في الأول من نيسان من العام 1935 زار الأديب والمفكّر اللبناني ميخائيل نعيمة مدينة النّاصرة، وهناك ألقى محاضرة قيّمة عن العوامل النّفسية الإنسانيّة، وقد قامت بتغطيتها والإشادة بها صحف فلسطينيّة عديدة. فحول ماذا كانت هذه المحاضرة؟ وماذا نعرف عن زيارة ميخائيل نعيمة ورؤيته للبلاد في عهد الانتداب البريطانيّ؟
من ميخائيل نعيمة؟
ولد ميخائيل نعيمة عام 1889 في قرية بسكنتا في سفح جبل صينين في لبنان ودرس في مدرستها قبل أن يلتحق للدّراسة في دار المعلّمين في النّاصرة عام 1902؛ حيث أمضى ستّ سنوات غاب بعدها عن المدينة إلى روسيا، ثمّ إلى الولايات المتّحدة ثمّ إلى باريس ليدرس الآداب والفكر، ثمّ عاود زيارتها عام 1935 بدعوة من النّادي الأدبيّ وبلديّة النّاصرة ليلقي فيها محاضرة. عُرفت أعمال ميخائيل نعيمة من رواية أو كتاب إلى شعر أو مسرحيّة أو قصّة بعمقها الفلسفيّ والإنسانيّ وبقدرته على إضفاء بعدٍ رمزيّ على أعماله منحها طابعًا عالميًّا. ومن أعماله الشّهيرة في المسرح “الآباء والبنون” و “أيّوب، ومن الشّعر ديوانه “همس الجفون” ومن الرّوايات “لقاء” و”مذكّرات الأرقش”، بالإضافة إلى مجموعات قصّصيّة عديدة منها: “كان ياما كان” و”هوامش”. حصل نعيمة على جائزة رئيس جمهوريّة لبنان عن الإبداع الأدبي عام 1961، وتُرجمت العديد من أعماله إلى لغات اجنبيّة عدّة.
زيارته للبلاد ومحاضرته عن علم النّفس في النّاصرة
لم تكن زيارة نعيمة في نيسان 1935 هي الأولى للبلاد، فكان قد تلقّى تعليمه كمدرّس في دار المعلمين في النّاصرة والمعروفة بالـ “مسكوبيّة” في سنوات ريع شبابه وأمضى بها ستّ سنوات. ولعلّ عودته إليها ضيفًا يحتفى به من قبل أوساطها الثّقافيّة الرّفيعة حينها قد عنت له الكثير.
لا نعرف الكثير عن تفاصيل زيارته والمدن الّتي قام بالتّجول بها خلال هذه الزّيارة، إلا أنّ بعض الأخبار الواردة في كلّ من جريدة فلسطين، الدّفاع والأوقات العربيّة تكمل التّفاصيل بين بعضها البعض من خلال الأخبار الّتي قامت بتغطيتها عن هذه الزّيارة في المنتصف الأول من شهر نيسان 1935. وإن زخم الأخبار الّتي تناولت الزّيارة واهتمام الصّحافيين الكتّاب بتفاصيلها والعبارات العاطفيّة الّتي قاموا باستخدامها لتقديم الضيّف وأهميّة زيارته للقرّاء تشهد على محبّة وتقدير واسع حظي به نعيمة في فلسطين الانتدابيّة. فنرى جريدة فلسطين تتابع زيارته يومًا بعد يوم وتنشر لقرّائها، لعلّ أحدهم يرغب بلقاء الأديب الشّهير ويتابع تفاصيل زيارته بحماسة. فنراه اليوم في بيت لحم، واليوم التّالي في طبريّا، ومرّة في حيفا وأخيرًا في النّاصرة.
أمّا محاضرته في النّادي الأدبيّ في النّاصرة، فقد برزت في غالبيّة المقالات والأخبار الّتي تناولت زيارة ميخائيل نعيمة للبلاد. اقتبست الصّحف مقولة من محاضرته لتكون العنوان، وقامت بوصف الحدث لحظة بلحظة كي يتسنّى لمن يقرأ المقالة أن يشاهد المحاضرة ولا يفوّت أي من تفاصيلها كأنه حضرها بنفسه. فتزوّدنا هذه المقالات بأسماء النّاشطين في النّادي الأدبيّ في النّاصرة في تلك الفترة، وبأعداد الحضور، وبتكريم نعيمة من قبل الأديب الفلسطينيّ خليل السّكاكيني، وبلهفة الحضور لسماع المحاضرة حتّى قاموا بمقاطعة نعيمة عدّة مرّات أثناء كلامه بالتّصفيق الحارّ!
“حرّروا أنفسكم لتستقلو عن الأجانب” كان عنوان القصّة الصّحافيّة الّتي نشرتها جريدة فلسطين في السّابع من نيسان عن محاضرة الأديب التّي وُصفت بالـ “ساحرة”! والّتي انتظرها الكثير من القرّاء الّذين لم يتمكّنوا من حضور المحفل الأدبيّ بأنفسهم. وكما ورد في مقالة سابقة في جريدة فلسطين فقد كان عنوان المحاضرة “تأثير العوامل النّفسيّة على الإنسان”، إلّا أن مضمونها على ما يبدو لم يكن بعيدًا عن واقع الحال في فلسطين الانتدابيّة، فنرى من خلال بعض الاقتباسات الّتي وردت في هذه المقالات أن نعيمة أسهب في الحديث عن العوامل النّفسية وعلاقتها بالحريّة والاستعباد.
إليكم بعض ممّا ورد عن كلام نعيمة في هذه المحاضرة في مقالة السّابع من نيسان في جريدة فلسطين، والتي نختتم بها هذه المقالة.
“لمَ أنا مستعبد؟ لمَ لست حرًا؟ لم أنا حزين؟ لمَ أنا فرح؟ لمَ أنا قلق؟ لمَ أنا مطمئن؟ أسئلة نفسيّة دقيقة نجد أجوبتها في قراراتنا ولا حلّ لها في خارجنا. فأنت ترى العالم بعينيك، وتسمعه بأذنيك، وكيف تكون حالة هاتين الأداتين يظهر لك العالم. إذًا، جمّل وجهك، تر الحياة جميلة، اضحك لها، تراها ضاحكة. وهذه الشّرور المنتشرة والمفاسد العائثة، إن هي إلّا صورة لما فيك من شرور ومفاسد. وهذا الرّبيع الزّاهي والزّهور البديعة، لن تستطيع تحويل قلبك عن الكآبة إن كان في نفسك مناحة. فأنت إذا سعيد إن أردت وشقيّ إن أردت.
لم أنا مستعبد؟
ما كان يمكن ذلك لو لم تكن عبدًا لنفسك ولشهوة فيها. فتحررك من ظالم يقتضي أولًا تغلّبك على شهوتك وما دمت لها عبدًا فلن يبزغ لك فجر الحريّة الحقّة .
الحرّية طبيعة فينا. والعبوديّة منّا. فلو أردنا أن نكون أحرارًا لما منعنا أي إنسان.”
للمزيد حول مدينة الناصرة إليكم بوابة المحتوى الرقمي حول مدينة الناصرة والتي يمكن من خلالها الوصول إلى مواد رقمية متنوعة حول المدينة وتاريخها وسكانها.