لا تشبه رواية إميل حبيبي غيرها من الروايات الفلسطينيّة، فكاتبها من الفلسطينيّين الذين ظلّوا في البلاد بعد حرب العام 1948، فكان أقدر من غيره على رسم صورةٍ مغروسةٍ في طين الواقع بكلّ تناقضاته، بعيدًا عن أخرى تقترب من المثاليّة رسمها آخرون رحلوا ثمّ أطلّوا على فردوسهم المفقود من غيوم المنفى. لذلك، فإنّ بطل الرواية سعيد أبو النحس المتشائل، الحامل تناقضه منذ البداية في اسمه، هو بطلٌ غير تقليديّ، ساخرٌ من البطولة، وربّما “أسوأ خلق الله” كما يصفه إميل حبيبي في حواره مع محمود شريح، لكنّه أيضًا كما يكمل في الجملة ذاتها “مثالٌ للصمود واستيعاب الظلم، ولاستمرار الحياة في أسوأ الأوضاع”.
لكنّ زاوية النظر المختلفة إلى الواقع لا تكفي وحدها لخلق عملٍ أدبيٍّ فريدٍ كالمتشائل، إذ إنّ صاحبه استفاد كذلك في كتابته من خبرةٍ سياسيّةٍ راكمها نتيجة نشاطه الحزبيّ، ومن هضمه للثقافة العالميّة، فاستلهم على سبيل المثال شخصيّة المتشائل من شخصيّة كانديد في رواية فولتير، فأضاف لكانديد المتفائلِ تشاؤمًا، فنحتَ اسمًا وأفعالًا لبطله هي المزيج من التفاؤل والتشاؤم، فصار متشائلًا. كما هضم أساليب اللغة العربيّة جيّدًا حتّى قال عن نفسه في “الحوار الأخير” في مجلة مشارف بأنّه “يعبد اللغة العربيّة”، وأعاد توظيف الموروث التاريخيّ والثقافيّ العربيّ بمهارةٍ ليخدم أغراضًا جديدةً تلائم حاضره، فنلمح أساليب ألف ليلة وليلة بالقصّ، وسخرية المقامة الأدبيّة، والاستعانة بالحكايات التراثيّة كما حين يستعير صفات جحا، وأبياتًا شعريّةً يعيد مكانُها في النصّ تأويلها، وأمثالًا شعبيّةً محرّفةً عن قصد…
إميل حبيبي: أديب فلسطيني وسياسي في الكنيست
وفي هذا المقال، سنقدّم لكم بعض الأمثلة على الطريقة المبتكرة التي أبدعها إميل حبيبي لاستخدام أساليب اللغة العربيّة والموروث الثقافيّ، حتّى غدا استخدامه وسيلةً لتكثيف المعنى، تروي الكثير بكلماتٍ قليلة.
أيدي عرب ولمّا
“وبعد النحس الأول، في سنة 1948 تبعثر أولاد عائلتنا أيدي عرب، واستوطنوا جميع بلاد العرب التي لما يجرِ احتلالها.” (صفحة 16، المتشائل، طبعة دار الشروق 2006)
نشاهد هنا كيفيّة الاستفادة من مثلٍ عربيٍّ وقصّةٍ تاريخيّةٍ. فالمثل المعاد كتابته هو “تفرّقوا أيدي سبأ”، واليد في اللغة العربيّة تعني أيضًا الطريق، فبعد أن انهار سد مدينة مأرب في اليمن قبل الإسلام، غمر سيل العرم أراضيهم التي كانت أشبه بالجنّات، فتحوّل مصدر الحياة لديهم سيلَ موتٍ، فتبعثر قوم سبأ الذين سكنوا المدينة في طرقٍ مختلفة، وقطع بعضهم الصحراء العربيّة بحثًا عن ملجأ. لكنّ إميل حبيبي يغيّر بالمثل، فيضع طرق العرب بدل طرق سبأ، ربّما ليدلّ على التشتّت في حال العرب جميعهم وقت النكبة، حتى غدا حالهم مضربًا جديدًا للمثل، فيقول إذن إنّ العائلة تفرّقت في لجوئها كُلّ منهم إلى مكان كتفرّق طرق العرب.
كذلك، نلحظ استعمال حرف الجزم “لمّا” بدل “لم”، وسبب ذلك أن “لمّا” تنفي الماضي حتّى وقت الحديث، لكن مع توقّع حدوث ما تنفيه في المستقبل القريب، فمعنى الجملة أنّه لم يجرِ احتلالها حتّى الآن، لكن يتوّقع حدوث ذلك مستقبلًا. هكذا نلمح في هذين المثالين كيف يُقال الكثير بكلماتٍ قليلةٍ، فتتعدّد المعاني وتتشعّب كأيادي العرب.
“ويُقال إن أول من أطلقها علينا هو تيمورلنك نفسه بعد مذبحة بغداد الثانية. وذلك لمّا وشَوا بجدّي الأكبر، أبجر بن أبجر، وأنه، وهو على متن فرسه خارج أسوار المدينة، التفتَ فشاهد ألسِنَة اللهب، فهتف: بعدي خراب بُصرى!” (صفحة 19)
المثل بالأصل هو “بَعْدَ خرابِ البَصرة”، فحين وقعت ثورة الزنج في مدينة البَصرة، أنجدهم الخليفة العبّاسيّ بجيش إنقاذٍ قضى على التمرّد بعد فوات الأوان وتدمير المدينة. لكن نلاحظ أن المكان المذكور هو “بُصرى”، لا البَصرة، فما سبب ذلك؟
حملت عدّة أماكن اسم “بُصرى” إحداها قريةٌ في بغداد، فربّما جاء التعديل ليناسب وقوف قائله على أسوار بغداد، وليؤكّد بذلك أيضًا أنّ هول الخرائب في مدن العرب عبر التاريخ لم يقتصر على البصرة، فغدت مدنٌ أخرى مضربًا للمثل.
كذلك، هناك بُصرى أدوم المذكورة في التوراة: “لأَنِّي بِذَاتِي حَلَفْتُ، يَقُولُ الرَّبُّ، إِنَّ بُصْرَى تَكُونُ دَهَشًا وَعَارًا وَخَرَابًا وَلَعْنَةً، وَكُلُّ مُدُنِهَا تَكُونُ خِرَبًا أَبَدِيَّةً” (سفر إرميا 49: 13). وأيضًا، فإنّ تيمورلنك، زعيم المغول مرتكب المذابح ومدمّر المدن، تشبه أوصافُه المحاربَ في سفر إشعياء، الإصحاح 63: ” مَنْ ذَا الآتِي مِنْ أَدُومَ، بِثِيَابٍ حُمْرٍ مِنْ بُصْرَى؟ هذَا الْبَهِيُّ بِمَلاَبِسِهِ، الْمُتَعَظِّمُ بِكَثْرَةِ قُوَّتِهِ (…) وَمِنَ الشُّعُوبِ لَمْ يَكُنْ مَعِي أَحَدٌ، فَدُسْتُهُمْ بِغَضَبِي، وَوَطِئْتُهُمْ بِغَيْظِي، فصَبَغَ دَمُهُمْ ثِيَابِي، فَلَطَخْتُ كُلَّ مَلاَبِسِي”. فقد تكون هذه المدينة هي المقصودة، مدينة مدمّرة بنبوءة، ولو بطريقةٍ لاواعيةٍ من الكاتب، إذ قال في حواره مع مجلّة الكرمل عام 1981 إنّه قرأ التوراة، وأهمل الإنجيل، وبأنّه يحاول أن “يهرب من تأثيرها، لأنّ ترجمة اليازجي ليست عربيّة، وقد لعبت دورًا في تشويهنا”.
عباءة الليل العبّاسيّة
“استقبلتنا عكا، حين دخلناها، وقد التفت بعباءة الليل العباسيّة.” (صفحة 26)
للوهلة الأولى، تبدو استعارة عباءة الليل ملغزةً بسبب وصفها بالعبّاسيّة، فما الذي قد تعنيه هذه الإضافة؟
ربّما كان المقصود هو علم الخلافة العبّاسيّة، فأثناء ثورة العبّاسيّين على الخلافة الأمويّة، اتّخذوا رايةً من السواد التامّ، بلا شعاراتٍ أو رموزٍ تضيف أيّ لونٍ أو بياضٍ إليها، وهي مقتبسة من راية العبّاس، الذي انتسبوا إليه، وهو عمّ النبيّ عقدها له يوم فتح مكّة. فوَصْفُ لون ليل عكا بالسواد التامّ، أثناء النكبة، يلائم الموقف.
وقد يكون المقصود أيضًا أنّ ليل عكا وقتها كان يثير في النفس الذعر، فهو، كما يصف بعد عدّة صفحات، يعجّ بالأشباح، وبالموت، وبالصرخات المحبوسة، وبالأنفاس المخنوقة، وذلك ما كانت تثيره رايات العبّاسيّين في نفوس الأمويّين، حسب الروايات التاريخيّة، حيث طاردت جيوشُهم براياتها السوداء الأمويّين من مكانٍ إلى آخر ليبيدوهم.
هذه بعض الأمثلة السريعة عن مهارات إميل حبيبي في التعبير المكثّف مستخدمًا دلالاتٍ تراثيّة، وتعجّ روايته بالعديد منها، والتي ندعوكم إلى اكتشافها بأنفسكم، مثل: أبجر بن أبجر، قناديل جحا، شروى نقير، مسعود بن هاشم بن أبي طالب العباسيّ، ضيّعت اللبن، هذا جناه عليّ جدّي، الأثافي الثلاث، والمزيد…