موسم الخريف: قد يعتدل وقد يتطرّف

في هذه المقالة، نقدّم أديبين ذكرا الخريف في قصصهم من منظور مختلف في بقاع جغرافية مختلفة وكذلك فترة زمنية مختلفة من القرن التاسع عشر.

في كل ذكرٍ لفصل الخريف، يختلف الناس في أرائهم حول فصل الخريف وأحواله، منهم من يتفاءل بتساقط أوراق الشجر ويشبه هذا التساقط ببداية التجديد أو الإنطلاقة لاستقبال خير الشتاء حيث الغيث والوفرة وبداية نمو جديد، فيما يتشاءم حشدٌ آخر ويعتبره موسماً للاكتئاب معلّلاً ذلك بذات التساقط لأوراق الشجر؛ حيث نهاية النمو وبدء استقبال عواصف الشتاء وبرده. كذلك الأدب العالمي، اختلف في وصف أحوال الخريف. في هذه المقالة، نقدّم أديبين ذكرا الخريف في قصصهم من منظور مختلف في بقاع جغرافية مختلفة وكذلك فترة زمنية مختلفة من القرن التاسع عشر.

ورد في صحيفة الاتحاد في السادس من تشرين الثاني من العام 1995 تقديماً ومراجعة لكتاب “اعتدال الخريف” للكاتب والروائي اللبناني (جبور الدويهي) من قبل الكاتب (شحادة وازن)، بادئاً ذلك بقوله: “هي سيرة ذاتية، تأملات يومية وسرد قصصي”، فيما أفاض بوصفه: “ليس اعتدال الخريف رواية ولا سرداً ولا سيرة ذاتية ولا مذكرات ولا يوميات. إنه بعض هذه جميعاً يمزجها الكاتب بلغته وأسلوبه ويعمل على دمجها ليضعنا أمام غربة بل دهشة الكتابة”. ربما نأى الكاتب (شحادة وازن) إلى وصف سردية (اعتدال الخريف) بـ “الغربة” أولاً لاختلافها عن الحالة المألوفة والغير طبيعية والتي قد تنعزل أو تُعزَل، إلى مفهوم “الدهشة” بالمعنى الفلسفي المؤدي إلى إنارة العقل والخروج من ظل أفكارنا ومناطق راحتها.

الاتحاد 6 تشرين الثاني 1995
الاتحاد 6 تشرين الثاني 1995

بالإضافة إلى ذلك، أظهر (الدويهي) حالة فصل الخريف بالمبتدأ “اعتدال”، وربما يعزو هذا الوصف لبقعة (دويهي) الجغرافية في لبنان وحوض البحر الأبيض المتوسط بأن جعل الاعتدال حالة لا تنطبق عليها نسبية التعريفات هنا، حيث الاعتدال ما بين الحر والبرد، النهار والليل، بل حتى تباين ألوان الخريف يعتدل بين البهتان والعتمة. فيما عبّر (وازن) عن كل ذلك: “لا يكتب الراوي ذكريات ليحولها إلى ماضٍ، بل يختار بعضاً من صور الماضي ليملأ الحاضر بالأحاسيس ولا يغوص في التفاصيل الكثيرة والأسئلة الكبيرة بل يرسم بإيجاز نظرته الخاصة إلى الأشياء”. أيّ أنّ الروائي (دويهي) قد اعتدل في تفاصيله وأسئلته بإيجاز دون الإبحار العميق، رغبة منه بملء الحاضر بأحاسيس الخريف التي قد تنتهي وتموت أو تنتهي لتتجدّد، كلٌّ ونظرته الخاصة للخريف كنظرة (الدويهي) للأشياء.

لقراءة كامل التقديم في صحيفة الاتحاد

تتغير نظرة الاعتدال نحو موسم الخريف لدى الكاتب الروسي (مكسيم غوركي) في قصته “ليلة في الخريف”، والتي قد نشرت في صحيفة الغد، التي صدرت في مدينة القدس، بتاريخ 14 أيلول من العام 1945. لاختلاف موسم الخريف بين كل من لبنان وروسيا، حيث يكون خريف روسيا بارداً بلا اعتدال، وليلٍ حالِك لا يعتدل وقته مع النهار. أظهر (غوركي) أن ليلته المذكورة في قصته كانت في أواخر تشرين الأول، ووصف بطل قصته بأنّه تائهٌ في مدينة تعجّ بصخب الحياة الفارهة، وأناسٍ منعزلون مع أشباههم الأغنياء. وبيّن كذلك (غوركي) أن بطل قصته نزل في المدينة متشرداً جائعاً.
وتعمّق في وصف الحالة حتى شبّه أن كل شيء في المدينة في هذه الليلة الخريفية يدعو للسقوط والانخفاض؛ حيث الضباب، البرد، الليل الحالك، اللون الحائل وكذلك ملامح البشر المشوّهة، حتى الحديث في ليالي الخريف كان لدى (غوركي) حديثاً ذا لهجة فاترة وبدون حياة.

الغد- القدس: 14 أيلول 1945
الغد- القدس: 14 أيلول 1945

ولتعاسة الخريف الروسي، يلتقي بطل الرواية بـ (ناتاشا) التائهة، الجائعة والباحثة عن الطعام في القمامة، ولكن فجأة نجده ينتعتها بالذكية والجميلة الصغيرة السن. ربما أراد (غوركي) أن يبيّن حالة التيه والغرابة والتضاد والتناقض في ظلمة الخريف الروسي. بل وتنتهي القصة كذلك بوداع نهاريّ بين البطل وناتاشا دون عودة، فيما يستمر البطل ببحثه عن مأوى في هذه المدينة متمنياً الموت لناتاشا لقسوة الحياة معها أو راحة البال لها إن كان حيّة.

لقراءة كامل القصة في صحيفة الغد (القدس)

تنوّعت حكايات الخريف بين الأدباء وبين عامة الناس على مر الزمن وفي كل الأمكنة، إلا أنّه من المؤكد أنّ الحالة الشعورية – مهما كانت – لا تبقى على حالها بل في تقلّب مستمر ودائم كما فصل الخريف وكل فصول السنة.

نظرة على “سفر الخفايا”: “وهكذا تُرضون الملائكة في العلا”!

سفر الخفايا الّذي اكتُشف عام 1963، والّذي يعلّمكم كيف تسخّرون الملائكة لتحقيق أمنياتكم! نظرة خاطفة على أحد الكتب العبريّة الفريدة.

قبل أن نطلق موادًا رقميّة تخصّ المخطوطات العربيّة اليهوديّة في المكتبة، وددنا أن نقدّم لكم نظرة خاطفة على أحد الكتب العبريّة الفريدة من نوعها في التّاريخ، والّتي قُدّمت كذلك بالعربيّة اليهوديّة: سفر الخفايا الّذي اكتُشف عام 1963، والّذي يعلّمكم كيف تسخّرون الملائكة لتحقيق أمنياتكم!

جميعنا نريد أن نشفى من أمراضنا، أن نعرف المستقبل أو حتى أن “ندخل حبّ رجلٍ في قلب امرأة”. يعدُكم كتاب “سفر الخفايا” القديم ان يكون خير دليل لكم لتحقيق كلّ هذا وأكثر. يقدّم “سفر الخفايا” رغم تسميته الغامضة تعليمات واضحة ودقيقة للغاية لتحقيق الأمنيات. وفي صفحاته يتّضح أن كلّ الامنيات ممكنة، فقط إذا تعلّمنا كيف نطلبها من الملائكة بالطّريقة الصّحيحة.

في حزيران عام 1963 تعثّر الباحث مردخاي مرجليوت ببعض الصّفحات المتآكلة في مجموعة “جنيزة القاهرة”[1] على اسم “تايلر شختر” في جامعة كامبريدج. وبين القوائم الّتي حملت أسماء الملائكة وجد مسألةً غريبة، معادلة من خلالها يعدُ الكاتب القرّاء بالفوز بسباقٍ للخيل وأن الخيول ستكون “سريعة الرّوح ولا تسبقها أرجل كائنات أخرى” إذا قام صاحب الرّهان  بأخذ صينيّة من الفضّة مكتوب عليها أسماء الأحصنة وأسماء الملائكة ووزرائهم ثمّ ثقال: “احلّفك أيّتها الملائكة الرّاكضة بين النّجوم والكواكب أن تضعي القوّة في هذه الخيول” ثمّ عليه أن يدفن الصّينيّة بمكان السّباق الّذي يريد الفوز فيه!

سباق الخيل وتعليمات الفوز بالرّهان – من مجموعة تايلر شختر جامعة كامبريدج
سباق الخيل وتعليمات الفوز بالرّهان – من مجموعة تايلر شختر جامعة كامبريدج

تفاجأ باحث الجنيزة بالأمنية الغريبة: لماذا قد يرغب أحدهم بإزعاج الملائكة في العلا لتحقيق امنية تافهة كالفوز برهان؟ بعد الاطّلاع على المزيد من الأمنيات التي رافقت هذه، فهم الباحث أنّه اكتشف أحد أقدم كتب السّحر “سفر الخفايا” بالعبريّة “هرازيم”. المرشد لأعمال السّحر الّتي تستعين بقوى الملائكة.

"هذه أسماء ملائكة المعسكر الثّاني الّتي تخدم "تيجرا": اخستر، مرسوم، برخيف، خمشو....". من مجمومة تايلر-شختر في جامعة كامبريدج.
“هذه أسماء ملائكة المعسكر الثّاني الّتي تخدم “تيجرا”: اخستر، مرسوم، برخيف، خمشو….”. من مجمومة تايلر-شختر في جامعة كامبريدج.

يصف سفر الخفايا الّذي تم تحقيقه علميًا ونشره عام 1966-1967 سبع سمواتٍ فوق الأرض. في كلّ سماء تستقرّ معسكراتٌ للملائكة. يعرض الكتاب أسماء رؤساء المعسكرات ووزرائها وأسماء الملائكة كلّها، مئات الأسماء، كما يعرض وظائفها وأعمالها ومسؤوليّاتها وما يلزم من أعمال وهدايا وأدعية حتّى تقوم بتلبية الرّغبات والأمنيات. هذا العمل الذي يدّعي أنه يشرح للقارئ تركيبة العالم الخفيّة يعرض معرفة كونيّة ما إلا أنّ ما يؤكّد عليه المؤلّف في كلّ صفحة هو أن سفر الخفايا يهدف لتوفير معرفةً عمليّة بالأساس، يستطيع من خلالها طالب الأمنية أن يحقق رغباته. على سبيل المثال: ماذا يطلب من الملائكة في كلّ سماء؟ تتراوح الأمنيات بين جعل امرأة تحبّ رجلًا، الشفاء من الأمراض، طرد الأرواح، تفسير الأحلام والرؤى، تنبؤ المستقبل، وحتى منح البصر أو سلبه من شخصٍ ما.

ملائكة السّماء الأولى مثلًا تنقسم بين معسكرين. المعسكر الأول يخدم وزير الملائكة رفانيئيل. وتلك الملائكة مسؤولة عن الطّب: فإذا كانت امنيتك تخصّ مسألةً في الطّب: “قف في السّاعة الأولى أو الثّانية من اللّيل وخذ بيدك البخور واللّبان على الجمر واذكر اسم الملاك الحاكم على المعسكر الأوّل واسمه رفانيئيل واذكر أسماء الملائكة الاثنين وسبعين أمامه سبع مرّات وقل : أطلبُ أنا فلان بن فلان أن يشفي دواؤك فلانَ بن فلان. وطهّر نفسك ولحمك من كلّ نجسٍ وفساد وكلّ ما ستطلبه بالكتابة أو بالقول سيُلبّى”.

أمام ذات المعسكر وفي نفس السّماء الأولى، توجد ملائكة المعسكر الثّاني الّتي تأتمر بوزير الملائكة “تيجرا”. واسمه يدلّ على اختصاصه: “هذه الملائكة الممتلئة بالغضب والحرقة، مسؤولة عن كل ما يتعلق بالحرب والقتال وهي قادرة على العقاب والتعذيب حتى الموت، ولا رحمة بهم، بل يقذفون بمن يأتي إليهم.  وإن طلبت إرسالهم على أعدائك أو على من يدين لك، او لقلب سفينة أو هدم جدار أو لأذيّة عدوّك، إن أردت نفيه أو إسقاطه عن سريره أو دبّ العمى في عينيه أو أن تُربط أقدامه أو تأذيه أي اذيّة: خذ بيديك مياه من سبع نافورات في اليوم السابع من الشّهر في الساعة السّابعة، خذ جرّة لم تخرج إلى النور قط، لا تخلط المياه سويًا، ضعها تحت النجوم لسبع ليالي وفي الليلة السابعة خذ كأسًا لأعدائك واسكب الماء فيها وخذ الجرّة وارمها في جهات السماء الأربع وقل للجهات :  “ههجريت” التي تجلس في الجهة الشرقية، “سروخيت” التي تجلس في الجهة الشّماليّة، “اولبا” التي تجلس في الجهة الغربيّة، و”كردي” التي تجلس في الجهة الجنوبيّة، “خذي الآن ما رميت إليك هذا لفلان بن فلان لتكسري عظامه وتمزّقي أعضائه وتكسريه كما تكسرين جرّة”.

برغم افتقارنا لنسخة متكاملة من سفر الخفايا، إلا أن النظرة الكونية الخاصة به حول السموات السّبع وصلتنا بوضوحٍ كافٍ. فكلّما تقدّم المؤلّف بالشّرح حول كلّ سماء وسماء يفهم القارئ أن قدرته على إخضاع الملائكة بهذه الأعمال تقلّ كلّما ارتفع بالسماوات إلى الأعلى. في السّموات الأقرب الأرض، أي الأكثر انخفاضًأ، توجد الملائكة الأقلّ شأنًا الّتي يمكن للإنسان أن يطلب منها تحقيق أمنياته الخاصّة. فقط تلك الملائكة تقوم بتنفيذ طلبات البشر. أما الملائكة في السماوات العالية فليس للإنسان عليها تأثير أو قوّة لأن القرب من اللّه، الّذي يجلس في السّماء السّابعة، تطغى على قدرة السّحر.

وهذه فاتحة الوصف للسماء السّابعة، الأعلى من كلّ شيء: “والسّماء السّابعة كلّها نور تشعّ منه القاعات، وبها العرش الأعلى تحيطه أربعة كائنات قدسيّة، وبها كنوز الحياة وكنوز النّفوس، وليس للنور الكبير فهمٌ ولا استبيان.  وهو ينير الارض كلها. والملائكة تمسك بعواميدٍ من نور. والنور يشعّ ولا ينطفئ لأن عيناها كلمع البرق وتقف على أطرافٍ من النور. يمجّدون بتقوى الواحد الذي يجلس على العرش الأعلى، لانه وحده يجلس في مقدسه. يحكم بالعدل واليقين ويتكلم بالاحسان. وأمامه كتب ناريّة مفتوحة. وأمامه أنهار من نار متدفّقة. ومن صرخته تتضعضع العواميد. ومن صوته تهتزّ الأبواب. وكلماته تقف أمامه. لا أحد يرى صورته لانه عصيّ على كل عين ولا يراه أحدٌ ويحيى. رؤيته عصّية على كلّ شيء ويرى كلّ شيء”.

سفر الخفايا مليء بالمفاجآت. ليس تلك المتعلّقة بالعلوم الخفيّة الّتي يعرضها فحسب، بل أيضًا نصوصٍ وأدعية غريبة على كتابٍ من المفترض أنه كتاب يهوديّ في نهاية المطاف. فمثلًا في وصف السّماء الرّابعة تظهر صلاة فريدة من نوعها في الأدبيّات اليهوديّة: صلاة لهلينوس، إله الشمس اليونانيّ. تهليلة لإله الشّمس تحاكي تلك الّتي تظهر في المخطوطات اليونانيّة.

وصف السّماء الرّابعة من مجموعة تايلر شختر في جامعة كامبريدج.
وصف السّماء الرّابعة من مجموعة تايلر شختر في جامعة كامبريدج.

 

الحديث مع الملائكة ووصف السماوات السّبع وصلوة مقتبسة من البرديّات اليونانيّة التي تعود للقرون الأولى بعد الميلاد – كلّ هذه المؤشّرات تطرح السؤال التّالي، من هو مؤلّف “سفر الخفايا”؟ نجهل إلى اليوم اسم المؤلّف ويرجّح أن اسم المؤلّف لم يكن معلومًا أيضًا في الفترة الّتي كُتب فيها الكتاب.  يرجّح مرجليوت، الباحث الّذي اكتشف أوراق الكتاب، أن الكتاب تألف في أرض كنعان بعد القرن الثّالث الميلادي في مدينة عاش بها يهودٌ ويونانيون على ما يبدو، إلا انّ هذا يبقى مجرّد تخمين. المؤكّد هو أن سفر الخفايا يعطينا لمحة هامّة وساحرة، إن جاز التّعبير، على العالم اليهوديّ-اليونانيّ قبل ظهور الإسلام.

على موقع المكتبة الوطنية نسخة رقميّة لمخطوطة يمنيّة تعود للقرن الثّالث عشر ميلادي لسفر الخفايا- هرازيم مكتوبة بالعربيّة اليهوديّة. إن كنتم تقرأون الحروف العبريّة – حاولوا قراءتها!

المخطوطة على موقع المكتبة الوطنيّة

 

 

[1] الجنيزة هي المكان الّذي تحفظ فيه الأوراق الّتي لا يجوز رميها في اليهوديّة لأنها تحتوي على اسم الله أو لأنها كتبت في موضوعات دينيّة. تم اكتشاف جنيزة تاريخيّة في كنيس في القاهرة تضم مجموعة ضخمة من المخطوطات العبريّة القديمة ومنها بعض أوراق سفر الخفايا المكتوبة بالعبريّة.

النفير أم هشوفار؟

تميزت صحيفة النفير بكونها الصحيفة العربية الأولى التي ضمت ملحقًا باللغة العبرية باسم هشوباز، وذلك منذ العام 1913، فهل كان ذلك نتاج تعاون وتعايش أم لمصالح اقتصادية فقط

كانت صحيفة النفير من الصحف الفلسطينية المبكرة،  والتي أصدرها بداية إبراهيم زكا (حيفا، 1870 تقريبًا) في عام 1902 في الإسكندرية باسم النفير العثماني. وفي أعقاب العودة للعمل بالدستور العثماني في سنة 1908، انتقلت الصحيفة إلى يدي شقيقه إيليا زكا (حيفا، تقريبا 1875- 1926)، خريج الكلية الإكليريكية الروسية في الناصرة، والذي عاد إلى إصدارها من جديد تحت اسم النفير في مدينة القدس ثم انتقل بها عام 1913 إلى حيفا. وكما حدث مع الصحف والمجلات الأخرى، لم تصدر الصحيفة خلال الحرب العالمية الأولى، ولكنها عادت للصدور من جديد منذ 23 أيلول 1919. وصدرت الصحيفة حينها لفترة قصيرة تحت اسم الصاعقة.

إن المميز في جريدة النفير، والذي كانت سباقة فيه، هو نشرها لملحق باللغة العبرية باسم هشوفار بدءاً من العام 1913 والذي استمر حتى حجب الصحف على يد العثمانيين مطلع الحرب العالمية الأولى، وسيعود مجدداً للظهور في عام 1923. على وقع هذا الملحق وعلى نشر اعلانات لشركات صهيونية اتهمت جريدة النفير بالتعاون مع مؤسّسات وجهات صهيونية بهدف الحصول على دعم مادي، إلى جانب علاقاته الوطيدة مع سلطات الانتداب.2

النفير، 27 كانون الثاني 1914

في افتتاحية عدد كانون الثاني 1914 يشرح المحرر الموضوعات التي سيتناولها ملحق “هشوفار” في طياته، وهي المقالة الرئيسية وستكون عادة اجتماعية، أدبية والقضايا اليومية الملحة. القضية الصهيونية. أخبار المستوطنات الصهيونية. القضايا العثمانية والتي فسرها المحرر على أنها القضايا التي تخص تركيا عامة، سوريا وفلسطين خاصة، قشطا: وهي الاعلانات الرسمية. ملف للأخبار المحلية، وتلغرافات.

في ذات العدد نشر الملحق مقالاً عن الصهيونية والذي كتبه متري حلاج وسينشر الملحق في أعداد لاحقة مقالات أخرى حول الصهيونية لكتاب آخرين كشبلي نوفل وغيره، اضافة لنشر العديد من الاعلانات لشركات أو لتنظيمات صهيونية، كنشرها اعلانات “هبوعيل هتسعير” واعلانات لجريدة “حروت”.

النفير، 14 كانون الثاني 1914

في أدراج المكتبة الوطنية الاسرائيلية هناك وثيقة مهمة، رسالة من إيليا زكّا إلى المفكر الصهيوني إحاد هعام، والتي تلقي الضوء على الرؤية السياسية للنفير، حيث يشرح فيها زكّا أسباب اصداره لجريدة باللغة العبرية، وهي وجود طرفين متناقضين في البلاد، لكل طرف رؤيته، طرف يسعى لبناء وطن قومي، وآخر يرى بذلك خطراً مهدداً له، هنا كانت النفير والتي كما يقول صاحب الرسالة قرر اصدارها لكي تكون منصة حرة مخصصة لتقريب وجهات النظر.

في الرسالة يرجو زكّا من إحاد هعام أن يتلقى الدعم من العبرانيين – كما يسميهم في الرسالة – سواء على المستوى الأخلاقي أو على المستوى الأدبي، راجياً من إحاد هعام أن يزود الجريدة ببعض انتاجاته الفكرية.

رسالة من إيليا زكّا إلى المفكر الصهيوني إحاد هعام، أرشيف المكتبة الوطنية الإسرائيلية
رسالة من إيليا زكّا إلى المفكر الصهيوني إحاد هعام، أرشيف المكتبة الوطنية الإسرائيلية

ظلت الصحيفة تنشر اعلانات الشركات الصهيونية، وبدءًا من منتصف العشرينيات ظهرت هذه الإعلانات والدعايات أيضاً في الصفحة الأولى كم جريدة النفير باللغة العربية. يرى البعض أن زكّا كان متواطئاً مع الحركة الصهيونية والانتداب، بينما يرى آخرون أن الصحيفة قد اعتمدت سياسة نقدية ضد سلطات الانتداب والنشاط الصهيوني في البلاد من جهة وضد القيادات الفلسطينية القريبة من معسكر الحسيني من جهة أخرى. ويبدو فعلاً أن الاعتبارات التجارية قد هيمنت على سياسة الصحيفة التي تحوّلت وجهتها عند تحوّل الظروف والاعتبارات التجارية.

ما نعرف مؤكداً أن الملحق العبري لم يصمد طويلاً، كما أن الملحق العربيّ أيضاً لم يصمد حيث تهاوى الأول في سنوات العشرينيات في حين أغلقت النفير أبوابها تمامها عام 1945، ولكن بغض النظر عن السياق والحيثيات إلا أن فعل الجريدة واصدارها باللغتين العبرية والعربية تظل قضية مثيرة للاهتمام تستحق الدراسة والبحث وتظل علامة فارقة في تطور الصحافة العربية المبكرة.

لمعاينة صحيفة النفير في موقع جرايد اضغطوا هنا 

المصادر:

 1  قسطندي شوملي، الصحافة العربية في فلسطين: تاريخها وروادها وتشريعاتها، عمان: مؤسّسة الوراق للنشر والتوزيع، 2015، ص 16.

2 يُنظر على سبيل المثال ما جاء عند يعقوب يهوشع بأن العديدين اتهموا الصحيفة بوصفها “مستأجرة” وعميلة أو مجنّدة (يعقوب يهوشع، تاريخ الصحافة العربية في فلسطين في العهد العثماني (1908-1918)، القدس: مطبعة المعارف، ص 50-54).

3 يُنظر كبها، تحت عين الرقيب، ص 14-15، 26، 35-36، 223؛ يعقوب يهوشع، تاريخ الصحافة العربية في فلسطين في العهد العثماني (1918-1908)، القدس: مطبعة المعارف، ص 50-54؛ محمد سليمان، تاريخ الصحافة الفلسطينية 1876-1976، الجزء الأول (1918-1876)، الاتحاد العام للكتّاب والصحافيين الفلسطينيّين، ص 71; قسطندي شوملي، الصحافة العربية في فلسطين، ص 93- 95.

امتهان الزراعة؛ ثقافة مزروعة في المدارس العربية بالفترة الانتدابية

ممارسات في الميدان من أجل فهم أفضل للطلبة، فهم محور العملية التعليمية كاملة، هكذا كانت التربية الزراعية في المدارس العربية خلال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين.

كان يتم تطبيق الدروس المقررة حول الزراعة من أجل محاولة النهوض في هذا القطاع. فكان القطاع الزراعي يشكل جزءًا مهمًا من الاقتصاد الفلسطيني آن ذاك (ولا يزال)، وهذا دفع العديد من الجهات إلى التركيز على الزراعة من أجل تطويرها والارتقاء بها إلى الأفضل. ومن ضمن الجهات التي حاولت النهوض بالزراعة كان قطاع التعليم المدرسي بكافة أشكاله، لكن التساؤل كيفية حدوث عملية الارتقاء في الممارسات الزراعية حتى أصبحت ثقافة مدرسية تتناولها معظم المدارس في فلسطين الانتدابية؟

(تعليم أطفال أساليب الزراعة في قرية العباسية. مجلة هنا القدس، 13 تشرين الأول 1940)​​

من المنطقي القول أن القطاع التعليمي يهدف دومًا إلى تمرير أفكار ورسائل يحاول إيصالها إلى الطلبة، ليس في مجال معين بل في مجالات مختلفة ومتعددة، فقطاع التعليم هو قطاع واسع يحمل جوانب متعددة، لكن الذي يربط كافة جوانبه هي الرسالة التي يهدف إلى تمريرها، بالتالي إحدى الأدوات التي تم تسويغها للنهوض في الزراعة هي رفع مستوى الوعي والمعرفة حول الزراعة إلى الطلبة، فتغطي هذه الجزئية الجانب النظري للطلاب. أما الأمر الآخر الذي تم تسويغه بشكل كبير في تلك الحقبة الزمنية فكان الانتقال إلى الممارسات التعليمية وعدم اقتصار التعليم على مستوى النظرية، بل تعداه إلى التطبيق الذي كان في أغلبه خارج الغرف الصفية المغلقة والتي بدأت بالظهور ضمن فئة معينة وبعد ذلك انتشرت لتصبح ثقافة تربوية في أغلب المدارس ولتتعدد أساليب تعليم الممارسات الزراعية لتشمل ممارسات زراعية مختلفة تبدأ من زراعة أمور عام مثل أشتال الفواكه وتصل إلى ممارسات زراعية متخصصة يتم تدريسها في المدارس والكليات المتخصصة.

(معلم يقوم بتعليم الطلاب بعض من الأساليب الزراعية خارج الغرفة الصفية. جريدة القافلة، 20 حزيران 1947)

بدأ الأمر  بافتتاح مدارس متخصصة بمواضيع الزراعة مثل مدرسة خضوري الزراعية التي افتتحتها سلطات الانتداب البريطاني عام 1931  بالقرب من مدينة طولكرم، والتي كان يرأسها الأستاذ أكرم الركابي. فكانت هذه المدرسة تحمل (ولا تزال) رسالة أساسية حول التعليم الزراعي المتخصص. وبعد ذلك لم يعد يقتصر الأمر على وجود المدارس المتخصصة لتعليم الممارسات الزراعية في الميدان، بل بدأت ثقافة التربية الزراعية بالانتشار بين المدارس العامة من خلال التوجه إلى إيجاد أراضٍ تكون قريبة من مبنى المدرسة لتشكل مختبرًا ميدانيًا لتعليم الطلبة، على سبيل المثال تناولت صحيفة فلسطين الصادرة ب24 أيلول عام 1932 خبرًا حول نية مدرسة البيرة إيجاد قطعة أرض “يتمرن فيها الطلاب على الممارسات الزراعية” وذلك من أجل تنمية المهارات الزراعية بين طلبة المدرسة. بعد ذلك شهدت تلك الفترة تطورًا آخر وهو انتساب الطالبات الإناث إلى المدارس الزراعية وعدم اقتصارها على الطلاب الذكور كما كان متبعًا، وقد بدأ ذلك عام 1946 عندما تم قبول 30 طالبة في كلية الزراعة بعد رفض طلباتهن مراتٍ عديدة قبل ذلك.

وهكذا انتشرت ثقافة التربية الزراعية بين المدارس العربية خلال الفترة الانتدابية التي امتدت زهاء الثلاثون عامًا. فبدأت بفئة معينة من المدارس والطلاب ومن ثم انتشرت إلى كثير من المدارس وامتدت لتشمل الطالبات الإناث.

 

تعالوا لنتعرف على متبرع إقامة مدرسة خضوري (أصبحت الآن جامعة)

(مجلة هنا القدس، الأحد الموافق 12 تموز 1942)

هل تعلمون أن المتبرع لإقامة مدرسة خضوري للزراعة الموجودة في مدينة طولكرم والتي تحولت فيما بعد إلى جامعة هو السير ألس خضوري من هونج كونج! 
تقديرًا لجهوده وتبرعاته تم إطلاق اسمه على مبنى المدرسة الجديد، هذه المدرسة التي بعثت التفاؤل في نفوس المهتمين بتطوير الزراعة الفلسطينية قد تم افتتاحها رسميًا عام 1931 على مساحة قدرها 400 دونمًا غرب طولكرم. وبالتزامن مع افتتاح المدرسة الزراعية العربية الأولى في فلسطين تم افتتاح مدرسة يهودية أخرى من ذات المتبرع في جبل طابور بالقرب من العفولة.