بِمُناسَبَةِ الاحتفاءِ بِيومِ اللّغة العربية، يتعيّن علينا التّأَمّل في الشّخصياتِ البارِزَة التّي ساهمت بشكلٍ كبير في إثراء وتطوير هذه اللغة العريقة. تبرز قصة الأديبة نازك الملائكة كشاهد على عُمقِ اللّغة العربية من خلال استحداثها نمطاً مميزاً من الشعر احتضنته اللغة مما يدلُّ على تنوعها وتقبلها للتجديد.
بدأت قِصَّة نازك صادق الملائكة في مَدينة بغداد، حيث وُلِدت في وِسطِ عائلةٍ غنيةٍ بالشّعراء، في بيئةٍ تَنبُضُ بالحيوية الثقافية. مُحاطةً بأجواءٍ أَدبية وبتوجيه من والدتها سلمى الملائكة، الشاعرة المحترمة، ووالدها الكاتب، شَحذت نازك مهاراتها في وقت مبكر. فلم تكن بداية كتابة أولى أشعارها في العاشرة من عمرها أمرًا مفاجئًا. كما شَجّعَ هذا الجو المثقف والمليء بالإلهام نازك للانطلاق نحو عالم الفنون الجميلة حيث درست الموسيقى.
إنَّ شَغَف نازك بالعود، والذي عَزَّزَهُ مُدرّس موسيقى مُوَّقَر، دَفعها في كثير من الأحيان إلى قضاء ساعات في ضَربِ أوتاره بمفردها في حديقة منزلها.

كانت بداية خروجها عن المألوف عند نشرها ديوانها الأول بعنوان “عشاق الليل” الذي كان انعكاسًا لتأملاتها وارتباطها الحميم بالطبيعة، وواجه في البداية آراءً مُتباينة. وَتَرَدَّدَ النُّقاد حول انحِرافِها عن الإيقاع الراسخ، وعلقوا على ما اعتبروه افتقارًا إلى الرنين العاطفي المعاصر.
لكنَّ شَغَفَها بالأَدَب ولإثبات نفسِها جَعَلَها تَسعى لِأُفُقٍ أَبعد، فسافرت إلى الولايات المتحدة وحَصَلت على درجة الماجستير في الأدب المقارن. هذه الخطوة العلّمية كانت البداية في تطوير أسلوبِها الأَدَبي الفريد واكتساب فهمٍ عَميق للأدب العالمي.
وفي نَفس العام، تَجَلَّت بَراعَتها الإبداعية في مقالٍ بعنوان “الكوليرا”، مستوحى من التقارير الإذاعية عن تصاعد الوفيات بسبب المرض في مصر. وبحماسة، أسرعت إلى أختها إحسان، لاهثة الأنفاس من الترقب. فأَعلَنَت وهي حَريصة على مشاركة انتصارها: “لقد نسجت نوعًا مختلفًا من الشعر”. لكن لم يشاركها الجميع حماسها.
كانت أختها من أشد المؤيدين لها، لكن والدتها أظهرت القليل من الحماس، وانتقدت غياب الموسيقى الشعرية. وبالمثل، سَخِرَ والدُها من جُهودها، وتوقع لها الفشل. ومع ذلك، وبإصرار لا يتزعزع، أعلنت نازك بثقة: “قُل ما شئت، فأنا على يقين أن شعري سيغير خريطة الشعر العربي”.
وكان لنازك ما شاءَت؛ إذ على الرغم من الرفض الأوليّ من العالم الأدبي المحاط بها والمرتبط بشدة بالأساليب التقليدية للكتابة، إلا أنَّ شِعرها الحُر الرّائد أَصبح في النهاية يَحتفل به ويَحظى بالقُبول على نطاقٍ واسع. اجتازت نازك عالمًا أدبيًا متجذرًا بعمق في التقاليد، حيثُ كانَ التجّريب والتغيير ضيفاً غيرَ مُرَحَبٍ بِه.
لم يَكن كَسرُ هذِهِ السَّلاسِل بالأمر السهل. فَقد قُوبلت ولادة الشعر الحر بدهشة كبيرة، وخيبات أمل متوقعة، وعالم متردد في قبول التغييرات. اشتعلت المناقشات حول ما إذا كانت “الكوليرا” رائدة الشعر الحر. وتهامس البعض بوجود منافسة بين نازك وشاعرٍ آخر هو بدر شاكر السياب الذي أصدر قصيدة بعنوان «هل كان حباً؟» قبل “الكوليرا”. ولا يزال الجدل حول من هو المبتكر الحقيقي لهذا الأسلوب الشعري الجديد مستمراً حتى يومنا هذا.
وعلى الرغم من كفاحها وإحجام العالم عن الاعتراف بإبداعاتها، ظلت نازك صامدة. كانَ سَعيها لغزوِ عالمٍ يَحكُمُهُ الرّجال في الغالب مدفوعًا بالتحديات التي تواجهها النساء في المجتمع العربي – التوق إلى التعبير عن المشاعر التي تخنقها الأعراف المجتمعية.

ومع ذلك، لَعِبَ القَدَر لُعبَة غريبة، حيث قادت الملائكة، بعد سنوات، ثورة ضد الشعر الحر، ودعت إلى العودة إلى الأشكال الكلاسيكية. تسبب هذا التحول في رأيها في حدوث انقسامات بينَ أقرانِها والأوساط الأدبية، مما جعلها معزولة إلى حد ما.
رغم هذا المد والجزر في حَياتِها وَمَواقفها الأَدبية، كانَت رِحلةُ نازك تَحمِل قُوَّةً فريدة من نوعها. أصبحت شهرتها في عصر النهضة الشعرية منارة للنساء – حكاية مفكر مستقل، وعالمة موقرة، وكاتبة رسمت روحها بالبلاغة. كان تصميمها على التفوق في مجال يهيمن عليه الرجال تقليديًا، وخاصة في المجال الأدبي، أمرًا بالغ الأهمية في عصرها.