في كل ذكرٍ لفصل الخريف، يختلف الناس في أرائهم حول فصل الخريف وأحواله، منهم من يتفاءل بتساقط أوراق الشجر ويشبه هذا التساقط ببداية التجديد أو الإنطلاقة لاستقبال خير الشتاء حيث الغيث والوفرة وبداية نمو جديد، فيما يتشاءم حشدٌ آخر ويعتبره موسماً للاكتئاب معلّلاً ذلك بذات التساقط لأوراق الشجر؛ حيث نهاية النمو وبدء استقبال عواصف الشتاء وبرده. كذلك الأدب العالمي، اختلف في وصف أحوال الخريف. في هذه المقالة، نقدّم أديبين ذكرا الخريف في قصصهم من منظور مختلف في بقاع جغرافية مختلفة وكذلك فترة زمنية مختلفة من القرن التاسع عشر.
ورد في صحيفة الاتحاد في السادس من تشرين الثاني من العام 1995 تقديماً ومراجعة لكتاب “اعتدال الخريف” للكاتب والروائي اللبناني (جبور الدويهي) من قبل الكاتب (شحادة وازن)، بادئاً ذلك بقوله: “هي سيرة ذاتية، تأملات يومية وسرد قصصي”، فيما أفاض بوصفه: “ليس اعتدال الخريف رواية ولا سرداً ولا سيرة ذاتية ولا مذكرات ولا يوميات. إنه بعض هذه جميعاً يمزجها الكاتب بلغته وأسلوبه ويعمل على دمجها ليضعنا أمام غربة بل دهشة الكتابة”. ربما نأى الكاتب (شحادة وازن) إلى وصف سردية (اعتدال الخريف) بـ “الغربة” أولاً لاختلافها عن الحالة المألوفة والغير طبيعية والتي قد تنعزل أو تُعزَل، إلى مفهوم “الدهشة” بالمعنى الفلسفي المؤدي إلى إنارة العقل والخروج من ظل أفكارنا ومناطق راحتها.
بالإضافة إلى ذلك، أظهر (الدويهي) حالة فصل الخريف بالمبتدأ “اعتدال”، وربما يعزو هذا الوصف لبقعة (دويهي) الجغرافية في لبنان وحوض البحر الأبيض المتوسط بأن جعل الاعتدال حالة لا تنطبق عليها نسبية التعريفات هنا، حيث الاعتدال ما بين الحر والبرد، النهار والليل، بل حتى تباين ألوان الخريف يعتدل بين البهتان والعتمة. فيما عبّر (وازن) عن كل ذلك: “لا يكتب الراوي ذكريات ليحولها إلى ماضٍ، بل يختار بعضاً من صور الماضي ليملأ الحاضر بالأحاسيس ولا يغوص في التفاصيل الكثيرة والأسئلة الكبيرة بل يرسم بإيجاز نظرته الخاصة إلى الأشياء”. أيّ أنّ الروائي (دويهي) قد اعتدل في تفاصيله وأسئلته بإيجاز دون الإبحار العميق، رغبة منه بملء الحاضر بأحاسيس الخريف التي قد تنتهي وتموت أو تنتهي لتتجدّد، كلٌّ ونظرته الخاصة للخريف كنظرة (الدويهي) للأشياء.
لقراءة كامل التقديم في صحيفة الاتحاد
تتغير نظرة الاعتدال نحو موسم الخريف لدى الكاتب الروسي (مكسيم غوركي) في قصته “ليلة في الخريف”، والتي قد نشرت في صحيفة الغد، التي صدرت في مدينة القدس، بتاريخ 14 أيلول من العام 1945. لاختلاف موسم الخريف بين كل من لبنان وروسيا، حيث يكون خريف روسيا بارداً بلا اعتدال، وليلٍ حالِك لا يعتدل وقته مع النهار. أظهر (غوركي) أن ليلته المذكورة في قصته كانت في أواخر تشرين الأول، ووصف بطل قصته بأنّه تائهٌ في مدينة تعجّ بصخب الحياة الفارهة، وأناسٍ منعزلون مع أشباههم الأغنياء. وبيّن كذلك (غوركي) أن بطل قصته نزل في المدينة متشرداً جائعاً.
وتعمّق في وصف الحالة حتى شبّه أن كل شيء في المدينة في هذه الليلة الخريفية يدعو للسقوط والانخفاض؛ حيث الضباب، البرد، الليل الحالك، اللون الحائل وكذلك ملامح البشر المشوّهة، حتى الحديث في ليالي الخريف كان لدى (غوركي) حديثاً ذا لهجة فاترة وبدون حياة.
ولتعاسة الخريف الروسي، يلتقي بطل الرواية بـ (ناتاشا) التائهة، الجائعة والباحثة عن الطعام في القمامة، ولكن فجأة نجده ينتعتها بالذكية والجميلة الصغيرة السن. ربما أراد (غوركي) أن يبيّن حالة التيه والغرابة والتضاد والتناقض في ظلمة الخريف الروسي. بل وتنتهي القصة كذلك بوداع نهاريّ بين البطل وناتاشا دون عودة، فيما يستمر البطل ببحثه عن مأوى في هذه المدينة متمنياً الموت لناتاشا لقسوة الحياة معها أو راحة البال لها إن كان حيّة.
لقراءة كامل القصة في صحيفة الغد (القدس)
تنوّعت حكايات الخريف بين الأدباء وبين عامة الناس على مر الزمن وفي كل الأمكنة، إلا أنّه من المؤكد أنّ الحالة الشعورية – مهما كانت – لا تبقى على حالها بل في تقلّب مستمر ودائم كما فصل الخريف وكل فصول السنة.