحب الدخان لتغطي سماء المدينة، والتقطت بعدسة بعض المصورين. في ذلك اليوم، ضاع الأمل في عودة سينما ريكس، التي خدمت العرب، اليهود والبريطانيين في القدس. ظلت أنقاضها قائمة حتى ستينيات القرن الماضي، إلى أن أقيم في المكان المركز التجاري الذي لا يزال قائمًا حتى يومنا هذا.

 

قصة ميلاد السيد المسيح في الكتاب المقدّس

أخذت الامبراطوريّة البيزنطية ببناء كنائس فاخرة في الأماكن التي شكّلت أهميّة في مسيرة المسيح والّتي استلهمت حكاية المكان في الانجيل لتشكّل تجربة حسّية فريدة لزوّارها.

صورة لمدخل كنيسة المهد في القرن التّاسع عشر، أرشيف ياد يتسحاك بن تسفي.

صورة لمدخل كنيسة المهد في القرن التّاسع عشر، أرشيف ياد يتسحاك بن تسفي.

إلى كنيسة المهد المقدّسة في مدينة بيت لحم تحجّ الطّوائف المسيحيّة لتحتفل بعيد ميلاد السّيد المسيح كلّ عام. وهو تقليد دينيّ نشأ منذ القرن الثّالث بعد الميلاد واستمرّ إلى يومنا هذا، وبرغم عدم وجود فريضة للحجّ إلى المواقع المقدّسة في الدّيانة المسيحيّة إلّا أن المسيحيون شعروا بالرّغبة بزيارة هذه المواقع الّتي تم استكشافها رويدًا رويدًا وربطها بمحطّات رئيسيّة من حياة السّيد المسيح كما وردت في الانجيل

بطاقة تذكاريّة لعام 1880 تظهر اجتماع الحجّاج في ساحة المهد خارج الكنيسة
بطاقة تذكاريّة لعام 1880 تظهر اجتماع الحجّاج في ساحة المهد خارج الكنيسة

فالانجيل اذًا هو المصدر الأول الّذي اعتمدت عليه تكهّنات الحجّاج الأوائل للعثور على الأماكن التي شكّلت أهميّة في مسيرة المسيح، وحين أصبحت الدّيانة المسيحيّة ديانة الامبراطوريّة البيزنطية بشكلٍ رسميّ، أخذت الامبراطوريّة ببناء كنائس فاخرة في كلّ من تلك المواقع، تلك الكنائس الّتي تطوّرت من حيث البنيان والأيقونات والتّصاميم الّتي استلهمت حكاية المكان في الانجيل لتشكّل تجربة حسّية فريدة لزوّارها الحجّاج.

نتناول في هذه المقالة قصّة ميلاد السّيد المسيح كما وردت في إنجيليّ لوقا ومتّا، ثمّ قصّة بناء كنيسة المهد الّتي استندت على هذه النّصوص.

وردت قصّة ولادة السّيد المسيح في إنجيل لوقا وإنجيل متّى، ويمكننا اعتبار القصّتين مكمّلتين لبعضهما البعض، ففي حين يذكر إنجيل متّى ولادة السّيد المسيح بقليلٍ من التّفاصيل لينتقل للحديث عن معجزة ظهور النّجم الّذي دلّ المجوس على ولادة “ملك اليهود”، يوفّر إنجيل لوقا مزيدًا من التّفاصيل حول سياق الحكاية وتفاصيلها. كلتا القصّتين تؤكّدا على أن الولادة وقعت في بيت لحم “مدينة داوود”، فما الّذي دلّ الامبراطور قسطنطين عام 335 على موقع مغارة المهد الّتي أمر ببناء الكنيسة فوقها؟ إليكم القصّتين كما وردتا في العهد الجديد.

من إنجيل متّى

“أمّا ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا: لمّا كانت مريم أمّه مخطوبة ليوسف، قبل أن يجتمعا، وُجدت حبلى من الرّوح القدس. فيوسف رجلها إذ كان بارًا، ولم يشأ أن يُشهرها، أراد تخليتها سرًا. ولكن فيما هو متفكرٌ في هذه الأمور، إذا ملاك الرّب قد ظهر له في حلم قائلًا: “يا يوسف ابن داوود، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك. لأن الّذي حُبل به فيها هو من الرّوح القُدُس. فستلد إبنا وتدعو اسمه ياسوع. لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم” وهذا كلّه كان لكيّ يتمّ ما قيل من الرّب بالنّبي القائل : “هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا، ويدعون اسمه عمّانوئيل” الّذي تفسيره :الله معنا. فلمّا استيقظ يوسف من النّوم فعل كما أمره ملاك الرّب، وأخذ امرأته. ولم يعرفها حتّى ولدت ابنها البكر. ودعا اسمه يسوع. ولمّا ولد يسوع في بيت لحم اليهوديّة، في أيّام هيرودس الملك، اذا مجوس من المشرق قد جاؤوا إلى اورشاليم قائلين :”أين هو المولود ملك اليهود”.

من إنجيل لوقا

“وفي تلك الأيام صدرَ أمرٌ من أغسطس قيصر بأن يُكتتب كلّ المسكونة. وهذا الاكتتاب الأوّل جرى إذ كان كيرينيوس والي سوريّة. فذهب الجميع ليُكتتبوا كلّ واحدٍ إلى مدينته. فصعد يوسف أيضًا من الجليل من مدينة النّاصرة إلى اليهوديّة، إلى مدينة داوود الّتي تُدعى بيت لحم، لكونه من بيت داوود وعشيرته ليُكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حُبلى. وبينما هما هناك تمّت أيّامها لتلد. فولدت ابنها البكر وقمّطته وأضجعته في المذود، إذ لم يكُن لهما موضعٌ في المنزل”

نَعرف إذًا من القصّة كما وردة في انجيل لوقا أنّ ولادة المسيح في بيت لحم كانت لسفرٍ اضطرّ يوسف ومريم للخروج فيه كيّ يلبّوا طلب القيصر بالاحصاء، فكان السّفر من النّاصرة إلى بيت لحم الّتي تعيش بها عشيرة يوسف، كما نعرف أيضًا أن ولادة المسيح لم تكن في بيتًا أو فندقًا مغلقًا، بل وُضع في مذود، وهو المكان الّذي يوضَع فيه علف الدّواب، وقد صنعت منه السّيدة مريم مهد المسيح حين كان رضيعًا، ممّا يفسّر اختيار اسم “كنيسة المهد”. ولكن مع ذلك، ما الّذي دلّ بناة الكنيسة على هذه المغارة تحديدًا، والنّص لا يذكر أيّة مغارة أو موقعًا؟

مجسّم لمذود السّيد المسيح من كنيسة القدّيسة كاترينا في بيت لحم خلال احتفالات الميلاد عام 2018، أرشيف دانتشو أرنون.
مجسّم لمذود السّيد المسيح من كنيسة القدّيسة كاترينا في بيت لحم خلال احتفالات الميلاد عام 2018، أرشيف دانتشو أرنون.

ورد الحديث عن مغارة للمرّة الأولى على لسان القدّيس جاستين بعد مائة وخمسين عامًا من ولادة السّيد المسح، وقد ذكّر القديس أن الولادة تمّت في مغارة صغيرة بالقرب من قرية “بيت لحم”، وكانت المغارة الّتي وُجدت في موقع كنيسة المهد اليوم اوّل ما اعتبره مسيحيّو القرن الثّالث مزارًا مقدّسًا بالإضافة إلى جبل الطّور، فزاروا المغارة وأدوّا بها الصلاة وتمّ بناء الكنيسة فوقها للمرّة الأولى وسمّيت بكنيسة “القدّيسة مريم” إلا أن أعيد بناءها مرّة أخرى في القرن السّادس ودُعيت “المهد” تيمّنًا بوصف إنجيل لوقا لحادثة الولادة.

تُعتبر كنيسة المهد أحد أهم المزارات المسيحيّة حول العالم، وتتناقل الأجيال هذه القصّة الّتي تطوّرت بناء عليها ترانيم الميلاد الّتي تتغنّى بمعجزة ميلاده الّذي اتّسم بالتّواضع. للمزيد حول كنيسة المهد ومدينة بيت لحم زوروا بوّابتنا المعرفيّة.

حمامات طبريا في جرايد فلسطين الانتدابية

نشارككم بعض من أخبار ينابيع طبريا الساخنة وحماماتها التّاريخيّة كما وردت في الصحف الفلسطينيّة أثناء فترة الانتداب البريطاني.

عائلة عربيّة بالقرب من حمامات طبريا في سنوات الأربعينات، أرشيف بن تسفي

حظيت مدينة طبريا التي لا تزال مأهولة بالسكّان، منذ العقد الثالث للميلاد، بذكر شاسع لينابيعها السّاخنة وحمّاماتها المعدنيّة، ومع أن الصّورة الّتي تصلنا عن الحياة في طبريا تبدو رومانسيّة في الغالب، إلا أنّ الحياة في مناخها الحارّ لم تكن سهلة على الاطلاق. فقد شاع عن أهالي طبريّا في القرن العاشر للميلاد – كما يحدّث المؤرّخ شمس الدين المقدسي – أنّ عامهم كان يسير كالتالي: أنّهم يرقصون شهرين، ويلتهمون لشهرين، فيضربون لشهرين، ويذهبون عراة لشهرين، ويتوغّلون في الطّين شهرين. وكان يقصد المقدسيّ أنّهم يرقصون من شدّة البراغيث، ثمّ يتلذّذون بفاكهتهم ، ثمّ يجنّون من كثرة الحشرات فيضربوها لشهرين، ثمّ يخلعون ملابسهم لشهرين من شدّة الحرارة في الصيف، ثمّ يملأهم وحل الشوارع حين يأتي الشّتاء.

امرأة بجانب حمامات طبريا السّاخنة عام 1945، أرشيف بن تسفي
امرأة بجانب حمامات طبريا السّاخنة عام 1945، أرشيف بن تسفي

 

إلّا أن ينابيع طبريا الساخنة كانت تعرف قديمًا وإلى حقب ليست ببعيدة بقدرتها على شفاء الأمراض الجلديّة، فكان يتدفّق إليها الزّوار من جميع أنحاء بلاد الشّام للتطبّب في مياهها العذبة والاستجمام بها لبضعة أيام، مما جعل المدينة دائمة الاستقبال للغرباء والضّيوف. ولكن كيف تمّت إدارة هذا المورد الطبيعي الّذي لطالما كان ملاذًا لعامّة الناس في العصر الحديث؟ إليكم تعريف مجلّة المنتدى بحمامات طبريا إلى قرائها عام 1946 بقلم الاستاذ أحمد خليفة، والّذي يتطرّق إلى أحوال البحيرة وينابيعها في العهد العثمانيّ:

ويبدو أنّ البحيرة كانت متصلة بالبحر الابيض بواسطة مرج بن عامر فقذف أحد البراكين التي كانت ملتهبة بحممه عليها فسد طريق الاتّصال بينها وبين البحر الأبيض. ومن الأدلة على ذلك وجود مواد بركانية في طبقات المرج السّفلي ومن الأدلة على أن حفرة البحيرة بركانيّة وجود الحمامات المعدنية في أطرافها وتكاثف طبقات البازالت في قصر البحيرة وتوالي الزلازل في أنحائها. أما الينابيع المعدنيّة فهي واقعة على مسافة تقرب من كيلومترين إلى جنوب المدينة وكانت معروفة بتأثير مياهها في شفاء بعض الأمراض الجلدية والعصبية من العهد الرّوماني.

وقد أقام هيرود حمامات حول الينابيع وبنى قصرًا في سفح الجبل خلفها وإلى الشمال من الحمامات بنى مدينة طبريا وجعلها عاصمة الجليل وأكثر فيها من المنازل الجميلة والهياكل. تغطي الينبوع الآن قبة يجري الماء من تحتها الى الحمامات.

وزادت الحكومة العثمانية في تلك الأبنية سنة 1890 ونالت بعض الشركات امتيازًا لإقامة أبنية عصرية وحدائق حول الحمامات ومن المبهج أن الحكومة العثمانية كانت قد قررت تخصيص قسم من واردات الحمامات لشؤون التعليم وأن بناء مدرسة البنين في طبرية ذي الطراز العربي قد أُقيم من الواردات المذكورة وإذا توافرت رؤوس الأموال تخصصها الشركات لبناء منازل وفنادق في طبريا، فإن هذه المدينة تصبح مشتى لا لأهل فلسطين فحسب بل لسكان الشرق العربي كله فحين تكون قمم الجبال مكسوة بالثلج يتمتّع أهل طبريا بجو استوائي دافئ كأنهم في قارة أخرى.

لقراءة المقالة كامة في مجلة المنتدى

أمّا في العهد الانتدابي، فنرى في جريدة فلسطين خبرًا في العشرين من نيسان عام 1929 يفيد بأن حكومة الانتداب منحت امتياز شراء حمامات طبريّا لمستثمرين أجانب، في حين يملك بعض الملّاك العرب في بيروت أسهمًا بسيطة من عائدات المشروع، ممّا جعل الانتفاع بمياه الينابيع حكرًا على مشروعات المستثمرين الّذين صادق عليهم المندوب السّامي فقط.

جريدة فلسطين 20 نيسان 1929، أرشيف جرايد
جريدة فلسطين 20 نيسان 1929، أرشيف جرايد

 

ويبدو أن الحمامات بقيت موقعًا جذابًا للزوار، ولكن ربّما بطريقة أخرى، فنرى دعوة في جريدة فلسطين أيضًا بعد ثلاثة عشر عامًا لاحتفال تقيمه “شركة حمامات طبريا” حيث ستقيم الأوركسترا الفلسطينيّة حفلًا موسيقيًاَ! أمّا اليوم فتعتبر منطقة الينابيع السّاخنة موقعًا أثريًا ومتنزّه وطنيّ تحت إشراف سلطة الطبيعة والحدائق الإسرائيليّة.

جريدة فلسطين 5 نيسان 1942، أرشيف جرايد
جريدة فلسطين 5 نيسان 1942، أرشيف جرايد

 

لم يعد هناك حديث عن قدرة خاصّة لهذه المياه على شفاء الأمراض، كما أنها لم تعد تحمل سمة قدسيّة على وجه الخصوص، سوى  أنّ المراجع القديمة منها والحديثة تشهد على اعتبارها كذلك لعقود. خاصّة للاعتقاد بأن السيّد المسيح أدىّ بعض من معجزاته الشّهيرة في شفاء الأمراض وإحياء الموتى على ضفاف بحيرة طبريّا وهو ربّما السّبب الّذي أضفى على مياه ينابيع طبريّا صفة شهيرة في شفاء الأمراض والقداسة وصلت إلى شتّى الطّوائف الّتي سكنت المنطقة لعصور.

للمزيد حول مدينة طبريا إليكم بوابة المحتوى الرقمي حول مدينة طبريا والتي يمكن من خلالها الوصول إلى مواد رقمية متنوعة حول المدينة وتاريخها وسكانها.