نازك الملائِكة: رَمز الشّعر الحر والتغيير

لم تكن قِصة نازِك الملائِكة تقتصِر على الأَبيات والقوافي فحسب؛ لقد كانت قصة مرونة، وشهادة على الروح الدائمة لامرأة مصممة على نحت إرثها.

نازك الملائكة

صورة شائعة لنازك الملائكة

بِمُناسَبَةِ الاحتفاءِ بِيومِ اللّغة العربية، يتعيّن علينا التّأَمّل في الشّخصياتِ البارِزَة التّي ساهمت بشكلٍ كبير في إثراء وتطوير هذه اللغة العريقة. تبرز قصة الأديبة نازك الملائكة كشاهد على عُمقِ اللّغة العربية من خلال استحداثها نمطاً مميزاً من الشعر احتضنته اللغة مما يدلُّ على تنوعها وتقبلها للتجديد.
بدأت قِصَّة نازك صادق الملائكة في مَدينة بغداد، حيث وُلِدت في وِسطِ عائلةٍ غنيةٍ بالشّعراء، في بيئةٍ تَنبُضُ بالحيوية الثقافية. مُحاطةً بأجواءٍ أَدبية وبتوجيه من والدتها سلمى الملائكة، الشاعرة المحترمة، ووالدها الكاتب، شَحذت نازك مهاراتها في وقت مبكر. فلم تكن بداية كتابة أولى أشعارها في العاشرة من عمرها أمرًا مفاجئًا. كما شَجّعَ هذا الجو المثقف والمليء بالإلهام نازك للانطلاق نحو عالم الفنون الجميلة حيث درست الموسيقى.
إنَّ شَغَف نازك بالعود، والذي عَزَّزَهُ مُدرّس موسيقى مُوَّقَر، دَفعها في كثير من الأحيان إلى قضاء ساعات في ضَربِ أوتاره بمفردها في حديقة منزلها.

صحيفة الإتحاد،14 تموز 2002
صحيفة الإتحاد: 14 تموز 2002

كانت بداية خروجها عن المألوف عند نشرها ديوانها الأول بعنوان “عشاق الليل” الذي كان انعكاسًا لتأملاتها وارتباطها الحميم بالطبيعة، وواجه في البداية آراءً مُتباينة. وَتَرَدَّدَ النُّقاد حول انحِرافِها عن الإيقاع الراسخ، وعلقوا على ما اعتبروه افتقارًا إلى الرنين العاطفي المعاصر.
لكنَّ شَغَفَها بالأَدَب ولإثبات نفسِها جَعَلَها تَسعى لِأُفُقٍ أَبعد، فسافرت إلى الولايات المتحدة وحَصَلت على درجة الماجستير في الأدب المقارن. هذه الخطوة العلّمية كانت البداية في تطوير أسلوبِها الأَدَبي الفريد واكتساب فهمٍ عَميق للأدب العالمي.

وفي نَفس العام، تَجَلَّت بَراعَتها الإبداعية في مقالٍ بعنوان “الكوليرا”، مستوحى من التقارير الإذاعية عن تصاعد الوفيات بسبب المرض في مصر. وبحماسة، أسرعت إلى أختها إحسان، لاهثة الأنفاس من الترقب. فأَعلَنَت وهي حَريصة على مشاركة انتصارها: “لقد نسجت نوعًا مختلفًا من الشعر”. لكن لم يشاركها الجميع حماسها.
كانت أختها من أشد المؤيدين لها، لكن والدتها أظهرت القليل من الحماس، وانتقدت غياب الموسيقى الشعرية. وبالمثل، سَخِرَ والدُها من جُهودها، وتوقع لها الفشل. ومع ذلك، وبإصرار لا يتزعزع، أعلنت نازك بثقة: “قُل ما شئت، فأنا على يقين أن شعري سيغير خريطة الشعر العربي”.

وكان لنازك ما شاءَت؛ إذ على الرغم من الرفض الأوليّ من العالم الأدبي المحاط بها والمرتبط بشدة بالأساليب التقليدية للكتابة، إلا أنَّ شِعرها الحُر الرّائد أَصبح في النهاية يَحتفل به ويَحظى بالقُبول على نطاقٍ واسع. اجتازت نازك عالمًا أدبيًا متجذرًا بعمق في التقاليد، حيثُ كانَ التجّريب والتغيير ضيفاً غيرَ مُرَحَبٍ بِه.
لم يَكن كَسرُ هذِهِ السَّلاسِل بالأمر السهل. فَقد قُوبلت ولادة الشعر الحر بدهشة كبيرة، وخيبات أمل متوقعة، وعالم متردد في قبول التغييرات. اشتعلت المناقشات حول ما إذا كانت “الكوليرا” رائدة الشعر الحر. وتهامس البعض بوجود منافسة بين نازك وشاعرٍ آخر هو بدر شاكر السياب الذي أصدر قصيدة بعنوان «هل كان حباً؟» قبل “الكوليرا”. ولا يزال الجدل حول من هو المبتكر الحقيقي لهذا الأسلوب الشعري الجديد مستمراً حتى يومنا هذا.
وعلى الرغم من كفاحها وإحجام العالم عن الاعتراف بإبداعاتها، ظلت نازك صامدة. كانَ سَعيها لغزوِ عالمٍ يَحكُمُهُ الرّجال في الغالب مدفوعًا بالتحديات التي تواجهها النساء في المجتمع العربي – التوق إلى التعبير عن المشاعر التي تخنقها الأعراف المجتمعية.

صحيفة الإتحاد،30 نيسان 1992
صحيفة الإتحاد: 30 نيسان 1992

 

ومع ذلك، لَعِبَ القَدَر لُعبَة غريبة، حيث قادت الملائكة، بعد سنوات، ثورة ضد الشعر الحر، ودعت إلى العودة إلى الأشكال الكلاسيكية. تسبب هذا التحول في رأيها في حدوث انقسامات بينَ أقرانِها والأوساط الأدبية، مما جعلها معزولة إلى حد ما.
رغم هذا المد والجزر في حَياتِها وَمَواقفها الأَدبية، كانَت رِحلةُ نازك تَحمِل قُوَّةً فريدة من نوعها. أصبحت شهرتها في عصر النهضة الشعرية منارة للنساء – حكاية مفكر مستقل، وعالمة موقرة، وكاتبة رسمت روحها بالبلاغة. كان تصميمها على التفوق في مجال يهيمن عليه الرجال تقليديًا، وخاصة في المجال الأدبي، أمرًا بالغ الأهمية في عصرها.

محمود درويش: اللّجوء والفنّ

"الأنا عند محمود درويش منفصمة دائمًا ومضطربة دائمًا. هو غير مرتاح "هنا" وغير مرتاح "هناك". في كلّ منفًى وطن وفي كلّ وطن منفًى. اللّجوء والفنّ في شعر محمود درويش.

محمود درويش. تصوير: هاليت يشورون

محمود درويش. تصوير: هاليت يشورون

نصّ | النّهر لا يختفي في البحر

بقلم: د.رائف زريق

لا أظنّ أنّي سأبالغ إنْ قلت إنّ محمود درويش، بشعره ونثره وحواراته، أثّر عليّ أكثر من أيّ أديب أو مفكّر أو فيلسوف آخر. لا يمكنني تأمُّل عالم المعاني والاستعارات الذي خلقه هذا الشّاعر، والأفكار والجماليّات التي أبدعها ومحيط اللّغة الذي أسبح فيه وأنهل منه استعاراتي، دون أن أشعر بعبق مياه نهره الذي يصبّ في البحر الكبير. أكاد أجزم أنّ نهر درويش من الأنهر القليلة التي تصبّ في البحر لكنّها لا تختفي فيه. وربّما عليّ أنْ أقول إنّ البحر لن يظلّ هو ذاته بعد أنْ تصبَّ فيه مياه نهر درويش. اللّغة لم تعد نفس اللّغة. لقد ساعدنا درويش في العثور على المفردات الصّحيحة وفي بناء الصّياغات المُركّبة التي يمكنها أنْ تصف لنا، نحن كفلسطيّنيين، وللعالم الخسارة الكبرى، الحزن والغضب، النّكبة واللّجوء، والتي تُعبّر أيضًا عن الأمل والحبّ والعلاقة بين الخاصّ والعامّ. لقد صنع كلّ ذلك وظلّ وفيًّا لمشروعه الفنّي، ولقيَمهِ الجماليّة التي لم يتنازل عنها يومًا. لقد آمنَ درويش، منذ مرحلة الشّباب المُبكّر، بأنّه وُلد ليكون شاعرًا وبأنّ هذا هو قدره ومشروع حياته، وأدرك بأنّ هذا القدر ليس غايةً جامدة قابلة للتّحقيق، بل طريقًا لا نهاية له ولا سكينة فيه. لهذا، كتب أكثر من مرّة “سأصير يومًا ما أُريدُ سأصيرُ يومًا شاعرًا”. وقد صار. ربّما صار الشاعر، بأل التّعريف، كما وصف أبو العلاء المعرّي أعظم شعراء العربيّة، المتنبّي.

كانت قضيّة اللجوء وستظلّ مفتاح فهم عالم درويش. الطّفل ابن السّابعة يُقتلَع من بيته في قرية البروة في الجليل الغربيّ ويقطع الحدود تحت القصف والنّار إلى لبنان. كلمة “لاجئ” تحوم حول هذا الطّفل فيصطدم بها أينما حلّ. درويش الصّغير يُصرّ على فهم معناها لكنّ أباه لا يستجيب لسؤاله ويخبره بأنّه لن يفهم معنى هذه الكلمة التي غزت حياة الطّفل كالصّاعقة وقضت على باقي المفردات وأخضعتها لجبروتها. لكنّ الجدّ يفتح باب الكلام لحفيده ويشرح له ما أخفاه الأب: “أن لا تكون طفلاً منذ الآن”. لم يتحدّث درويش عن معنى هذه العبارة وتأثيرها على حياته، لكنّي أعتقد أنّها كانت أوّل بيت شعر سمعه، وأوّل استعارة تمكّن عبرها من استيعاب الواقع: اللّجوء يعني مصادرة الطّفولة. في تلك اللّحظة يخلع الطّفل ابن السابعة رداء الطّفولة ويفهم بأنّ مخيّمات اللّجوء هي الواقع الجديد وبأنّ البيت في البروة، والوطن كلّه، أصبحا مجازًا. هو يفهم أيضًا أنّ هناك طفلاً آخر ينام على سريره ويأكل من ثمار تينة البيت ويترعرع مكانه، ويستكمل مسار حياته الذي انقطع. منذ تلك اللّحظة تُصبح كلمة “العودة” كلمة سحريّة، كما وصفها في كتاب حيرة العائد: “العودة إلى المكان، العودة إلى الزّمان، العودة من المؤقت إلى الدائم، العودة من الماضي إلى الحاضر والغد معًا… العودة من علب الصّفيح إلى بيت من حجر”

عاد الطّفل ولم يعد. حالة اللّجوء القصيرة في لبنان تنتهي بعد سنة عندما يعود إلى فلسطين لكن ليس إلى البيت ولا إلى قريته إنّما إلى قرية الجدَيْدة القريبة. البروة ضاعت وعلى أنقاضها أقيمت مستوطنه يهوديّة. لكنّ فلسطين كلّها ضاعت، والمكان الذي عاد إليه لم يكن نفس المكان الذي خرج منه. في هذه المرحلة يتعلّم درويش الدّرس الثاني: العودة لم تكن، ولن تكون، عودةً حقيقيةً، والمكان ليس مجرّد مكان: المكان هو ذلك المجموع المُركّب للبشر والحجر والهواء وتفاصيل الحياة. ويظلّ الطّفل العائد منشغلًا بالتّفكير في الأطفال الذين لم يرجعوا وباللّاجئين الذين لم “يعودوا”. لكنّ الطّفل الذي يفقد عالمه يجد الملاذ في عالم الكلمة، فيستغيث باللّغة التي تبْسِط عليه جناحَيها ومن خلالها يبني عالمًا بديلاً. في اللّغة يجد المأوى والحميميّة اللّذَيْن غابا عن العالم الحقيقيّ ويكتشف قوّة الكلمة. اللّغة ليست عن العالم بل هي العالم، هي لا تصفه بل تخلقه.

الطّفل الذي عاد لم يعد حقًّا. قطعة من قلبه ظلّت هناك، بعيداً وراء الحدود. في المقابل تُنهِك الاعتقالات والمداهمات المتكرّرة من الشرطة الشّاعر الشابّ الذي يُصرّ على تنفّس الحرّيّة، فيكتشف أنّ ما بدا له بيتًا هو أشبهُ بالمنفى. في الوطن أيضًا يشعر بالاغتراب. الفتى الذي صار رجلًا لا يزال يُصغي لهواجس قلب الطّفل الذي فقد طفولته في سنّ السّابعة. بعضٌ من هذا الطّفل ظلّ هناك، وهو يأمل أنْ يتواصل ذلك البعض مع بعضه لكي يعود إلى ذاته.

الرّجل الشّابّ، الشّاعر الذي ذاع صيته في جميع أنحاء العالم العربيّ، يقطع الحدود للمرّة الثّالثة، لكن في الاتّجاه المعاكس. يخرج من فلسطين. يزور موسكو لمدّة قصيرة لكنّه يقرّر عدم الرجوع إلى حيفا بل السّفر إلى القاهرة التي سيسكن فيها لفترة قصيرة قبل أن ينتقل إلى بيروت ويستقرّ فيها. هو لا يزال يأمل في العثور على فلسطين الأخرى: فلسطين الفدائيّين وليس اللاّجئين، الثوّار الفلسطينيّين الذين سيُعيدون له الوطن. وكأنّ فلسطين تعيش خارج ذاتها، خارج الجغرافيا، وكأنّها فكرة أو تجربة وليست مجرّد مكان محسوس. شهرة الشّاعر الشّابّ تصل السّماء ويصبح من الأسماء اللّامعة في الثّقافة العربيّة، لكنّ ذلك لا يعوّض عن الحقيقة البسيطة: اللّجوء لم يَنْتَهِ. فمع أنّه يشعر أنّه في البيت مع إخوته الفلسطينيّين الذين يقاتلون من أجل فلسطين، إلّا أنّ ذلك لا ينفي حالة المنفى واللّجوء. درويش بعيد مرّة أخرى عن البيت والعائلة. سنة 1982، بعد انتهاء حرب لبنان، وعندما سأله صحفيّون عن برامجه المستقبليّة بعد الخروج من بيروت، كانت إجابته قصيرة وحادّة كالسّيف: أبحث عن جدار أعلّق عليه ملابسي. وها نحن نكتشف من جديد أنّ قطعةً من قلب الشّاعر الشّابّ لا تزال في مكانٍ ما في الجليل وفي سفوح الكرمل، وأنّه لا يزال يَتُوق لجدار في بيت يُعلّق عليه ثيابه.

المرّة الرّابعة التي قطع فيها درويش الحدود كانت بعد اتفاقيّات أوسلو، التي كان معارضًا لها ورأى فيها تفريطًا كبيرًا بأهمّ المسلمّات في الرّواية / السّرديّة الفلسطينيّة، وعلى هذه الخلفيّة قدّم استقالته من اللّجنة المركزيّة لمنظّمة التّحرير الفلسطينيّة. على الرّغم من ذلك “عاد”. وهذه المرّة “عاد” ليسكن في رام الله وليس داخل إسرائيل. في كلّ مرّة رغب فيها بزيارة بيته وعائلته كان عليه الحصول على مصادقة السّلطات الإسرائيليّة. مجرّد فكرة اضطرارِهِ للحصول على تصاريح أمنيّة من أجل زيارة أمّه والبيت الذي ترعرع فيه، كانت تُثير فيه مشاعر الغضب والاستياء. في الغالب لم يكن يطلب تصريحًا بل كان “يتسلّل” لبيته. لكنّ الطّريق من رام الله إلى حيفا بدت له كعودة داخل عودة أو عودة بعد عودة، واكتشف أنّ في فلسطين ذاتها مستوياتٍ مختلفةً للعودة. العودة إلى رام الله ليست عودة حقيقيّة، فهي ليست عودة للكرمل أو للقرية التي نشأ فيها، الجدَيْدة، والتي هي في إسرائيل، فيبدو أنّنا نحتاج هنا إلى عودة إضافيّة: العودة إلى البروة، ذلك المكان الذي لم يَعُد قائماً. هذه “العودات” تُنهِك درويش الذي صار يُدرك أنّه مَهْما حاول العودة لن يصل، فلا أحد يعود حقًّا.

هذه الانفصامات المتواصلة تقود درويش إلى فهم الإشكاليّة الكامنة في كلّ هويّة وإلى إدراك معنى الـ “أنا”. “أنا” درويش منفصمة دائمًا ومضطربة دائمًا. هو غير مرتاح “هنا” وغير مرتاح “هناك”. في كلّ منفًى وطن وفي كلّ وطن منفًى. في كلّ “أنا” يوجد “آخر” وفي كلّ “آخر” جزء يُغرَس في الـ “أنا”. لم يحتج درويش لنظريّة ما بعد الاستعمار وما بعد الحداثة ليُدرك هذه الحقيقة. لقد حاول بكلّ بساطة تأمُّل ذاته العميقة ومجرى حياته وسعى إلى تجسيد ما رآه بصدق وأمانة. لقد كان “هنا” وكان “هناك”، وهو نتاج الـ “هنا” والـ “هناك” في نفس الوقت. الشّعب الذي صادر طفولته وحوّلهُ إلى لاجئ هو نفس الشّعب الذي جاءت منه حبيبته الأولى. هو يُدرك أنّه مجموع أجزاءٍ لا تكتمل على الرّغم من رغبتها الشّديدة بالاكتمال. يبدو أحيانًا أنّ ماهيّة درويش تكمن في الاضطراب والشّهوة في سعْيِهِ لتجميع أجزاء الأنا حتّى تصل للاكتمال، مع أنّه يُدرك استحالةَ تحقيق هذا التّكامل.

يتعلّق درويش بالشّعر مع أنّه لا يُعلّق عليه آمالاً كبيرة كوسيلة لتغيير العالم. الشّعر لا يَستبدِل أيّ نضال. في إحدى قصائده التي هي رسالة مفتوحة لصديق عمره الشّاعر سميح القاسم، يَسأل درويش: “أما زلتَ تؤمن أنّ القصائد أقوى من الطّائرات؟ لنا الذّكرياتُ، وللغزوِ ترجمةُ الذّكرياتِ إلى أسلحة ومستوطنات”. دور الشعر بالنسبة لدرويش متواضع جدا فوصفه: “إن الشعر فرح غامض بالتغلب على الصعوبة والخسارة”.

لكن لكي يكون للشّعر أثر ولكي يستطيع دعم الحياة، عليه أن يكون مختلفًا عنها، وليس فعلًا طفيليًّا أو مُلحقًا بالسياسيّ والاجتماعيّ. ولتحقيق ذلك، على الشّعر أن يكون حُرًّا، وذا قيمة بحدّ ذاته، وهذه القيمة هي التي تمنحه تفرّده، هي قيمته الجماليّة. تكون للشّعر أهميّة ومكانة خاصّة في الحياة فقط إذا “خانها” وتجاوَزَها ولم يكتَفِ بالتّعبير عنها. الشّعر- كما كتب درويش أكثر من مرّة – يُحوّل الخيال إلى واقع والواقع إلى خيال.

تظهر أهميّة البعد الجماليّ بالنّسبة لدرويش في إصراره العنيد على مشروعه الفنّي. لقد أدرك درويش أنّه أوّلًا وقبل أيّ شيء شاعر، وأنّ إخلاصه الفنّي هو للشّعر فقط. لا يمكن للسّياسة والأخلاق أن يبرّرا كتابة شعر لا يحمل قيمة جماليّة. على الشّاعر واجب تجاه نفسه وتجاه الشّعر، وهذا هو الواجب لفنّ الشّعر. عليه أن يواظب على تطوير أدواته الفنّيّة: اللّغة، الاستعارات والتّشبيهات المختلفة. درويش حالة نادرة، وربّما وحيدة، في قدرته على الجمع إلى حدّ التّناغم بين الشّكل والمضمون. جزء كبير من شعره هو شعر سياسيّ خالص، لكنّه بعيد كلّ البعد عن السّطحيّة والنّمطيّة. هو شعر سياسيّ من حيث تعامله مع الأسئلة العميقة للوجود الفرديّ والجماعيّ الفلسطينيّ، بمصائبه وخيباته، آماله وأحلامه (مع أنّ شعره المتأخّر يميل إلى الانطواء على تجربته الوجوديّة الشّخصيّة). عندما يطرح درويش أسئلة شخصيّة فإنه يُدرك أنّ الأنا، الذّاتيّة، تعيش في عالم اجتماعيّ، هو جزء من مجتمع كامل؛ ويجب أن يتضمّن التّعبير الشّعريّ عن الأنا هذه العلاقة كشرط فنّي أوّلاً وقبل أيّ شيء. مع ذلك، عندما يتحدّث درويش عن الـ “نحن” أو عن الشّعب، أو عن المجتمع، فإنّه يعي تمامًا أنّه يتحدّث كفرد وأنّه لا يستطيع “تمثيل” المجموع أكثر من حدود قدرته على التّحدّث عن نفسه. لم يشعر درويش أنّه مُلزم بتقديم الشّعر “المُجنّد” أو أنّ عليه إقحام الوطن في شعره. لقد كان يتنفّس الوطن، ولهذا عندما كان يتحدّث عن نفسه كان الوطن حاضرًا، ليس ككائن مستقلّ فرضَ نفسه على الشّعر، إنّما كشرط مؤسِّس للأنا.

من هذا المنطلق نجد أنّ الشّكل الفنّيّ عند درويش لا يفرض نفسه على المضمون، والمضمون لا يفرض وجوده بفظاظة لا تكترث بالشّكل. الشّكل والمضمون يلتقيان بأسلوب يدمج ما بين المصادفة والضّرورة؛ بخِفّةٍ ما، تبدو من القراءة الأولى وكأنّها مصادفة، وكأنّهما التقيتا دون أن يكون للشّاعر أيّ دور؛ لكنّ هذه المصادفة “القدريّة” تظهر بعد قراءة معمّقة ومتكاملة كفعل ضروريّ. وهذا الفعل لا يفرض نفسه إنّما يبزغ بصورة طبيعيّة من بين ثنايا النصّ، وكأنّ شكله ومضمونه وُلدا ليكونا معًا. التّناغم (الهرمونيا) عند درويش يشبه هرمونيا موسيقى الجاز عندما يعرف السّاكسفون متى يدخل بعد أن يُنهي البيانو وصلةً ارتجاليّة. لحظة “الدّخلة” لم تُحدَّد مسبقًا بموجب معادلة ما، لكن عندما نسترجع المعزوفة نكتشف أنّ تلك اللّحظة كانت التّوقيت الأمثل للدّخول. يمكننا تشبيه اللّقاء بين الشّكل والمضمون في شعر درويش كغريبَين، سيُصبحان عاشقَين، يلتقيان مصادفةً في قطار بجبال الألب. فبعد النّظرة الأولى التي تُشعل نار الحبّ سيشعران، بأنهما وإن التقيا صدفة، فقد كان مُقدرًا لهذه الصدفة أن تحدث. الشّعر الجميل هو ذلك الذي يجعلنا نشعر بأنّه قدرٌ انبَتَتْهُ يد المصادفة، أو مصادفة كانت تحمل مشيئة القدر. فكما هو الحال في كل قصة حب حقيقية، تجمع في آن واحد ما بين ذلك الشعور بحرية اختيارنا لشخص المحبوبة، ومع الشعور المُلازم له، بأننا كنا تحت سطوة القدر ومشيئته عندما اخترنا هوية المعشوق.  هذا هو السّحر. ودرويش في هذا المعنى ساحر.

درويش، في شعره ونثره على حدّ سواء، حاضر في وعيي وفي حساسيّاتي الشّخصيّة تجاه العالم، لأنّه قادر على استحضار تكثيف تجارب الحياة بكلّ أشكال احتمالاتها في قصيدة واحدة، بل في بيت شعر يتيم. مقولاته الفلسفيّة تُصاغ دائمًا بجماليّة مذهلة، وجماليّاته لا تكون جوفاء بل مُشرّبة بالحكمة والإدراك، ولهذا يخلو شعره دائمًا من أيّ حسّ وعظيّ. كتابات محمود درويش تخلو أيضًا من التّجريد، بل هي مُشبعة بالاستعارات الحسّيّة. قصائده تقدّم وجبات دسمة من الحياة، فالحياة تنزل علينا ككُلّ واحد كامل (على عكس إدراكنا مثلًا للجامعة التي يمكن اعتبارها تحالفًا لكليّات مختلفة تتعاون لفكّ طلاسم الكون). في شعر محمود درويش يتشابك الأخلاقيّ مع الجماليّ مع السياسيّ، والغوص في شعر درويش هو غوص في الحياة ككُلّ واحد.

____________________________________________________________________________

* د. رائف زريق هو خرّيج كلّيّة الحقوق في الجامعة العبريّة، وواصل تعليمه في جامعتَيّ كولومبيا وهارفارد حيث أكمل شهادة الدكتوراة. تتمحور أبحاثه حول الفلسفة السياسيّة وفي فلسفة القانون، ويكتب في النقد الثقافيّ والأدبيّ. أستاذ فلسفة القانون في الكلّيّة الأكاديميّة كريات أونو وباحث كبير في معهد فان لير. كتابه عن كانط ونضاله للاستقلاليّة صدرَ هذه السّنة بالإنجليزيّة من دار لكسينجتون.

** هذا النص مُترجم عن النص الأصلي باللغة العبرية. ترجمة: نبيل أرملي

ميخائيل نعيمة في النّاصرة

توثيق محاضرات ميخائيل نعيمة في مدينة الناصرة في الصحف الفلسطينية التاريخية.

حرّروا أنفسكم لتستقلوا عن الأجانب

في الأول من نيسان من العام 1935 زار الأديب والمفكّر اللبناني ميخائيل نعيمة مدينة النّاصرة، وهناك ألقى محاضرة قيّمة عن العوامل النّفسية الإنسانيّة، وقد قامت بتغطيتها والإشادة بها صحف فلسطينيّة عديدة. فحول ماذا كانت هذه المحاضرة؟ وماذا نعرف عن زيارة ميخائيل نعيمة ورؤيته للبلاد في عهد الانتداب البريطانيّ؟

من ميخائيل نعيمة؟

ولد ميخائيل نعيمة عام 1889 في قرية بسكنتا في سفح جبل صينين في لبنان ودرس في مدرستها قبل أن يلتحق للدّراسة في دار المعلّمين في النّاصرة عام 1902؛ حيث أمضى ستّ سنوات غاب بعدها عن المدينة إلى روسيا، ثمّ إلى الولايات المتّحدة ثمّ إلى باريس ليدرس الآداب والفكر، ثمّ عاود زيارتها عام 1935 بدعوة من النّادي الأدبيّ وبلديّة النّاصرة ليلقي فيها محاضرة. عُرفت أعمال ميخائيل نعيمة من رواية أو كتاب إلى شعر أو مسرحيّة أو قصّة بعمقها الفلسفيّ والإنسانيّ وبقدرته على إضفاء بعدٍ رمزيّ على أعماله منحها طابعًا عالميًّا. ومن أعماله الشّهيرة في المسرح “الآباء والبنون” و “أيّوب، ومن الشّعر ديوانه “همس الجفون” ومن الرّوايات “لقاء” و”مذكّرات الأرقش”، بالإضافة إلى مجموعات قصّصيّة عديدة منها: “كان ياما كان” و”هوامش”. حصل نعيمة على جائزة رئيس جمهوريّة لبنان عن الإبداع الأدبي عام 1961، وتُرجمت العديد من أعماله إلى لغات اجنبيّة عدّة.

زيارته للبلاد ومحاضرته عن علم النّفس في النّاصرة

لم تكن زيارة نعيمة في نيسان 1935 هي الأولى للبلاد، فكان قد تلقّى تعليمه كمدرّس في دار المعلمين في النّاصرة والمعروفة بالـ “مسكوبيّة” في سنوات ريع شبابه وأمضى بها ستّ سنوات. ولعلّ عودته إليها ضيفًا يحتفى به من قبل أوساطها الثّقافيّة الرّفيعة حينها قد عنت له الكثير.

⁨⁨فلسطين⁩⁩: 2 نيسان 1935
⁨⁨فلسطين⁩⁩ 2 نيسان 1935

لا نعرف الكثير عن تفاصيل زيارته والمدن الّتي قام بالتّجول بها خلال هذه الزّيارة، إلا أنّ بعض الأخبار الواردة في كلّ من جريدة فلسطين، الدّفاع والأوقات العربيّة تكمل التّفاصيل بين بعضها البعض من خلال الأخبار الّتي قامت بتغطيتها عن هذه الزّيارة في المنتصف الأول من شهر نيسان 1935. وإن زخم الأخبار الّتي تناولت الزّيارة واهتمام الصّحافيين الكتّاب بتفاصيلها والعبارات العاطفيّة الّتي قاموا باستخدامها لتقديم الضيّف وأهميّة زيارته للقرّاء تشهد على محبّة وتقدير واسع حظي به نعيمة في فلسطين الانتدابيّة. فنرى جريدة فلسطين تتابع زيارته يومًا بعد يوم وتنشر لقرّائها، لعلّ أحدهم يرغب بلقاء الأديب الشّهير ويتابع تفاصيل زيارته بحماسة. فنراه اليوم في بيت لحم، واليوم التّالي في طبريّا، ومرّة في حيفا وأخيرًا في النّاصرة.

⁨⁨الأوقات العربية⁩⁩: 5 نيسان 1935
⁨⁨الأوقات العربية⁩⁩: 5 نيسان 1935

 

أمّا محاضرته في النّادي الأدبيّ في النّاصرة، فقد برزت في غالبيّة المقالات والأخبار الّتي تناولت زيارة ميخائيل نعيمة للبلاد. اقتبست الصّحف مقولة من محاضرته لتكون العنوان، وقامت بوصف الحدث لحظة بلحظة كي يتسنّى لمن يقرأ المقالة أن يشاهد المحاضرة ولا يفوّت أي من تفاصيلها كأنه حضرها بنفسه. فتزوّدنا هذه المقالات بأسماء النّاشطين في النّادي الأدبيّ في النّاصرة في تلك الفترة، وبأعداد الحضور، وبتكريم نعيمة من قبل الأديب الفلسطينيّ خليل السّكاكيني، وبلهفة الحضور لسماع المحاضرة حتّى قاموا بمقاطعة نعيمة عدّة مرّات أثناء كلامه بالتّصفيق الحارّ!

⁨⁨الدفاع⁩⁩: 3 نيسان 1935
⁨⁨الدفاع⁩⁩: 3 نيسان 1935

 

“حرّروا أنفسكم لتستقلو عن الأجانب” كان عنوان القصّة الصّحافيّة الّتي نشرتها جريدة فلسطين في السّابع من نيسان عن محاضرة الأديب التّي وُصفت بالـ “ساحرة”! والّتي انتظرها الكثير من القرّاء الّذين لم يتمكّنوا من حضور المحفل الأدبيّ بأنفسهم. وكما ورد في مقالة سابقة في جريدة فلسطين فقد كان عنوان المحاضرة “تأثير العوامل النّفسيّة على الإنسان”، إلّا أن مضمونها على ما يبدو لم يكن بعيدًا عن واقع الحال في فلسطين الانتدابيّة، فنرى من خلال بعض الاقتباسات الّتي وردت في هذه المقالات أن نعيمة أسهب في الحديث عن العوامل النّفسية وعلاقتها بالحريّة والاستعباد.

 

⁨⁨الدفاع⁩⁩: 7 نيسان 1935
⁨⁨الدفاع⁩⁩: 7 نيسان 1935

 

إليكم بعض ممّا ورد عن كلام نعيمة في هذه المحاضرة في مقالة السّابع من نيسان في جريدة فلسطين، والتي نختتم بها هذه المقالة.

“لمَ أنا مستعبد؟ لمَ لست حرًا؟ لم أنا حزين؟ لمَ أنا فرح؟ لمَ أنا قلق؟ لمَ أنا مطمئن؟ أسئلة نفسيّة دقيقة نجد أجوبتها في قراراتنا ولا حلّ لها في خارجنا. فأنت ترى العالم بعينيك، وتسمعه بأذنيك، وكيف تكون حالة هاتين الأداتين يظهر لك العالم. إذًا، جمّل وجهك، تر الحياة جميلة، اضحك لها، تراها ضاحكة. وهذه الشّرور المنتشرة والمفاسد العائثة، إن هي إلّا صورة لما فيك من شرور ومفاسد. وهذا الرّبيع الزّاهي والزّهور البديعة، لن تستطيع تحويل قلبك عن الكآبة إن كان في نفسك مناحة. فأنت إذا سعيد إن أردت وشقيّ إن أردت.

لم أنا مستعبد؟

ما كان يمكن ذلك لو لم تكن عبدًا لنفسك ولشهوة فيها. فتحررك من ظالم يقتضي أولًا تغلّبك على شهوتك وما دمت لها عبدًا فلن يبزغ لك فجر الحريّة الحقّة .

الحرّية طبيعة فينا. والعبوديّة منّا. فلو أردنا أن نكون أحرارًا لما منعنا أي إنسان.”

للمقالة كاملة

 

⁨⁨فلسطين⁩⁩: 5 نيسان 1935
⁨⁨فلسطين⁩⁩: 5 نيسان 1935

 

للمزيد حول مدينة الناصرة إليكم بوابة المحتوى الرقمي حول مدينة الناصرة والتي يمكن من خلالها الوصول إلى مواد رقمية متنوعة حول المدينة وتاريخها وسكانها.

موسم الخريف: قد يعتدل وقد يتطرّف

في هذه المقالة، نقدّم أديبين ذكرا الخريف في قصصهم من منظور مختلف في بقاع جغرافية مختلفة وكذلك فترة زمنية مختلفة من القرن التاسع عشر.

في كل ذكرٍ لفصل الخريف، يختلف الناس في أرائهم حول فصل الخريف وأحواله، منهم من يتفاءل بتساقط أوراق الشجر ويشبه هذا التساقط ببداية التجديد أو الإنطلاقة لاستقبال خير الشتاء حيث الغيث والوفرة وبداية نمو جديد، فيما يتشاءم حشدٌ آخر ويعتبره موسماً للاكتئاب معلّلاً ذلك بذات التساقط لأوراق الشجر؛ حيث نهاية النمو وبدء استقبال عواصف الشتاء وبرده. كذلك الأدب العالمي، اختلف في وصف أحوال الخريف. في هذه المقالة، نقدّم أديبين ذكرا الخريف في قصصهم من منظور مختلف في بقاع جغرافية مختلفة وكذلك فترة زمنية مختلفة من القرن التاسع عشر.

ورد في صحيفة الاتحاد في السادس من تشرين الثاني من العام 1995 تقديماً ومراجعة لكتاب “اعتدال الخريف” للكاتب والروائي اللبناني (جبور الدويهي) من قبل الكاتب (شحادة وازن)، بادئاً ذلك بقوله: “هي سيرة ذاتية، تأملات يومية وسرد قصصي”، فيما أفاض بوصفه: “ليس اعتدال الخريف رواية ولا سرداً ولا سيرة ذاتية ولا مذكرات ولا يوميات. إنه بعض هذه جميعاً يمزجها الكاتب بلغته وأسلوبه ويعمل على دمجها ليضعنا أمام غربة بل دهشة الكتابة”. ربما نأى الكاتب (شحادة وازن) إلى وصف سردية (اعتدال الخريف) بـ “الغربة” أولاً لاختلافها عن الحالة المألوفة والغير طبيعية والتي قد تنعزل أو تُعزَل، إلى مفهوم “الدهشة” بالمعنى الفلسفي المؤدي إلى إنارة العقل والخروج من ظل أفكارنا ومناطق راحتها.

الاتحاد 6 تشرين الثاني 1995
الاتحاد 6 تشرين الثاني 1995

بالإضافة إلى ذلك، أظهر (الدويهي) حالة فصل الخريف بالمبتدأ “اعتدال”، وربما يعزو هذا الوصف لبقعة (دويهي) الجغرافية في لبنان وحوض البحر الأبيض المتوسط بأن جعل الاعتدال حالة لا تنطبق عليها نسبية التعريفات هنا، حيث الاعتدال ما بين الحر والبرد، النهار والليل، بل حتى تباين ألوان الخريف يعتدل بين البهتان والعتمة. فيما عبّر (وازن) عن كل ذلك: “لا يكتب الراوي ذكريات ليحولها إلى ماضٍ، بل يختار بعضاً من صور الماضي ليملأ الحاضر بالأحاسيس ولا يغوص في التفاصيل الكثيرة والأسئلة الكبيرة بل يرسم بإيجاز نظرته الخاصة إلى الأشياء”. أيّ أنّ الروائي (دويهي) قد اعتدل في تفاصيله وأسئلته بإيجاز دون الإبحار العميق، رغبة منه بملء الحاضر بأحاسيس الخريف التي قد تنتهي وتموت أو تنتهي لتتجدّد، كلٌّ ونظرته الخاصة للخريف كنظرة (الدويهي) للأشياء.

لقراءة كامل التقديم في صحيفة الاتحاد

تتغير نظرة الاعتدال نحو موسم الخريف لدى الكاتب الروسي (مكسيم غوركي) في قصته “ليلة في الخريف”، والتي قد نشرت في صحيفة الغد، التي صدرت في مدينة القدس، بتاريخ 14 أيلول من العام 1945. لاختلاف موسم الخريف بين كل من لبنان وروسيا، حيث يكون خريف روسيا بارداً بلا اعتدال، وليلٍ حالِك لا يعتدل وقته مع النهار. أظهر (غوركي) أن ليلته المذكورة في قصته كانت في أواخر تشرين الأول، ووصف بطل قصته بأنّه تائهٌ في مدينة تعجّ بصخب الحياة الفارهة، وأناسٍ منعزلون مع أشباههم الأغنياء. وبيّن كذلك (غوركي) أن بطل قصته نزل في المدينة متشرداً جائعاً.
وتعمّق في وصف الحالة حتى شبّه أن كل شيء في المدينة في هذه الليلة الخريفية يدعو للسقوط والانخفاض؛ حيث الضباب، البرد، الليل الحالك، اللون الحائل وكذلك ملامح البشر المشوّهة، حتى الحديث في ليالي الخريف كان لدى (غوركي) حديثاً ذا لهجة فاترة وبدون حياة.

الغد- القدس: 14 أيلول 1945
الغد- القدس: 14 أيلول 1945

ولتعاسة الخريف الروسي، يلتقي بطل الرواية بـ (ناتاشا) التائهة، الجائعة والباحثة عن الطعام في القمامة، ولكن فجأة نجده ينتعتها بالذكية والجميلة الصغيرة السن. ربما أراد (غوركي) أن يبيّن حالة التيه والغرابة والتضاد والتناقض في ظلمة الخريف الروسي. بل وتنتهي القصة كذلك بوداع نهاريّ بين البطل وناتاشا دون عودة، فيما يستمر البطل ببحثه عن مأوى في هذه المدينة متمنياً الموت لناتاشا لقسوة الحياة معها أو راحة البال لها إن كان حيّة.

لقراءة كامل القصة في صحيفة الغد (القدس)

تنوّعت حكايات الخريف بين الأدباء وبين عامة الناس على مر الزمن وفي كل الأمكنة، إلا أنّه من المؤكد أنّ الحالة الشعورية – مهما كانت – لا تبقى على حالها بل في تقلّب مستمر ودائم كما فصل الخريف وكل فصول السنة.