المتشائل: كيف وظّف إميل حبيبي الموروث العربيّ لخلق طرق تعبيرٍ جديدة؟

تعتبر رواية المتشائل من أفضل الروايات الفلسطينيّة والعربيّة، ونقدّم لكم هنا نظرةً موجزة لاستخدام موروث الثقافة العربية.

إميل حبيبي، كعضو كنيست شاب، 1951 (تصوير تيدي)

إميل حبيبي، كعضو كنيست شاب، 1951 (تصوير تيدي)

لا تشبه رواية إميل حبيبي غيرها من الروايات الفلسطينيّة، فكاتبها من الفلسطينيّين الذين ظلّوا في البلاد بعد حرب العام 1948، فكان أقدر من غيره على رسم صورةٍ مغروسةٍ في طين الواقع بكلّ تناقضاته، بعيدًا عن أخرى تقترب من المثاليّة رسمها آخرون رحلوا ثمّ أطلّوا على فردوسهم المفقود من غيوم المنفى. لذلك، فإنّ بطل الرواية سعيد أبو النحس المتشائل، الحامل تناقضه منذ البداية في اسمه، هو بطلٌ غير تقليديّ، ساخرٌ من البطولة، وربّما “أسوأ خلق الله” كما يصفه إميل حبيبي في حواره مع محمود شريح، لكنّه أيضًا كما يكمل في الجملة ذاتها “مثالٌ للصمود واستيعاب الظلم، ولاستمرار الحياة في أسوأ الأوضاع”.

إميل حبيبي، كعضو كنيست شاب، 1951 (تصوير تيدي)
إميل حبيبي، كعضو كنيست شاب، 1951 (تصوير تيدي)

 

لكنّ زاوية النظر المختلفة إلى الواقع لا تكفي وحدها لخلق عملٍ أدبيٍّ فريدٍ كالمتشائل، إذ إنّ صاحبه استفاد كذلك في كتابته من خبرةٍ سياسيّةٍ راكمها نتيجة نشاطه الحزبيّ، ومن هضمه للثقافة العالميّة، فاستلهم على سبيل المثال شخصيّة المتشائل من شخصيّة كانديد في رواية فولتير، فأضاف لكانديد المتفائلِ تشاؤمًا، فنحتَ اسمًا وأفعالًا لبطله هي المزيج من التفاؤل والتشاؤم، فصار متشائلًا. كما هضم أساليب اللغة العربيّة جيّدًا حتّى قال عن نفسه في “الحوار الأخير” في مجلة مشارف بأنّه “يعبد اللغة العربيّة”، وأعاد توظيف الموروث التاريخيّ والثقافيّ العربيّ بمهارةٍ ليخدم أغراضًا جديدةً تلائم حاضره، فنلمح أساليب ألف ليلة وليلة بالقصّ، وسخرية المقامة الأدبيّة، والاستعانة بالحكايات التراثيّة كما حين يستعير صفات جحا، وأبياتًا شعريّةً يعيد مكانُها في النصّ تأويلها، وأمثالًا شعبيّةً محرّفةً عن قصد…

إميل حبيبي: أديب فلسطيني وسياسي في الكنيست

وفي هذا المقال، سنقدّم لكم بعض الأمثلة على الطريقة المبتكرة التي أبدعها إميل حبيبي لاستخدام أساليب اللغة العربيّة والموروث الثقافيّ، حتّى غدا استخدامه وسيلةً لتكثيف المعنى، تروي الكثير بكلماتٍ قليلة.

أيدي عرب ولمّا

“وبعد النحس الأول، في سنة 1948 تبعثر أولاد عائلتنا أيدي عرب، واستوطنوا جميع بلاد العرب التي لما يجرِ احتلالها.” (صفحة 16، المتشائل، طبعة دار الشروق 2006)

نشاهد هنا كيفيّة الاستفادة من مثلٍ عربيٍّ وقصّةٍ تاريخيّةٍ. فالمثل المعاد كتابته هو “تفرّقوا أيدي سبأ”، واليد في اللغة العربيّة تعني أيضًا الطريق، فبعد أن انهار سد مدينة مأرب في اليمن قبل الإسلام، غمر سيل العرم أراضيهم التي كانت أشبه بالجنّات، فتحوّل مصدر الحياة لديهم سيلَ موتٍ، فتبعثر قوم سبأ الذين سكنوا المدينة في طرقٍ مختلفة، وقطع بعضهم الصحراء العربيّة بحثًا عن ملجأ. لكنّ إميل حبيبي يغيّر بالمثل، فيضع طرق العرب بدل طرق سبأ، ربّما ليدلّ على التشتّت في حال العرب جميعهم وقت النكبة، حتى غدا حالهم مضربًا جديدًا للمثل، فيقول إذن إنّ العائلة تفرّقت في لجوئها كُلّ منهم إلى مكان كتفرّق طرق العرب.

كذلك، نلحظ استعمال حرف الجزم “لمّا” بدل “لم”، وسبب ذلك أن “لمّا” تنفي الماضي حتّى وقت الحديث، لكن مع توقّع حدوث ما تنفيه في المستقبل القريب، فمعنى الجملة أنّه لم يجرِ احتلالها حتّى الآن، لكن يتوّقع حدوث ذلك مستقبلًا. هكذا نلمح في هذين المثالين كيف يُقال الكثير بكلماتٍ قليلةٍ، فتتعدّد المعاني وتتشعّب كأيادي العرب.

إميل حبيبي برفقة كتّاب عرب بمعرض القاهرة، صحيفة الإتحاد، 4 أيّار 2001
إميل حبيبي برفقة كتّاب عرب بمعرض القاهرة، صحيفة الإتحاد، 4 أيّار 2001


بعدي خراب بُصرى!

“ويُقال إن أول من أطلقها علينا هو تيمورلنك نفسه بعد مذبحة بغداد الثانية. وذلك لمّا وشَوا بجدّي الأكبر، أبجر بن أبجر، وأنه، وهو على متن فرسه خارج أسوار المدينة، التفتَ فشاهد ألسِنَة اللهب، فهتف: بعدي خراب بُصرى!” (صفحة 19)

المثل بالأصل هو “بَعْدَ خرابِ البَصرة”، فحين وقعت ثورة الزنج في مدينة البَصرة، أنجدهم الخليفة العبّاسيّ بجيش إنقاذٍ قضى على التمرّد بعد فوات الأوان وتدمير المدينة. لكن نلاحظ أن المكان المذكور هو “بُصرى”، لا البَصرة، فما سبب ذلك؟

حملت عدّة أماكن اسم “بُصرى” إحداها قريةٌ في بغداد، فربّما جاء التعديل ليناسب وقوف قائله على أسوار بغداد، وليؤكّد بذلك أيضًا أنّ هول الخرائب في مدن العرب عبر التاريخ لم يقتصر على البصرة، فغدت مدنٌ أخرى مضربًا للمثل.

كذلك، هناك بُصرى أدوم المذكورة في التوراة: “لأَنِّي بِذَاتِي حَلَفْتُ، يَقُولُ الرَّبُّ، إِنَّ بُصْرَى تَكُونُ دَهَشًا وَعَارًا وَخَرَابًا وَلَعْنَةً، وَكُلُّ مُدُنِهَا تَكُونُ خِرَبًا أَبَدِيَّةً” (سفر إرميا 49: 13). وأيضًا، فإنّ تيمورلنك، زعيم المغول مرتكب المذابح ومدمّر المدن، تشبه أوصافُه المحاربَ في سفر إشعياء، الإصحاح 63: ” مَنْ ذَا الآتِي مِنْ أَدُومَ، بِثِيَابٍ حُمْرٍ مِنْ بُصْرَى؟ هذَا الْبَهِيُّ بِمَلاَبِسِهِ، الْمُتَعَظِّمُ بِكَثْرَةِ قُوَّتِهِ (…) وَمِنَ الشُّعُوبِ لَمْ يَكُنْ مَعِي أَحَدٌ، فَدُسْتُهُمْ بِغَضَبِي، وَوَطِئْتُهُمْ بِغَيْظِي، فصَبَغَ دَمُهُمْ ثِيَابِي، فَلَطَخْتُ كُلَّ مَلاَبِسِي”. فقد تكون هذه المدينة هي المقصودة، مدينة مدمّرة بنبوءة، ولو بطريقةٍ لاواعيةٍ من الكاتب، إذ قال في حواره مع مجلّة الكرمل عام 1981 إنّه قرأ التوراة، وأهمل الإنجيل، وبأنّه يحاول أن “يهرب من تأثيرها، لأنّ ترجمة اليازجي ليست عربيّة، وقد لعبت دورًا في تشويهنا”.

 

عباءة الليل العبّاسيّة

“استقبلتنا عكا، حين دخلناها، وقد التفت بعباءة الليل العباسيّة.” (صفحة 26)

للوهلة الأولى، تبدو استعارة عباءة الليل ملغزةً بسبب وصفها بالعبّاسيّة، فما الذي قد تعنيه هذه الإضافة؟

ربّما كان المقصود هو علم الخلافة العبّاسيّة، فأثناء ثورة العبّاسيّين على الخلافة الأمويّة، اتّخذوا رايةً من السواد التامّ، بلا شعاراتٍ أو رموزٍ تضيف أيّ لونٍ أو بياضٍ إليها، وهي مقتبسة من راية العبّاس، الذي انتسبوا إليه، وهو عمّ النبيّ عقدها له يوم فتح مكّة. فوَصْفُ لون ليل عكا بالسواد التامّ، أثناء النكبة، يلائم الموقف.

وقد يكون المقصود أيضًا أنّ ليل عكا وقتها كان يثير في النفس الذعر، فهو، كما يصف بعد عدّة صفحات، يعجّ بالأشباح، وبالموت، وبالصرخات المحبوسة، وبالأنفاس المخنوقة، وذلك ما كانت تثيره رايات العبّاسيّين في نفوس الأمويّين، حسب الروايات التاريخيّة، حيث طاردت جيوشُهم براياتها السوداء الأمويّين من مكانٍ إلى آخر ليبيدوهم.

 

محمود درويش عن إميل حبيبي، صحيفة الإتحاد، 4 أيّار 2001
محمود درويش عن إميل حبيبي، صحيفة الإتحاد، 4 أيّار 2001

هذه بعض الأمثلة السريعة عن مهارات إميل حبيبي في التعبير المكثّف مستخدمًا دلالاتٍ تراثيّة، وتعجّ روايته بالعديد منها، والتي ندعوكم إلى اكتشافها بأنفسكم، مثل: أبجر بن أبجر، قناديل جحا، شروى نقير، مسعود بن هاشم بن أبي طالب العباسيّ، ضيّعت اللبن، هذا جناه عليّ جدّي، الأثافي الثلاث، والمزيد…

ميخائيل نعيمة في النّاصرة

توثيق محاضرات ميخائيل نعيمة في مدينة الناصرة في الصحف الفلسطينية التاريخية.

حرّروا أنفسكم لتستقلوا عن الأجانب

في الأول من نيسان من العام 1935 زار الأديب والمفكّر اللبناني ميخائيل نعيمة مدينة النّاصرة، وهناك ألقى محاضرة قيّمة عن العوامل النّفسية الإنسانيّة، وقد قامت بتغطيتها والإشادة بها صحف فلسطينيّة عديدة. فحول ماذا كانت هذه المحاضرة؟ وماذا نعرف عن زيارة ميخائيل نعيمة ورؤيته للبلاد في عهد الانتداب البريطانيّ؟

من ميخائيل نعيمة؟

ولد ميخائيل نعيمة عام 1889 في قرية بسكنتا في سفح جبل صينين في لبنان ودرس في مدرستها قبل أن يلتحق للدّراسة في دار المعلّمين في النّاصرة عام 1902؛ حيث أمضى ستّ سنوات غاب بعدها عن المدينة إلى روسيا، ثمّ إلى الولايات المتّحدة ثمّ إلى باريس ليدرس الآداب والفكر، ثمّ عاود زيارتها عام 1935 بدعوة من النّادي الأدبيّ وبلديّة النّاصرة ليلقي فيها محاضرة. عُرفت أعمال ميخائيل نعيمة من رواية أو كتاب إلى شعر أو مسرحيّة أو قصّة بعمقها الفلسفيّ والإنسانيّ وبقدرته على إضفاء بعدٍ رمزيّ على أعماله منحها طابعًا عالميًّا. ومن أعماله الشّهيرة في المسرح “الآباء والبنون” و “أيّوب، ومن الشّعر ديوانه “همس الجفون” ومن الرّوايات “لقاء” و”مذكّرات الأرقش”، بالإضافة إلى مجموعات قصّصيّة عديدة منها: “كان ياما كان” و”هوامش”. حصل نعيمة على جائزة رئيس جمهوريّة لبنان عن الإبداع الأدبي عام 1961، وتُرجمت العديد من أعماله إلى لغات اجنبيّة عدّة.

زيارته للبلاد ومحاضرته عن علم النّفس في النّاصرة

لم تكن زيارة نعيمة في نيسان 1935 هي الأولى للبلاد، فكان قد تلقّى تعليمه كمدرّس في دار المعلمين في النّاصرة والمعروفة بالـ “مسكوبيّة” في سنوات ريع شبابه وأمضى بها ستّ سنوات. ولعلّ عودته إليها ضيفًا يحتفى به من قبل أوساطها الثّقافيّة الرّفيعة حينها قد عنت له الكثير.

⁨⁨فلسطين⁩⁩: 2 نيسان 1935
⁨⁨فلسطين⁩⁩ 2 نيسان 1935

لا نعرف الكثير عن تفاصيل زيارته والمدن الّتي قام بالتّجول بها خلال هذه الزّيارة، إلا أنّ بعض الأخبار الواردة في كلّ من جريدة فلسطين، الدّفاع والأوقات العربيّة تكمل التّفاصيل بين بعضها البعض من خلال الأخبار الّتي قامت بتغطيتها عن هذه الزّيارة في المنتصف الأول من شهر نيسان 1935. وإن زخم الأخبار الّتي تناولت الزّيارة واهتمام الصّحافيين الكتّاب بتفاصيلها والعبارات العاطفيّة الّتي قاموا باستخدامها لتقديم الضيّف وأهميّة زيارته للقرّاء تشهد على محبّة وتقدير واسع حظي به نعيمة في فلسطين الانتدابيّة. فنرى جريدة فلسطين تتابع زيارته يومًا بعد يوم وتنشر لقرّائها، لعلّ أحدهم يرغب بلقاء الأديب الشّهير ويتابع تفاصيل زيارته بحماسة. فنراه اليوم في بيت لحم، واليوم التّالي في طبريّا، ومرّة في حيفا وأخيرًا في النّاصرة.

⁨⁨الأوقات العربية⁩⁩: 5 نيسان 1935
⁨⁨الأوقات العربية⁩⁩: 5 نيسان 1935

 

أمّا محاضرته في النّادي الأدبيّ في النّاصرة، فقد برزت في غالبيّة المقالات والأخبار الّتي تناولت زيارة ميخائيل نعيمة للبلاد. اقتبست الصّحف مقولة من محاضرته لتكون العنوان، وقامت بوصف الحدث لحظة بلحظة كي يتسنّى لمن يقرأ المقالة أن يشاهد المحاضرة ولا يفوّت أي من تفاصيلها كأنه حضرها بنفسه. فتزوّدنا هذه المقالات بأسماء النّاشطين في النّادي الأدبيّ في النّاصرة في تلك الفترة، وبأعداد الحضور، وبتكريم نعيمة من قبل الأديب الفلسطينيّ خليل السّكاكيني، وبلهفة الحضور لسماع المحاضرة حتّى قاموا بمقاطعة نعيمة عدّة مرّات أثناء كلامه بالتّصفيق الحارّ!

⁨⁨الدفاع⁩⁩: 3 نيسان 1935
⁨⁨الدفاع⁩⁩: 3 نيسان 1935

 

“حرّروا أنفسكم لتستقلو عن الأجانب” كان عنوان القصّة الصّحافيّة الّتي نشرتها جريدة فلسطين في السّابع من نيسان عن محاضرة الأديب التّي وُصفت بالـ “ساحرة”! والّتي انتظرها الكثير من القرّاء الّذين لم يتمكّنوا من حضور المحفل الأدبيّ بأنفسهم. وكما ورد في مقالة سابقة في جريدة فلسطين فقد كان عنوان المحاضرة “تأثير العوامل النّفسيّة على الإنسان”، إلّا أن مضمونها على ما يبدو لم يكن بعيدًا عن واقع الحال في فلسطين الانتدابيّة، فنرى من خلال بعض الاقتباسات الّتي وردت في هذه المقالات أن نعيمة أسهب في الحديث عن العوامل النّفسية وعلاقتها بالحريّة والاستعباد.

 

⁨⁨الدفاع⁩⁩: 7 نيسان 1935
⁨⁨الدفاع⁩⁩: 7 نيسان 1935

 

إليكم بعض ممّا ورد عن كلام نعيمة في هذه المحاضرة في مقالة السّابع من نيسان في جريدة فلسطين، والتي نختتم بها هذه المقالة.

“لمَ أنا مستعبد؟ لمَ لست حرًا؟ لم أنا حزين؟ لمَ أنا فرح؟ لمَ أنا قلق؟ لمَ أنا مطمئن؟ أسئلة نفسيّة دقيقة نجد أجوبتها في قراراتنا ولا حلّ لها في خارجنا. فأنت ترى العالم بعينيك، وتسمعه بأذنيك، وكيف تكون حالة هاتين الأداتين يظهر لك العالم. إذًا، جمّل وجهك، تر الحياة جميلة، اضحك لها، تراها ضاحكة. وهذه الشّرور المنتشرة والمفاسد العائثة، إن هي إلّا صورة لما فيك من شرور ومفاسد. وهذا الرّبيع الزّاهي والزّهور البديعة، لن تستطيع تحويل قلبك عن الكآبة إن كان في نفسك مناحة. فأنت إذا سعيد إن أردت وشقيّ إن أردت.

لم أنا مستعبد؟

ما كان يمكن ذلك لو لم تكن عبدًا لنفسك ولشهوة فيها. فتحررك من ظالم يقتضي أولًا تغلّبك على شهوتك وما دمت لها عبدًا فلن يبزغ لك فجر الحريّة الحقّة .

الحرّية طبيعة فينا. والعبوديّة منّا. فلو أردنا أن نكون أحرارًا لما منعنا أي إنسان.”

للمقالة كاملة

 

⁨⁨فلسطين⁩⁩: 5 نيسان 1935
⁨⁨فلسطين⁩⁩: 5 نيسان 1935

 

للمزيد حول مدينة الناصرة إليكم بوابة المحتوى الرقمي حول مدينة الناصرة والتي يمكن من خلالها الوصول إلى مواد رقمية متنوعة حول المدينة وتاريخها وسكانها.

موسم الخريف: قد يعتدل وقد يتطرّف

في هذه المقالة، نقدّم أديبين ذكرا الخريف في قصصهم من منظور مختلف في بقاع جغرافية مختلفة وكذلك فترة زمنية مختلفة من القرن التاسع عشر.

في كل ذكرٍ لفصل الخريف، يختلف الناس في أرائهم حول فصل الخريف وأحواله، منهم من يتفاءل بتساقط أوراق الشجر ويشبه هذا التساقط ببداية التجديد أو الإنطلاقة لاستقبال خير الشتاء حيث الغيث والوفرة وبداية نمو جديد، فيما يتشاءم حشدٌ آخر ويعتبره موسماً للاكتئاب معلّلاً ذلك بذات التساقط لأوراق الشجر؛ حيث نهاية النمو وبدء استقبال عواصف الشتاء وبرده. كذلك الأدب العالمي، اختلف في وصف أحوال الخريف. في هذه المقالة، نقدّم أديبين ذكرا الخريف في قصصهم من منظور مختلف في بقاع جغرافية مختلفة وكذلك فترة زمنية مختلفة من القرن التاسع عشر.

ورد في صحيفة الاتحاد في السادس من تشرين الثاني من العام 1995 تقديماً ومراجعة لكتاب “اعتدال الخريف” للكاتب والروائي اللبناني (جبور الدويهي) من قبل الكاتب (شحادة وازن)، بادئاً ذلك بقوله: “هي سيرة ذاتية، تأملات يومية وسرد قصصي”، فيما أفاض بوصفه: “ليس اعتدال الخريف رواية ولا سرداً ولا سيرة ذاتية ولا مذكرات ولا يوميات. إنه بعض هذه جميعاً يمزجها الكاتب بلغته وأسلوبه ويعمل على دمجها ليضعنا أمام غربة بل دهشة الكتابة”. ربما نأى الكاتب (شحادة وازن) إلى وصف سردية (اعتدال الخريف) بـ “الغربة” أولاً لاختلافها عن الحالة المألوفة والغير طبيعية والتي قد تنعزل أو تُعزَل، إلى مفهوم “الدهشة” بالمعنى الفلسفي المؤدي إلى إنارة العقل والخروج من ظل أفكارنا ومناطق راحتها.

الاتحاد 6 تشرين الثاني 1995
الاتحاد 6 تشرين الثاني 1995

بالإضافة إلى ذلك، أظهر (الدويهي) حالة فصل الخريف بالمبتدأ “اعتدال”، وربما يعزو هذا الوصف لبقعة (دويهي) الجغرافية في لبنان وحوض البحر الأبيض المتوسط بأن جعل الاعتدال حالة لا تنطبق عليها نسبية التعريفات هنا، حيث الاعتدال ما بين الحر والبرد، النهار والليل، بل حتى تباين ألوان الخريف يعتدل بين البهتان والعتمة. فيما عبّر (وازن) عن كل ذلك: “لا يكتب الراوي ذكريات ليحولها إلى ماضٍ، بل يختار بعضاً من صور الماضي ليملأ الحاضر بالأحاسيس ولا يغوص في التفاصيل الكثيرة والأسئلة الكبيرة بل يرسم بإيجاز نظرته الخاصة إلى الأشياء”. أيّ أنّ الروائي (دويهي) قد اعتدل في تفاصيله وأسئلته بإيجاز دون الإبحار العميق، رغبة منه بملء الحاضر بأحاسيس الخريف التي قد تنتهي وتموت أو تنتهي لتتجدّد، كلٌّ ونظرته الخاصة للخريف كنظرة (الدويهي) للأشياء.

لقراءة كامل التقديم في صحيفة الاتحاد

تتغير نظرة الاعتدال نحو موسم الخريف لدى الكاتب الروسي (مكسيم غوركي) في قصته “ليلة في الخريف”، والتي قد نشرت في صحيفة الغد، التي صدرت في مدينة القدس، بتاريخ 14 أيلول من العام 1945. لاختلاف موسم الخريف بين كل من لبنان وروسيا، حيث يكون خريف روسيا بارداً بلا اعتدال، وليلٍ حالِك لا يعتدل وقته مع النهار. أظهر (غوركي) أن ليلته المذكورة في قصته كانت في أواخر تشرين الأول، ووصف بطل قصته بأنّه تائهٌ في مدينة تعجّ بصخب الحياة الفارهة، وأناسٍ منعزلون مع أشباههم الأغنياء. وبيّن كذلك (غوركي) أن بطل قصته نزل في المدينة متشرداً جائعاً.
وتعمّق في وصف الحالة حتى شبّه أن كل شيء في المدينة في هذه الليلة الخريفية يدعو للسقوط والانخفاض؛ حيث الضباب، البرد، الليل الحالك، اللون الحائل وكذلك ملامح البشر المشوّهة، حتى الحديث في ليالي الخريف كان لدى (غوركي) حديثاً ذا لهجة فاترة وبدون حياة.

الغد- القدس: 14 أيلول 1945
الغد- القدس: 14 أيلول 1945

ولتعاسة الخريف الروسي، يلتقي بطل الرواية بـ (ناتاشا) التائهة، الجائعة والباحثة عن الطعام في القمامة، ولكن فجأة نجده ينتعتها بالذكية والجميلة الصغيرة السن. ربما أراد (غوركي) أن يبيّن حالة التيه والغرابة والتضاد والتناقض في ظلمة الخريف الروسي. بل وتنتهي القصة كذلك بوداع نهاريّ بين البطل وناتاشا دون عودة، فيما يستمر البطل ببحثه عن مأوى في هذه المدينة متمنياً الموت لناتاشا لقسوة الحياة معها أو راحة البال لها إن كان حيّة.

لقراءة كامل القصة في صحيفة الغد (القدس)

تنوّعت حكايات الخريف بين الأدباء وبين عامة الناس على مر الزمن وفي كل الأمكنة، إلا أنّه من المؤكد أنّ الحالة الشعورية – مهما كانت – لا تبقى على حالها بل في تقلّب مستمر ودائم كما فصل الخريف وكل فصول السنة.

رحلة في المخطوطات التاريخية حول عنترة بن شداد

قصة عنترة ستصل من خلال المؤرخين بتفاصيل مختلفة نظراً لقدمها في التاريخ، ولكن في نفس الوقت سيكون للحكواتيين قصتهم فهم سيضيفون التفاصيل أيضاً لكي تلائم آذان السامعين.

مخطوطة سيرة عنترة

                      سيرة عنترة بن شداد، مخطوطات المكتبة الوطنية الاسرائيلية

حاول عنترة بن شداد لسنين طويلة الزواج من ابنة عمه، عبلة، دون أن يفلح في ذلك، ولإبطال هذا الزواج، وضع عمه مالك (والد عبلة) العقبات أمامه دوماً، وفي كل مرة كان يوهمه أن الزواج يوشك أن يحصل ثم يُرغمه أحياناً أن يأتي لعبلة برؤوس اللبؤات وأحياناً بعرض مهر ضخم كي لا يتمكن من دفعه، وفي أخرى بألف ناقة من نوق الملك النعمان.

هذه العروض والتحديات، جعلت عنترة موضوعاً كتب عنه نخبة المؤرخين العرب على مر التاريخ؛ كالزركلي في كتابه “الأعلام” وأبو فرج الأصفهاني في “الأغاني”.

كان والد عنترة قاسياً عليه، لم يعتبره كابن له، وبالتالي خسر عنترة حضوره في القبيلة وسطوته، ولكن حروب قبيلة طيء ضد قبيلته؛ قبيلة عبس، حولت عنترة إلى بطل مغوار حين تحوّل إلى الحامي الذي يحمي القبيلة بعد أن جلب الانتصار تلو الانتصار.

بطولات عنترة لم تكن لأجل ذاته، إنما من أجل الحب والحياة، من أجل القبيلة وكرامة أبنائها وهو ما جعل منه رمزاً لحماية القيم والعادات والتقاليد، ومن هنا تحوّلت قصته إلى وسيلة ضرورية للتربية والتثقيف ومن هنا حصلت على كل هذه الشهرة التاريخية.

الصورة المرفقة هي جانب من قصة عنترة بن شداد في بدايات المغامرة، والتي سيصبح بعدها بطلاً، كما سيكتب معلقة ستشكل جزءاً وركناً أساسياً في الأدب العربي على مر التاريخ.

قصة عنترة ستصل من خلال المؤرخين بتفاصيل مختلفة نظراً لقدمها في التاريخ، ولكن في نفس الوقت سيكون للحكواتيين قصتهم فهم سيضيفون التفاصيل أيضاً لكي تلائم آذان السامعين والمتفرجين، ولأن مصادرها موغلة في القدم ودوماً ما اعتمدت على مصادر شفوية، مما خلق تضارباً في الروايات الشفوية، حيث أّن لكل منطقة سيرتها الخاصة بعنترة كالسيرة الشامية والسيرة الحجازية وغيرهما.

السيرة الحجازية لعنترة
السيرة الحجازية لعنترة

اقرأ/ي أيضًا: الشعر العربي: دوواين من الكتب والمخطوطات وآراء في الصحف الفلسطينية.

مع التطور التكنولوجي ودخول وسائل تعبيرية وفنية جديدة، تراجع دور الحكواتي لصالح فنون أخرى، وخلال القرن الأخير أنتجت أكثر من عشرة أعمال سينمائية حول قصة عنترة كان أقدمها فيلم “عنترة وعبلة” الذي أخرجه نيازي مصطفى وكتب حواراته الشاعر “بيرم التونسي” وأدّى دور البطولة سراج منير. وربما كان أحدث الأعمال هو مسلسل “عنترة بن شداد” من إخراج رامي حنا وبطولة فيصل العمري وكندة حنا.

فلسطينياً، أيضاً، حظي عنترة باهتمام ملحوظ حيث كُتبت حوله الكثير من المسرحيات والأعمال الفنية الفلسطينية والتي وثّقت القصة من خلال أعمال مختلفة.

صحيفة فلسطين، 13 أيار 1931       
صحيفة فلسطين، 13 أيار 1931
صحيفة مرآة الشرق، 14 آذار 1929
صحيفة مرآة الشرق، 14 آذار 1929

 

 

 

 

 

 

 

 

لا يزال حتى اليوم الكثير من إرث عنترة في ثقافتنا المحكية، كالأمثال الشعبية في اللغة العربية القادمة من تلك الفترة، مثل “مفكر حالو أبو عنتر” أو حين ينعت شخص بـ “معنتر”، لكنّ حالة “العنترة” ليست كلها قوة، ففيها أيضاً الكثير من الحب والحنين والذكريات، كبداية معلقته وبيت الشعر الشهير:
“هل غـادر الشعـراء من متردم، أم هل عـرفت الـدار بعـد تـوهم”

وهو البيت الذي لا يزال حتى اليوم ذاكرة للأجيال، لكنّ قصة البيت وحكايات أخرى ستظلّ داخل هذه المخطوطات الكثيرة في المكتبة.

 يمكنكم الاطلاع عل المخطوطة والغوص في تفاصيل الحكايات التي وصلتنا عبر التاريخ.

ديوان عنترة بن شداد
ديوان عنترة بن شداد