ميخائيل نعيمة في النّاصرة

توثيق محاضرات ميخائيل نعيمة في مدينة الناصرة في الصحف الفلسطينية التاريخية.

حرّروا أنفسكم لتستقلوا عن الأجانب

في الأول من نيسان من العام 1935 زار الأديب والمفكّر اللبناني ميخائيل نعيمة مدينة النّاصرة، وهناك ألقى محاضرة قيّمة عن العوامل النّفسية الإنسانيّة، وقد قامت بتغطيتها والإشادة بها صحف فلسطينيّة عديدة. فحول ماذا كانت هذه المحاضرة؟ وماذا نعرف عن زيارة ميخائيل نعيمة ورؤيته للبلاد في عهد الانتداب البريطانيّ؟

من ميخائيل نعيمة؟

ولد ميخائيل نعيمة عام 1889 في قرية بسكنتا في سفح جبل صينين في لبنان ودرس في مدرستها قبل أن يلتحق للدّراسة في دار المعلّمين في النّاصرة عام 1902؛ حيث أمضى ستّ سنوات غاب بعدها عن المدينة إلى روسيا، ثمّ إلى الولايات المتّحدة ثمّ إلى باريس ليدرس الآداب والفكر، ثمّ عاود زيارتها عام 1935 بدعوة من النّادي الأدبيّ وبلديّة النّاصرة ليلقي فيها محاضرة. عُرفت أعمال ميخائيل نعيمة من رواية أو كتاب إلى شعر أو مسرحيّة أو قصّة بعمقها الفلسفيّ والإنسانيّ وبقدرته على إضفاء بعدٍ رمزيّ على أعماله منحها طابعًا عالميًّا. ومن أعماله الشّهيرة في المسرح “الآباء والبنون” و “أيّوب، ومن الشّعر ديوانه “همس الجفون” ومن الرّوايات “لقاء” و”مذكّرات الأرقش”، بالإضافة إلى مجموعات قصّصيّة عديدة منها: “كان ياما كان” و”هوامش”. حصل نعيمة على جائزة رئيس جمهوريّة لبنان عن الإبداع الأدبي عام 1961، وتُرجمت العديد من أعماله إلى لغات اجنبيّة عدّة.

زيارته للبلاد ومحاضرته عن علم النّفس في النّاصرة

لم تكن زيارة نعيمة في نيسان 1935 هي الأولى للبلاد، فكان قد تلقّى تعليمه كمدرّس في دار المعلمين في النّاصرة والمعروفة بالـ “مسكوبيّة” في سنوات ريع شبابه وأمضى بها ستّ سنوات. ولعلّ عودته إليها ضيفًا يحتفى به من قبل أوساطها الثّقافيّة الرّفيعة حينها قد عنت له الكثير.

⁨⁨فلسطين⁩⁩: 2 نيسان 1935
⁨⁨فلسطين⁩⁩ 2 نيسان 1935

لا نعرف الكثير عن تفاصيل زيارته والمدن الّتي قام بالتّجول بها خلال هذه الزّيارة، إلا أنّ بعض الأخبار الواردة في كلّ من جريدة فلسطين، الدّفاع والأوقات العربيّة تكمل التّفاصيل بين بعضها البعض من خلال الأخبار الّتي قامت بتغطيتها عن هذه الزّيارة في المنتصف الأول من شهر نيسان 1935. وإن زخم الأخبار الّتي تناولت الزّيارة واهتمام الصّحافيين الكتّاب بتفاصيلها والعبارات العاطفيّة الّتي قاموا باستخدامها لتقديم الضيّف وأهميّة زيارته للقرّاء تشهد على محبّة وتقدير واسع حظي به نعيمة في فلسطين الانتدابيّة. فنرى جريدة فلسطين تتابع زيارته يومًا بعد يوم وتنشر لقرّائها، لعلّ أحدهم يرغب بلقاء الأديب الشّهير ويتابع تفاصيل زيارته بحماسة. فنراه اليوم في بيت لحم، واليوم التّالي في طبريّا، ومرّة في حيفا وأخيرًا في النّاصرة.

⁨⁨الأوقات العربية⁩⁩: 5 نيسان 1935
⁨⁨الأوقات العربية⁩⁩: 5 نيسان 1935

 

أمّا محاضرته في النّادي الأدبيّ في النّاصرة، فقد برزت في غالبيّة المقالات والأخبار الّتي تناولت زيارة ميخائيل نعيمة للبلاد. اقتبست الصّحف مقولة من محاضرته لتكون العنوان، وقامت بوصف الحدث لحظة بلحظة كي يتسنّى لمن يقرأ المقالة أن يشاهد المحاضرة ولا يفوّت أي من تفاصيلها كأنه حضرها بنفسه. فتزوّدنا هذه المقالات بأسماء النّاشطين في النّادي الأدبيّ في النّاصرة في تلك الفترة، وبأعداد الحضور، وبتكريم نعيمة من قبل الأديب الفلسطينيّ خليل السّكاكيني، وبلهفة الحضور لسماع المحاضرة حتّى قاموا بمقاطعة نعيمة عدّة مرّات أثناء كلامه بالتّصفيق الحارّ!

⁨⁨الدفاع⁩⁩: 3 نيسان 1935
⁨⁨الدفاع⁩⁩: 3 نيسان 1935

 

“حرّروا أنفسكم لتستقلو عن الأجانب” كان عنوان القصّة الصّحافيّة الّتي نشرتها جريدة فلسطين في السّابع من نيسان عن محاضرة الأديب التّي وُصفت بالـ “ساحرة”! والّتي انتظرها الكثير من القرّاء الّذين لم يتمكّنوا من حضور المحفل الأدبيّ بأنفسهم. وكما ورد في مقالة سابقة في جريدة فلسطين فقد كان عنوان المحاضرة “تأثير العوامل النّفسيّة على الإنسان”، إلّا أن مضمونها على ما يبدو لم يكن بعيدًا عن واقع الحال في فلسطين الانتدابيّة، فنرى من خلال بعض الاقتباسات الّتي وردت في هذه المقالات أن نعيمة أسهب في الحديث عن العوامل النّفسية وعلاقتها بالحريّة والاستعباد.

 

⁨⁨الدفاع⁩⁩: 7 نيسان 1935
⁨⁨الدفاع⁩⁩: 7 نيسان 1935

 

إليكم بعض ممّا ورد عن كلام نعيمة في هذه المحاضرة في مقالة السّابع من نيسان في جريدة فلسطين، والتي نختتم بها هذه المقالة.

“لمَ أنا مستعبد؟ لمَ لست حرًا؟ لم أنا حزين؟ لمَ أنا فرح؟ لمَ أنا قلق؟ لمَ أنا مطمئن؟ أسئلة نفسيّة دقيقة نجد أجوبتها في قراراتنا ولا حلّ لها في خارجنا. فأنت ترى العالم بعينيك، وتسمعه بأذنيك، وكيف تكون حالة هاتين الأداتين يظهر لك العالم. إذًا، جمّل وجهك، تر الحياة جميلة، اضحك لها، تراها ضاحكة. وهذه الشّرور المنتشرة والمفاسد العائثة، إن هي إلّا صورة لما فيك من شرور ومفاسد. وهذا الرّبيع الزّاهي والزّهور البديعة، لن تستطيع تحويل قلبك عن الكآبة إن كان في نفسك مناحة. فأنت إذا سعيد إن أردت وشقيّ إن أردت.

لم أنا مستعبد؟

ما كان يمكن ذلك لو لم تكن عبدًا لنفسك ولشهوة فيها. فتحررك من ظالم يقتضي أولًا تغلّبك على شهوتك وما دمت لها عبدًا فلن يبزغ لك فجر الحريّة الحقّة .

الحرّية طبيعة فينا. والعبوديّة منّا. فلو أردنا أن نكون أحرارًا لما منعنا أي إنسان.”

للمقالة كاملة

 

⁨⁨فلسطين⁩⁩: 5 نيسان 1935
⁨⁨فلسطين⁩⁩: 5 نيسان 1935

 

للمزيد حول مدينة الناصرة إليكم بوابة المحتوى الرقمي حول مدينة الناصرة والتي يمكن من خلالها الوصول إلى مواد رقمية متنوعة حول المدينة وتاريخها وسكانها.

رحلة في المخطوطات التاريخية حول عنترة بن شداد

قصة عنترة ستصل من خلال المؤرخين بتفاصيل مختلفة نظراً لقدمها في التاريخ، ولكن في نفس الوقت سيكون للحكواتيين قصتهم فهم سيضيفون التفاصيل أيضاً لكي تلائم آذان السامعين.

مخطوطة سيرة عنترة

                      سيرة عنترة بن شداد، مخطوطات المكتبة الوطنية الاسرائيلية

حاول عنترة بن شداد لسنين طويلة الزواج من ابنة عمه، عبلة، دون أن يفلح في ذلك، ولإبطال هذا الزواج، وضع عمه مالك (والد عبلة) العقبات أمامه دوماً، وفي كل مرة كان يوهمه أن الزواج يوشك أن يحصل ثم يُرغمه أحياناً أن يأتي لعبلة برؤوس اللبؤات وأحياناً بعرض مهر ضخم كي لا يتمكن من دفعه، وفي أخرى بألف ناقة من نوق الملك النعمان.

هذه العروض والتحديات، جعلت عنترة موضوعاً كتب عنه نخبة المؤرخين العرب على مر التاريخ؛ كالزركلي في كتابه “الأعلام” وأبو فرج الأصفهاني في “الأغاني”.

كان والد عنترة قاسياً عليه، لم يعتبره كابن له، وبالتالي خسر عنترة حضوره في القبيلة وسطوته، ولكن حروب قبيلة طيء ضد قبيلته؛ قبيلة عبس، حولت عنترة إلى بطل مغوار حين تحوّل إلى الحامي الذي يحمي القبيلة بعد أن جلب الانتصار تلو الانتصار.

بطولات عنترة لم تكن لأجل ذاته، إنما من أجل الحب والحياة، من أجل القبيلة وكرامة أبنائها وهو ما جعل منه رمزاً لحماية القيم والعادات والتقاليد، ومن هنا تحوّلت قصته إلى وسيلة ضرورية للتربية والتثقيف ومن هنا حصلت على كل هذه الشهرة التاريخية.

الصورة المرفقة هي جانب من قصة عنترة بن شداد في بدايات المغامرة، والتي سيصبح بعدها بطلاً، كما سيكتب معلقة ستشكل جزءاً وركناً أساسياً في الأدب العربي على مر التاريخ.

قصة عنترة ستصل من خلال المؤرخين بتفاصيل مختلفة نظراً لقدمها في التاريخ، ولكن في نفس الوقت سيكون للحكواتيين قصتهم فهم سيضيفون التفاصيل أيضاً لكي تلائم آذان السامعين والمتفرجين، ولأن مصادرها موغلة في القدم ودوماً ما اعتمدت على مصادر شفوية، مما خلق تضارباً في الروايات الشفوية، حيث أّن لكل منطقة سيرتها الخاصة بعنترة كالسيرة الشامية والسيرة الحجازية وغيرهما.

السيرة الحجازية لعنترة
السيرة الحجازية لعنترة

اقرأ/ي أيضًا: الشعر العربي: دوواين من الكتب والمخطوطات وآراء في الصحف الفلسطينية.

مع التطور التكنولوجي ودخول وسائل تعبيرية وفنية جديدة، تراجع دور الحكواتي لصالح فنون أخرى، وخلال القرن الأخير أنتجت أكثر من عشرة أعمال سينمائية حول قصة عنترة كان أقدمها فيلم “عنترة وعبلة” الذي أخرجه نيازي مصطفى وكتب حواراته الشاعر “بيرم التونسي” وأدّى دور البطولة سراج منير. وربما كان أحدث الأعمال هو مسلسل “عنترة بن شداد” من إخراج رامي حنا وبطولة فيصل العمري وكندة حنا.

فلسطينياً، أيضاً، حظي عنترة باهتمام ملحوظ حيث كُتبت حوله الكثير من المسرحيات والأعمال الفنية الفلسطينية والتي وثّقت القصة من خلال أعمال مختلفة.

صحيفة فلسطين، 13 أيار 1931       
صحيفة فلسطين، 13 أيار 1931
صحيفة مرآة الشرق، 14 آذار 1929
صحيفة مرآة الشرق، 14 آذار 1929

 

 

 

 

 

 

 

 

لا يزال حتى اليوم الكثير من إرث عنترة في ثقافتنا المحكية، كالأمثال الشعبية في اللغة العربية القادمة من تلك الفترة، مثل “مفكر حالو أبو عنتر” أو حين ينعت شخص بـ “معنتر”، لكنّ حالة “العنترة” ليست كلها قوة، ففيها أيضاً الكثير من الحب والحنين والذكريات، كبداية معلقته وبيت الشعر الشهير:
“هل غـادر الشعـراء من متردم، أم هل عـرفت الـدار بعـد تـوهم”

وهو البيت الذي لا يزال حتى اليوم ذاكرة للأجيال، لكنّ قصة البيت وحكايات أخرى ستظلّ داخل هذه المخطوطات الكثيرة في المكتبة.

 يمكنكم الاطلاع عل المخطوطة والغوص في تفاصيل الحكايات التي وصلتنا عبر التاريخ.

ديوان عنترة بن شداد
ديوان عنترة بن شداد

نظرة على “سفر الخفايا”: “وهكذا تُرضون الملائكة في العلا”!

سفر الخفايا الّذي اكتُشف عام 1963، والّذي يعلّمكم كيف تسخّرون الملائكة لتحقيق أمنياتكم! نظرة خاطفة على أحد الكتب العبريّة الفريدة.

قبل أن نطلق موادًا رقميّة تخصّ المخطوطات العربيّة اليهوديّة في المكتبة، وددنا أن نقدّم لكم نظرة خاطفة على أحد الكتب العبريّة الفريدة من نوعها في التّاريخ، والّتي قُدّمت كذلك بالعربيّة اليهوديّة: سفر الخفايا الّذي اكتُشف عام 1963، والّذي يعلّمكم كيف تسخّرون الملائكة لتحقيق أمنياتكم!

جميعنا نريد أن نشفى من أمراضنا، أن نعرف المستقبل أو حتى أن “ندخل حبّ رجلٍ في قلب امرأة”. يعدُكم كتاب “سفر الخفايا” القديم ان يكون خير دليل لكم لتحقيق كلّ هذا وأكثر. يقدّم “سفر الخفايا” رغم تسميته الغامضة تعليمات واضحة ودقيقة للغاية لتحقيق الأمنيات. وفي صفحاته يتّضح أن كلّ الامنيات ممكنة، فقط إذا تعلّمنا كيف نطلبها من الملائكة بالطّريقة الصّحيحة.

في حزيران عام 1963 تعثّر الباحث مردخاي مرجليوت ببعض الصّفحات المتآكلة في مجموعة “جنيزة القاهرة”[1] على اسم “تايلر شختر” في جامعة كامبريدج. وبين القوائم الّتي حملت أسماء الملائكة وجد مسألةً غريبة، معادلة من خلالها يعدُ الكاتب القرّاء بالفوز بسباقٍ للخيل وأن الخيول ستكون “سريعة الرّوح ولا تسبقها أرجل كائنات أخرى” إذا قام صاحب الرّهان  بأخذ صينيّة من الفضّة مكتوب عليها أسماء الأحصنة وأسماء الملائكة ووزرائهم ثمّ ثقال: “احلّفك أيّتها الملائكة الرّاكضة بين النّجوم والكواكب أن تضعي القوّة في هذه الخيول” ثمّ عليه أن يدفن الصّينيّة بمكان السّباق الّذي يريد الفوز فيه!

سباق الخيل وتعليمات الفوز بالرّهان – من مجموعة تايلر شختر جامعة كامبريدج
سباق الخيل وتعليمات الفوز بالرّهان – من مجموعة تايلر شختر جامعة كامبريدج

تفاجأ باحث الجنيزة بالأمنية الغريبة: لماذا قد يرغب أحدهم بإزعاج الملائكة في العلا لتحقيق امنية تافهة كالفوز برهان؟ بعد الاطّلاع على المزيد من الأمنيات التي رافقت هذه، فهم الباحث أنّه اكتشف أحد أقدم كتب السّحر “سفر الخفايا” بالعبريّة “هرازيم”. المرشد لأعمال السّحر الّتي تستعين بقوى الملائكة.

"هذه أسماء ملائكة المعسكر الثّاني الّتي تخدم "تيجرا": اخستر، مرسوم، برخيف، خمشو....". من مجمومة تايلر-شختر في جامعة كامبريدج.
“هذه أسماء ملائكة المعسكر الثّاني الّتي تخدم “تيجرا”: اخستر، مرسوم، برخيف، خمشو….”. من مجمومة تايلر-شختر في جامعة كامبريدج.

يصف سفر الخفايا الّذي تم تحقيقه علميًا ونشره عام 1966-1967 سبع سمواتٍ فوق الأرض. في كلّ سماء تستقرّ معسكراتٌ للملائكة. يعرض الكتاب أسماء رؤساء المعسكرات ووزرائها وأسماء الملائكة كلّها، مئات الأسماء، كما يعرض وظائفها وأعمالها ومسؤوليّاتها وما يلزم من أعمال وهدايا وأدعية حتّى تقوم بتلبية الرّغبات والأمنيات. هذا العمل الذي يدّعي أنه يشرح للقارئ تركيبة العالم الخفيّة يعرض معرفة كونيّة ما إلا أنّ ما يؤكّد عليه المؤلّف في كلّ صفحة هو أن سفر الخفايا يهدف لتوفير معرفةً عمليّة بالأساس، يستطيع من خلالها طالب الأمنية أن يحقق رغباته. على سبيل المثال: ماذا يطلب من الملائكة في كلّ سماء؟ تتراوح الأمنيات بين جعل امرأة تحبّ رجلًا، الشفاء من الأمراض، طرد الأرواح، تفسير الأحلام والرؤى، تنبؤ المستقبل، وحتى منح البصر أو سلبه من شخصٍ ما.

ملائكة السّماء الأولى مثلًا تنقسم بين معسكرين. المعسكر الأول يخدم وزير الملائكة رفانيئيل. وتلك الملائكة مسؤولة عن الطّب: فإذا كانت امنيتك تخصّ مسألةً في الطّب: “قف في السّاعة الأولى أو الثّانية من اللّيل وخذ بيدك البخور واللّبان على الجمر واذكر اسم الملاك الحاكم على المعسكر الأوّل واسمه رفانيئيل واذكر أسماء الملائكة الاثنين وسبعين أمامه سبع مرّات وقل : أطلبُ أنا فلان بن فلان أن يشفي دواؤك فلانَ بن فلان. وطهّر نفسك ولحمك من كلّ نجسٍ وفساد وكلّ ما ستطلبه بالكتابة أو بالقول سيُلبّى”.

أمام ذات المعسكر وفي نفس السّماء الأولى، توجد ملائكة المعسكر الثّاني الّتي تأتمر بوزير الملائكة “تيجرا”. واسمه يدلّ على اختصاصه: “هذه الملائكة الممتلئة بالغضب والحرقة، مسؤولة عن كل ما يتعلق بالحرب والقتال وهي قادرة على العقاب والتعذيب حتى الموت، ولا رحمة بهم، بل يقذفون بمن يأتي إليهم.  وإن طلبت إرسالهم على أعدائك أو على من يدين لك، او لقلب سفينة أو هدم جدار أو لأذيّة عدوّك، إن أردت نفيه أو إسقاطه عن سريره أو دبّ العمى في عينيه أو أن تُربط أقدامه أو تأذيه أي اذيّة: خذ بيديك مياه من سبع نافورات في اليوم السابع من الشّهر في الساعة السّابعة، خذ جرّة لم تخرج إلى النور قط، لا تخلط المياه سويًا، ضعها تحت النجوم لسبع ليالي وفي الليلة السابعة خذ كأسًا لأعدائك واسكب الماء فيها وخذ الجرّة وارمها في جهات السماء الأربع وقل للجهات :  “ههجريت” التي تجلس في الجهة الشرقية، “سروخيت” التي تجلس في الجهة الشّماليّة، “اولبا” التي تجلس في الجهة الغربيّة، و”كردي” التي تجلس في الجهة الجنوبيّة، “خذي الآن ما رميت إليك هذا لفلان بن فلان لتكسري عظامه وتمزّقي أعضائه وتكسريه كما تكسرين جرّة”.

برغم افتقارنا لنسخة متكاملة من سفر الخفايا، إلا أن النظرة الكونية الخاصة به حول السموات السّبع وصلتنا بوضوحٍ كافٍ. فكلّما تقدّم المؤلّف بالشّرح حول كلّ سماء وسماء يفهم القارئ أن قدرته على إخضاع الملائكة بهذه الأعمال تقلّ كلّما ارتفع بالسماوات إلى الأعلى. في السّموات الأقرب الأرض، أي الأكثر انخفاضًأ، توجد الملائكة الأقلّ شأنًا الّتي يمكن للإنسان أن يطلب منها تحقيق أمنياته الخاصّة. فقط تلك الملائكة تقوم بتنفيذ طلبات البشر. أما الملائكة في السماوات العالية فليس للإنسان عليها تأثير أو قوّة لأن القرب من اللّه، الّذي يجلس في السّماء السّابعة، تطغى على قدرة السّحر.

وهذه فاتحة الوصف للسماء السّابعة، الأعلى من كلّ شيء: “والسّماء السّابعة كلّها نور تشعّ منه القاعات، وبها العرش الأعلى تحيطه أربعة كائنات قدسيّة، وبها كنوز الحياة وكنوز النّفوس، وليس للنور الكبير فهمٌ ولا استبيان.  وهو ينير الارض كلها. والملائكة تمسك بعواميدٍ من نور. والنور يشعّ ولا ينطفئ لأن عيناها كلمع البرق وتقف على أطرافٍ من النور. يمجّدون بتقوى الواحد الذي يجلس على العرش الأعلى، لانه وحده يجلس في مقدسه. يحكم بالعدل واليقين ويتكلم بالاحسان. وأمامه كتب ناريّة مفتوحة. وأمامه أنهار من نار متدفّقة. ومن صرخته تتضعضع العواميد. ومن صوته تهتزّ الأبواب. وكلماته تقف أمامه. لا أحد يرى صورته لانه عصيّ على كل عين ولا يراه أحدٌ ويحيى. رؤيته عصّية على كلّ شيء ويرى كلّ شيء”.

سفر الخفايا مليء بالمفاجآت. ليس تلك المتعلّقة بالعلوم الخفيّة الّتي يعرضها فحسب، بل أيضًا نصوصٍ وأدعية غريبة على كتابٍ من المفترض أنه كتاب يهوديّ في نهاية المطاف. فمثلًا في وصف السّماء الرّابعة تظهر صلاة فريدة من نوعها في الأدبيّات اليهوديّة: صلاة لهلينوس، إله الشمس اليونانيّ. تهليلة لإله الشّمس تحاكي تلك الّتي تظهر في المخطوطات اليونانيّة.

وصف السّماء الرّابعة من مجموعة تايلر شختر في جامعة كامبريدج.
وصف السّماء الرّابعة من مجموعة تايلر شختر في جامعة كامبريدج.

 

الحديث مع الملائكة ووصف السماوات السّبع وصلوة مقتبسة من البرديّات اليونانيّة التي تعود للقرون الأولى بعد الميلاد – كلّ هذه المؤشّرات تطرح السؤال التّالي، من هو مؤلّف “سفر الخفايا”؟ نجهل إلى اليوم اسم المؤلّف ويرجّح أن اسم المؤلّف لم يكن معلومًا أيضًا في الفترة الّتي كُتب فيها الكتاب.  يرجّح مرجليوت، الباحث الّذي اكتشف أوراق الكتاب، أن الكتاب تألف في أرض كنعان بعد القرن الثّالث الميلادي في مدينة عاش بها يهودٌ ويونانيون على ما يبدو، إلا انّ هذا يبقى مجرّد تخمين. المؤكّد هو أن سفر الخفايا يعطينا لمحة هامّة وساحرة، إن جاز التّعبير، على العالم اليهوديّ-اليونانيّ قبل ظهور الإسلام.

على موقع المكتبة الوطنية نسخة رقميّة لمخطوطة يمنيّة تعود للقرن الثّالث عشر ميلادي لسفر الخفايا- هرازيم مكتوبة بالعربيّة اليهوديّة. إن كنتم تقرأون الحروف العبريّة – حاولوا قراءتها!

المخطوطة على موقع المكتبة الوطنيّة

 

 

[1] الجنيزة هي المكان الّذي تحفظ فيه الأوراق الّتي لا يجوز رميها في اليهوديّة لأنها تحتوي على اسم الله أو لأنها كتبت في موضوعات دينيّة. تم اكتشاف جنيزة تاريخيّة في كنيس في القاهرة تضم مجموعة ضخمة من المخطوطات العبريّة القديمة ومنها بعض أوراق سفر الخفايا المكتوبة بالعبريّة.

النفير أم هشوفار؟

تميزت صحيفة النفير بكونها الصحيفة العربية الأولى التي ضمت ملحقًا باللغة العبرية باسم هشوباز، وذلك منذ العام 1913، فهل كان ذلك نتاج تعاون وتعايش أم لمصالح اقتصادية فقط

كانت صحيفة النفير من الصحف الفلسطينية المبكرة،  والتي أصدرها بداية إبراهيم زكا (حيفا، 1870 تقريبًا) في عام 1902 في الإسكندرية باسم النفير العثماني. وفي أعقاب العودة للعمل بالدستور العثماني في سنة 1908، انتقلت الصحيفة إلى يدي شقيقه إيليا زكا (حيفا، تقريبا 1875- 1926)، خريج الكلية الإكليريكية الروسية في الناصرة، والذي عاد إلى إصدارها من جديد تحت اسم النفير في مدينة القدس ثم انتقل بها عام 1913 إلى حيفا. وكما حدث مع الصحف والمجلات الأخرى، لم تصدر الصحيفة خلال الحرب العالمية الأولى، ولكنها عادت للصدور من جديد منذ 23 أيلول 1919. وصدرت الصحيفة حينها لفترة قصيرة تحت اسم الصاعقة.

إن المميز في جريدة النفير، والذي كانت سباقة فيه، هو نشرها لملحق باللغة العبرية باسم هشوفار بدءاً من العام 1913 والذي استمر حتى حجب الصحف على يد العثمانيين مطلع الحرب العالمية الأولى، وسيعود مجدداً للظهور في عام 1923. على وقع هذا الملحق وعلى نشر اعلانات لشركات صهيونية اتهمت جريدة النفير بالتعاون مع مؤسّسات وجهات صهيونية بهدف الحصول على دعم مادي، إلى جانب علاقاته الوطيدة مع سلطات الانتداب.2

النفير، 27 كانون الثاني 1914

في افتتاحية عدد كانون الثاني 1914 يشرح المحرر الموضوعات التي سيتناولها ملحق “هشوفار” في طياته، وهي المقالة الرئيسية وستكون عادة اجتماعية، أدبية والقضايا اليومية الملحة. القضية الصهيونية. أخبار المستوطنات الصهيونية. القضايا العثمانية والتي فسرها المحرر على أنها القضايا التي تخص تركيا عامة، سوريا وفلسطين خاصة، قشطا: وهي الاعلانات الرسمية. ملف للأخبار المحلية، وتلغرافات.

في ذات العدد نشر الملحق مقالاً عن الصهيونية والذي كتبه متري حلاج وسينشر الملحق في أعداد لاحقة مقالات أخرى حول الصهيونية لكتاب آخرين كشبلي نوفل وغيره، اضافة لنشر العديد من الاعلانات لشركات أو لتنظيمات صهيونية، كنشرها اعلانات “هبوعيل هتسعير” واعلانات لجريدة “حروت”.

النفير، 14 كانون الثاني 1914

في أدراج المكتبة الوطنية الاسرائيلية هناك وثيقة مهمة، رسالة من إيليا زكّا إلى المفكر الصهيوني إحاد هعام، والتي تلقي الضوء على الرؤية السياسية للنفير، حيث يشرح فيها زكّا أسباب اصداره لجريدة باللغة العبرية، وهي وجود طرفين متناقضين في البلاد، لكل طرف رؤيته، طرف يسعى لبناء وطن قومي، وآخر يرى بذلك خطراً مهدداً له، هنا كانت النفير والتي كما يقول صاحب الرسالة قرر اصدارها لكي تكون منصة حرة مخصصة لتقريب وجهات النظر.

في الرسالة يرجو زكّا من إحاد هعام أن يتلقى الدعم من العبرانيين – كما يسميهم في الرسالة – سواء على المستوى الأخلاقي أو على المستوى الأدبي، راجياً من إحاد هعام أن يزود الجريدة ببعض انتاجاته الفكرية.

رسالة من إيليا زكّا إلى المفكر الصهيوني إحاد هعام، أرشيف المكتبة الوطنية الإسرائيلية
رسالة من إيليا زكّا إلى المفكر الصهيوني إحاد هعام، أرشيف المكتبة الوطنية الإسرائيلية

ظلت الصحيفة تنشر اعلانات الشركات الصهيونية، وبدءًا من منتصف العشرينيات ظهرت هذه الإعلانات والدعايات أيضاً في الصفحة الأولى كم جريدة النفير باللغة العربية. يرى البعض أن زكّا كان متواطئاً مع الحركة الصهيونية والانتداب، بينما يرى آخرون أن الصحيفة قد اعتمدت سياسة نقدية ضد سلطات الانتداب والنشاط الصهيوني في البلاد من جهة وضد القيادات الفلسطينية القريبة من معسكر الحسيني من جهة أخرى. ويبدو فعلاً أن الاعتبارات التجارية قد هيمنت على سياسة الصحيفة التي تحوّلت وجهتها عند تحوّل الظروف والاعتبارات التجارية.

ما نعرف مؤكداً أن الملحق العبري لم يصمد طويلاً، كما أن الملحق العربيّ أيضاً لم يصمد حيث تهاوى الأول في سنوات العشرينيات في حين أغلقت النفير أبوابها تمامها عام 1945، ولكن بغض النظر عن السياق والحيثيات إلا أن فعل الجريدة واصدارها باللغتين العبرية والعربية تظل قضية مثيرة للاهتمام تستحق الدراسة والبحث وتظل علامة فارقة في تطور الصحافة العربية المبكرة.

لمعاينة صحيفة النفير في موقع جرايد اضغطوا هنا 

المصادر:

 1  قسطندي شوملي، الصحافة العربية في فلسطين: تاريخها وروادها وتشريعاتها، عمان: مؤسّسة الوراق للنشر والتوزيع، 2015، ص 16.

2 يُنظر على سبيل المثال ما جاء عند يعقوب يهوشع بأن العديدين اتهموا الصحيفة بوصفها “مستأجرة” وعميلة أو مجنّدة (يعقوب يهوشع، تاريخ الصحافة العربية في فلسطين في العهد العثماني (1908-1918)، القدس: مطبعة المعارف، ص 50-54).

3 يُنظر كبها، تحت عين الرقيب، ص 14-15، 26، 35-36، 223؛ يعقوب يهوشع، تاريخ الصحافة العربية في فلسطين في العهد العثماني (1918-1908)، القدس: مطبعة المعارف، ص 50-54؛ محمد سليمان، تاريخ الصحافة الفلسطينية 1876-1976، الجزء الأول (1918-1876)، الاتحاد العام للكتّاب والصحافيين الفلسطينيّين، ص 71; قسطندي شوملي، الصحافة العربية في فلسطين، ص 93- 95.