مستخدمًا التناص للوصول إلى الأدب؛ مسيرة سميح القاسم الأدبية

العشرات في قصائد سميح القاسم المختلفة، وهي تدلل بشكلٍ خاص على أسلوبه المتفرد في الشعر في عصره وبالذات التناص الأدبي.

سميح القاسم

الشاعر سميح القاسم

أبصر سميح القاسم النور عام 1939 في مدينة الزرقاء بالأردن، لوالدٍ برتبة كابتن بالجيش الأردني. وقد كانت أسرته مؤلفة من الأب والأم وستة أخوة وست أخوات، يقول سميح عن طفولته الأولى، أنه عند انتهاء الحرب العالمية الثانية عادت الأسرة إلى بلدتهم الأصلية الرامة في الجليل الأعلى، حيث درس الابتدائية في دير اللاتين، المدرسة الروسية القديمة، ثم المرحلة الإعدادية في المدرسة الحكومية، وأكمل المرحلة الثانوية في الناصرة، ولاحقًا درس في أكاديمية موسكو الفلسفة والاقتصاد السياسي.

يحكي سميح القاسم عن أصول أسرته بأنهم يعودون في الأصل إلى الفاطميين الموحدين، وأن عائلته كبيرة وموزعة بين فلسطين وسوريا ولبنان. تزوج سميح وأنجب أربعة أولاد أسماهم: وطن محمد، وضاح، ياسر، عمر. علَّم في بداية حياته، ثم انصرف إلى نشاطه السياسي في الحزب الشيوعي، وتابع على التوازي نشاطه الأدبي، واعتقل عدة مرات ووضع تحت الإقامة الجبرية بسبب مواقفه ومقاومته ورفضه التجنيد الإجباري للدروز.

اقرأوا أيضًا: دالية الكرمل – من تمرّد جبل لبنان حتّى حلف الدّم مع إسرائيل

عمل عاملًا ومعلّمًا في مدينة حيفا، لكنه سرّح لاحقًا بسبب شعره، وانتقل بعد ذلك للعمل في مجال الصحافة، حيث أسهم في تحرير مجلتي الغد والاتحاد، ثم تولى رئاسة مجلة “هذا العالم” عام 1966، ثم عاد للعمل محررًا في صحيفة الاتحاد، وسكرتيرًا لصحيفة “الجديد” ثم رئيسًا لها، كما أسس منشورات “عربسك” 1973 وتولى رئاسة المؤسسة الشعبية للفنون في حيفا.

وقد تأثر شعر القاسم من خلال انتماءاته المختلفة الّتي تقلّبت واختلفت خلال حياته مثله كمثل بقية الشعراء والأدباء من جيله، حيث بدأ حياته بميول قومية واضحة لكنه سرعان ما انضم للحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح) ليظل عضوًا فيه حتى نهاية الثمانينيّات، حيث قدم استقالته من الحزب وتفرغ للعمل الصحفي والأدبي كليًا.

وقد كتب القاسم عشرات الكتب الشعرية في سنوات حياته، حيث اختصت بقضايا الشعب الفلسطيني بشكل عام، وبأحوال الفلسطينيين في إسرائيل أيضًا، من هذه الكتب: مواكب الشمس 1958، أغاني الدروب 1964، إرَم 1965، دمي على كفي 1967، دخان البراكين 1968، إسكندرون في رحلة الخارج ورحلة الداخل 1970، قرآن الموت والياسمين 1971، الموت الكبير 1972، وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم 1976، كولاج 1983، عجائب قانا الجديدة 2006، وغيرها عشرات من الكتب ومئات من القصائد.

وقد توفي سميح القاسم بعد صراع مع مرض سرطان الكبد لمدة ثلاث سنوات وذلك في 19 أغسطس 2014.

اللّغة في شعر سميح القاسم

يستطيع الشاعر من خلال اللعب بأوتار اللغة التعبير عن نفسه ومواقفه، أفكاره وعواطفه وأحاسيسه وتوجهاته، فهي غطاء مرن للاختباء تحتها ونقل رسالة بصورة غير مباشرة، فالاستخدام الجيد للغة يحيل بالكاتب إلى التفرد، حتى يخيل للقارئ بأن هذا اللفظ أو الاستعارة اللغوية هي من اختراع الشاعر، على الرغم من أنه كان يعرفها مسبقًا.

وقد التزم سميح القاسم كمعظم شعراء عصره بلغة مباشرة دون مواربة، خاصةً في السنوات الأولى لكتابة الشعر، فقد كانت نوعية الكتابة لدى الشعراء في ذلك الجيل صيغة المباشرة دون الاختفاء خلف العبارات المنمقة والاختصارات الشعرية المختلفة. وقد اعتمد سميح القاسم هذا الأسلوب في التعبير عن أفكاره وتوجهاته وقضايا شعبه الّتي تشغله ويفكر فيها.

وقد جاء المعجم اللغوي الخاص بشعر سميح القاسم مستقى من الواقع المعيش لشعبه، حيث جاءت مفرداته كلها متعلقة بالشعب والوطن والثورة من خلال ألفاظ مختلفة منها: الوطن، الشهادة، الحرب، الحرب، السجن، الأرض، الثورة، العذاب، الانتصار، الطفل، الحجارة.. وتواجد مثل هذه المصطلحات في شعر سميح القاسم يعد طبيعيًا نسبةً إلى طبيعة تجربته وتوجهاته الفكرية.

ويتضح استخدامه لمثل هذه المصطلحات من خلال التالي:

“وانشّق عن صوت علاء الدين

ميلاد الحساسين الجوارح

أنا ألقيت على سيارة الجيش الحجارة

أنا وزّعت المناشير

وأعطيت الإشارة

أنا طرّزت الشعار

ناقلًا كرسيِّ”

التكرار: وهي ظاهرة من ظواهر الشعر الحديث الّتي بدأت في الانتشار في بداية القرن العشرين، وإن كانت جذورها تمتد إلى الشعر العربي القديم، فقد استخدمه العرب قديمًا. وهو من أهم الوسائل الّتي تلعب دورًا توضيحيًا في القصيدة، فتكرار لفظة ما أو عبارة ما يوحي بسيطرة هذا العنصر المكرّر وإلحاحه على فكر الشاعر.

ويمثل التكرار إحدى الظواهر الفنية الّتي برزت في شعر سميح القاسم، وقد تنوعت مظاهره في القصائد بحسب الحالة النفسية والشعورية الّتي ألمت بالشاعر لحظة الكتابة، إذ أن هناك بعض الموضوعات والصور الّتي تلحّ عليه في لحظة ما، فيكررها بغية التأثير في المتلقي أو الكشف عن الشعور الباطن الذي يسكنه، ومن الأمثلة على ذلك:

“قيل لي إنهم دُفنوا

وأُهيل لحاف التراب على الجثث النائمة

قيل لي إني واهم

وأنا أبصر الدم واللحم في الساحة الواهمة

ليتني واهمٌ أنني واهم

ليتني موقنٌ أنها يقظتي الحالمة”

حيث يعبر في هذه القصيدة عن رعبه عند رؤية الدم والجثث في قانا، وبتكراره اللفظي “ليتني” و “واهم” يحاول إقناع نفسه بأن هذا مجرد حلم لم يحدث.

استخدام الألفاظ العامية والأجنبية: اعتمد الشعراء في كثيرٍ من الأحيان استخدام اللغة العامية والمستخدمة اليومية من أجل إيصال المعنى والانفعالات، فاتجهوا إلى الاستفادة من المعجم العاميّ العربيّ وذلك انعكاسًا لطبيعة الموضوعات الّتي عالجوها. تقول سلمى الجيوسي: “إن اللهجة والمواقف في الشعر تغيرت بشكلٍ مباشر تحت تأثير الجو السياسي في الزطن العربي”.

وقد استخدم سميح القاسم العامية شعره بكثرة، وذلك بسبب الموضوعات الّتي عالجها من خلاله، على سبيل المثال قوله:

“وتعالوا

أحكموا فكّ الكلبشة”

فقد استخدم هنا اللفظ كلبشة في إشارة إلى القيد أو الأصفاد المستخدمة عند الاعتقال من الشرطة. وفي أبياتٍ أخرى يقول:

“أبي مات..

بيّي، أنا فاديه”

وقد جاء استخدام لفظة “بيي” بصورة محببة ومقربة إلى المتلقي، حيث تعني أبي في عامية بلاد الشام وفلسطين.

التناص كمحاولة للاختفاء خلفه

يبرز التناص كظاهرة لغوية واسعة الانتشار في الأدب العربي الحديث، ويعتمد في تمييزها على ثقافة المتلقي ومدى اطّلاعه وقدرته على الترجيح. والتناص هو أن نصّ أدبي ما نصوصًا أو أفكارًا أخرى سابقة عليه من خلال الاقتباس أو التضمين أو التلميح أو الإشارة، فهو مرتبط بثقافة الأديب. وتشترك جميع نظريات التناص في أنها تعير اهتمامًا بالغًا بالخلفية المعرفية للمبدع في عمليتي انتاج الخطاب أو تلقيه، غير أن الكاتب لا يستدعي “الأحداث والتجارب السابقة كلها وإنما يعيد بناءها وتنظيمها وإبراز بعض العناصر منها أو إخفائها بحسب الحاجة”.

ويعدّ سميح القاسم من أبرز الشعراء الّذين استخدموا التناص في شعرهم، حيث لجأ إلى استخدامه بمختلف أنواعه، وقد حضر بشكلٍ قوي من خلال التناص الديني والتناص الأسطوري. وقد جاء التناص الديني الأكثر تأثيرًا في شع القاسم، حيث ارتبط الدين بالوجدان الإنساني ارتباطًا عميقًا. وقد تعامل الشعراء العرب والفلسطينيين مع التراث الديني الإسلامي لما له من تأثير قوي وعميق في نفوس الناس، حيث اقتبس سميح القاسم من القرآن الكريم العديد من الآيات والشخصيات والقصص والأحداث. حيث يقول:

“دعهم، فإن ضلالهم سوف يرافقهم إلى اليوم الأخير

جالد إذا أفلحت، منتزعًا خطاك من الوحول الداميات

وعد إلى فردوسك المهجور، للجنات تجري تحتها

الأنهار، للقصر الكبير”

حيث اقتبس الشاعر “للجنات تجري من تحتها الأنهار من الآية: ﴿جزاؤهم عندَ ربّهم جنّات عدنٍ، تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا﴾

وفي موضعٍ آخر يقتبس من الآية ﴿إرمَ ذات العماد﴾ في قصيدة “أنادي الموت” حيث يقول:

“أبدًا تجذب وجهي بالنداءات الخفية

لمكانٍ خلف أسوار الشقاء

فيه شيّدت قصوري الذهبية

إرمي ذات العماد..

إرمي.. أمنحها من كل قلبي للعباد”

ومثل هذه الأمثلة العشرات في قصائد سميح القاسم المختلفة، وهي تدلل بشكلٍ خاص على أسلوبه المتفرد في الشعر في عصره. كما يعد القاسم من أكثر الشعراء الفلسطينيين شيوعًا، نظرًا لتجربته الفذة وحسه الإنساني وتجسيده لقضية شعبه بشكلٍ جلي في أشعاره.

نازك الملائِكة: رَمز الشّعر الحر والتغيير

لم تكن قِصة نازِك الملائِكة تقتصِر على الأَبيات والقوافي فحسب؛ لقد كانت قصة مرونة، وشهادة على الروح الدائمة لامرأة مصممة على نحت إرثها.

نازك الملائكة

صورة شائعة لنازك الملائكة

بِمُناسَبَةِ الاحتفاءِ بِيومِ اللّغة العربية، يتعيّن علينا التّأَمّل في الشّخصياتِ البارِزَة التّي ساهمت بشكلٍ كبير في إثراء وتطوير هذه اللغة العريقة. تبرز قصة الأديبة نازك الملائكة كشاهد على عُمقِ اللّغة العربية من خلال استحداثها نمطاً مميزاً من الشعر احتضنته اللغة مما يدلُّ على تنوعها وتقبلها للتجديد.
بدأت قِصَّة نازك صادق الملائكة في مَدينة بغداد، حيث وُلِدت في وِسطِ عائلةٍ غنيةٍ بالشّعراء، في بيئةٍ تَنبُضُ بالحيوية الثقافية. مُحاطةً بأجواءٍ أَدبية وبتوجيه من والدتها سلمى الملائكة، الشاعرة المحترمة، ووالدها الكاتب، شَحذت نازك مهاراتها في وقت مبكر. فلم تكن بداية كتابة أولى أشعارها في العاشرة من عمرها أمرًا مفاجئًا. كما شَجّعَ هذا الجو المثقف والمليء بالإلهام نازك للانطلاق نحو عالم الفنون الجميلة حيث درست الموسيقى.
إنَّ شَغَف نازك بالعود، والذي عَزَّزَهُ مُدرّس موسيقى مُوَّقَر، دَفعها في كثير من الأحيان إلى قضاء ساعات في ضَربِ أوتاره بمفردها في حديقة منزلها.

صحيفة الإتحاد،14 تموز 2002
صحيفة الإتحاد: 14 تموز 2002

كانت بداية خروجها عن المألوف عند نشرها ديوانها الأول بعنوان “عشاق الليل” الذي كان انعكاسًا لتأملاتها وارتباطها الحميم بالطبيعة، وواجه في البداية آراءً مُتباينة. وَتَرَدَّدَ النُّقاد حول انحِرافِها عن الإيقاع الراسخ، وعلقوا على ما اعتبروه افتقارًا إلى الرنين العاطفي المعاصر.
لكنَّ شَغَفَها بالأَدَب ولإثبات نفسِها جَعَلَها تَسعى لِأُفُقٍ أَبعد، فسافرت إلى الولايات المتحدة وحَصَلت على درجة الماجستير في الأدب المقارن. هذه الخطوة العلّمية كانت البداية في تطوير أسلوبِها الأَدَبي الفريد واكتساب فهمٍ عَميق للأدب العالمي.

وفي نَفس العام، تَجَلَّت بَراعَتها الإبداعية في مقالٍ بعنوان “الكوليرا”، مستوحى من التقارير الإذاعية عن تصاعد الوفيات بسبب المرض في مصر. وبحماسة، أسرعت إلى أختها إحسان، لاهثة الأنفاس من الترقب. فأَعلَنَت وهي حَريصة على مشاركة انتصارها: “لقد نسجت نوعًا مختلفًا من الشعر”. لكن لم يشاركها الجميع حماسها.
كانت أختها من أشد المؤيدين لها، لكن والدتها أظهرت القليل من الحماس، وانتقدت غياب الموسيقى الشعرية. وبالمثل، سَخِرَ والدُها من جُهودها، وتوقع لها الفشل. ومع ذلك، وبإصرار لا يتزعزع، أعلنت نازك بثقة: “قُل ما شئت، فأنا على يقين أن شعري سيغير خريطة الشعر العربي”.

وكان لنازك ما شاءَت؛ إذ على الرغم من الرفض الأوليّ من العالم الأدبي المحاط بها والمرتبط بشدة بالأساليب التقليدية للكتابة، إلا أنَّ شِعرها الحُر الرّائد أَصبح في النهاية يَحتفل به ويَحظى بالقُبول على نطاقٍ واسع. اجتازت نازك عالمًا أدبيًا متجذرًا بعمق في التقاليد، حيثُ كانَ التجّريب والتغيير ضيفاً غيرَ مُرَحَبٍ بِه.
لم يَكن كَسرُ هذِهِ السَّلاسِل بالأمر السهل. فَقد قُوبلت ولادة الشعر الحر بدهشة كبيرة، وخيبات أمل متوقعة، وعالم متردد في قبول التغييرات. اشتعلت المناقشات حول ما إذا كانت “الكوليرا” رائدة الشعر الحر. وتهامس البعض بوجود منافسة بين نازك وشاعرٍ آخر هو بدر شاكر السياب الذي أصدر قصيدة بعنوان «هل كان حباً؟» قبل “الكوليرا”. ولا يزال الجدل حول من هو المبتكر الحقيقي لهذا الأسلوب الشعري الجديد مستمراً حتى يومنا هذا.
وعلى الرغم من كفاحها وإحجام العالم عن الاعتراف بإبداعاتها، ظلت نازك صامدة. كانَ سَعيها لغزوِ عالمٍ يَحكُمُهُ الرّجال في الغالب مدفوعًا بالتحديات التي تواجهها النساء في المجتمع العربي – التوق إلى التعبير عن المشاعر التي تخنقها الأعراف المجتمعية.

صحيفة الإتحاد،30 نيسان 1992
صحيفة الإتحاد: 30 نيسان 1992

 

ومع ذلك، لَعِبَ القَدَر لُعبَة غريبة، حيث قادت الملائكة، بعد سنوات، ثورة ضد الشعر الحر، ودعت إلى العودة إلى الأشكال الكلاسيكية. تسبب هذا التحول في رأيها في حدوث انقسامات بينَ أقرانِها والأوساط الأدبية، مما جعلها معزولة إلى حد ما.
رغم هذا المد والجزر في حَياتِها وَمَواقفها الأَدبية، كانَت رِحلةُ نازك تَحمِل قُوَّةً فريدة من نوعها. أصبحت شهرتها في عصر النهضة الشعرية منارة للنساء – حكاية مفكر مستقل، وعالمة موقرة، وكاتبة رسمت روحها بالبلاغة. كان تصميمها على التفوق في مجال يهيمن عليه الرجال تقليديًا، وخاصة في المجال الأدبي، أمرًا بالغ الأهمية في عصرها.

المتشائل: كيف وظّف إميل حبيبي الموروث العربيّ لخلق طرق تعبيرٍ جديدة؟

تعتبر رواية المتشائل من أفضل الروايات الفلسطينيّة والعربيّة، ونقدّم لكم هنا نظرةً موجزة لاستخدام موروث الثقافة العربية.

إميل حبيبي، كعضو كنيست شاب، 1951 (تصوير تيدي)

إميل حبيبي، كعضو كنيست شاب، 1951 (تصوير تيدي)

لا تشبه رواية إميل حبيبي غيرها من الروايات الفلسطينيّة، فكاتبها من الفلسطينيّين الذين ظلّوا في البلاد بعد حرب العام 1948، فكان أقدر من غيره على رسم صورةٍ مغروسةٍ في طين الواقع بكلّ تناقضاته، بعيدًا عن أخرى تقترب من المثاليّة رسمها آخرون رحلوا ثمّ أطلّوا على فردوسهم المفقود من غيوم المنفى. لذلك، فإنّ بطل الرواية سعيد أبو النحس المتشائل، الحامل تناقضه منذ البداية في اسمه، هو بطلٌ غير تقليديّ، ساخرٌ من البطولة، وربّما “أسوأ خلق الله” كما يصفه إميل حبيبي في حواره مع محمود شريح، لكنّه أيضًا كما يكمل في الجملة ذاتها “مثالٌ للصمود واستيعاب الظلم، ولاستمرار الحياة في أسوأ الأوضاع”.

إميل حبيبي، كعضو كنيست شاب، 1951 (تصوير تيدي)
إميل حبيبي، كعضو كنيست شاب، 1951 (تصوير تيدي)

 

لكنّ زاوية النظر المختلفة إلى الواقع لا تكفي وحدها لخلق عملٍ أدبيٍّ فريدٍ كالمتشائل، إذ إنّ صاحبه استفاد كذلك في كتابته من خبرةٍ سياسيّةٍ راكمها نتيجة نشاطه الحزبيّ، ومن هضمه للثقافة العالميّة، فاستلهم على سبيل المثال شخصيّة المتشائل من شخصيّة كانديد في رواية فولتير، فأضاف لكانديد المتفائلِ تشاؤمًا، فنحتَ اسمًا وأفعالًا لبطله هي المزيج من التفاؤل والتشاؤم، فصار متشائلًا. كما هضم أساليب اللغة العربيّة جيّدًا حتّى قال عن نفسه في “الحوار الأخير” في مجلة مشارف بأنّه “يعبد اللغة العربيّة”، وأعاد توظيف الموروث التاريخيّ والثقافيّ العربيّ بمهارةٍ ليخدم أغراضًا جديدةً تلائم حاضره، فنلمح أساليب ألف ليلة وليلة بالقصّ، وسخرية المقامة الأدبيّة، والاستعانة بالحكايات التراثيّة كما حين يستعير صفات جحا، وأبياتًا شعريّةً يعيد مكانُها في النصّ تأويلها، وأمثالًا شعبيّةً محرّفةً عن قصد…

إميل حبيبي: أديب فلسطيني وسياسي في الكنيست

وفي هذا المقال، سنقدّم لكم بعض الأمثلة على الطريقة المبتكرة التي أبدعها إميل حبيبي لاستخدام أساليب اللغة العربيّة والموروث الثقافيّ، حتّى غدا استخدامه وسيلةً لتكثيف المعنى، تروي الكثير بكلماتٍ قليلة.

أيدي عرب ولمّا

“وبعد النحس الأول، في سنة 1948 تبعثر أولاد عائلتنا أيدي عرب، واستوطنوا جميع بلاد العرب التي لما يجرِ احتلالها.” (صفحة 16، المتشائل، طبعة دار الشروق 2006)

نشاهد هنا كيفيّة الاستفادة من مثلٍ عربيٍّ وقصّةٍ تاريخيّةٍ. فالمثل المعاد كتابته هو “تفرّقوا أيدي سبأ”، واليد في اللغة العربيّة تعني أيضًا الطريق، فبعد أن انهار سد مدينة مأرب في اليمن قبل الإسلام، غمر سيل العرم أراضيهم التي كانت أشبه بالجنّات، فتحوّل مصدر الحياة لديهم سيلَ موتٍ، فتبعثر قوم سبأ الذين سكنوا المدينة في طرقٍ مختلفة، وقطع بعضهم الصحراء العربيّة بحثًا عن ملجأ. لكنّ إميل حبيبي يغيّر بالمثل، فيضع طرق العرب بدل طرق سبأ، ربّما ليدلّ على التشتّت في حال العرب جميعهم وقت النكبة، حتى غدا حالهم مضربًا جديدًا للمثل، فيقول إذن إنّ العائلة تفرّقت في لجوئها كُلّ منهم إلى مكان كتفرّق طرق العرب.

كذلك، نلحظ استعمال حرف الجزم “لمّا” بدل “لم”، وسبب ذلك أن “لمّا” تنفي الماضي حتّى وقت الحديث، لكن مع توقّع حدوث ما تنفيه في المستقبل القريب، فمعنى الجملة أنّه لم يجرِ احتلالها حتّى الآن، لكن يتوّقع حدوث ذلك مستقبلًا. هكذا نلمح في هذين المثالين كيف يُقال الكثير بكلماتٍ قليلةٍ، فتتعدّد المعاني وتتشعّب كأيادي العرب.

إميل حبيبي برفقة كتّاب عرب بمعرض القاهرة، صحيفة الإتحاد، 4 أيّار 2001
إميل حبيبي برفقة كتّاب عرب بمعرض القاهرة، صحيفة الإتحاد، 4 أيّار 2001


بعدي خراب بُصرى!

“ويُقال إن أول من أطلقها علينا هو تيمورلنك نفسه بعد مذبحة بغداد الثانية. وذلك لمّا وشَوا بجدّي الأكبر، أبجر بن أبجر، وأنه، وهو على متن فرسه خارج أسوار المدينة، التفتَ فشاهد ألسِنَة اللهب، فهتف: بعدي خراب بُصرى!” (صفحة 19)

المثل بالأصل هو “بَعْدَ خرابِ البَصرة”، فحين وقعت ثورة الزنج في مدينة البَصرة، أنجدهم الخليفة العبّاسيّ بجيش إنقاذٍ قضى على التمرّد بعد فوات الأوان وتدمير المدينة. لكن نلاحظ أن المكان المذكور هو “بُصرى”، لا البَصرة، فما سبب ذلك؟

حملت عدّة أماكن اسم “بُصرى” إحداها قريةٌ في بغداد، فربّما جاء التعديل ليناسب وقوف قائله على أسوار بغداد، وليؤكّد بذلك أيضًا أنّ هول الخرائب في مدن العرب عبر التاريخ لم يقتصر على البصرة، فغدت مدنٌ أخرى مضربًا للمثل.

كذلك، هناك بُصرى أدوم المذكورة في التوراة: “لأَنِّي بِذَاتِي حَلَفْتُ، يَقُولُ الرَّبُّ، إِنَّ بُصْرَى تَكُونُ دَهَشًا وَعَارًا وَخَرَابًا وَلَعْنَةً، وَكُلُّ مُدُنِهَا تَكُونُ خِرَبًا أَبَدِيَّةً” (سفر إرميا 49: 13). وأيضًا، فإنّ تيمورلنك، زعيم المغول مرتكب المذابح ومدمّر المدن، تشبه أوصافُه المحاربَ في سفر إشعياء، الإصحاح 63: ” مَنْ ذَا الآتِي مِنْ أَدُومَ، بِثِيَابٍ حُمْرٍ مِنْ بُصْرَى؟ هذَا الْبَهِيُّ بِمَلاَبِسِهِ، الْمُتَعَظِّمُ بِكَثْرَةِ قُوَّتِهِ (…) وَمِنَ الشُّعُوبِ لَمْ يَكُنْ مَعِي أَحَدٌ، فَدُسْتُهُمْ بِغَضَبِي، وَوَطِئْتُهُمْ بِغَيْظِي، فصَبَغَ دَمُهُمْ ثِيَابِي، فَلَطَخْتُ كُلَّ مَلاَبِسِي”. فقد تكون هذه المدينة هي المقصودة، مدينة مدمّرة بنبوءة، ولو بطريقةٍ لاواعيةٍ من الكاتب، إذ قال في حواره مع مجلّة الكرمل عام 1981 إنّه قرأ التوراة، وأهمل الإنجيل، وبأنّه يحاول أن “يهرب من تأثيرها، لأنّ ترجمة اليازجي ليست عربيّة، وقد لعبت دورًا في تشويهنا”.

 

عباءة الليل العبّاسيّة

“استقبلتنا عكا، حين دخلناها، وقد التفت بعباءة الليل العباسيّة.” (صفحة 26)

للوهلة الأولى، تبدو استعارة عباءة الليل ملغزةً بسبب وصفها بالعبّاسيّة، فما الذي قد تعنيه هذه الإضافة؟

ربّما كان المقصود هو علم الخلافة العبّاسيّة، فأثناء ثورة العبّاسيّين على الخلافة الأمويّة، اتّخذوا رايةً من السواد التامّ، بلا شعاراتٍ أو رموزٍ تضيف أيّ لونٍ أو بياضٍ إليها، وهي مقتبسة من راية العبّاس، الذي انتسبوا إليه، وهو عمّ النبيّ عقدها له يوم فتح مكّة. فوَصْفُ لون ليل عكا بالسواد التامّ، أثناء النكبة، يلائم الموقف.

وقد يكون المقصود أيضًا أنّ ليل عكا وقتها كان يثير في النفس الذعر، فهو، كما يصف بعد عدّة صفحات، يعجّ بالأشباح، وبالموت، وبالصرخات المحبوسة، وبالأنفاس المخنوقة، وذلك ما كانت تثيره رايات العبّاسيّين في نفوس الأمويّين، حسب الروايات التاريخيّة، حيث طاردت جيوشُهم براياتها السوداء الأمويّين من مكانٍ إلى آخر ليبيدوهم.

 

محمود درويش عن إميل حبيبي، صحيفة الإتحاد، 4 أيّار 2001
محمود درويش عن إميل حبيبي، صحيفة الإتحاد، 4 أيّار 2001

هذه بعض الأمثلة السريعة عن مهارات إميل حبيبي في التعبير المكثّف مستخدمًا دلالاتٍ تراثيّة، وتعجّ روايته بالعديد منها، والتي ندعوكم إلى اكتشافها بأنفسكم، مثل: أبجر بن أبجر، قناديل جحا، شروى نقير، مسعود بن هاشم بن أبي طالب العباسيّ، ضيّعت اللبن، هذا جناه عليّ جدّي، الأثافي الثلاث، والمزيد…

محمود درويش: اللّجوء والفنّ

"الأنا عند محمود درويش منفصمة دائمًا ومضطربة دائمًا. هو غير مرتاح "هنا" وغير مرتاح "هناك". في كلّ منفًى وطن وفي كلّ وطن منفًى. اللّجوء والفنّ في شعر محمود درويش.

محمود درويش. تصوير: هاليت يشورون

محمود درويش. تصوير: هاليت يشورون

نصّ | النّهر لا يختفي في البحر

بقلم: د.رائف زريق

لا أظنّ أنّي سأبالغ إنْ قلت إنّ محمود درويش، بشعره ونثره وحواراته، أثّر عليّ أكثر من أيّ أديب أو مفكّر أو فيلسوف آخر. لا يمكنني تأمُّل عالم المعاني والاستعارات الذي خلقه هذا الشّاعر، والأفكار والجماليّات التي أبدعها ومحيط اللّغة الذي أسبح فيه وأنهل منه استعاراتي، دون أن أشعر بعبق مياه نهره الذي يصبّ في البحر الكبير. أكاد أجزم أنّ نهر درويش من الأنهر القليلة التي تصبّ في البحر لكنّها لا تختفي فيه. وربّما عليّ أنْ أقول إنّ البحر لن يظلّ هو ذاته بعد أنْ تصبَّ فيه مياه نهر درويش. اللّغة لم تعد نفس اللّغة. لقد ساعدنا درويش في العثور على المفردات الصّحيحة وفي بناء الصّياغات المُركّبة التي يمكنها أنْ تصف لنا، نحن كفلسطيّنيين، وللعالم الخسارة الكبرى، الحزن والغضب، النّكبة واللّجوء، والتي تُعبّر أيضًا عن الأمل والحبّ والعلاقة بين الخاصّ والعامّ. لقد صنع كلّ ذلك وظلّ وفيًّا لمشروعه الفنّي، ولقيَمهِ الجماليّة التي لم يتنازل عنها يومًا. لقد آمنَ درويش، منذ مرحلة الشّباب المُبكّر، بأنّه وُلد ليكون شاعرًا وبأنّ هذا هو قدره ومشروع حياته، وأدرك بأنّ هذا القدر ليس غايةً جامدة قابلة للتّحقيق، بل طريقًا لا نهاية له ولا سكينة فيه. لهذا، كتب أكثر من مرّة “سأصير يومًا ما أُريدُ سأصيرُ يومًا شاعرًا”. وقد صار. ربّما صار الشاعر، بأل التّعريف، كما وصف أبو العلاء المعرّي أعظم شعراء العربيّة، المتنبّي.

كانت قضيّة اللجوء وستظلّ مفتاح فهم عالم درويش. الطّفل ابن السّابعة يُقتلَع من بيته في قرية البروة في الجليل الغربيّ ويقطع الحدود تحت القصف والنّار إلى لبنان. كلمة “لاجئ” تحوم حول هذا الطّفل فيصطدم بها أينما حلّ. درويش الصّغير يُصرّ على فهم معناها لكنّ أباه لا يستجيب لسؤاله ويخبره بأنّه لن يفهم معنى هذه الكلمة التي غزت حياة الطّفل كالصّاعقة وقضت على باقي المفردات وأخضعتها لجبروتها. لكنّ الجدّ يفتح باب الكلام لحفيده ويشرح له ما أخفاه الأب: “أن لا تكون طفلاً منذ الآن”. لم يتحدّث درويش عن معنى هذه العبارة وتأثيرها على حياته، لكنّي أعتقد أنّها كانت أوّل بيت شعر سمعه، وأوّل استعارة تمكّن عبرها من استيعاب الواقع: اللّجوء يعني مصادرة الطّفولة. في تلك اللّحظة يخلع الطّفل ابن السابعة رداء الطّفولة ويفهم بأنّ مخيّمات اللّجوء هي الواقع الجديد وبأنّ البيت في البروة، والوطن كلّه، أصبحا مجازًا. هو يفهم أيضًا أنّ هناك طفلاً آخر ينام على سريره ويأكل من ثمار تينة البيت ويترعرع مكانه، ويستكمل مسار حياته الذي انقطع. منذ تلك اللّحظة تُصبح كلمة “العودة” كلمة سحريّة، كما وصفها في كتاب حيرة العائد: “العودة إلى المكان، العودة إلى الزّمان، العودة من المؤقت إلى الدائم، العودة من الماضي إلى الحاضر والغد معًا… العودة من علب الصّفيح إلى بيت من حجر”

عاد الطّفل ولم يعد. حالة اللّجوء القصيرة في لبنان تنتهي بعد سنة عندما يعود إلى فلسطين لكن ليس إلى البيت ولا إلى قريته إنّما إلى قرية الجدَيْدة القريبة. البروة ضاعت وعلى أنقاضها أقيمت مستوطنه يهوديّة. لكنّ فلسطين كلّها ضاعت، والمكان الذي عاد إليه لم يكن نفس المكان الذي خرج منه. في هذه المرحلة يتعلّم درويش الدّرس الثاني: العودة لم تكن، ولن تكون، عودةً حقيقيةً، والمكان ليس مجرّد مكان: المكان هو ذلك المجموع المُركّب للبشر والحجر والهواء وتفاصيل الحياة. ويظلّ الطّفل العائد منشغلًا بالتّفكير في الأطفال الذين لم يرجعوا وباللّاجئين الذين لم “يعودوا”. لكنّ الطّفل الذي يفقد عالمه يجد الملاذ في عالم الكلمة، فيستغيث باللّغة التي تبْسِط عليه جناحَيها ومن خلالها يبني عالمًا بديلاً. في اللّغة يجد المأوى والحميميّة اللّذَيْن غابا عن العالم الحقيقيّ ويكتشف قوّة الكلمة. اللّغة ليست عن العالم بل هي العالم، هي لا تصفه بل تخلقه.

الطّفل الذي عاد لم يعد حقًّا. قطعة من قلبه ظلّت هناك، بعيداً وراء الحدود. في المقابل تُنهِك الاعتقالات والمداهمات المتكرّرة من الشرطة الشّاعر الشابّ الذي يُصرّ على تنفّس الحرّيّة، فيكتشف أنّ ما بدا له بيتًا هو أشبهُ بالمنفى. في الوطن أيضًا يشعر بالاغتراب. الفتى الذي صار رجلًا لا يزال يُصغي لهواجس قلب الطّفل الذي فقد طفولته في سنّ السّابعة. بعضٌ من هذا الطّفل ظلّ هناك، وهو يأمل أنْ يتواصل ذلك البعض مع بعضه لكي يعود إلى ذاته.

الرّجل الشّابّ، الشّاعر الذي ذاع صيته في جميع أنحاء العالم العربيّ، يقطع الحدود للمرّة الثّالثة، لكن في الاتّجاه المعاكس. يخرج من فلسطين. يزور موسكو لمدّة قصيرة لكنّه يقرّر عدم الرجوع إلى حيفا بل السّفر إلى القاهرة التي سيسكن فيها لفترة قصيرة قبل أن ينتقل إلى بيروت ويستقرّ فيها. هو لا يزال يأمل في العثور على فلسطين الأخرى: فلسطين الفدائيّين وليس اللاّجئين، الثوّار الفلسطينيّين الذين سيُعيدون له الوطن. وكأنّ فلسطين تعيش خارج ذاتها، خارج الجغرافيا، وكأنّها فكرة أو تجربة وليست مجرّد مكان محسوس. شهرة الشّاعر الشّابّ تصل السّماء ويصبح من الأسماء اللّامعة في الثّقافة العربيّة، لكنّ ذلك لا يعوّض عن الحقيقة البسيطة: اللّجوء لم يَنْتَهِ. فمع أنّه يشعر أنّه في البيت مع إخوته الفلسطينيّين الذين يقاتلون من أجل فلسطين، إلّا أنّ ذلك لا ينفي حالة المنفى واللّجوء. درويش بعيد مرّة أخرى عن البيت والعائلة. سنة 1982، بعد انتهاء حرب لبنان، وعندما سأله صحفيّون عن برامجه المستقبليّة بعد الخروج من بيروت، كانت إجابته قصيرة وحادّة كالسّيف: أبحث عن جدار أعلّق عليه ملابسي. وها نحن نكتشف من جديد أنّ قطعةً من قلب الشّاعر الشّابّ لا تزال في مكانٍ ما في الجليل وفي سفوح الكرمل، وأنّه لا يزال يَتُوق لجدار في بيت يُعلّق عليه ثيابه.

المرّة الرّابعة التي قطع فيها درويش الحدود كانت بعد اتفاقيّات أوسلو، التي كان معارضًا لها ورأى فيها تفريطًا كبيرًا بأهمّ المسلمّات في الرّواية / السّرديّة الفلسطينيّة، وعلى هذه الخلفيّة قدّم استقالته من اللّجنة المركزيّة لمنظّمة التّحرير الفلسطينيّة. على الرّغم من ذلك “عاد”. وهذه المرّة “عاد” ليسكن في رام الله وليس داخل إسرائيل. في كلّ مرّة رغب فيها بزيارة بيته وعائلته كان عليه الحصول على مصادقة السّلطات الإسرائيليّة. مجرّد فكرة اضطرارِهِ للحصول على تصاريح أمنيّة من أجل زيارة أمّه والبيت الذي ترعرع فيه، كانت تُثير فيه مشاعر الغضب والاستياء. في الغالب لم يكن يطلب تصريحًا بل كان “يتسلّل” لبيته. لكنّ الطّريق من رام الله إلى حيفا بدت له كعودة داخل عودة أو عودة بعد عودة، واكتشف أنّ في فلسطين ذاتها مستوياتٍ مختلفةً للعودة. العودة إلى رام الله ليست عودة حقيقيّة، فهي ليست عودة للكرمل أو للقرية التي نشأ فيها، الجدَيْدة، والتي هي في إسرائيل، فيبدو أنّنا نحتاج هنا إلى عودة إضافيّة: العودة إلى البروة، ذلك المكان الذي لم يَعُد قائماً. هذه “العودات” تُنهِك درويش الذي صار يُدرك أنّه مَهْما حاول العودة لن يصل، فلا أحد يعود حقًّا.

هذه الانفصامات المتواصلة تقود درويش إلى فهم الإشكاليّة الكامنة في كلّ هويّة وإلى إدراك معنى الـ “أنا”. “أنا” درويش منفصمة دائمًا ومضطربة دائمًا. هو غير مرتاح “هنا” وغير مرتاح “هناك”. في كلّ منفًى وطن وفي كلّ وطن منفًى. في كلّ “أنا” يوجد “آخر” وفي كلّ “آخر” جزء يُغرَس في الـ “أنا”. لم يحتج درويش لنظريّة ما بعد الاستعمار وما بعد الحداثة ليُدرك هذه الحقيقة. لقد حاول بكلّ بساطة تأمُّل ذاته العميقة ومجرى حياته وسعى إلى تجسيد ما رآه بصدق وأمانة. لقد كان “هنا” وكان “هناك”، وهو نتاج الـ “هنا” والـ “هناك” في نفس الوقت. الشّعب الذي صادر طفولته وحوّلهُ إلى لاجئ هو نفس الشّعب الذي جاءت منه حبيبته الأولى. هو يُدرك أنّه مجموع أجزاءٍ لا تكتمل على الرّغم من رغبتها الشّديدة بالاكتمال. يبدو أحيانًا أنّ ماهيّة درويش تكمن في الاضطراب والشّهوة في سعْيِهِ لتجميع أجزاء الأنا حتّى تصل للاكتمال، مع أنّه يُدرك استحالةَ تحقيق هذا التّكامل.

يتعلّق درويش بالشّعر مع أنّه لا يُعلّق عليه آمالاً كبيرة كوسيلة لتغيير العالم. الشّعر لا يَستبدِل أيّ نضال. في إحدى قصائده التي هي رسالة مفتوحة لصديق عمره الشّاعر سميح القاسم، يَسأل درويش: “أما زلتَ تؤمن أنّ القصائد أقوى من الطّائرات؟ لنا الذّكرياتُ، وللغزوِ ترجمةُ الذّكرياتِ إلى أسلحة ومستوطنات”. دور الشعر بالنسبة لدرويش متواضع جدا فوصفه: “إن الشعر فرح غامض بالتغلب على الصعوبة والخسارة”.

لكن لكي يكون للشّعر أثر ولكي يستطيع دعم الحياة، عليه أن يكون مختلفًا عنها، وليس فعلًا طفيليًّا أو مُلحقًا بالسياسيّ والاجتماعيّ. ولتحقيق ذلك، على الشّعر أن يكون حُرًّا، وذا قيمة بحدّ ذاته، وهذه القيمة هي التي تمنحه تفرّده، هي قيمته الجماليّة. تكون للشّعر أهميّة ومكانة خاصّة في الحياة فقط إذا “خانها” وتجاوَزَها ولم يكتَفِ بالتّعبير عنها. الشّعر- كما كتب درويش أكثر من مرّة – يُحوّل الخيال إلى واقع والواقع إلى خيال.

تظهر أهميّة البعد الجماليّ بالنّسبة لدرويش في إصراره العنيد على مشروعه الفنّي. لقد أدرك درويش أنّه أوّلًا وقبل أيّ شيء شاعر، وأنّ إخلاصه الفنّي هو للشّعر فقط. لا يمكن للسّياسة والأخلاق أن يبرّرا كتابة شعر لا يحمل قيمة جماليّة. على الشّاعر واجب تجاه نفسه وتجاه الشّعر، وهذا هو الواجب لفنّ الشّعر. عليه أن يواظب على تطوير أدواته الفنّيّة: اللّغة، الاستعارات والتّشبيهات المختلفة. درويش حالة نادرة، وربّما وحيدة، في قدرته على الجمع إلى حدّ التّناغم بين الشّكل والمضمون. جزء كبير من شعره هو شعر سياسيّ خالص، لكنّه بعيد كلّ البعد عن السّطحيّة والنّمطيّة. هو شعر سياسيّ من حيث تعامله مع الأسئلة العميقة للوجود الفرديّ والجماعيّ الفلسطينيّ، بمصائبه وخيباته، آماله وأحلامه (مع أنّ شعره المتأخّر يميل إلى الانطواء على تجربته الوجوديّة الشّخصيّة). عندما يطرح درويش أسئلة شخصيّة فإنه يُدرك أنّ الأنا، الذّاتيّة، تعيش في عالم اجتماعيّ، هو جزء من مجتمع كامل؛ ويجب أن يتضمّن التّعبير الشّعريّ عن الأنا هذه العلاقة كشرط فنّي أوّلاً وقبل أيّ شيء. مع ذلك، عندما يتحدّث درويش عن الـ “نحن” أو عن الشّعب، أو عن المجتمع، فإنّه يعي تمامًا أنّه يتحدّث كفرد وأنّه لا يستطيع “تمثيل” المجموع أكثر من حدود قدرته على التّحدّث عن نفسه. لم يشعر درويش أنّه مُلزم بتقديم الشّعر “المُجنّد” أو أنّ عليه إقحام الوطن في شعره. لقد كان يتنفّس الوطن، ولهذا عندما كان يتحدّث عن نفسه كان الوطن حاضرًا، ليس ككائن مستقلّ فرضَ نفسه على الشّعر، إنّما كشرط مؤسِّس للأنا.

من هذا المنطلق نجد أنّ الشّكل الفنّيّ عند درويش لا يفرض نفسه على المضمون، والمضمون لا يفرض وجوده بفظاظة لا تكترث بالشّكل. الشّكل والمضمون يلتقيان بأسلوب يدمج ما بين المصادفة والضّرورة؛ بخِفّةٍ ما، تبدو من القراءة الأولى وكأنّها مصادفة، وكأنّهما التقيتا دون أن يكون للشّاعر أيّ دور؛ لكنّ هذه المصادفة “القدريّة” تظهر بعد قراءة معمّقة ومتكاملة كفعل ضروريّ. وهذا الفعل لا يفرض نفسه إنّما يبزغ بصورة طبيعيّة من بين ثنايا النصّ، وكأنّ شكله ومضمونه وُلدا ليكونا معًا. التّناغم (الهرمونيا) عند درويش يشبه هرمونيا موسيقى الجاز عندما يعرف السّاكسفون متى يدخل بعد أن يُنهي البيانو وصلةً ارتجاليّة. لحظة “الدّخلة” لم تُحدَّد مسبقًا بموجب معادلة ما، لكن عندما نسترجع المعزوفة نكتشف أنّ تلك اللّحظة كانت التّوقيت الأمثل للدّخول. يمكننا تشبيه اللّقاء بين الشّكل والمضمون في شعر درويش كغريبَين، سيُصبحان عاشقَين، يلتقيان مصادفةً في قطار بجبال الألب. فبعد النّظرة الأولى التي تُشعل نار الحبّ سيشعران، بأنهما وإن التقيا صدفة، فقد كان مُقدرًا لهذه الصدفة أن تحدث. الشّعر الجميل هو ذلك الذي يجعلنا نشعر بأنّه قدرٌ انبَتَتْهُ يد المصادفة، أو مصادفة كانت تحمل مشيئة القدر. فكما هو الحال في كل قصة حب حقيقية، تجمع في آن واحد ما بين ذلك الشعور بحرية اختيارنا لشخص المحبوبة، ومع الشعور المُلازم له، بأننا كنا تحت سطوة القدر ومشيئته عندما اخترنا هوية المعشوق.  هذا هو السّحر. ودرويش في هذا المعنى ساحر.

درويش، في شعره ونثره على حدّ سواء، حاضر في وعيي وفي حساسيّاتي الشّخصيّة تجاه العالم، لأنّه قادر على استحضار تكثيف تجارب الحياة بكلّ أشكال احتمالاتها في قصيدة واحدة، بل في بيت شعر يتيم. مقولاته الفلسفيّة تُصاغ دائمًا بجماليّة مذهلة، وجماليّاته لا تكون جوفاء بل مُشرّبة بالحكمة والإدراك، ولهذا يخلو شعره دائمًا من أيّ حسّ وعظيّ. كتابات محمود درويش تخلو أيضًا من التّجريد، بل هي مُشبعة بالاستعارات الحسّيّة. قصائده تقدّم وجبات دسمة من الحياة، فالحياة تنزل علينا ككُلّ واحد كامل (على عكس إدراكنا مثلًا للجامعة التي يمكن اعتبارها تحالفًا لكليّات مختلفة تتعاون لفكّ طلاسم الكون). في شعر محمود درويش يتشابك الأخلاقيّ مع الجماليّ مع السياسيّ، والغوص في شعر درويش هو غوص في الحياة ككُلّ واحد.

____________________________________________________________________________

* د. رائف زريق هو خرّيج كلّيّة الحقوق في الجامعة العبريّة، وواصل تعليمه في جامعتَيّ كولومبيا وهارفارد حيث أكمل شهادة الدكتوراة. تتمحور أبحاثه حول الفلسفة السياسيّة وفي فلسفة القانون، ويكتب في النقد الثقافيّ والأدبيّ. أستاذ فلسفة القانون في الكلّيّة الأكاديميّة كريات أونو وباحث كبير في معهد فان لير. كتابه عن كانط ونضاله للاستقلاليّة صدرَ هذه السّنة بالإنجليزيّة من دار لكسينجتون.

** هذا النص مُترجم عن النص الأصلي باللغة العبرية. ترجمة: نبيل أرملي